الكتابـــــــةُ تلعثُـــــماً
حوارٌ بين عدنية شبلي وزينة الحلبي
من تستمع إلى عدنية شبلي، تدرك أنها أمام حكّاءة لا تشبه أحداً. تبدأ الكاتبة بالغوص بفكرة، تُلحقها بحكاية، تستدعي فيها مفكّرين تجعل منهم شخصياتٍ روائية، ثم تضيء على شخصيات هامشية، فتضعها في صلب الحدث التاريخي. تتنقّل شبلي بين المكتوب والمحكي، بين المجرّد والسردي، بكل تلك المرونة وبكثير من اللعب، فتجعل من السرد مدخلاً للنظري.
تحفر عدنية شبلي في التفاصيل الثانوية التي سقطت، سهواً أو عمداً عن السرديات الكبرى للخسارة، فاتّخذت من الصمت ملاذاً لها، واستقرّت في أكثر المساحات ضموراً، كالجسد وانفعالاته، اللغة وعنفها. بدأت عدنية شبلي تستكشف قدرة التفاصيل الثانوية، كما الصمت المحيط بها، في مسرحياتها ومقالاتها وأعمالها القصصية، لا سيما في روايتيها الأوّلين «مساس» (2001) و«كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب» (2003)، حيث نظرت بعين الشكّ إلى طلاقة السرد وتلاحم البنى السردية السلطوية التي تختزن قدرةً على العنف. على نقيض الطلاقة السردية، تبنّت الكاتبة التشظّي أداةً معرفية: «إن كنا اليوم نعيش فلسطين مجزأةً ومقطعةً، فإننا نتعلّم القدرة كي نكتب مع هذا التجزيء.»
لا تحاكي كتابات عدنية شبلي التجزيء الكامن في السردية الفلسطينية فحسب، بل تجعل منه منهجية. لشبلي عين على تجربة الفلسطينيين مع الخسارات المتتالية والمتكررة، وأخرى على الإمكانات التي يختزنها ما تسمّيه «التلعثم السردي»، بوصفه تكراراً، فتردّداً، فتكراراً، يقدّم أدواتٍ لبناء الجمل كما الشخصيات. يتجلّى «التلعثم السردي» عصباً للقول لدى الكاتبة. فهو سبيل لإدراك ما تعجز اللغة عن سبره ونقله، وآلية لتقويض العنف الكامن في السرديات الكبرى بسبيل التنقيب عمّا قد محي. هكذا يحضر الماضي في سرديات شبلي، مجزّأً ومكرّراً ومبتوراً.
قد تكون منهجية شبلي في التنقيب عن القول داخل المحو، وعن الذاكرة الجمعية داخل التفصيل، مستمدّة من لحظة تشكّل فيها وعيها السياسي على تقاطع الفقدان والصمت. تتحدّث الكاتبة عن لحظة فهمت فيها أن هنالك عالماً آخر، ممحوّاً، منسيّاً، هي لا تعرفه، ولكنها فهمت أنه كان ممكناً وطبيعياً، وأنه بات اليوم ذاكرة مبتورة تشعر بثقلها. انتقلت تلك الذاكرة عبر صمت العائلة الذي رافق طفولتها، ثمّ ظهرت في الأدب الفلسطيني السابق للنكبة، والذي أفلت من الرقيب الإسرائيلي، ثمّ عادت وترسّخت لاحقاً عبر الأدب الذي وصل إلى الكاتبة على شكل قصائد مُهرّبة ومسرّبة، صبغت الأدب الفلسطيني بالصمت والسرية.
ساهم المكرّس الأدبي الفلسطيني، السابق للنكبة والشاهد عليها، في تشكيل حساسية الكاتبة الأدبية التي، وإن كان في وعيها أثر لأجيال متعاقبة من الكتاب الفلسطينيين، بقيت كتاباتها شديدة الفرادة، ممتدة من تجربتها الخاصة مع الفقدان الذي يحفر في لغتها وصمتها معاً. لذلك، ربما، قد لا تستسيغ عدنية شبلي قراءتنا لـ«تفصيل ثانوي» (2017) على أنها رواية نكبة، هي التي تنأى بأدبها عن آليات التصنيف والتعليب. لكن قد نلحّ أنها رواية نكبة فعلاً، بوصفها سردية عن الفقدان في سياق الاستيطان الإحلالي لفلسطين، ونضيف أن ما يجعل «تفصيل ثانوي» رواية معاصرة للنكبة، هو حساسية كاتبتها الأدبية التي ترى أن التفصيل الثانوي «لا يزال يقدّم لنا منفذاً للحياة في سياق تواجهين فيه الهدم في كل لحظة».
تتجلّى في نصوص عدنية شبلي كما في مقابلاتها علاقةٌ قلقة مع اللغة. فلغة شبلي مقتضبة وباردة، إلا أنها قادرة على مساءلة العنف الكامن في لغة السلطة الطليقة والواثقة من سرديتها. ترصد شبلي في رواياتها وأعمالها الأدبية قدرة اللغة على الهيمنة وممارسة العنف، ولكن في سرد تجربتها الفردية، تتحدّث مراراً عن وهْن لغتها وعن خوفها من فقدانها لها.
لم تشأ عدنية شبلي الكلام كثيراً بعد 7 أكتوبر، بل علّقت على صمتها بوصفه فقداناً للّغة وانتظاراً لها. «أحياناً، كما ننتظر أن يأتي من نحبّ، أنتظر أنا أن تأتي اللغة، وأقبل هذا الانتظار»، تقول الكاتبة التي تموقعت في الصمت بعدما أُلغي حفل جائزتها في معرض فرانكفورت، فيما كانت «تفصيل ثانوي» تهزأ من الإسكات وهي تجوب العالم في ثلاثين لغة، ليست العبرية واحدةً منها.
في نهاية حوارنا، ورداً على سؤال من الجمهور حول جماليات المكرّس من الأدب الفلسطيني، تلوذ عدنية شبلي بالسرد. تستهلّ الحكّاءة الإجابة بسؤال قرأته في نص لفالتر بنيامين، فتجيب عليه من خلال قصة مقتل الشاب الفلسطيني أُسيد الريماوي على يد الاحتلال الإسرائيلي. تنقل الخبر عن لسان موقع إخباري، ينقل بدوره الخبر عن لسان أهل أُسيد، وتستطرد، تعود، وتسرد، ثم تصمت، وتأخذ قليلاً من النفس، لتعود وتسحبك إلى الحكاية، داخل شبكة من التفاصيل الثانوية التي لم يلتفت إليها أحد.
«عدنية، لوين رايحة؟»، تتساءلين في سرّك.
إلا أن عدنية شبلي تعرف جيداً كيف تنتهي الحكايات: عند لحظة السرد الأخيرة لمقتل أُسيد الريماوي، يتجلّى النظري في السردي كما عرفناه في كتاباتها، متخففاً من الانفعال والمبالغة، مستعيداً منهجية الروائية بالالتجاء إلى تفاصيل مجزّأة ومترددة، لكنها هائلة في قدرتها على القول، تفاصيل ثانوية يدلّ تلعثمها وتجزّؤها على الأدب، على ماهيته بوصفه تجربة فلسطينية: «هذه هي الرواية»، تختم عدنية شبلي حكايتها عن أُسيد الريماوي، «هذا هو الأدب الفلسطيني»، والقاعة ذهول.
—زينة الحلبي
* * *
تنشر مجلة فَمْ هذا الحوار ضمن سلسلة «الكتابة عبر الأجيال» التي تشمل فعاليات وحوارات ونصوص لكاتبات وباحثات ابتكرن أساليب سردية لاستعادة الذاكرة الجماعية والوقوف على ما نُبذ من إرث الماضي، فاجترحن مقاربات جديدة في فن التنقيب والسرد. انطلاقاً من أعمالهنّ الروائية والبحثية وسيرهنّ الذاتية، نسعى للإضاءة على أطوار من الكتابة تسائل صيغ السرد المهيمنة، فتعيد تخيّل الماضي. السلسة من تنظيم سارة مراد وريما رنتيسي وبرعاية كليّة الآداب والعلوم في الجامعة الأميركية في بيروت.
زينة الحلبي: عندما تعرّفتُ إليكِ سنة 2017 كان العالم بالنسبة إلينا مختلفاً تماماً، هنا في بيروت كما في أوروبا. كانت رواية «تفصيل ثانوي» قد صدرت للتو. ومنذ تلك اللحظة، مرّت الرواية بحيواتٍ عدة وقُرأت على ايقاعات مختلفة. فلنبدأ من اليوم: لمَ كل هذا القلق من «تفصيل ثانوي»؟
عدنية شبلي: التفاصيل الثانوية مقلقة، لأنها هي التي لا ينتبه إليها المضطهِد. المضطهد دائماً مشغول بنفي المركزي ومهاجمته. لعلّ لحظة الانتباه هذه تشبه ضمة العشب أحياناً، عندما نمشي في مكان ما، وفجأة تجدين شجرة، هكذا، على الطابق الثالث تخرج من الحائط. كيف وصلتِ إلى ذلك المكان؟ كيف تمكنتِ من الوصول إلى هناك؟ وكيف دخلت إلى الإسمنت وفي الأسفلت وعثرتِ على طريق للحياة؟ أتخيّل أن هذه التفاصيل، أو التفصيل الثانوي، لا يزال يقدّم لنا منفذاً للحياة في سياق تواجهين فيه الهدم في كل لحظة. والهدم ليس فكرة تجيء وتروح، بل أنت تواجهينه يومياً.
لأجل ذلك، توجدُ محاولة لردم أي فكرة لوجودك، مثلما تتصوّرينه. إلا إنّ الهامش والتفاصيل الثانوية هي التي تأتي كي تنقذك، وتساعدك، تقول لك إن مكانك ليس في المركز، وليس لك ملاذ في ما هو رئيسي. أظنّ أني لست الوحيدة التي تشعر بهذا الشيء، وأن الهامش والتفاصيل الثانوية هي ما يجعلنا نتماسك في سياق فلسطين. في قمة الهوة والبؤس والإحباط، ثمة ما يذكّرك أن هناك إمكانيات أخرى، احتمالات أخرى، ولعل هذه هي التفاصيل الثانوية التي درجْنا على أن نراها ونجعل لها مكاناً في حياتنا.
ما تقولينه يذكّرني بقصة «خارج الوقت» (2015). كتبتِ فيها عن لحظة تشكّل وعيك السياسي في صغرك، عندما قرأتِ قصة للكاتبة سميرة عزام. تتذكّرين كيف وقعتِ على تفصيل فيها، ففهمتِ شيئاً عن نفسك، وعن المساحة اللغوية والسياسية التي تكبرين فيها، وأن هناك ما غُيّب عنها. وتقولين إنّ اهتمامك بما هو تفصيل، وما هو ثانوي، بدأ يتشكّلُ في تلك اللحظة.
طبعاً. لطالما كانت الكثير من الأنواع الأدبية ممنوعة حتى اتفاقية أوسلو. كان الإسرائيليون يمنعونها. إن الحرب أيضاً حرباً على الكتب وحرباً على اللغة، تواجهينها في كل مكان وفي كل لحظة: في الماء وفي الشجر، وفي نوع الكتب التي تقرئينها. أذكر كيف كانت نصوص محمود درويش وسميح القاسم ممنوعة، وكيف أن أحدهم، في ليلة شتاء باردة ومعتمة، طرق بابنا كي يوزّع قصيدة «عابرون في كلام عابر» لمحمود درويش، بعد أن كانوا قد ناقشوها في الكنيست الإسرائيلي. مدهشٌ كيف يتعامل القراء مع الأشياء لحظة منعها، وكيف تنشأ الرغبة في القراءة، كيف تصبح لحظة اضطهاد النص، لحظةً للانتباه إليه، فصار يوزّع ليلاً، في العتمة، وهكذا وصلت إلينا القصيدة.
قبل تلك اللحظة، كانت هناك لحظات مهمة أخرى. كانت النصوص المسموحة، مثل قصص سميرة عزام التي رآها الرقيب الإسرائيلي الساذج لا تهدّد نظام الدولة أو الأمن الإسرائيلي. ظلّتْ سميرة عزام تكتب حول الحياة في فلسطين حتى اللحظة التي هُجّرت منها، أي حتى سنة 1948. كنا نتعجّب كيف أنْ في قصصها نصطدم بحياة مغايرة ممكنة في فلسطين، لا مثل تلك التي نشهدها، الحياة التي تتهشّم. أثناء قراءة نصوصها تكتشفين كذلك أن ما تعيشينه ليس طبيعياً، مع أنك لا تعرفين غيره. اللحظة التي قرأتُ فيها نصوص سميرة عزام، اكتشفتُ فلسطين، وأعني فلسطين التي يمكن للمرء فيها حين يذهب إلى عمله، والمشكلة الوحيدة التي يواجهها هي الاستغراق في النوم، وليس أن هناك حاجزاً طويلاً، أو أن هناك من اعتقله في الطريق. فكرة الاستغراق في النوم تعود لتذكّرك بأن العرقلة التي تعيشينها في الحاضر ليست طبيعية. هي كلها أسئلة تنفذ من هذا الهامش الذي يذكّر بالأشياء. وأرى أننا نعتمد على هذا الهامش، ولا خيار إلا أن نتمسّك به.
وكأنّ التفاصيل الثانوية هي مدخلٌ لا للإدراك فقط، بل أيضا منهجية لسرد قضايا مجردة متعلقة باللغة والعنف وآلية تمثيلهما روائياً.
إنها تصبح الحساسية الفنية خاصتك، تنتبهين إليها كل الوقت بوصفها الجهة الرحيمة بك. وهنا تبدئين بإدراك أنك هنا، وأن ما تعيشينه حاليا يجب أن ينتهي، وقد تكون هناك أشكال أخرى للعيش. وهذه اللحظة مهمّة جداً للأدب، أن نخرج من حدود الواقع، ومن محدوديته، وكذلكَ من محدودية التاريخ الذي لا يقيمُ البتةَ وزناً لما هو ثانوي، أو هامشي. يركّز التاريخ على ما يراه مركزياً وعلى من يراهم أساسيّين، أما جميع أولئك الناس الذين لا مكان لهم في التاريخ، الأدبُ يعطيهم حيزاً مركزياً. أظنّ أن الأدبَ وحده قادر على احتواء الاستحالات الكثيرة التي نواجهها في فلسطين، ومن ضمنها عدمُ القدرة على الكلام، أو عدم القدرة على تصور تجربتنا أو إدراكها لغوياً.
ليس للتاريخ تلك الحساسية التي تجعل حيزاً للناس الذين يمتلكون رواية غير كاملة، مجزّأة، مليئة بالفراغات ولحظات عدم الإدراك، أو الرغبة بعدم الإدراك، أو تأخر الإدراك. فالأدب يمكّنُ هذه الرواية المهشمة من أن تصبح موجودة، خصوصاً في لحظة فقدك القدرة على الكلام بسلاسة. كيف يمكنك أن تتكلّمي بطلاقة أساساً عن الشيء المعني بهدمك؟ بل أن جزء من هذا الهدم والتحطيم الذي تتعرّضين له، هو تحطيم اللغة وقدرتك على السرد. أنتِ، في اللحظة التي تأخذين فيها السرد بشكل متكامل، فإنكِ تخرجين أيضا من تجربتكِ. الأدب في المقابل يصنعُ مكاناً لذلك. أشعر أن فلسطين أرتني مكاناً وشكلاً مختلفين للأدب.
أودّ أن نتحدّث عن اللعب كثيمة في سردياتك. نرى كيف أن في سردياتك شخصيات نسائية في أغلبها تقترب من حدود ما، محاولةً اختراق معابر عسكرية، أو تخريب مؤسسات ممنوع أن تدخلها. وهذا يعيدني إلى مشهد في «تفصيل ثانوي» حيث تصل الراوية إلى مبنى الأرشيف الإسرائيلي وتبدأ بمشاهدة فيديو بناء مستوطنة، فتبدأ باللعب بالفيديو، بالعبث فيه: تلعب به ثم تعيده إلى نقطة البداية، وكأنها تشاهد بناء المستوطنة، ثم تستمتع بمشاهد تفكيكها. تستخدم أصابعها كي تعيش، ولو للحظات، ولو في اللعب فقط، مستقبلاً بديلاً.
وهناك إحساس أن شخصياتك لا تعبث بهذه الحدود وحدها، بل أنت أيضاً ككاتبة تعبثين بتوقعات القارئة من الرواية التقليدية، من حدود اللغة، من خلال الحذف والاختصارات. إحكِ لنا عن اللعب: كيف تلعب الشخصيات في رواياتك؟ وأنت كروائية، مع من تلعبين؟
قد تكون الكلمات هي من يلعب. في الكتابة، ليس هناك لحظة وعي كاملة. فعلاً إنّني أفضل أنواع الكتابة التي أمارسها عندما لا يعود لي وجود. كما أن اللغة هي الشيء المشترك بيننا، ما يعيش بيننا هي العلاقة غير المرئية بيننا. في الكتابة أنت تكرّسين مكاناً لتلك العلاقة غير المرئية بشكل عام، بحيث تأخذ الحيز. فليس لك إذاً الدور، ولا أنت الشيء المركزي فيها أثناء عملية الكتابة. أعرف أنني، عندما أكتب، أصبح اللّاشيءَ، وفكرة أن ثمة كاتباً اسمه على الرواية، هيَ غشّ، إذ كلُّها كلمات عاشت مع الآخرين وبسببهم. أنّ كلَّ نص يكتب بشكل جماعي. الفارق الوحيد بيني وبين هذه المجموعة أنني قررت أن أفرّغ وقتي من الصبح حتى الظهر كي أقوم بذلك. لكن هذه اللغة ملك كل شخص آخر، وليس لأيّ أحد ملك خاص فيها.
غير أنني أرغبُ في العودة إلى شيء تحدّثت عنه بشكل عابر: الخيال. أعرف أننا نستطيع النظر إليه بوصفه تمريناً برجوازياً. في لحظات الملل، نبدأ بالتخيل؛ إلا أن للخيال شكلاً ضرورياً، بل وجودياً في حياة أي أحد يتعرّض للاضطهاد، في فلسطين أو خارجها. إنّ الخيال في حياتنا الشخصية لحظة ضرورية كي نقاوم الواقع وسبله. وأظن أن الأدب يكمن هنا. إنه يأخذ مساحة الخيال تلك. وهنا تكمن قدرتُنا على الخيال، وقدرة اللغة والأدب على خلق مكان لنا وجود فيه ومكان لنا في الوجود. لهذا السبب ربما، نعود دائماً إلى الأدب، نعود دائماً إلى تلك اللحظة التي يحاول الواقع إلغاء مكاننا فيه، فنلوج منطقة ضرورية كي نستمرّ في هذا الواقع. كيف نتقدّم في هذا المجهول؟ كيف نعيشه؟ الأدب والفن يجعلان هذا المجهول حميمياً.
في قمة الهوة والبؤس والإحباط، ثمة ما يذكّرك أن هناك إمكانيات أخرى، احتمالات أخرى، ولعل هذه هي التفاصيل الثانوية التي درجْنا على أن نراها ونجعل لها مكاناً في حياتنا.
في لغتك السردية برودة مع الكلمات. جملك مقتضبة واختياركِ الكلمات دقيق، وأحياناً، تحاكي الجمل لغة التقارير الجنائية، وكأنها تصف مسرح جريمة، بعيداً من أي انزلاق نحو الانفعال. يغيب الانفعال عن نصوصك وقصصك القصيرة، إلا أن ذلك لا يعني أن العاطفة غائبةٌ أيضاً، بل أثرها واضح بالرغم من غياب الانفعال. ماذا عن هذه المفارقة؟
أودّ العودة إلى رواية «كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب» (2003) التي تتحدّث عن الحب، أو غياب الحب. كُتبت الرواية بين عامَيْ 2000 و2004. في تلك الفترة كانت الانتفاضة الثانية وطغيان سياسة إعادة الاجتياحات. لم أكن منتبهة إلى هذا التفصيل، إلى أن قرأ صديق لي النص وقال: «أنت كتبت نصاً عن الحب في تلك الفترة». لماذا الحب؟ لماذا الحب في تلك الفترة تحديداً؟ بالأحرى لم يكن الموضوع عن الحب، ولا عن الأحاسيس، بل عن غيابها. أنت في مكان حيث كل شيء موجّه كي يهدمك، بشكل يومي وعادي، على شكل استراتيجيات موجودة في ألف تفصيل. ولكنك لا تستطيعين أن تتحطّمي كلّما واجهتيها أو شاهدتِها، ما يؤدي بك إلى التوقف عن الإحساس، أي ثمن تجنّب احساسك بما يحدث الهدم على مستوى حسي، هو أنك تقتلين أي إحساس لديك. فلا يمكنكِ أن تقتلي إحساسك صباحاً وتعودي إليه عصراً. أنت تقومين بتمرين يومي على قتل الإحساس. فكيف يمكنك أن تحبّي؟ أو كيف تفشلين في أن تحبّي؟ هناك سياقات معينة تستطيعين فيها أن تحبّي بشكل عام، بمعنى المحبة والدعم والعون لكن للغرباء، لكن أن تحبّي وترتبطي بشيء واحد، هذا شبه مستحيل، كي تتفادي جعل روحك قادرة على الإحساس.
السؤال التالي هو: كيف تستعيدين القدرة على الإحساس عند العمل على نص معيّن؟ كيف لهذا الإحساس المُغيّب أن يعود كإحساس، كإحساس بغيابه؟ لا أظنّ أنني أراها برودة في نصوصي، بل أراها كما يجب أن تكون، أو كيف يجب لعلاقة الكلمات أن تكون. فأنت إن لم تكوني باردة، فستُدَمّرين، وتنهارين، وهذا ممنوع، أن يحدث لك كما للكلمات.
أريد أن أتحدّث عن قصة «هذا البحر لمحمد الخطيب» (2017) التي تتناولين فيها قصة الشاب محمد الخطيب الذي ذهب من الخليل إلى يافا وغرق في بحرها. تسردين في القصة كل احتمالات وصول الشاب الخليلي إلى يافا، بالرغم من الحواجز والعوائق، وكل احتمالات استقبال البحر له. احتمال أول، وثانٍ، وثالث، وتكرار للحظة لقاء الشاب الخليلي البحرَ الممنوع عليه.
لفتني في الترجمة الإنجليزية للقصة عمل للفنان الفلسطيني مجد عبد الحميد من مجموعته «سكرين شوتس» (2016) حيث يعمل على تطريز مشاهد عنف من إدلب السورية، ما جعلني أفكّر بالتطريز كممارسة.
أنا مدركة أن سياقي العمل الفني والقصة مختلفان، وأن الوسائط الفنية مختلفة أيضاً. ولكن ثمة ما هو دقيق في حرفة التطريز، بمعنى الكتابة من خلال التكرار، وقبول الشوائب الممكنة في السردية. ما لفتني أيضاً هو صعوبة التطريز، تطريز لحظة القسوة. وهذا جعلني أتساءل، ماذا تشعر تلك التي تطرّز مشهداً على هذا القدر من القسوة؟ وماذا عن التطريز كمنهجية في الكتابة التي تقوم على الدقة والتكرار مع قبول ضمني بأن لهذه القصة ربّما شوائب؟
مجد عبد الحميد يعتمد كثيراً على التطريز لإعادة رسم مشاهد مصورة، ما يجعل اللحظة، في فعله هذا هنا، تتمدّد وتتمدّد وتتمدّد. هي ليست لحظة الصورة، بل اللحظة التي تعيشين عبرها كلّ جزء من هذه الصورة، بحركة عبر يدك. أرى أعمال مجد عبد الحميد مدهشة، ربما لأننا، نحن الاثنين نرى أن فلسطين تعلّمنا ممارسة فننا. نحن لا نكتب عن فلسطين ولا نصوّر فلسطين، بل فلسطين هي التي تعلّمنا كيف نكتب وتعلّمنا كيف نمارس فنّنا. الأدوات التي تقدّمها، ترجعنا إلى الأخلاقيات التي خلقتها لنا. إن كان العالم التكنولوجي والثورة الصناعية قد أوصلانا إلى لحظة من النرجسية والتركيز في المصلحة الذاتية بالأساس، وإن كنا نعيش خسارات الآخرين نسبة إلى خساراتنا، فالبطء الذي لا يزال متاحاً لنا ممارسته، يعيدنا إلى علاقة مختلفة بالعالم الذي نعيش فيه هذا الوقت.
أودّ أن أعود هنا إلى أصول الرواية الحديثة كشكل أدبي. ظهرت الرواية في القرن التاسع عشر في أوروبا، مع فكرة أن ثمة مجتمعاً تتخيله، وأن الناس يتحرّكون فيه في زمنٍ معين، زمنٍ له بداية ووسط ونهاية، كما يشير لنا نص بينديكت أندرسون، ما يحيلنا إلى الإشكالية التالية: كيف يمكن لنا أن نتخيّل مجتمعنا في شكل أدبي مناسب؟ ما إمكانيات الخيال الخاصة بك في مكان مثل فلسطين؟ ما إمكانية أن تتخيّلي هذه العلاقة بالمكان أو بالمجتمع؟
أولاً، ليست علاقة مفروضةً من فوق، أو مفروضة من اتجاه فكري أو أيديولوجي. أنت تعودين إليها، في وجودها المهدد في كل لحظة، كعلاقة حسية، تتعلّمين من خلالها ولا تفرضين. وأنا أرى أن هذا كذلك في العلاقة بين الطبيعة والثقافة في سياق فلسطين، كما في سياقات مضطهدة أخرى: نحن لا نفرض الثقافة على الطبيعة، لكنْ ثمة علاقة حميمية بين الطبيعة والثقافة. هناك علاقة إذن حميمية بفلسطين، لا كجغرافيا أو كوطن، بل كموقف أخلاقي يعطينا وسائل أو يعلمنا كيف نكون في العالم، وكيفية الكتابة في العالم. فإن كنا اليوم نعيش فلسطين مجزأةً ومقطعةً، فإننا نتعلّم القدرة كي نكتب مع هذا التجزيء.
بالنسبة إليّ، فلسطين معلمة. علمتني شخصياً أن أشاهد، وكيف أن المشاهدة هي موقف أخلاقي، وليس فقط كي تخبري الآخرين، ولكن كي تخلقي علاقة. كذلك توجّهك فلسطين إلى كيف يمكنك الكتابة دون أن تنسخي أساليب من يمارس عليكِ الألم والاضطهاد. تشاهدين المتحدّثين باسم الحكومة الإسرائيلية يتحدّثون بكل تلك الطلاقة، منذ البداية حتى النهاية، وذلك لأن عندهم دائماً قصة متكاملة. فكيف يمكنني أن أثق بهذا المبنى السردي الذي يمحوني طوال الوقت؟ لذلك، هذا هو شكل السرد الذي لا يهدف إلى المحو، بل لخلق حساسيةٍ وحسيةٍ وعلاقةٍ جديدةٍ بالعالم، علاقةٍ لن تمارسي على أساسها العنف الذي تمارسه سلطة السرد الواضحة التي لا تتأتئ ولا تتلعثم، تلك الواثقة من نفسها دون أن يكون لها وجع، وإن كان لها وجع، فإنها تستغلّه حين تضعه كوسيلة كي ترتّب سردها.
اللافت أن غالبية شخصياتك ليس لها أسماء، وأنها تتحرّك في أمكنة لا هوية واضحة لها. نراها تتخبّط بالارتياب، فندرك أنها تحت المراقبة؛ نراها مثلاً تمارس الوسواس القهري فندرك أنها شاهدة على تاريخ من العنف غير المعلن؛ تقوم باستقصاء، فندرك أن في هذا المكان جريمة؛ وذلك على الرغم من غياب أيّ دلالات مكانية أو زمانية واضحة، نعرف أننا في فلسطين.
فلسطين ذاتها تظهر على شكل ومضات، كالمشهد في رواية «مساس» (2001) حيث يتعرّض طالب للطرد لأنه كتب على مسطرته، «فلسطين»، الكلمة اليتيمة التي تدلّ على المساحة الجغرافية للسرد. ولو أن فلسطين ليست موجودة في أي مكان واضح، فإنها، مع ذلك، كائنٌ شبحيٌّ يحوم على السرد. لا يمكننا سبره تماماً، لكنْ نعرف أنه موجود من خلال القلق الذي يفرضه على الشخصيات والمكان. ماذا عن فلسطين الحاضرة-الغائبة في سردك؟ كيف تغيب ومتى تحضر؟
أتخيّل الكتابة بشكل دائم مع لغة وكلمات ترفض الإعلان عن ذاتها. ليس القصد هنا اللغة أو الكلمة الممنوعة في الكتابة، لأن ذلك يعني شيئا آخر، أي أنها تقبل الاضطهاد، بل أن الكلمات نفسها ترفض أن تظهر، وعلاقة أخرى قد تظهر. أين تريد هذه الكلمة أن تظهر؟ أتخيّل أن الفرق هنا، هو الفرق بين الصمت والإصمات. بمَ يسمح هذا الغياب إنْ واجهته لا كاضطهاد، بل كإمكانية لأشياء أخرى كثيرة لا نعرفها؟
مثال على ذلك القرى المهجرة القريبة من مكان نشأتي في الجليل الأسفل، قرى مثل لوبيا والشجرة وسيرين التي كنا نتردّد إليها كثيراً عندما كنا صغاراً. كانت تلك القرى حيّز طفولتنا. إلا أن أسماء القرى لم تكن مكتوبة في أي مكان فكيف يدلّونك عليها؟ هناك شيء موجود يدلّك دون أن يكون له مكان في اللغة. وتخلقين علاقة كاملة به. عندما تذهبين إلى تلك القرى المهجرة هناك شجرُ تين وكروم عنب. كنا في الأساس نهتمّ بالعنب والتين لأن عليكِ أن تقطفيه قبل أن تأتيَ الحشرات وما تحمل معها من أمراض، فتقتل الشجر. هذا جزء من العناية بما قد نفذ من المحو، ودون أن تنتبه السلطات الإسرائيلية أنه لا يزال هناك.
الأهل لا يقولون لك إننا ذاهبون إلى تلك القرى التي هُجّر أهلها ودُمّرت. لا يقولون لنا إنها هُجّرت. نحن فقط نذهب إلى سيرين ولوبيا والشجرة، نعتني بالشجر، نلعب بين أطلالها، وبعدها نكتشف أن ناجي العلي كان من قرية الشجرة. أنا يا ناجي العلي لعبتُ طوال طفولتي في أرضك، ولم أكن أعرف، ولم أكن أعرفك بعد. عندما وصلتنا رسومات ناجي العلي، شعرنا بأن هناك شيئاً نعرفه دون أن نكون متأكّدين منه، وأنّ هناك بقايا حجارة نبحثُ عنها ونتخيّل أن مكانها كان غرفة، أو شارعاً، فنتعلّم فيما نلعب الحياة ونعيدها إلى هذه القرى المهجّرة.
تشعرين بأن هذه لحظة المسرح. تعلّمنا هناك هذا التمرين الأول في المسرح. لا تذهبين إليه كما تذهبين إلى المسرح يوم السبت عصراً، إنما أن المسرح هو طريقك إلى الوجود في المكان. تنتبهين إلى المحو أو الغياب، كيف يمكنهما أن يصبحا كل وجودك بطريقة مختلفة، لا بالطريقة التي تعوّدنا عليها في هذا الوجود المألوف. وهذا الذي يفتح لك إمكانيات كثيرة نحو الوجود. لذلك مرة أخرى أقول إنني لا أكتب عن فلسطين. أنا أكتب من فلسطين ومع فلسطين. وهنا أود الإشارة أن هذه الأشياء لم تكن واضحة عندما كنت أكتب «تفصيل ثانوي». كانت هي أسئلة أو دوافع غير واضحة. أتحدّث الآن بحكمة بعدما أنهيت العمل، إلا أنني لم أكن على هذا القدر من الحكمة حين كتبت النص.
أنا يا ناجي العلي لعبتُ طوال طفولتي في أرضك، ولم أكن أعرف، ولم أكن أعرفك بعد.
تتحدّثين عن اللغة وأنا أفكّر في علاقتك باللغة التي يبدو فيها بعضٌ من القلق. هناك قلق على اللغة، بمعنى أنك تقولين إنك أصبحت تقلقين على لغتك بعد 7 أكتوبر، أو تتحدّثين عن قلقك القديم عليها من الانحسار بسبب سياسات المحو الإسرائيلية، فنلاحظ في رواياتك غياباً كاملاً للمحكية، خصوصاً في الحوارات. بالإضافة إلى القلق على اللغة، ثمة قلق من اللغة. في مسرحيتك (2012) A Wall for All أيضاً تخيّل للطريقة التي يمكن للغة من خلالها أن تجسّد العنف والهيمنة، وتتحوّل سلاحاً يسبّب الرعب، مثلما نرى في «تفصيل ثانوي»، ولا سيما في خطاب الضابط الإسرائيلي الذي يمهّد لجريمة الاغتصاب. ماذا عن علاقتك القلقة باللغة؟ عن خوفك عليها، وخوفك منها؟
القلق يعيدنا إلى السؤال: هل يمكننا نحن من يتأتئ أن نحاكي اللغة البليغة؟ هل تستطيع لغتنا المهمشة والمكسرة أن تحاكي اللغة المضطهِدة العنيفة؟ وأي رواية يمكن لنا، نحن من نتأتئ، أن نخلق؟ هذان هما السؤالان المركزيان اللذان يقفان خلف فصلَي «تفصيل ثانوي»، أي كيف يمكن لنصّ أن يكون كاملاً متكاملاً وواثقاً من نفسه، وأن يكون هناك نص آخر لا يعرف من أين يبدأ. من يكتب النص متكاملاً؟
وهذه القصة كثيراً ما تثير ضحكنا في فلسطين. حاولي أن تسألي فلسطينياً ماذا حصل معه في اليومين الأخيرين. لن يبدأ من اليومين، ولكن قد يبدأ من قبل عشرة أعوام، أو ثلاثين، أو ثمانين أو من القرن الثامن عشر… لا تعد إلى تلك النقطة، لا وقت لدينا لذلك. لا تعرفين حقاً أين لحظة البداية، ولا تعرفين أين لحظة النهاية. هناك فوضى عارمة تجعلك غير قادرة على الإمساك بلحظة البداية، وهذه هي التأتأة، هذا هو الضياع في اللغة، هذا هو الضياع في السرد. كيف يمكنك أن تسردي قصتك؟ من أين تبدئين؟ نحن نتكلم عن 7 اكتوبر. ولكن ماذا لو أردنا أن نبدأ من سنة 2021؟ أو نبدأ من سنة 2014، أو قبل 2007، أو 2000، 1987، لا بل 1982… هذه هي التأتأة السردية.
ثم تنظرين بجدية إلى الخطاب الواضح وتتساءلين: إن كنا تحدّثنا بهذا الوضوح، فهل سيكون موقعنا شبيهاً؟ إنْ أردنا أن نتبع الضحية، فكيف ستكون لغتنا؟ وكيف سيبدو نوع السرد عندها؟ كما نرى في عالم البحث الجنائي، عندما تقع جريمة، يتبعون عادةً الجريمة من وجهة نظر المجرم، لأنه الوحيد الذي عاش بعد الجريمة. إذا تخيّلنا أننا نرفض أن نمشي في أعقاب المجرم، وأخذنا النقطة التي تجعلنا نستعيد الجريمة من وجهة نظر الضحية، فأيّ قصة ستكون عندها؟ هذه هي العلاقة بين الفصلين في الرواية وعلاقة اللغة بينهما. يشترك الفصلان بكلمات كثيرة، إلا أن كلّاً منهما جاء من لغة، من باب آخر، من لحظة مختلفة، أن نكون أمام المكان والجريمة والمجرم ذاته، مع فارق أن يكون الوقت قد مرّ، وكيف حلّ على الكلمات، وكيف عاشت الكلمة هذا الوقت وتحوّلت أثناءه. قد نتخيّل أن عبارة «ليس المدفع الذي سينتصر، إنما الإنسان» (التي جاءت في خطاب الضابط الإسرائيلي في «تفصيل ثانوي») تعود اليوم. إذا استخدمناها اليوم، في وقتنا هذا، بهذا الحزن الذي تحمله، لا بالدعائية والبطولية اللتين تدّعيهما العبارة، بل بالألم والحزن فلعلّها تعكس الأمل بأن الإنسان سينتصر.
أودّ أن نتحدّث عن دورك ككاتبة اليوم، ولكن من خلال العودة إلى مقابلة أجراها محمود درويش قبيل وفاته، يقول فيها إن «الفلسطيني ليس مهنةً، أو شعاراً». ويضيف أن الشاعر الفلسطيني أو أي شاعرٍ يكتب تحت ضغط سياسي يومي يواجه ضغطاً من نوع آخر، وهو ضغط توقعات القراء منه. بمعنى أنّ على الشاعر أن يؤدّي وظيفتين: أن يكون وفياً لدوره ولتوقعات قرائه، وأن يكون في الوقت عينه وفياً لمشروعه الشعري، وأن هناك صعوبة في عملية الموازنة بين الأمرين.
عودةً للّحظة الراهنة، إلى قضية معرض فرانكفورت الذي جاءت بعد أسابيع من يوم 7 أكتوبر. توقّع قراءك أن تدلي بموقف بوصفك كاتبةً عربيةً تتعرّض للإسكات في أوروبا، أو بوصفك كاتبة فلسطينية تتعرّض للإسكات، أو ككاتبة من الجنوب العالمي تتعرّض للإسكات، أو بأي صفة أخرى تدينين محاولات الإسكات من خلالها.
لكننا لاحظنا في الفترات الأولى أنك التزمت الصمت بشكل تامّ. وحتى حين تطرّقتِ إلى الحادثة في مقابلاتك أو مقالاتك، طرحتِ أسئلة أكثر مما أدليت بمواقف. ولدى محاولة قراءة «تفصيل ثانوي» كسرد لحادثة حقيقية، أجبتِ أن «الرواية سعي خيالي» وأن لا علاقة بين الواقع والرواية. وأنت تواجهين ذلك التوازن الذي تحدّث عنه محمود درويش، بديتِ وكأنك تسعين إلى وضع مسافة بين روايتكِ وشخصكِ ككاتبة، ولحظة الكارثة الراهنة.
أتساءل إلى متى يمكنك المحافظة على تلك المسافة؟ وكيف يمكنكِ أن تحافظي على تلك المسافة عندما يكون لديك قراء يجدون في أعمالك مخرجاً من الواقع، أو على أداة معرفية أو جمالية للتعامل معه؟ ومن جهة أخرى، إلى متى ستتمكّنين من حماية أعمالك من نظرة الآخر الذي يراها أدباً جنوبياً، ملوّناً، أدباً ذا لكنة؟ إلى أي حد يمكنك، خصوصاً في زمن الإبادة، تحييد أعمالك من الاشتباك باللحظة التاريخية؟
قد تكون النقطة الأولى، التي يجب أو أوضحها، أنني لا أرى نفسي كاتبةً. أنا أكتب، فقط. وأنا أكتب لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي اهتديت إليها نحو الحياة، وقد يهتدي كلٌّ منا إلى طريقة معينة نحو الحياة بما في ذلك مواجهة عنفها. وليس ضرورياً أن يكون العنف على يد قوى استعمارية أو احتلال، قد يكون في حياتنا الشخصية، وربّما لكلٍّ منا طريقةٌ كي نواجه ممارسة هذا العنف. بالنسبة إلي، لطالما رفضتْ اللغة أن يكون بيننا أي علاقة عنف.
عمومًا ليس صعباً عليّ أن أخيّب توقعات الآخرين. لا مشكلة لديّ في ذلك البتّة. توقعات الآخر ليست همي أبداً. أحاول أن أقيم علاقات بالآخرين قائمة على الاهتمام والرعاية والعون. في التوقعات شيء سلطوي لا أودّ أن يكون موجوداً بيني وبين الناس، وحتى مع نفسي، لا أعرف إن كنت أتوقّع شيئاً من ذاتي. إنْ كنت أتوقّعه، فأنا أقوم به. لا يوجد هذا الشرخ.
وقد حاولتُ أن أفهم لمَ تركتني اللغة، وما زالت تتركني، وإنْ عدتُ إلى الكلام. أنا أتكلّم عن كل شيء، ولكنْ هناك شيء واحد لا يمكنني الكلام عنه، ولن أتمكّن من الكلام عنه، ربما لأن اللغة ترفض أن أستغلّها، أو أن أستعملُها بسبيل شيء آخر. لطالما كان في علاقتي باللغة، شيءٌ من الحب. أحبّ اللغة وأرجو أن تحبّني بدورها. في هذا الحب، لا أستغلّ اللغة كي أصل إلى مكان آخر. أحياناً، كما ننتظر أن يأتي من نحبّ، أنتظر أنا أن تأتي اللغة، وأقبل هذا الانتظار.
ما زلت أتعجّب كيف يمكن للناس أن يتكلّموا، بكل ذلك الوضوح. وما زلت أتساءل: متى سأتمكّن من التعبير بهذا الوضوح؟ وقد لا أتمكّن. لسنوات. وأعود هنا إلى أولئك الذين يريدون أن يبدؤوا من القرن الثامن عشر، وأذهب معهم ونبقى عالقين في القرن الثامن عشر. لكنني الآن أفهم أن اللغة ترفض أن أفرض رغبتي عليها أو أن أستغلّها من أجل شيء آخر. عندما اكتشفت هذا، اكتشفت أنه من المستحيل أن أفرض على لغتي أن تكون إلى جانبي، لأنني أريد أن أشرح ما يجول من حولي إلى الآخرين، وأن أكون طليقة اللسان مثل الجميع، و«يا لغة يجب أن تخضعي لي».
العلاقةُ القائمة على الطلب والأمر ليست موجودة في هذا الحب الذي أشعر به تجاه اللغة لناحية الاهتمام بها أو الرعاية التي تعطيني إياها. ليس عليّ سوى الانتظار، انتظار ظهور اللغة. أظنّ أن الكتابة، والكتابة بالصمت، والرجوع إلى الكتابة كلّ الوقت، هي طريقتي الوحيدة مع اللغة. لا أريد أن أخلق توقعات من قبيلِ أنني، هكذا، بليغة اللسان واللغة، أنني الآن سوف أخبر الناس كلّ شيء، بشكل واضح، أشبه بمضيفي الطيران. لا. لا أقدر على ذلك. أكتب وأمحو، أكتب وأمحو. وهذا قد يستغرقُ سنوات. أنا استغرقتُ اثنتَيْ عشرةَ سنة كي أتمَّ كتابة روايتي وأتممتُها فقط لأن دار نشري، «دار الآداب»، أبلغتني: ليس ثمةَ مجالٌ بعدُ لأيّ تغيير.
أحبّ اللغة وأرجو أن تحبّني بدورها. في هذا الحب، لا أستغلّ اللغة كي أصل إلى مكان آخر. أحياناً، كما ننتظر أن يأتي من نحبّ، أنتظر أنا أن تأتي اللغة، وأقبل هذا الانتظار.
«هذه هي الرواية، هذا هو الأدب الفلسطيني»
قرأت نصاً لفالتر بنيامين يسأل فيه: عندما تشهد على القتل، ماذا تفعل؟
لم يكفّ السؤال عن ملاحقتي.
منذ شهرين، في قرية اسمها دير غسانة قرب رام الله، قُتل شاب اسمه أُسيد ذات ليلة. قرأت عن مقتله في صحيفة الغارديان في خبر مثل كل الأخبار: ماذا حصل، وأين حصل ذلك، من دخل إلى القرية…وكانت هناك مواجهات وقُتل أُسيد. كان الخبر واضحاً وقصيراً وفيه تعاقب منطقي (صمت).
عدت وبدأت أبحث في جريدة فلسطينية سيئة جداً أحبّ أن أقرأها، لا أعرف لماذا. لا يمكن أن تقرأي فيها شيئاً، لأنها عبارة عن فوضى عارمة، فوضى بصرية ولغوية، ولكني أحبّ أن أقرأها. أشعر بالراحة مع هذه الفوضى ولو أنها لا تنقل الأخبار، وتأتي بالأخبار من أماكن أخرى، والأخبار دائماً متأخرة. قلت لنفسي، لا بدّ أن يكونوا قد كتبوا عن أُسيد، فبدأت أبحث في صفحاتها التي لا تنتهي عن خبر مقتل أُسيد. وجدته. لكني وجدته في قسم الثقافة وليس في قسم الأخبار. غريب. لمَ كان أُسيد في قسم الثقافة؟ هنا نعود لما هو الأدب الفلسطيني.
أخذوا شهادات من كل من كان حول أُسيد قبل مقتله: أمه تقول: «كان يريد أن يذهب إلى الجبل، فقلت له ماذا تحبّ أن تأكل؟ وهو قال إنه يحب هذا الطبق، فبدأنا نخبز…». كل تلك التفاصيل التي يستحيل أن يكون لها مكان في خبر إخباري. وبعدها، يقول والده كيف أن أُسيد كان قبل سنة قد فعل لا أدري ماذا، ثم يقول كيف ذهب أُسيد إلى الجبل وكان الطقس الربيعي جميلاً جداً. والأخ كان يقول كيف أن أُسيد ذهب إلى الجبل مع أصدقائه للهش والنش وعند عودتهم إلى البلد بعد منتصف الليل، كان الجيش يحاول الدخول إلى البلد، وعادة عندما يدخل الجيش، الشباب يخرجون ويحاولون أن يقاوموهم. ثم يصف أصدقاء أُسيد كيف كانوا يقفون على أسطح المباني المطلة على الساحة، ويصفون المخبز، ومرة أخرى، تفاصيل إلى ما لا نهاية. وأخ أُسيد رآه يركض نحو شاب يُضرب بالرصاص. يقع الشاب على الأرض.
وهنا يعود السؤال: إذا رأيت أحدهم يقتل، ماذا تفعل؟ أُسيد العائد من مشوار الهش والنش يركض (صمت طويل)، يركض ويساعد الشاب الذي قُتل. وأخو أُسيد لا يستطيع أن يساعده. فيتعرّض أُسيد للقتل. لكنهم يكملون القصة، كيف أنهم ذهبوا عند الطبيب، والطبيب قال لهم إنه لا يمكنه أن يساعده… وكلها تفاصيل إلى ما لا نهاية، دون أن يكون أحد قادراً على معرفة ماذا حصل لأُسيد. فنشرت الجريدة تلك القصة في القسم الثقافي.
وهذه هي الرواية، هذا هو الأدب الفلسطيني. وهنا أنا أتعلّم من فلسطين. ليس من تلك السرديات التي تقول إن الضحية هنا تتحدّث بوضوح، وليس من تلك السرديات مثل الغارديان التي تعرف تماماً ماذا حصل وهي تحاول أن تعطينا القصة كاملة، لكن من الناس الذين كانوا مع أُسيد، والذين لا يعرفون ماذا يقولون، وحتى من تلك الجريدة الفلسطينية التي لا تعرف ماذا تفعل بهذا النص، فتضعه في الثقافة، تعتبره نصاً ثقافياً. في لحظة قربنا من الوجع، نكون في قسم الثقافة.
No comments
Sorry, the comment form is closed at this time.