لا أحد يعرف تاريخ المقبرة. تأخّر الجميع بطرح السؤال. أدركنا ذلك في مراسم دفن الجدة زهريّة التي شهدَت من الحروب ما يفوق برنامج التاريخ المدرسي لسنوات الابتدائية. ولدت فجر القرن الماضي وعاصرت الحربين العالميتين وسنوات القحط والجدب التي تخلّلتهما، وحرب التحرير التي لم تصل إلى القرية والتي انخرط فيها حبيبها الذي عاش المعارك بين الجبال، ثم حرب الجلاء أوائل الستينات. ختمت الجدة زهريّة النصف الأول من القرن بالحروب العربية-الإسرائيلية، فميّزت كل واقعة بوشمٍ على يدها. إلا أنها توقّفت عن ضرب الأوشام منذ حرب الأيام الستة، التي بدا لها وكأن أحداثها تتلاحق بسرعة. عدلت عن الوشم واعتبرت الحرب غير جدية، خاصة وأن بطاريات الراديو الوحيد نفدت فجأة واستمرّ الأمر أسبوعاً كاملاً إلى حين قدوم ابنها البكر من العاصمة.
اضطرّ أحفادها أن يدفنوها بالقرب من سيدي المغبي، وليّ مجهول أصبح مرادفاً للوحدة في التقوّل الشعبي الدارج في القرية: "حزين رزين، وحدو كي سيدي المغبي". جرت العادة أن تسبق الجموع إلى المقبرة قبل وقت الدفن، تحديداً إثر إعلان المؤذن كرباكة: "مباشرةً إلى المقبرة". ينطقها في خشونة وغلظة، مع توقفات متكررة بفعل موجة السعال التي تمزّق حنجرته المهترئة بالتبغ. تحوّلت لدينا إلى لازمة للتندر أثناء لعب الورق كلّما مُني أحدهم بهزيمة قاسية.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
"ينيك أربعة في النهار".
انقلب المجاز في رأس السيدة التي لم تفهم تندّر صديقتها الشخمة. ارتعشت أركانها لفكرة أن الحاج كرباكة، بكل ذلك الوقار وفي هذه السن المتقدمة، بوسعه أن يضاجع مثلما يرفع الأذان ويعدل في ذلك. عزمت على إغوائه ليلة الخميس الذي يصادف الموعد الأسبوعي لزيارتها لمنزل الحاج للقيام بأعمال الطبخ نيابةً عن ابنته الكبرى التي تغيب للفحص الدوري في مستشفى المدينة.
لم يتطلّب الأمر جهداً كبيراً من السيدة لإغواء الحاج. ثنت جزءاً من ثوبها حول الخصر وأدخلته برفقٍ في تبّانها الداخلي. ارتفع ثوبها عن الأرض إلى مستوى الركبة والتصقت أجزاء منه حول فخذيها بفعل حبات العرق التي تصبّبت من جسدها. اقتربت من مجلس الحاج على سريره الخشبي الكبير وانحنت مراراً لمسح الأرضية. انقطع الحاج عن تراتيل المسبحة في يده وأخرج سيجارة أولى من العلبة. أشعلها في نرفزة مشوبة بالإثارة، ثم أعقبها بثانية وثالثة دون أن يحرّك عينيه عن السيدة التي بدأت في الاقتراب منه على نحوٍ لافت. للحاج جلسة ثابتة لا تتغيّر. يثني ساقه اليمنى لتلامس حافة السرير ويرمي بالأخرى نحو الأرضية. اقتربت السيدة وحفّت أردافها بشكل مقصود بقدمه اليسرى، ثم انحنت مرة أخيرة واستقر ثديها كعجينة ليّنة فوق ركبة الحاج. اختنق الحاج بأنفاس الدخان التي حبسها داخل رئتيه وأطلق موجة سعال. انحنت نحوه السيدة وربّتت على صدره مردّدة: "اسم الله عليك يا حاج". لم يكن الحاج قد استردّ أنفاسه بعد حين ارتمى على السيدة التي مانعته في غنجٍ ضاحك قبل أن تستسلم لانفجاره. أمسك الحاج طرف جبّته بفمه وهمّ مباشرةً بالإيلاج. ابتهجت السيدة وسألته في لهفة:
-"مالا كيفاش قالولي تنيك في أربعة في النهار؟"
ردّ عليها الحاج دون أن يحرّك فكّيه اللذين أطبقا على طرف الثوب:
- "ورحمة بوك انيك في أربعة كاملين، أخطى الصرف"
- "يا سعدي ويا هنايا، ومعاهم صرف زادة؟ كيف شنوّة باللهي؟"
-"زوز ولا ثلاثة.. سواقر."
توقّفت السيدة عن العبث وجحظت عيناها. استرجعت سريعاً حديثها القصير مع الشخمة وانتبهت لغبائها في فهم نكتة صديقتها. تملّكها ندم شامت تهيّأ لها في ملامح الشّخمة وهي تسخر منها. لا مفرّ للسيدة إلا إتمام ما بدأته. يجرّ الحاج ساقيه كديك مغلوب على أمره بعد معركة غير عادلة. أنفاسه متقطعة، وبالكاد يصيب في مشيته، لكنه يكابر، كمن عثر على ذخيرة قمح طريّة. ارتخت مفاصل الحاج تدريجياً بعد دقيقة من العمل المضني وخمدت أنفاسه فجأة. يصدح صوت الشيخ عزّاب، المؤذن البديل الذي يعوّض كرباكة أثناء غيابه في الأرجاء: "الصلاة على الجنازة. يرحمنا ويرحمكم الله. مباشرةً إلى المقبرة".
لا توجد صناديق سوداء في القرية. تتسرّب القصص الخلفية تحت تأثيرات مختلفة أهمها جلسات السكر. تنكشف قنوات الاتصال بين مجالس النساء والرجال، وتتحوّل القصص إلى مشاع عام. أخذت قصة الحاج مع السيدة مساراً مكشوفاً. حدّثت السيدة صديقتها الشخمة عن الواقعة، ثم زلّت الأخيرة أثناء حديثها مع زوجها مبروك التّيس الذي نقل الحكاية لندمائه قبل أن تنتشر في شرايين القرية وتصبح ضمن ميراث السرد الرسمي. ضخّت عمليات النقل تفاصيل جديدة في كل مرة، شحّمت القصة بسردٍ مثير ومطّت أحداثها على مدار يوم كامل أحياناً. اختراع التفاصيل يقاوم القلق الذي يشوب اللقاءات والجلسات. يتشائم السكارى من الصمت الذي يشبه الصدأ حين يهدّد صفيحة المعدن، يتربّص بخفوت طاقة الكلام أو نضوب شغف القصة ليفتك بلحظات الخفة التي تخطف الندامى. يلجأ البعض إلى اختراع تفاصيل متخيّلة حتى لا يأتي الصدأ على الجلسة. "احكي باش ما نصدّدوش"، تُرفع تلك اللازمة كأذانٍ في أعراف السكارى عند استمرار الصمت للحظات.
ضمُرت قصة الحاج والسيدة تدريجياً، وبقي منها جملة "ينيك أربعة في النهار" كشاهدٍ أيقوني استقرّ في معجم التواصل اليومي في القرية.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
يحدث أن يصرّف الحزن بالتزامن مع حدث الدفن. تنفلت لحظات من الخفة الآسرة عندما تبدأ الأيادي في دفع أكوام التراب حول الجثة وردم القبر. تنطلق أصوات السعال لابتلاع ضحكة منفلتة. لا تدوم لعبة التمويه طويلاً. ينسحب إثنان أو ثلاثة ممن تخونهم القدرة على المقاومة ويتأخرون بخطواتٍ عن البقية. يرفع دحدح رأسه بين الفينة والأخرى ليراقب العيون الضاحكة ويمارس ألاعيبه المعتادة في اصطناع حَوَل أبله. تنهار دفاعات البعض المستميت في كبت ضحكه وتنطلق جوقة جديدة من السعالات.
تبدأ الجموع في التوافد على المقبرة تدريجياً. يزور البعض أضرحة أقربائه وأصدقائه قبل أن نلتقي حول القبر المعدّ للدفن وننقسم إلى فرق. ينعزل أقرباء الميّت ويلفّهم الوجوم. يتفرّق شتات من الناس على مجموعات بانتظار قدوم الحاج كرباكة الذي يؤثّث مراسم الدفن. أختفي غالباً وراء جلال البريغادي، ضخم البنية ذي القدرة الفريدة على كبح ضحكه والتظاهر بأن شيئاً لم يكن.
هناك وجوه ثابتة في مراسم الدفن يتقدّمها الحاج كرباكة. لطالما اعتقدت أنه قديم مثل سيدي المغبي. لم تتغيّر ملامحه منذ أن كنت طفلاً، يسخر منه البعض أحيانا بقولهم: "ما يموت كان ما يدفننا الكل". يصاحب الشيخ عزّاب الحاج كرباكة دائماً، إما خلال الصلاة أو حتى في لعب الورق. يبدو متأهباً لخلافته في أبسط الأمور. دفعته حماسته ذات مرة أثناء مرض الحاج الذي تعذّر عليه رفع الأذان أن يجرّب انتقالاً مقامياً خاله تطريباً. لم يدرك أنه قام بنسخ غناء أحد المزاوديّة دون أن يفلح في ذلك حتى. كان صوته منفّراً. أقسم المولدي يومها في طريقه إلى المسجد: "تو هذا باش يولّي يأذّن ويعملولو شهرية متاع حاكم؟ نيكمها ما نبطّل الصلاة"، ووفى لنذره ثم توّج ذلك بعودته إلى الشرب. يشترك العم محسن مع الحاج كرباكة في قدم انخراطهما في طقوس الدفن. جعلنا التزامهما الدائم بالحضور وتأثيث المراسم نعتقد بأنهما خالدان. ليس بوسعنا أن نتصوّر موتاً دون حضورهما.
العم محسن هو حفّار القبور. لم يتقاضَ مليماً واحداً عن ذلك طيلة حياته. يكاد يبتهج عند موت أحدهم ويسبق الجميع إلى المقبرة بعد استشارة العائلة عن مكان الحفر. انضمّ دحدح مؤخراً إلى فريق المراسم الثابت. يعوّض أحياناً العم محسن خاصة بعد تقدّمه في العمر ويساعده في الحفر. يتكفّل دحدح بمهمة خاصة مع انطلاق مراسم الدفن، تتمثّل أساساً في رشّ ماء الورد على رؤوس الحاضرين عندما يؤمّ الحاج الجموع. تتشكّل البقية من سكان حومة الجبّانة والبريغادي صاحب الدكان المجانب للمسجد، بالإضافة إلى حارسي التعاضدية المولدي ومبروك التّيس. يتعلّلان بأي شيء للهروب من العمل ويعتبران كل موتٍ نكبة لهما. يتصنّعان قرابة الميت أو صداقته أمام مدير التعاضدية الذي يضيق ذرعاً بهما ويمنحهما ترخيصاً للمغادرة.
توفّيت الجدة زهرية ليلاً. كان من المقرر دفنها في اليوم الموالي إثر قدوم أقربائها من العاصمة، لكن كارثة وقعت في القرية صباح ذلك اليوم. صدمت سيارة رباعية دراجة نارية يقودها عجوز يصطحب حفيديه إلى المدرسة. قُتل ثلاثتهم على عين المكان وتقرّر دفنهم مع صلاة العصر بعد إتمام إجراءات المستشفى. لم تكن القرية قد شهدت أربعة دفائن في يوم واحد. خيّم شعور ثقيل على الأهالي وأغلقت المقاهي أبوابها دون اتفاق مسبق. بدا وكأن هنالك استجابة جماعية للحزن.
رفع الحاج كرباكة أذان العصر وأخبر الجموع أن تتّجه "مباشرة إلى المقبرة".
وصلتُ مبكراً. رفعت رأسي لوهلة وشاهدت زحمة القبور التي تشير إلى قِدم المكان. لا يزال هناك متسع للجميع. بدأت الجموع في التوافد أثناء ذلك. وصل الحاج متأخراً ووقف أمام التوابيت الأربعة التي رُصفت بشكل متواز. اقتضى الأمر أن ندفن العجوز وحفيديه ثم الجدة زهرية. بدأت المراسم أخيراً. لا وزن لِثقل الموت. هو شيء يسدّ مسامات الرئة ويضغط الهواء بداخلها الذي يمرّ حارقاً ويغصّ الحلق. مرّت عمليات الدفن الثلاث الأولى في صمتٍ مهيب. انخرطنا جميعاً في وجوم ثقيل لفّ المكان. شعرت لوهلة بالصدأ. لم أقوَ على الحركة أو رفع رأسي. كشُربٍ حزين دون ندماء، كانت تلك المراسم.
لم نعتد أن يمرّ وقت مماثل دون تلك الخفة الآسرة التي تحرّرنا من وطأة الموت. لا ندري من أين ورثنا الطقوس العابثة التي نلخّصها بالقول: "يجي الضحك على راس الميّت". يتسامح أهل الميت وأصدقائه على نحو غريب مع أصوات الضحك المكتومة التي تنطلق في الأرجاء. يحدث أن يبتسم بعضهم أحياناً إذعاناً للعدوى. هنالك إجماع على أننا نتبادل الأدوار خلال مآسينا، وأن على أحدهم أن ينقلب نقيض حزننا فيخفّف عنا. تُنحت تلك الظرافة من قلب الموت، في مشهد يقطر حزناً، ويولّد ضحكاً شفافاً غير متكلف لم يحدث أن كان مرة ثقيلاً أو متفّهاً لجلالة الحدث. هو طيف يمتصّ ثقل الأشياء. خفة محرّرة. مناعة ضد الصدأ.
تحرّك اللغو أخيرا مع شروعنا في دفن الجدة زهرية. سرت غمغمة بين الجموع. غيرتُ مكاني واتجهت نحو مصدر الجلبة لأجد المولدي ومبروك التّيس وبعض الوجوه التي أعرفها. لحقتُ الهزيع الأخير من نقاش بدا حامياً وسط الهمهمات الغائمة. البعض يجزم بأن المقبرة قديمة قِدم القرية، وبأن أخرى سبقتها في الظهور، إلّا أنها ازدحمت بالقبور أثناء نزاعٍ قبلي غابر حول الكلأ، يعسر أن يكون ضمن أوشام الجدّة زهرية. يملك مبروك التّيس قصة مختلفة ولا يكفّ عن التبجّح بأن جد والده قد وهب قطعة الأرض لتصير مقبرةً. يعارضه المولدي بشكل حاد ويقسم بأن جد والد التّيس قد خسر رهاناً أثناء لعبه القمار لكنه لم يرد الإذعان، فأعلن أمام الجميع بأنه نذر قطعة الأرض التي خسرها لتكون المقبرة الجديدة، ورمى بعكازه ليحدّد "الرشمة". اعتزل لعب الورق إثر ذلك، وكان أول من دُفن في المقبرة الجديدة بعد أن توفّي إثر سكتة قلبية مفاجئة.
خرس مبروك التّيس أمام إصرار المولدي الذي اغتبط لانتصاره في المحاججة بعد تأييدنا جميعاً. لا أحد منا بوسعه الجزم حول أصل الخلاف بينهما. لم يأبه أحد منا لذلك، كنا نرغب في استفزاز التّيس لقنص لحظات الخفّة المفقودة التي انخرطنا جميعاً في البحث عنها. استشاط مبروك التّيس الذي عجز عن كسبِ جولةٍ أخيرة، وترجّى دحدح يائساً عبر غمزه بأن يصبّ ما تبقّى من قوارير ماء الورد فوق رأس المولدي. فعل دحدح ما توقّعناه جميعاً وباغت التّيس في وجهه. صمت الرجل برهة وخلناه استسلم لهزيمته أخيراً، لكنه شدّ قبضته ورفع الإبهام والسبابة والوسطى والبنصر في عدّ رباعي قبل أن يشير إلى الحاج ويهمس إلينا: "ينيك أربعة في النهار بلحق".
أخفى بعضنا رأسه وسط سيلٍ من السعال المموّه، فيما غرق البقية في انفجارات ضحك مكتومة تمزّق الحلق. لم يخطر ببال أحد أن يربط بين الواقعتين ويقتلع الظرافة من اللعنة الرباعية التي لاحقت الحاج كرباكة في النّيك والدفن. أسندت رأسي على ظهر البريغادي الذي اختلّ توازنه من فرط الضحك وكاد بدوره أن يسقط لولا اصطدامه بضريح سيدي المغبي. عجز المولدي عن التماسك وأطلق ضحكة مكتملة المعالم استمرت لثوانٍ. لم يحدث أن جاهر أحدهم بالضحك أثناء مراسم الدفن على ذلك النحو. ضحكنا لضحكه، وسرت عدوى عابثة كادت أن تصيب الحاج كرباكة الذي كان يجهل مدعاة الضحك. لعثم في الترتيل ثم سرعان ما استنفر للأمر ورفع صوته مقترباً بما يشبه الصياح عند وصوله إلى "اللهم وسّع مدخلها وادخلها مدخلاً طيبا"، ما فاقم العدوى أضعافاً أخرى. وحده مبروك التيّس كان ينظر شامتاً إلى الجميع ويصطنع الاشمئزاز من صنيع المولدي الذي فجّر العدوى. ما لبث أن ابتسم في صمت مظفّر وهو ينظر إلينا كقط عسّله الدلال.
انتصر مبروك التّيس على الجميع.
وانتصرنا نحن، أشقياء المقابر على جلل الموت مرة أخرى.
هيكل الحزقي
كاتب تونسي من قرية حزق. ناقد وباحث موسيقي، مهتم بالثقافة الشعبية والذاكرة الشفوية وتنظيم جلسات الخمر في قريته الأبدية. حاصل على منحة آفاق للكتابة الإبداعية والنقدية 2022 حول موضوع "ظاهرة الباندية في تونس من خلال أغاني السجون وقصص قاع المدينة". يفضّل الخمر على الحشيش، والبيرة على النبيذ. مناصر أبدي للدراجات الهوائية ومحترف نزالات شوارع إلى حدود سن السادسة.