لم نعلم أن الشبل ليس شبلاً بالفعل إلا عندما سُرِقَتْ دراجته الهوائية. لم يجرؤ عندها على القيام بأي شيء لاستردادها. كل ما فعله هو أنه أطلق بعض العيارات النارية في الهواء من شبَّاك غرفته، ثم استلقى على الفرشة الإسفنجية على الأرض، وراح يذرف الدمع من عينيه المفتوحتين على وسعهما، ساهماً في السقف، وشاعراً بحنين قوي إلى أمه. ومسدسه إلى جانبه.
الدراجة كانت هديةً من أمه. لكننا لم نره يقودها إلا مرات قليلة. كان يعرضها في صندوق زجاجي مستطيل قريب من المدرسة التي في شارعنا. من أجل أن يراها الجميع. لكن أحداً لم يكن حتى ليفكر لحظة بإمعان النظر بها. فالشبل قد يغضب إذا ما فعلتَ ذلك، ويأتي في الليل ويطلق عليك النار وأنت نائم في سريرك. كما فعل مع عمَّتِه العجوز عندما وجدها ذات ليلة تحاول إخراج سمكتيه الذهبيتين من البانيو، لكي تستحم، فأرداها بمسدسه. الشبل يستطيع أن يفعل ذلك بالسهولة التي يقص بها المرء أظافره، لأن مسدسه كاتم للصوت. وبعد أن يفعل ذلك، سيتخلص من المسدس، ويقتني بدلاً منه مُسدَّساً بنوعية أخرى، كأي قاتل متسلسل ومُوَفَّق جداً لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره. لهذا، لم يكن أحد مستعداً للتضحية بحياته من أجل دراجة هوائية. بل إن البعض كان يبتسم للدراجة أو يحييها بإيماءة من رأسه كما لو أنها الكلب الأمين الذي يحرس الحي. أما أنا فكنت كلما رأيتها، تنتابني رغبة في الإنقضاض عليها وقضم قطعة منها. إذ إنها دراجة هوائية تجعلكَ تشعر بالجوع لفرط ما هي خلابة. «شوپر». برتقالية وبيضاء. بعجلتين بنيَّتَي اللون ت معان صيفاً شتاء، كأنهما من اللبن المعجون بالشوكولاتة والكرز. العجلة الأمامية صغيرة والخلفية كبيرة. بل كنت أجرؤ على تَخَيُّل أنه من المستحيل قيادتها بسرعة، لأنك إذا فعلتَ ذلك فستذوبُ الدرّاجة لفرط ما هي مهفهفة. كما لو أنها مصنوعة من حبيبات مسحوق للغسيل. لكنها كانت عكس ذلك. دراجة في منتهى البأس. من النيكل والرصاص. حتى أن الشبل قال مستخفّاً عندما انفجرت أول سيارة مفخَّخة عند أقرب مستديرة إلى حيّنا، إن دراجته بامكانها أن تتسلق عمود الدخان الذي راح يشاهده كل من في الحي بذعر. كما لو أن السيارة المفخخة جزء من إعلان تجاري عن جودة دراجته.
أما الصندوق الزجاجي الذي وضع الشبل فيه دراجته، فقد كان مخصَّصاً لعرض تمثال القديس «مار مطانيوس»، شفيع المجانين. لكن الشبل، وفي اليوم الذي دخلتْ فيه أمه مستشفى الأمراض العقلية، أفرغَ الصندوق من الشفيع وحَطَّ مكانه الدراجة الهوائية. كان ذلك قبيل المناوشات الأولى في الحرب. سكان حيِّنا لم يكونوا من المسيحيين، إلا أن الصندوق والقديس كانا هدية من سكان الحي المقابل، الجيران الذين سترغمنا الحرب على قطيعتهم. وقد تجرأ أولادهم، المسلحون الآن، وتسللوا إلى حيِّنا ليلاً، ليمدّوا يدهم إلى درّاجة الـ»شوپر» في الصندوق كرد اعتبار للشفيع المفقود «مار مطانيوس»، المصنوع بالشمع، والذي أرغمني الشبل بعد أن أزاله من الصندوق، وباشارة من رأسه فقط، على ربطه بسهم ناري ثخين وإطلاقه في الهواء باتجاه الحي المسيحي. وأنا فعلتُ ذلك على مرأى من الجميع. وبعد ساعات، بدأ سكان حينا بنصب المتاريس.
كنت أعرف أن الصندوق والشفيع لم يكونا في الحي إلا من أجلي. فقد وُضِعا في عيد ميلادي. وكانا تعبيراً عن شفقة سكان الحي المسيحي عليَّ. وهذا ما كانت عينا الحلّاق تقولانه لي كلما ذهبتُ عنده لأقص شعري. كانتا تقولان أيضاً إن عليّ أن أتعافى بأسرع ما يمكن، قبل أن تندلع أولى المعارك. لأنني إذا ما فعلتُ ذلك، يعيدُ سكان حيّنا الصندوق والشفيع سليماً إلى الحي المسيحي، مع بطاقة شكر ربما، وقد يقيمون حفلة مشاوي ويذبحون خروفاً صغيراً. وبهذا نحيِّد حيّينا تماماً عن الحرب ونتفادى عدداً من المعارك ونكتفي بالحيطان الصغيرة التي بنيت على أسطح بعض البيوت في حينا كمواقع للقناصة في أسوأ الأحوال، والتي كان هناك فكرة بأن يكتب عليها الأطفال بالزفت الأسود مذكّراتهم المشتركة مع أطفال الحي المسيحي، الحفلات والمناسبات العامة، وتاريخ كل لحظة إذا أمكن. أما إذا أخفقتُ في الإذعان للقديس ولم أُشفَ، واندلعت الحرب، فإن التمثال سيتعرض للتخريب حتماً، لأنه تمثال مسيحي، وهذا سيستفز الجيران بقوة. وسيعتبر ذريعة ربما لاقتحام حينا. لذلك كنت تحت الضغط. إذ كان عليّ أن أُشفى مما أنا فيه وبأسرع ما يمكن. وكنت عندما أعود من عملي في السمكرية كل يوم، ألاحظ أن العيون تحدّق بي. الدكنجي والميكانيكي وصاحب محل الأدوات الرياضية والمحمصاني. أيضاً الأطفال، وواحد منهم سألني مرة وأنا داخل البناية «لماذا لا تُشفى؟». ثم أدلف البيت وتكون أمي وجدّي وأختي ينظرون إليّ وعيونهم تقول «لا نملك مكاناً آخر نلجأ إليه. عليك أن تُشفى. لا خيار أمامك!». وأمي تشعل عيدان بخور كل يوم، وتُدلّك رأسي وتكبس على تلك النقطةَ بين عينيّ وهي تدمدم آيات من القرآن ثم تختم بالقول «بالشفاء!» بينما أغفو. ولو ذهبتُ للتفرج على تدريبات فريق الكشافة الذي بات يلبس لباساً عسكرياً، في البورة، يتوقف الجميع عن التدريب برهة وينظرون إليّ بأعينهم التي أفهم أنها تقول «نحن نتدرب لأننا نعرف بأنك لن تُشفى أبداً». ثم يكملون ما يقومون به. باختصار، فقد أصبح التمثال مع الأيام، ومع انزلاق الشوارع والبيوت نحو مفرمة الحرب، عبئاً عليّ أنا بالذات. لذلك، كنتُ أشعر بالسعادة وأنا أربطه بسهم ناري وأطيِّرُه في الهواء. كما لو أنني نفسي من يطير.
إلا أن الشبل كان واقعياً جداً. هو الوحيد الذي فهم بأنني لن أُشفى أبداً. قال لي دائماً في محل الفليبرز «أنا مقتنع بأنك لن تُشفى أبداً. لهذا أحمل معي هذا المسدس. أنظر. هذه الماسورة من أجل ألا يصير له صوت. يعني لو أطلقتُ عليكَ النار، لن يعرف أحد بأنك مت. ولا حتى أنتَ نفسك». كان يروق لي هذا الجزء من الحكاية كثيراً. أن أموت دون أن يعرف أحد أنني ميت. لذلك كنت كلما رأيتُ الشبل أقول له «أعد عليّ تلك الحكاية. بأنني إذا مت لن يعرف أحد بالموضوع». فيُخرِج المسدس بخفة من وراء ظهره وسط قلق الأولاد الآخرين ويخرطشه ثم يقول «هذا مسدس. وهذه الماسورة فيه، من أجل ألا يصير له صوت. يعني إذا أخذتك في هذه اللحظة إلى ذلك الزاروب وقوّصتك هناك لن يعرف أحد من هؤلاء بأنك مت. ولا حتى أنت نفسك». فأشعر بسعادة تصل حتى إلى الندبة المكوية التي في إصبع قدمي الصغير، يرتعش رأسي كما حين أتبول، وأقول له «خذني إلى الزاروب وقوّصني»، وأبدو كما لو أنني أتحداه. إلا أنه يقول «عليك أن تُشفى أولاً. أنا لا أطلق النار على أشخاص ليسوا بكامل وعيهم العقلي»، ثم يأمرني بحزم أن أغرب عن وجهه.
كان واضحاً أن الشبل لن يقوّصني مهما رجوته. الأمر بالنسبة له مسألة كرامة. حتى أنه تباهى بها في رسالة لحبيبته فتاة البريفيه في الطابق الأرضي من البناية التي يقطنها. هي من أخبرني بذلك. بينما كنتُ أفتح بلاعة المطبخ في بيتهم، اقتربت مني وأنا أعمل بالسيخ المعدني وهمستْ «هل تعلم؟ أنت السبب. منذ أن كتب لي الشبل قائلاً لن يقوصك، بدأت أحبه. لأنه لم يقوصك عرفتُ بأنه لطيف حقاً وحساس». كانت حبيبته نحيلة. مؤخرتها لها شكل إجاصة وثدياها بحجم طابة السيفون البلاستيكية وعيناها نعسانتان ليل نهار، وحين تتكلم تشعر أن رأسها موضوع في كيس. وقد قالت ما قالته برقة راح قلبي يخفق بسببها وعرفت بأنه أن يتحول الناس في حيّنا إلى صابون أسهل من أن يقوصني الشبل. لم يكن هناك من وسيلة لدخول بيته في الطابق الرابع. فباب بيته مفخخ، هذا ما كان يشاع. أنك لو لمسته بطريقة خاطئة، ينفجر. لولا ذلك، لكان من السهل دخول حمّامه وإفراغ البانيو من سمكتي الشبل الذهبيتين ثم البقاء عارياً تحت الدش إلى أن يعود الشبل إلى البيت.
بعد دخول أم الشبل مستشفى الأمراض العقلية، صاروا يضربونني في الحي بدلاً من أن ينظروا إليّ فقط بعيونهم. الحلاق قال لي إن كل ذلك يحدث لأنني لم أُشفَ. وإنه بسببي لم يعد «مارمطانيوس» يريد خيراً للحي. وإلا ما كانت أم الشبل بالتحديد هي من أصيب بالجنون. ثم أصبحت أمي عصبية وتبكي وجدّي يسعل بقوة أكبر ويبصق بلغماً أكثر من اللازم. كنت أعرف أنهم يلقون اللوم عليّ لأنهم لم يكونوا فاهمين السبب الذي سيجعل الحرب تقوم. وأنا لم يعجبني هذا النوع من الحياة. لكن الشبل عندما وضع الدراجة الهوائية في الصندوق قدم لي فكرة كاللمعان. فقد حزرتُ أن الوسيلة الوحيدة لجعله يقوصني هي بأن أذهب إلى الصندوق وأجلس على الدراجة الـ»شوپر» في وضح النهار. سأخرج من البيت كما لو أنني ذاهب إلى العمل. في الثامنة والنصف صباحاً. لكن بدلاً من أن أتجه إلى محل السمكرية، سأكتفي بقطع الشارع فأصبح بخطواتٍ داخلَ الصندوق الزجاجي بل وجالساً أيضاً على دراجة الـ»شوپر». وأظل جالساً كما أنا إلي أن يراني الشبل فيقوصني. بل وربما سيقوصني من شباك غرفته وهو لا يزال بالكيلوت والفانيلة. المهم أنني عندما سأموت لن أعرف بأني مت. لذلك لن أصب بأذى. ولن أعود أشعر بالضرب الذي بتُّ أتلقاه من سكان الحي، ولن أعود أتأثر بدموع أمي أو ما تقوله عيون الناس حول علاقة التمثال بي. ثم إنني سأكون الوحيد في الحي الذي ركب دراجة الـ»شوپر».
في ذلك الصباح، قبَّلتُ أمي النائمة وغسلتُ العلبة التي يبصق فيها جدي البلغم ثم أرجعتُها إلى مكانها المعتاد، بجانبه. لكنني عندما خرجتُ من البيت، اكتشفتُ أن الدرّاجة غير موجودة في الصندوق. لم أصدّق عينيَّ. كنت مصدوماً وتوترتُ كما لو أن الدراجة دراجتي أنا. ثم دمعت عيناي وارتجف ذقني. دخلتُ الصندوق دون أن أفكر بشيء ورحت أنظر حولي وأتلمس بيديَّ الهواء والجدران الزجاجية، علّ الـ»شوپر» موجودة لكنني غير قادر على رؤيتها. كان هناك بعض من سكان الحي حول الصندوق. وكانوا ينظرون إليّ إلا أن أياً منهم لم يجرؤ على وطء الصندوق لإخراجي. حتى عندما رأوا الشبل قادماً من بعيد لم يقل أحد منهم «الشبل آت. أخرج بسرعة» أو شيء من هذا القبيل. جاء الشبل من خلفي ونترني بقوة فوقعت على الأرض وبتُّ خارج الصندوق. كان غاضباً وبالامكان معرفة ذلك من أذنيه المحمرَّتَين وكان يحمل مسدسه في يده. أما أنا فلم أكن أعرف أن الدراجة قد سُرِقت. بل خلتُ بأنه وضعها في صندوق آخر أو أعادها إلى بيته. وهذا ما خلاني أترجاه قائلاً «أرجوك أعد الـ’شوپر’ إلى الصندوق». عندما قلت له ذلك، عاد إلى غرفته، وأطلق بعض العيارات النارية من مسدسه وتذكر أمه وبكى.
عليّ القول إن الصندوق والشفيع لم يكونا هبة من لاشيء، وإنما لأن الجيران المسيحيين شعروا بالإحراج والحزن، كون ما أصابني حدث بسبب أولادهم. تحديداً الولد ابن صاحب الجمعية الخيرية التي تقيم الحفلات لأطفال يعانون خللاً في الكبد. كنا في محل الفليبرز، الذي يقع في زاوية محايدة بين حيينا. وكنتُ لابساً قفَّازَي الملاكمة. مع أنهما لم يكونا قفازي محترفين، ولا حتى هواة، إلا أنني كنت سعيداً بهما. كانا جائزة من شركة بسكويت «ريكو» كسبتها لقاء خمسين غلافاً فارغاً. وكان عليهما ذلك الرسم الاخرق لبسكويتة لها ذراعان صغيرتان وترتدي قفازي ملاكمة، وتلاكم. لكنني لم أكترث. فقد كانا أول قفازين أضعهما في يديّ. وأنا لطالما كنتُ أريد أن أصير ملاكماً بطلاً. يخلّص العالم بلكماته - دون أن أعرف بالتحديد ما هو الشيء الذي يجب على المرءُ أن يلكمه من كل هذا العالم، ليخلّصه. أن أصبح ملاكماً قوياً، رهيباً، كما لو أنه يلاكم لا بقفازين بل بخرطومي فيل ملفوفين حول يديه. ثم أتى ابن صاحب الجمعية الخيرية. وطلب مني أن أعيره القفازين. قال إنه يريد أن يجرِّبَهما على ماكينة البوكس في محل الفليبرز. وبعد أقل من دقيقة كانا قد أصبحا بحوزته. لكنه عندما أدخل فيهما أصابعه، وكوَّر يديه الكبيرتين، تمزَّقا ورفض أن يعطيني ثمن خمسين بسكويتة «ريكو». وعندما رجعت إلى البيت مقهوراً وغير فاهم لماذا حدث ما حدث، رتقتْهما أمي بالإبرة والخيط. طبعاً، ليس بسبب هذا أصبحتُ أصابُ بنوبات دماغية تجعلني غير قادر على تصديق كل ما أسمعه أو أراه. وإنما لأنني، حينما ذهبتُ في اليوم التالي لابساً قفازي الـ»ريكو» المقطوبين، إلى بيت ابن صاحب الجمعية الخيرية عازماً أن ألكمه أول ما يفتح الباب ثم أهرب، وجدتُ أن أصابعه العشرة قد احترقتْ بالكهرباء عندما كان يحاول تمليس شعر أخته الصغيرة بالـ»فير» الكهربائي. بل عرفت بأن أصابعه كانت ملتصقة ببعضها ومكوَّرة أيضاً. كما لو أنها لا تزال مدسوسة داخل قفازي الـ»ريكو» المفتوقين. كانت عيناه حزينتين جداً وهما تنظران إلى قفازي الملاكمة اللذين كنت لابسهما في يدي. كأنه يلومهما. أبوه وأمه نظرا أيضاً إلى قفازي ريكو. وأنا شعرتُ بصعقة في دماغي. شيء لم يحدث لي من قبل. ومن يومها، صارت تنتابني نوبات. ومعها، يتجمد رأسي، عيناي وشفتاي وأذناي وحاجباي وغمازاتي أيضاً. وأصير خلال ذلك فاقد القدرة على رؤية أو سماع أو شم أي شيء حولي. وفي المدرسة، لم أعد أصدّق الدروس التي تلقننا إياها المعلمة، فلم أعد اذهب الى الصف. ومع أن الولد أجريت له عملية في أصابعه وعادت يداه تقريباً إلى وضعهما السليم، إلا أن النوبات ظلت تداهمني وتركتُ المدرسة وصرت أعمل في السمكرية. ولاحقاً صاروا يدعونني «شفيع المجاري المسدودة» كوني بت موهوباً في إدخال السيخ اللولبي في البلاعة المسدودة وإخراج الغرض الذي سدّها بنكشة واحدة. هذا الحدس بالمجاري المسدودة، هو ما كسبته من النوبات. لكن سكان الحي المسيحي الذين كانوا لطفاء جداً، ظلوا يشعرون بالذنب تجاهي. حتى أن بعضهم، كان يتعمّد أحياناً سدَّ بلّاعة المجلى أو المغسلة في بيته، بقطعة كلينكس بسيطة أو كيس نايلون أو جورب كي آتي وأسلّكها، فيوفروا لي بذلك عملاً. وفي أول عيد ميلاد لي، أرسلوا إلى الحي الصندوق والشفيع «مار مطانيوس».
كنتُ لو إندلعتْ الحرب، سأكون الوحيد الذي باستطاعته الدخول والخروج بين حيّنا والحي المسيحي. هذا لأن المسلحين هناك لم يكونوا الآن سوى الولد ابن صاحب الجمعية الخيرية وأصدقاءه. وأحد منهم لم يكن مهتماً بتقويصي الآن. لأنك حين تقتل أحداً في الحرب، فذلك لكي تستفز الآخرين. ومقتلي لن يستفز أحداً. رغم أنني ربطت تمثال القديس «مار مطانيوس» بذلك السهم الناري الثخين وأطلقته باتجاه حيّهم.
وهذا ما جعل الشبل يجيء إلى بيتنا، ويطلب مني أن أذهب إلى الحي المسيحي وأسترجع له دراجة الـ»شوپّر «. أمي حين رأتْه، شعرتْ بخدر في ركبتيها ولم يعد بامكانها النهوض. وجدّي سعل كثيراً. لكنني تباهيتُ جداً جداً. حتى أنني أبقيت باب البيت مفتوحاً والشبابيك الثلاثة أيضاً كي يرى الناس أن الشبل عندنا. بل حتى إنني تباهيتُ أمام الشبل نفسه، فقاطعتُ حديثه مرةً وذهبت أنظف علبة البلغم لجدّي. طبعاً وافقت على طلبه فوراً. وافقتُ بشرط واحد. همستُ للشبل: بشرط أن تقوصني بالكاتم للصوت وأنا جالس على دراجة الـ»شوپّر». والشبل فكّر ونظر إلى عينيّ مطولاً ثم قال إن هذا سيكون عاراً عليه، لكنه سيفعل ذلك من أجل دراجة الـ»شوبر» التي سيستعيدها لا من أجلي، وفي مكان لا يرانا أحد فيه. ملعب قسم الحضانة في المدرسة القريبة. وعليّ أن أكون مستحماً ونظيفاً من رائحة السمكرية وأن أكون لابساً مريولاً كبيراً لأنه لا يريد أن تتلطخ الـ»شوبر» بالدماء. وأنا فكرتُ بمريول الحلاق والشبل قال إنه سيحضر المريول بنفسه ووافقت.
أولاد الحي المسيحي لم يسلِّموني الدرّاجة في اليوم الأول. قالوا إن عليّ إحضار التمثال، كوني لن أُشفى أبداً، وأن أعود غداَ. وعندما رجعتُ اليوم التالي، وكان ذلك في المساء، كان التمثال يتدلى في كيس من وراء كتفي. كان مكسوراً نصفين وربما ثلاثة، وأطراف منه مذوَّبة بفعل انفجار السهم الناري، كونه شمعي. لكن الـ»شوبر» كانت بانتظاري. مهفهفة كما لو أنها خارجة من الصندوق الزجاجي. نظيفة ولا خدش واحد فيها حتى. كانت تلك المرة الأولى التي سألمس فيها الـ»شوبر». وقد فعلت ذلك بجدارة. بل إنني ومن فرط حماستي حدث انتصاب في عضوي. ما جعل الأولاد يضحكون عليّ ويأمرونني بالانصراف بلطف ويقولون «حتى لو صرتَ أنتَ بنفسك مارمطانيوس، فإنك لن تُشفى». توجهتُ إلى ملعب قسم الحضانة في المدرسة. حيث كان ينتظرني الشبل. كان يحمل مسدساً كاتم للصوت لم أره في يده قبلاً. كان فضياً وأخف وزناً من مسدساته السابقة. قال لي وهو ينظر إلى الشوبر ويسلمني مريول الحلاقة، «لم أستعمل هذا المسدس من قبل. لكنني من الآن فصاعداً لن أستعمل غيره. لقد وعدتُ أمي بذلك. زرتُها اليوم في المستشفى. وهي ستخرج قريباً. وسنذهب أنا وهي كما كنا نفعل من قبل إلى الجبل، وأقود الـ»شوبر» أمامها. ذلك سيكون مفيداً لها». أما أنا فلم أشعر بأنني معني بكل هذا. كنتُ ممسكاً بالدراجة ورحت أفكر فقط إذا كان من الأفضل أن أجلس من تلقاء نفسي على الـ»شوبر» أم أنتظر أن يأذن الشبل بذلك أولاً. لكن الشبل قاطعني، إذ تسلَّم الدراجة مني وأعطاني المريول وأنا ارتديتُه فوراً كي يفهم بأنني جاهز الآن لركوب الـ»شوبر». بعد أن أخرج أنتريكاً وتفحّص على ضوئه كل جزء في الدراجة، قال لي «حسناً. يمكنك أن تركبها الآن، لكن بروية». وأنا الذي لم أقد دراجة هوائية من قبل، أبقيتُ قدمي على الأرض ورحت أبذل جهداً كبيراً كي لا تنقلب الدراجة. في الوقت عينه، فإن الـ»شوبر» ولأول مرة بدت صغيرة بالنسبة لي. وكنت على وشك أن أقول للشبل ذلك. أن الـ»شوبر» أصغر مما كنتُ أراها في الصندوق. إلا أنه رفع مسدسه وصوب ماسورته الكاتمة للصوت نحو صدري وأطلق النار. انتشر الألم فوراً في كل عظامي. كما لو أن جيشاً من صراصير المجاري يقضمني. ووقعت فوراً على الأرض، لأن هذا ما يحدث لك في مثل هذه الظروف. أما الدراجة فقد بقي الشبل ممسكاً بها. ولم ينظر إلي لحظة. استدار بالـ»شوبر» وركبها وأخذ يُدوِّس ببطء في الملعب مبتعداً عني. لكنني وأنا أنظر إليه يفعل ذلك، وألقي نظرة أخيرة على الدراجة التي لطالما فتنتْني، لاحظتُ أن ثمة جسماً صغيراً إلى جانبي. جشم ساخن ودخان خفيف يطلع منه. كان عبارة عن رصاصة. رصاصة مطاطية. رصاصة مسدس الشبل الجديد، والتي لم تخترقني على الإطلاق ولم يكن هناك أي دماء على مريول الحلاقة. شعرتُ بأن الشبل قد خدعني بل وإنه سخر مني. كنت الآن أريد أن أنهض وألحق به، إلا أنني لم أستطع مغالبة الألم في عظامي. وما إن أوشكتُ على الصراخ كي أسترعي اهتمامه، حتى دوّى انفجار في مَسكَتَيِّ الـ»شوبر» الإثنتين، وحوَّلها إلى حطام ولم يبق من الشبل أي أثر.
Mazen Maarouf
Mazen Maarouf is a Palestinian-Icelandic writer, poet, translator. He has published three collections of poetry: The Camera Doesn’t Capture Birds (1st edition Ed. Al-Anwar 2004, 2nd edition Ed. Al-Kamel 2010); Our Grief Resembles Bread (Ed. Al-Farabi 2000); and An Angel Suspended On a Clothesline (Ed. Riad El-Rayyes 2012), which has been translated into French under the title Un Ange Sur une Corde à Linge (L’Amandier Poésie, 2013) and Icelandic under the title Ekkert Nema Strokleður (Dimma, 2013). His poems have been translated into several languages including German, Spanish, Swedish, Chinese, Maltese, Urdo and Malay. Maarouf has recently published his first short story collection titled Jokes for the Gunmen (Ed. Riad El-Rayyes 2015), which received positive feedback from readers and the press reviews in the Middle East.