النصان مأخوذان من كتاب عنوانه المؤقّت "الموعد". كانت النواة الأولى لهذا الكتاب نصاً عنوانه "سأم بيروت"، قرئ جزء منه ضمن ملتقى "مينا" الذي نظمته مؤسسة "اتجاهات" في بيروت سنة 2017. لم يسلم من تلك الكتابة الأولى إلا سطراها الأخيران. اختيرت اللوحات من مجموعة "حياة الآخرين" لغيلان الصفدي، بالاتفاق مع الفنان. غيلان الصفدي فنان سوري مقيم في بيروت. قُدّمت أعماله، في معارض فردية وجماعية، في مدن مختلفة من العالم.
رائحة الله
لا السرير ولا الكنائس، لا سناجب الغابات ولا خنازير المسالخ، فرّقت الغرب عن الشرق.
فارق آخر هو الكثبان- بناتُ الريح. الثلج والرمل يزرقّان، نقيين كالملح، في ضوء القمر. الخُطى فوقهما وشوشات لا تنتهي. الصحراء هي الصحراء، صمّمها الله أو عابِدوه أو مقلّدوه، والهاربون حيارى: أين الجنة، وأين الجحيم؟ عزلةُ أيِّ الصحراوين هي المستقبل؟ الصحراء هي الصحراء، مقفرة أو آهلة بالناس والوحوش، نباتاتها القليلة منقوشة في وشوم الطوارق، أو في زركشة طاقيات الفرو في سيبيريا. الصحراء هي الصحراء، ضاقت أو شسعت، اخضرّت أو ابيضّت أو اصفرّت.
محا الليل كل الفوارق، فيما كنتُم غير بعيدين عن قصر أسمهان، على ما ظننت. تتالت حواليكم، قدام مشاريع بناء، أكوام ضخمة من الرمال بدأ الثلج يغطّيها. تذكرتَ رضيعاً يحتفن الرمل، ويملأ به فمه، لاثغاً: "كُث ...كُث! كُث ...كُث!" جدتك، في طفولتها، سهرتْ وصابرتْ ريثما يغالب الثلجُ حياءَه ويتهاطل، لا كألطف الأرياش بل ثقيلاً كالقطن المندوف من مخدّتها، فلا ينقطع حتى يكفّن العالم البشع، الحزين. صلّتْ ليبدّل اللهُ منخلَ طحينه الناعم بآخرَ أخشن، راجيةً أن توشوشها الندف بسرّ عظيم سيغيّر كل شيء. غير أنّ هذا البعيدَ على رؤوس الجبال، عاشقَ الليل الذي تحرّقتْ شوقاً إليه، هذا الأبيضَ كالدواء، تساقط أثناء نومها. لشدّ ما حلمتْ به أتى. كانت تستحثّه بقلبها: "هُزّ شجرة أزهارك! هزّها! ما أبطأك، عجّلْ! عجّلْ!" حتى ملأ طاستها الفارغة، المتروكة بانتظاره، كالعش المهجور للقرقف بين تنكات الورد. وما إنْ فتحت عينيها الحنطيّتين على المعجزة الناصعة للصباح الساكن، حتى هُرعت لتنقّط الدبس، الخمريّ الغامق، على حصّتها من الثلج، وتتلذّذ برشفات صغيرة من المزيج، ولكن خيّبها الطعم البائخ لمشروب الآباء والأجداد، رغم كلّ ما قيل عن روعته.
هزّت الريح سيارةَ الأجرة التي أقلّتكم من شرق دمشق إلى غرب بيروت، وكادت تطيح بكم إلى الوادي. ثلوج ضهر البيدر أجبرتكم على الوقوف، بعد أجمة من أخوات السرو. خرمشت الغصونُ السقفَ والأبواب كمخالب تتزحلق على ملاسة الإسمنت. ذهبتَ تقطف منها ثمرة، مقصّراً خطاك، مخفّفاً وقْعها. سيارة ضربت بضوئها ظهرك، ثم توقفتْ فجأة واستدارت، فأعمَتْك مصابيحها التي لم تخفَضْ، وانطلقتْ من حيث أتت. استحلَكَ الليل أكثر، بعد ذاك العمى الخاطف. سبحتْ نظرتك في الظلام. رنّحتك هبّةٌ مفاجئة من الريح العاتية، فتمسّكتَ بحبلٍ أمام درج محفور في السفح، درجاته الأولى مغطّاة بغصون محطّمة، بدا لك شبه عامودي ولم ترَ نهايته. عدتَ أدراجك، وبيديك الحمراوين، المرتجفتين، وضعتَ وراءكم مثلثاً أصفر يومض لأضواء السيارات العابرة، مع واحدة من تلك القطع المخروطية التي لم تعرف اسمها (الشبيهة بقبعات الساحرات، مخطّطة بلونَي علم لبنان، وتظهر على الطرقات عند الأعطال). كان السائق قد قرّر أن يلفّ العجلات بالسلاسل. ساعدتموه، أنت والركاب الشبّان، الثلاثة الساكتين. احترز بآيات من الذكر الحكيم. نزلتم من الجبل على مهل مهله، وأنتم تسمعون جليداً رقيقاً يتهشّم تحتكم، مقضقضاً كالخبز اليابس. الراكب الجالس إلى جوارك، همس لك بالكرمانجية، مرصّعةً بالعربية، وربما جعله هطول الثلج يخفض صوته أكثر من المتوقّع:
-"والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفّس". أهل العمامة السوداء تلاوتهم أسلس. انظر إلى دخان الوادي. يهطل الثلج فتظنّ الشجر يحترق. هل هناك سراب في البرد أيضاً؟ هذه غابة عملاق لبنان وديع الصافي.
لوهلة، كنتَ مثل شخص وحيد داخل تقرير متلفز عن إعصار يضرب ساحلاً بعيداً في البحر الكاريبي. لم تكن تدري أين أنت بالتحديد في تلك الأعالي: الأشجار المعتمة تهتزّ في كل اتجاه، كأن هناك زوبعة محبوسة داخل كل شجرة، غاضبة لا تهتدي إلى المَخرَج (ولا تتطاير الأوراق لأنها دائمة الخضرة). لا أملَ في أن تلوْح البروق إذا أثلجَتْ. لاحت، بين الندف المتساقطة، أنوارُ بيوت بعيدة تنقّطُ قرىً لا تعرفها. أحسستَ للحظات بالسكون، كأنّكم وسط ديكور فيلم قديم، وما الحركة إلا وهمٌ تدحضه تلك النقاط العشوائية المضيئة على السفوح.
مازجاً العربية بالكرمانجية، أضاف مُجاوِرك، ضاحكاً:
-السراب مشرقٌ كالتنك. الليل فحمة يُضرِمها الفجر بلهاثه. بربّك، ألستُ شاعراً؟ أقوى من سليم بركات!
لم تكن تبدو عليك علائم أنك تستمع حقاً حين يتحدّث الناس إليك، ثم يشحذ نظرتك انتباهٌ مفاجئ، مع اهتمامٍ مبالَغ فيه، ربما لتتدارك غضبهم. أجبتَ بضحكة مكتومة، أقرب إلى زفرة نُفِثتْ من أنفك. ربما فتح الأرق شهيته على السجع والضحك- صحفي شابّ، سيدور في صباح الغد على عدد من صحف لبنان، ويقبض أتعاب مقالاته بالدولار. كانت معه عدة تفويضات موقّعة، وبطاقات شخصية، ليستلم عن أصحابه أيضاً. قال بالعربية، وعيناه تلمعان، مادّاً يده فوق حضنك ليفرك ركبة الشاب الآخر، وأنت محصورٌ بينهما:
-احسبها بالسوري: كانت كل كلمة بخمس ليرات. تغيّرت التسعيرة. آه منّك يا مكافآت الصحافة! استلموني قبل أن تفقدوني!
استأذنته للجلوس بجوار النافذة، فبدّلتما مطرحيكما بسهولة على المقعد الخلفي الواسع. شممتَ الثمرة الخضراء الصغيرة في يدك، ثم مددتها إلى السائق تسأله عن نوعها. أجابك دون أن يرفع ناظريه عن الطريق: "عرعر. اجرحْها قليلاً لتشمّها"، ثم شغّل الراديو: "يبدو أنهم لا يغنّون على الأموات هذه المرة". صفّى الموجةَ الراكبُ الصامت في المقعد الأمامي. انتبهت إلى نمش يغطّي رقبته أيضاً، فيما مئات آلاف الندف تكبر وتتطاير وتختفي. كنتَ، في صغرك، تحسبها "قشرة رأس الله" قبل أن يستحمّ. شممتَ الثلج لتشمّ الله.
لم ينبس أحد بحرف. انساب الكورال بكم، عبر المنعطفات والمنحدرات التي تضيق كالدبوس، ثم تنفسح، ثم تضيق، حتى علّق المذيع:
-أعزاءنا المستمعين، هذه المقطوعة BWV 1 هي "يا نجمة الصبح شعّي..." حفلة عيد الميلاد الماضي في كاتدرائية مار جرجيس. أنتم تتابعون برنامج "سونات" على إذاعة لبنان الحرّ"...
غيّر الراكب الأمامي الموجة، لتسمعوا، في نشرة أخبار معادة على إذاعة "النور"، إنّ أرييل شارون قد فارق الحياة بعد خمسة عشر عاماً من الغيبوبة أمضاها بأكملها، ليلاً نهاراً، مستمعاً إلى كانتاتات باخ.
علّق السائق: "اجتاح وارتاح"، واحتسى شاياً فاتراً بالعسل.
عاجله الصحفي الشاب: "يا عمّ، كنت أردّد مع متظاهرين من خان الشيح: "يا شارون ويا عرصا/ بدنا نحرّر الأقصى!" عندما اقتحمنا السفارة الأميركية في المالكي"، فبُهِت بالردّ: "لا تجوز على الميت إلا الرحمة". لم يزِدْ أحد من بعد هذا شيئاً.
فاجأتك القشعريرة بضع مرات، مجعّدةً روحك كالماء الراكد، وأنت تسمع جوقة الميلاد، حتى أحسست باللحن ينبع منك، ولربما أسدل ستارة أخرى وراء عينيك، فما عدت ترى ما أمامك. لم تنتبه إلى أنّ الثلج قد توقّف عن الهطول. باخ وعويل الريح، شافياك في وحدتك، موسيقاه مبرّدة قلبك وعزيف العاصفة بين الأسلاك والأشجار المظلمة- كنت تسمعهما معاً، وأنت في مأمن، جالساً بين غرباء، محاطاً بالدفء والصمت، في سيارة وثيرة المقاعد، قفلها مركزيّ وأبوابها مُحكَمة الإيصاد، تهبط من آخر الليل إلى الفجر، من الجبال إلى البحر. ربما كانت تلك الدقائق هي الأبدية، دخلتَها شاباً وخرجتَ طفلاً. لم يسهل عليك التمييز بين بعض الآلات النفخية. كنت كلما سمعت آلة "الأوْبوا" حملتك نغماتها إلى الفجر، مثل ريشة تطفو فوق ينبوع خفيّ، في بداية لا نهاية لها. شيءٌ لا يُسمّى، ليس لذة ولا خوفاً. حاولتَ وصفها: "نفخها الله بنوره عند خلق العالم"، "ينفخ الله صمته في بوق زهرة الثلج لتتفتح داخل صدرك"، فبهتت كلماتك فوراً. تفشل اللغة فتبدأ الدموع. ما ركّع روحك إلا الموسيقا. شرحت لك صدرك بالبكاء. وددت لو بكيت بين يديها حتى الموت، وذبت بين دموعك، فلا يبقى منك إلا حفنة ملح تذرذرها نفخات "الأوبوا" بين النجوم في درب التبّانة. كانت تلك الموسيقا مفرّك، راحتك الكبرى، عيدك السرّي، وإنْ كانت، ككلّ عيد، كئيبة أحياناً. تكتّمت عليها، ولم تقاسمْها أحداً. لا لأنك تخشى أن تبدو مدّعياً أو متطفّلاً، بل ربما لأن إفشاء ما تحبّ يُفقِدُه سحره، فلا يعود كسابق عهده، وعندئذ لن تجد ما تلوذ به في شتى ضوائقك.
فكرت بأن الجنبات البيضاء للطريق سوف تتّسخ بعد قليل، فتبدو كياقات الفرو الصناعي. ما من ظلال في هذا العراء لتؤخّر ذوبان الثلج حين تعلو شمس النهار، كما أنّ الأرض أدفأ لأن الشتاء قارَبَ نهايته، والمشاة سيدوسون الحافات الخطرة لهذه الطرق الخطرة، فيَسْمَرّ الثلج بالوحل والجليد المحطّم كبقايا السكّر الملتصق بملاعق الشاي.
من تلال الحازمية، أطللتم على البحر. رأيته للمرة الأولى. التمع، من بعيد، ساعة السَحَر. تراءى لك جداراً مائلاً، مقبلاً على الانقضاض. جدار من الليل والماء، أعلاه موشّى بنثارٍ من الأضواء، الملوّنة ككسور الزجاج المغروزة في الأسوار. ثم شهق الشاطئ أمام عينيك، والسماء انخفضت. أطبق الليل على البحر، رازحاً فوقه حتى سحقه، وسالت بينهما عصارةٌ من النجوم والالتماعات. كنتَ أخفض من الأفق الذي ترقرق مثل شريط من الزئبق، يتورّد ويسودّ ويخضرّ ويصفرّ ويبيضّ، ولكنه لا يتبعثر، وفوقه تومض المصابيح القرمزية لطيارةٍ تهبط إلى مطار الحريري. الوميض البرتقالي لإشارات المرور في الفجر أشعرك باليُتم.
كان لديك موعد في مسرح "دوّار الشمس"، لعمل محتمل مع فرقة رقص للهواة. كان الأرق يفوّر حموضةَ معدتك، ويُنذر بقروحِ القُلاع لسانَك وشفتيك، ويحكّ حلقك وعينيك في حرقة جافة تشبه أول الزكام، ومع هذا شربتَ قهوة عربية نصفها طُحل. أعدّها البائع على غاز نقّال في الكراج، وكلاكما تتدفّآن بالتاج الأزرق للنار الصغيرة. احمرّ رأس الغاز فأطفأه، قبل أن يسيل كالحديد المسكوب من المصاهر، وأنتما واقفان في الظل المائل إلى الاخضرار، تحت جسر شارل الحلو، بين سيارات الأجرة المركونة، بعض سائقيها نائمون بأفواه مفتوحة، بخار أنفاسهم يسيل على الزجاج المضبّب. عند شروق الشمس، طقطقتْ دراجة نارية صغيرة. سائقها شابّ مفتول العضلات بالشيّال، ذراعاه موشومتان؛ يقودها بيد واحدة، وبيده الأخرى مَنْقل فحم متوهّج. أمامه مانيكان مقلوبة على رأسها. ذقنه بين كاحليها. اضطرم الجمر في هبوب الهواء عند المنعطف. تطايرتْ بضع شرارات. أنعشك ذاك الاتّقاد. نافخاً في كفّيك، وددت لو أشعلتَ سيجارتك من تلك الجمرة الكبيرة كبرتقالة.
قال البائع: "بشرفي، الحياة مسرحية. نارة أركيلة. ضوء في آخر النفق".
بدا لك قوله منتَحلاً، مكروراً. سألتَه: "لماذا المانيكاناتُ المحجّبة تروقُ السيّاحَ؟ هل لاحظت كم يفرحون بتصويرها؟"
لم يجبك. لم تنظر إليه. صمتُّما، حتى لفت انتباهك إلى صفير بعيد في الميناء:
"الدقّة في المواعيد! اليوم، وصول سفينة الكهرباء التركية".
ما دامت الحياة مسرحية، فالعالم مسرح للهواة. لا حاجة بأحدٍ إلى برهان أمام كلّ هذا الزعيق، الوجوم والانهيارات عند سماع الأنباء الصاعقة، الإغماءات في زحام المواصلات، شوكة الغرور سهلة الكسر، الكبرياء كسلاح أبيض مُشْهَر ضد كبرياء آخر، الفشل المؤبّد، هتافات المتظاهرين ضد الشرطة وغيلان الفساد وملوك الطوائف، تشنجات الوجوه وتشنجات الكولون، نوبات الشقيقة، المضاجعات الساخنة والباردة على السواء، التشفّي بسقوط الخصوم، الضغائن الصغيرة... المحترفون المتعجرفون لن يحلّوا شيئاً. عزّة النفس ليست حلاً. لا منجى من الركاكة والافتعال. لا حلّ لفظاظة الأداء، المبتذَل، المتكلّف... معركة لا تنتهي يتناطح فيها فرسانُ القرون الوسطى بخوذهم الحديدية وروّادُ الفضاء بخوذهم البلّورية. رداءة تنكّد على الأذن قبل العين.
ومع هذا يتمادى الممثلون أكثر فأكثر، رقيقين أو أجلافاً، رجالاً أو نساء. جميعهم مستمرّون، حتى لو لم يقنعوا أحداً من المشاهدين المساندين، المتسامحين المتغاضين عن الزلات، المشجّعين، الأوفياء، المشكورين. الحياة مستمرّة، والناس ليسوا آلهة وقديسين ليتخلّوا عنها. الحياة مستمرّة، وعلى عروض الهواة أن تستمرّ معها، سيان فشلت أو نجحت وغطّاها الإعلام بوافر الصور والكلمات، سواء انعدم الديكور أو تهشّم أو نجا من التحطيم، وغطّته الورود، أو البيض الفاسد، أو الصمت. ربما العالم مسرح للهواة. لعلّ هذا أصدق ما فيه. لم تكن متأكداً.
أحياناً، وجدته أدعى إلى المغفرة، كقطعة موسيقا سمعتها بالصدفة بعد نسيان طويل، فأذهلتك، دون أن تعرف عازفها، المتواري بين الأقماع الصفراء لزهور الكوسا، أو خلف ستارة نافذة، ما همّ في أي ليلة مطيرة أو تحت صحو أي سماء، في أي زقاق أو قرب أيّ بحر. لكن المسرحية تبقى مسرحية، بغضّ النظر عن الذين يحطّمون الأنماط ونمطيتهم، سواء أُلغِيَتْ الستارة والإضاءة وجرس الاستراحات بين المشاهد، أو رُسمت المنصة بخطوط الطباشير في عرض الشارع، أو نُصبت مرآة عملاقة في الظلام يبدأ العرض بإزاحة الستار عنها، وآنَ يتبلبل المتفرّجون ينفتح باب خفيّ في المرآة، فيقفز منه ممثلٌ لتأدية دوره، الاستفزازيّ والوحيد: البصاق على الجمهور... لم يكن هذا عالمك.
وحدك على خشبة نفسك، واصلتَ عروضك المتنقّلة، داخل صدرك أو قلبك أو رأسك أو على الملأ، حتى بعدما تفحّم الأمل، والتصق بقاع حياتك كالوجبة المحروقة. كان جلدك ستارتك- راقبتْك، من ورائها أو من أمامها، عينُ الله أو عين الشيطان، أو جارك في النافذة المقابلة، أو كلبٌ في نافذة سيارة تصعد باتجاه مؤسسة كهرباء لبنان بادلك نظرةً ودودة، كسيرة كنظرات السجناء، فيما أنت تمسح عنقك، وبيدك الأخرى تمسك كوبَ قهوتك وسيجارتك بين الوسطى والسبابة. رفعتَ ياقتك. تأسّفت من جديد على نسيانك الوشاح والقفازات، في اللحظات الأخيرة قبل السفر، وأنت تتفقّد أغراضك القليلة في حقيبتك الصغيرة. لم يزعجك خضوع حياتك لهذه الأشياء "قليلة الشأن"، بل نسيانك حميميتها. غادرت بالثياب التي كنتَ ترتديها، آملاً أنّ الفراق المؤقّت لن يطول، ولن يصير عمرك كلّه. عري عنقك فاقم إحساسك بالبرد، كأنّ ما كنت ترتديه لم يكن معطفاً، بل كيس من نايلون يخشخش ويتشقّق، مثيراً إحساساً تعيساً بالشفقة على النفس. كان جيبه منتفخاً بقفازين لم ترتدهما. لم تجد المدن البحرية بالدفء الذي يُشاع عنها، أو ربما أنت مَن لا يحسن التقدير، فلا تنتقي الملابس المناسبة للطقس. هذا ما أفسد عليك مساءات ساحرة في مطلع الربيع ومطلع الخريف. غالباً ما كان لباسك أخفّ أو أثقل مما ينبغي، فكنتَ، في التقلبات المفاجئة للفصول، الوحيدَ المختنق بقميص سميك طويل الكمّين، الوحيدَ المنتعل خفّاً مُدرَّعاً يسلق قدميك، فيما المارة كلُّهم خفافٌ بأكمامهم القصيرة وصنادلهم، يسرعون تحت الشمس ليتباطؤوا في الظل ويستلذّوا بالنسمات وهي تدغدغ جلودهم المكشوفة. كإله الرعد لدى الأميركيين الأوائل، كنتَ تتعرّق في البرد، وترتجف في الحرّ.
الجواب
كان صباحاً لاهباً. هنيهة تحت شمسه تكفي لينشف كلُّ الغسيل المنشور على شرفات بيروت.
جلستَ على مقعد حجري، ودخّنت، متفيّئاً شجرة وارفة ظننتها زنزلخت. رجع إليك السؤال الآليّ لشابّة مستشارة نفسية. استجوبتك عن سوابق أمراضك العائلية. استشففت في نبرتها دناءة ما. حشرتْ أعراضك في خانة "ما لا يصنَّف". لحسن حظك، الاتصال بالرقم المجاني 1546 لا يجبر أحداً على التصريح باسمه. أغلقتَ الخطّ، حالفاً: "التوبة بعد النوبة!" لم تكرّرْ مثل تلك الاستشارات قطّ.
لا تزال المصحّات تفصل بين الرجل والمرأة، لكنّ المسيح جمع بينهما، في ملامح وجهه على الأقل، ثم سار الجامع على نهج الكنيس، ليعود المعبد إلى حقيقته الأولى: مستشفى نفسي لكافة أنواع الخوف. تشفّعتَ بتمثال فرانسوا الأسيزي، المزنّر بحبل أبيض من قماش. ظننته فرنسياً. يسمونه هنا "قديس العصافير". كنيسته، "مار فرانسيس"، كنيسة الشغّالات، وعلى الأخص "الحبشيات" منهنّ. لم تنسَ أن تخلع قبّعتك قبل الدخول (كانت القبعات العريضة والنظارات الشمسية تفقدك توازن مشيتك، فلم تتأقلم تماماً معهما). رأيت الصندوق الزجاجي الأخير ينتظرك، وأمّ الله واقفة بداخله، نظيفاً يلمع أسفل الجدار الأزرق للعذراء، إلى يمين البهو. هذا ما تبقّى من هدايا عيد السيّدة. تساءلت: كم كان عمر مريم البتول حين أنجبت المسيح؟ 12 أم 13 سنة؟ لم تعرف كيف تُصنع هذه الذخائر، مثلها مثل حشر المراكب الشراعية داخل الزجاجات.
هدأ قلبك حين وقفت أمام تمثال يسوع. شابّ أعطى العالم عمره- تحته أيقونة، وفيها يسوع ينتزع مسماراً من يده لينزل عن الصليب، ويطعم الأطفال الجوعى الذين ينتظرونه: "أبانا، أطعمتَ أفواهَنا قلبَك، فاطعِمْ جوعَ قلوبنا"؛ تحت الأيقونة تمثال آخر ليسوع، مشقوق الصدر، بقلب معدني كقطرة قصدير ضخمة، لمّعته المصليات بريش نعام هذا الصباح. نظرت إلى وجهك البعيد في قلبه، ونفضتَ غرّتك.
مدّ ولد صغير رأسه من كواليس المذبح، ثم قفز إلى الخارج، صائحاً: "آنديامو!". تسمّر في مطرحه. تماوجت كنزته البيضاء أمام عينيك، مقلّمة بخطوط كحلية ثخينة، كأنها شاشة داخل شاشة أخرى. كان بيده ملاكٌ من سكّر. كسر جناحاً من جناحيه الأبيضين، ثم قضمه وهو ينظر إليك. ظهرت الراهبة، موزّعة المهامّ. زاد حجابها وزيها الأسود من قوة عبوسها، والحبل الأبيض نفسه يتدلّى من خاصرتها. قالت لك:
-وحدهم السوريون والسودانيون يعرفون العناوين الصحيحة في بيروت. مثاليون لتوصيل الطلبيات. الإنسان الشريف يعمل بيديه. صار الآن يعمل برجليه.
أشرقتْ صرامة "الأخت" عند التنويه بالماضي المشرّف للصندوق: كان حوض ثلاث أسماك من نهر الأردن، بُوركت بالمعمودية في عيد الغطّاس. أوصتك: "يجب أن نحمي مَن يحمينا". فريق العمل الفني "أخوات" رفضن التصريح بأسمائهن، ولا زلن يستخدمن البصمة بدل التوقيع. بينهنّ حاصلة على جائزة الأم تيريزا. شعارهنّ: "طوبى للصابرين صبرَ الفحم ليصير ألماساً".
حملت الهدية في حضنك، وانطلقت مشياً من الحمرا إلى مار مخايل، لأن الطرقات مسدودة. شبيبة حركة "أمل" أغلقوا طريق المطار، في ذكرى إمامهم المختفي موسى الصدر. أدهى ما في الأمر طيشُ مراهقيهم على الدراجات النارية، غريبةِ الطراز. مقاودها طِوال عارية. قُوّادها منطلقون كالطيّارات، على عجلة واحدة أحياناً. فتيان ساخطون، لا أحد يفهمهم حتى أهلهم. لا يُظفَر من صمتهم بكلمتين مفيدتين. الحقيقة مكتوبة كالطلاسم على صفحات وجوههم، الطافحة بالزؤان. أنوفهم ناضحة بالهرمونات كأفخاذ الفراريج. سراويلهم الجلد وستراتهم الجلد، المنجّدة بأزرار نحاسية، تفوح بأحماض الدباغة كمقاعد السيارات المتروكة تحت شمس آب. مطبوع على قمصانهم السوداء، بحروف عريضة: "NO"، HAPPINESS""، "JE M'EN FOUS"، "NO FUTURE"، "ادّلع يا كايدهم"... رأيتهم فتوتّر جسدك، متأهّباً للنزال. لم يحضرك، من شجارات الصبا كلها، إلا رفسة بائدة الطراز اسمها "المنجلية" (يُباغَت فيها الخصم بركلة على الخاصرة، غير متوقّعة من القدم اليسرى)، ولم يُجبرك أيّ موقف على استخدامها منذ وقت بعيد. ثمّ مرّوا، ولم يرمقك أيّ منهم بتاتاً. كنت خارج الحسابات. لم يستفردوا بك ليوسِعوك لكماً وركلاً. لم يوثّقوا خزيك بكاميرات هواتفهم من زوايا مختلفة، مستهدفين أنفك أولاً، لأنه رمز الشموخ وإدماؤه وكسره سهلان، ثم تستمر تلك المعمعة تلقائياً، بقوة "الدفع الذاتي"، حتى يتوقّف الضرب فجأة، وينبري أشقاهم وأنحفهم للجلوس فوقك (ذاك المرتدي ثوباً أسود كالغوّاصين، مرسوم عليه هيكل عظمي) مطفئاً واحدة من أولى سجائر حياته في يديك. لم يسحلوك وراءهم حتى تنسلخ ركبتاك على الحصباء، ليرموك في ساحة خالية معتمة بين البنايات.
جنّبك المشي رهابَ التاكسي في بيروت. كنتَ إذا ركبت سيارة أجرة، حاذرت خبط الباب، فتخشى بقاءه مفتوحاً بعد نزولك، وتتخيّله منفلشاً يرتطم بالمارّة الشاردين، بعربات باعة الفستق والكستناء المشوية، بالحواجز الإسمنتية عند السراي... حتى طالك هذا التعليق: "اخبطْ يا زلمة! قوّ قلبك!" كان السائقون والركاب يفاجَؤون بك تُهرع إلى الاعتذار بحرارة عن مثل هذه "السفاسف". مرة مازحك سائق، وأنت تعتذر: "ما سمعنا! علِّ صوتك! الشمس مالئة الدنيا!" كلمته الوازنة كسرتْ كلمتك. ساندك ولدٌ ذاهب إلى عيد ميلاد، متنكّراً بزيّ الرجل الوطواط، فصالب فمه بسبابته، وصاح عنك: "هششش! خوفه أن يوقظ الوطاويط في النهار!"
بالغت أيضاً في شكر الآخرين إلى درجة الامتنان على خدمات صغيرة، كأنهم أنقذوك من ورطة العمر. كنت تكره ذاك التكثير "جزيلا"، حين ينزلق من لسانك بعد "شكراً". تلك تصرّفاتُ غُرباء، لا تُرى إلا ضعفاً أو تزلّفاً، كيفما قُلبت، ولهذا أمعنوا في الإشفاق عليك، أو الامتعاض منك. أما أنت، فكنت تستسخف نفسك، ولا تفهم ما فعلت. كنت تسهو، فترهقك الأعذار التي يختلقها لك مسامحوك، وهم يغفرون ما تسبّب به سهوك من هفوات. أنهكك تردّدك، وأنّثك في أعين الآخرين. أحكامهم سريعة، باتّة كالمحاكم الميدانية. أدانتك لهفتك. سجينَ لطافتك، أخزاك خجلك. كنت تتملّى الوجوه، في المركبات الخاصة والعامة، الباصات والسرافيس... فترى الجميع حزانى، أو ضابطين أعصابهم. ماذا لو نُزع هذا الوازع؟ سمعتَ أن سائقاً قد أفرغ طلقة من مسدسه في رأس سائق آخر تجاوزه بالسرعة. أهل المكان هم المسرعون عادة، عليمون بخفايا الطرق والمنعطفات، مكتفون في النفي برفع خفيف للرأس، من دون كلمات، حين يزمّر لهم سائق من أجل الركوب، لحوحاً في التلويح والمناداة: "تاكسي؟ تاكسي؟".
كالأفعوان تارة، كالسلطعون طوراً، استطعت أن تتخلّل الفسحات الضيقة بين السيارات المتراصفة، وأرتالها تلمع تحت الشمس، مقطّعة في حلقات، مثل ديدان أرض عملاقة. اعترض طريقك ولد يبيع "سيديّات". لمحت على غلافها ابتسامة راغب علامة. ناداه رجل: "يا ولد!" بعدما لاح في مرآة الرؤية الخلفية (المزينة بقرص، أحدُ وجهيه تميمة "عين الحسد"). اشترى منه قرصاً. أدار المسجّلة، ليُسمِع زوجته أغنية "عملت المستحيل".
راقصتَ السائقين حين يدعسون دعسة خفيفة على دوّاسة البنزين كلما سنح لهم أن يتقدموا بضعة أمتار، فتنتقل الحركة نفسها من السابقين إلى اللاحقين، متماوجةً على مسافة كيلومترات، لا ترى بدايتها ولا نهايتها، فيما أنت رافعٌ الصندوقَ الزجاجي، عالياً فوق قبعتك المكسيكية، كالظافر بربطة خبز في زحام فرن. مَن رأى عينيك المتّسعتين حسبك حائراً بين حماية "الهدية المقدسة" وتحطيمها.
توقفت على الطريق لترى، عن بعد، نواويسَ تدمرية تحت نخلات باسقات، في حديقة متحف روبير معوض؛ بينها نخلة برّاقة، جذعها ملفوف بورق قصدير، بدتْ لك مثل رأس أركيلة محشوّ بالتنباك. لم تزُرْ آثار تدمر، ولم ترَها إلا عبوراً من نوافذ الباصات بين الشام والجزيرة؛ كنت تلمح، في منتصف الليل، أبراجَ الموتى (مرة، فتنتك بظهورها تحت قمر نيسان، وراء عدد هائل من الزهور الصغيرة التي فرشت الصحراء بعد وابل مطر، أرجوانية مائلة إلى السوداء، ساكنة تماماً [ربما زخرفتْ أخواتها مدافنَ التدمريين القدامى]، زهور قصيرات الأعمار كان الرملُ قد غطّاها في رحلة رجوعك بالباص نفسه، الوحيد في بلدتك)، وحين تبرق شاخصة زرقاء لتحديد المسافات إلى يمين الطريق، مضاءةً بمصابيح الباص، تنتظر الشاخصة التالية لتحسب سرعة السائق، بتقسيم المسافة على الدقائق التي استغرقت قطعها، مفكّراً لمَ لا يُقاس الزمن بخفقات القلوب، وأنت تقدّر ما تبقّى من الطريق للوصول إلى البيت.
عند درج الألوان في مار مخايل، تأكّدت من العنوان، مرة أخرى: "نزلة الكازية، بجانب مطعم طوني". البنايات، هناك، ذات أدراج رَحْبة، مضيئة. سقوفها عالية. بعض نوافذها حمراء فاقعة، معظمها زرقاء متقشّرة. مصاريعها مستطيلة كألواح سقالات البناء. شرفاتها الواسعة حدائق معلّقة للمسنّات، تنقّلهن الشمس ببطء بين الظلال، من كراسي الصباح إلى كراسي العصرية، بركبهنّ المتيبّسة، وأوراكهنّ الموجوعة، وكواحلهنّ المتورّمة حتى تفقد الساق شكلها المغزلي وتصير أسطوانية. أياديهن لامعة، مخدوشة بأشواك الورد. يسندن بخيطان القطن البيضاء تعاريشَ الياسمين الأصفر. أحياناً يكلّمن صور الراحلين، وينسين (أو يُبقين؟) مصابيح عتباتهن مضاءة في النهار. مولعات بالزهور، المتفتحة حولهنّ، والمرسومة على قمصان النوم التي يتأخّرن في خلعها، على الأكواب والصحون وأباريق الشاي، على ورق الجدران وأغطية المصابيح. كان قلبك يرقّ لهنّ وينقبض في آن معاً، حين ترى أجسادهن البطيئة، الحزينة، وسط أصص الفخّار وأحواض "الزريعة". يلبثن ساكنات، سكوناً يقلق مَن يراهنّ، حتى يُطمئنه شخيرهن بقرب الخبيزة صارخة الحمرة، أو بين عناقيد الأرطاسيا الليلكية، والأكاسيا الليمونية. وعند حلول المساء، يدخلن صالونات تتلوّن بالضوء الأزرق الخفيف لشاشات التلفزيون.
ربما لم ينسين أنهنّ استخدمن التلفزيونات القديمة في إنارة البيوت أثناء الحرب، لأن استهلاكها للطاقة أقلّ. يسلكن الرصيف نفسه في الذهاب والإياب، أو يقطعن طريقاً مختصراً مهّدته الأقدام والدراجات بين العشب في قطعة أرض خالية، ذاهبات إلى الدكان نفسه، أو الصيدلية نفسها، بخطواتهن الخفيفة القصيرة، كل صباح أو كل صباحين، تتدلّى من أكواعهنّ أكياس فارغة، مضفورة من القش أو من أسلاك معدنية كشباك الكُرات، رافضاتٍ جرّ عربات التسوق ذات الدولابين وراءهن، ثم يهبطن من حيث صعدن، حاملاتٍ أدويتهنّ ومشترياتهن القليلة، ليصعدن إلى شرفاتهن مرة أخرى، ويجلسن بين زهورهن، صامتات أمام البحر الذي سبحن فيه وهنّ صغيرات. هكذا تمضي الأعوام الأخيرة، إلى أن تنكسر الحلقة الرتيبة، المغلقة، فتتوقّف العادات اليومية، وتظهر في اليوم التالي، داخل لوحة إعلانات الأبرشية في كنيسة مار مخايل، دعوةٌ عامة إلى جناز، للصلاة من أجل راحة نفس أرملة المرحوم... عقيلة مهندس الطرقات... كريمة رجل الأعمال (الهارب من التأميم في سوريا) ...والدة الدكتور... وتُطبع في النعوة أسماءُ ذويها، الأقربين والأبعدين، وعموم أنسبائها في الوطن والمهجر، في سطور متراصفة تحت الصليب: "مَن آمن بي وإنْ مات فسيحيا".
ذكّرتك إحداهنّ بجدّتك التي كانت تشرب شايها وحدها بين تنكات الورد والحبق، وأنت تضغط الزرّ رقم 2 على الإنترفون. من دون كلام، انفتحت البوابة. أم هاگوب، في الطابق الأوّل، فتحت لك بابها. انفتح قلبها لوجهك: "لماذا طرقتك حذرة هكذا؟ شبّان الطلبيات وسيمون. حتى الآن، كلّهم وسيمون. ما السبب؟ لا تخَفْ. لم يبقَ في عمري ما يخيف غيري. لا شيء يستحقّ كل هذا الخوف". حبستَ دمعتك حين ردّدتْ ثانية: "لا تخَفْ". اطمأننتَ إلى الشبه بينها ورُوْهِي سُوْ: شعر أبيض، خفيف، أملس، قصير؛ أنف صغير؛ نظارة كبيرة يترمّد بلورها في الشمس؛ صوتٌ أجشّ لا تذكّر خشونته بالكحول والسجائر وسرطان الحنجرة، هادئ النبرة، أشاع في جوفك إحساساً ببرد هانئ، وربما بالطمأنينة.
دعتك أم هاگوب إلى الدخول. للمرة الأولى، هنا، دُعيت لتدخل بيتاً، وتراه من الداخل. وضعتَ الصندوق على طاولة الشرفة. أجلسَتْك على كرسي من السعف. صاحت: "انتبهْ، النظارة!" فوثبتَ. فارغةً كانت المحفظة الخضراء، الليّنة. استدركتْ: "آسفة على الصياح. نظارتي، هنا، على صدري. اشتريتها منذ أيام الاتحاد السوفييتي. نظارات هذا الزمان مزوّرة. عمرها قصير، مثل الكلاب المهجّنة".
بيدين ترتجفان، فكّت الشريط الأحمر لـ "بونوس" الهدية المباركة: كتيّب من تراتيل المرنّم رومانوس. وقفتْ بينكما،على الطاولة، العذراء ذات العباءة الزرقاء، مغضية ناظريها، فاردة ذراعيها وراء الزجاج. مكلّلة بهالة من النجوم والأزهار. لعلّها منسوخة عن "سيدة حريصا". وددتَ لو استطعت أن تشمّ الخشب الذي قُدّت منه، وتنعم بحنانه. بيدها مسبحةٌ سماوية اللون، تتابُعُ حباتها كقطرات الماء. لم ترَ السلك بين الخرزات، كأنه الخيط اللامرئي الذي تتبعه فقاقيع صغيرة في صعودها داخل كوب سفن آب، قبل أن ترشّ وجهك بالرذاذ. دنوت حتى لامس أنفك الغطاء، فلاحظت أنّ خطوط الأرضية سمكة على الصليب، يلوّنها ظلُّ الزجاج بأخضر فاهٍ. رأيت صناديق مثل هذا على الطرقات، في المغارات، تحت صخور المنعطفات، أو في فجوات كأقفاص عصافير داخل جدران البيوت. تُلصَق إليها صور صغيرة لمفقودين ومخطوفين، مختفين منذ عشرات السنين. تغبرّ ألوانها تحت الشمس. تتبقّع ببصمات الأصابع والشفاه. أمامها بضع ورود يابسة. المسرعون يبطئون سياراتهم بمحاذاتها، راسمين الصليب على الصدور.
قالت مضيفتك: "كانت أمي تدعو هذه العلب "صندوق بريد الربّ". انظر. ليس للعلبة باب، ولا غطاء. يكفي لوصول الرسالة نظرة صادقة، وبضع كلمات من القلب. لن تخجل مني هناك، فأنا لا أنساها". أشارتْ بيدها إلى صورة قديمة على الرفّ، بين زهور الفِتنة: "هذه أمّي، في مخيّم مار مخايل. مصوّرها أرمنيّ معروف، نسيت اسمه. أحياناً، أحسّ أنّ نظرتها تلمع داخل عيني، وأنّ ابتسامتي هي ابتسامتها".
كانت طفلة نازحة، بفستان أبيض رثّ، واقفة بين الحصى، على سكة قطار بيروت، محفوفة بزهور الرتم العالية وشقائق النعمان.
-الوقت مجنون. مَن يقدر على اللحاق بالمجانين إذا ركضوا؟ سافرتُ معها إلى مطارح كثيرة. كنا نذهب، كل سنة، إلى كنيسة "شهداء الأرض" في دير الزور. كانت تقول إنّ بحيرة ڤان أجمل من بحيرات شيكاغو.
-وهذه؟
-هذه أيقونة "الفصول الأربعة"، نسَختْها راهبة في دير فاغارشاباد. اشتريتُها في أربعاء الرماد.
كان القديسون الأربعة ذوي سمرة محروقة، مثلكما. في عيونهم الواسعة لمعةٌ من هلع توارثوه منذ القدم. أحدهم يحمل مجسّم القُدْس. وددتَ لو تضاءلتَ، وسكنتَ داخله. لم تسألها عمّا تعنيه حركات أصابعهم. ربما تشير إلى جروح الله، أو وعدٍ ما بالخلاص. كنتَ تعرف، ونسيت.
أسبلتْ أمّ هاگوب على الصندوق ثلاثة أكمام بيضاء. رفّت جفونك لبريقها.قالت:
-بروكار. طرّزتُها بيديّ. سآخذها معي إلى القبر. سنرقد جميعاً في قبر اشترته أمّي. حسبت حساب كل شيء. كانت تقول: "المحظوظ مَن يرحل عن هذه الدنيا وهو محبوب".
كانت حافة كلّ كمّ مطرّزة بثلاثة سطور: سطر أصفر من زهور الخشخاش، سطر أحمر من الصلبان الأرمنية، سطر أزرق من كلمة واحدة مكرّرة بالأرمنية (ظننت الحروف سنسكريتية). سألتَ عن معناها، فأجابتك: "الألم"، وسكتتْ.
نظرتْ إلى الشِّجار الذي يعلو رأسك، المسمَّى تجاوزاً "شَعْرك": "برغم حسر النظر عندي، تكبّرتُ كثيراً في شبابي لكيلا أضع النظارات. أأقول لك ما الفارق بيننا؟ بضعة أوهام لا غير. أنتم الشبّان تظنّون المستقبل كلّه أمامكم، ونحن نراه وراءنا. لم يبقَ أمامنا غير ماضينا".
انصفقت البوّابة السوداء للمبنى بصدى مدوٍّ. لم تصدّق أذنيك حين قالت إنها ستعدّ لك القهوة: "نحن لا نشتري القهوة التركية. مشروبنا بنّ يونس، من كوستاريكا. هيله خفيف، مع رشّة يانسون وزنجبيل". أشارت بيدها نحو الغُرف الواسعة: "لا أزال أقول نحن، رغم أنني وحدي في هذا البيت الملعب". ترامى المكان بحركة يدها، فزاده الصمت عمقاً واتّساعاً. لولا المحبة لما أحسست بتلك الرحابة. رأيت باباً مفتوحاً تلو باب مفتوح. لمحتَ طرفَ شاشة تلفزيون سوداء ضخمة، مضاءة، مكتومة الصوت، في غرفة تضيئها الشمس التي تسرّب وهجها إلى الممرّ. كانت قبعتك، لامعة القشّ، على مشجب المدخل الظليل، فوق الهاتف الأرضي، أعلى خزانة أدراج خشبية، ذات أربعة طوابق، لامعة المقابض. أنعمت النظر لكيلا يختلط عليك، عند المغادرة، باب الحمام بباب الخروج.
رنّ وراءك جرس صغير. ظننته بين الغاردينيا، يؤرجحه نسيمٌ لم يصلْ إليك. سُرِرتَ. كان رنينَ قطعة ثلج في كوب من الماء، حملتْه لك بيدها، ووضعته أمامك. أندى البخارُ زجاجَ الكوب، فرفعتَه مسرعاً. كان قد رسم على الطاولة ظِلَّ دائرة، سرعان ما تبخّر.
قالت، مبتسمة: "لا تقلقْ. لن يتعفّن الخشب في هذا الحَرّ. الأرْز الأحمر يصمد أمام الزمن. طاولة أمّي متينة. هذا الصباح، سمعتُ خطواتها في الممر، ثم رأيتُ فاتورةً طيّرتها المروحة".
ضيّفتك "مارلبورو لايت" لتدخّن، على شرفتها الظليلة، في ذلك الصباح الواسع. مججْتَ السيجارة حتى غارَتْ وجنتاك، وأوشكت تبلغ عقبها بنفَس واحد. شعرت بالدخان المرّ يتشعّب في رئتيك. سحقت العقب في قلب عبادة الشمس المرسومة على بياض المنفضة. كان صمتك امتناناً لا حدَّ له. المسنّات مثلها يعددن ألذّ قهوة بالرغوة. تراجعت عن قول ما فكرت بقوله لها، بتهذيبك المصطنع: "لماذا تتعبين نفسك! والله، لا أستحق كل هذا الدلال!"
استأنفتْ كلامها: "كانت أمي تؤكّد لنا، بالأمثلة والشواهد، إن السعيد ينسى، والحزين يتذكّر... وتقول: "لو كنتُ البابا لجعلت الحنين الخطيئة الثامنة". لا أدري لماذا قرّرتْ، بعد ميلادي بأيام، إلغاء المرايا الكبيرة من البيت، من المدخل والحمّامين وغرف النوم الثلاث. ربما لأن قدوم الأطفال، مثل السعادة، يسرّع مرور الوقت. لم تشرحْ لنا السبب أبداً. هذا الغياب المقصود عوّضَتْه باللوحات والساعات. كان زوّارنا يستغربون ذلك، وهي تضحك لمنظر الزائر الذي يفتّش عن وجهه في مكانٍ يزوره للمرة الأولى، فلا يجده قدّامه. كان معظمهم يتلفّتون في تلك اللحظة، وينظرون إلى ساعة الحائط. يقولون إنّ المرآة شرّ... أو سُمّ... باردة كالموت. ربما. لا أدري. كانت مرايانا، ولا تزال، صغيرة ودافئة. كبراها"، ثم رفعت يدها، كأنها ستُقسِم: "أصغر من راحة يدي. لا تزال مخبّأة داخل الأدراج. كانت أمي تتساءل: "ماذا ينعكس على سطحها في تلك العتمة؟" أما أنا فأرى المسألة بسيطة. طوال حياتي، لم أرَ نفسي جميلة. إلا في لحظات عابرة. عندنا صندوق كبير، ملآن مرايا جَيْب، من كلّ شكل ولون. أجمل ما فيها إطاراتها. إطار المرآة أغلى منها بكثير، ولولاه لظننتها قطعةً من الظلام. نظّفناها دائماً لنحفظها من الصدأ. هل تريد أن ترى الصندوق بعد قليل؟"
ربما كانت مضيفتك تكلّم نفسها، كما عوّدتها وحدتُها الطويلة، وكنت أنت تستمع إلى نفسك. سمعتَ جدتك تقول: "مرآتي صحني، آكل فيه وجهي". كنتَ قد درّجتَ مرآتها كساعة الحائط، ولكن بثلاث عشرة شحطة. طعنتْ في السنّ، ولم تنقصْ، قيد أنملة، كراهيتها للمرايا بيضوية الشكل، خصوصاً تلك المتوَّجة بجوهرة كعمامة مهراجا: "أعوذ بالله من بيضة الشيطان!" ظلّت تخاف أن تضطر إلى اقتلاع وجهها من فرْج إبليس إذا استعصت الولادة. كانت تمسح ما تبقّى من قليل شعرها، الشائب المحنّى، وهي تسترجع ما قالتْهُ جدّتها، القابلة التي ولّدتها: "أول ما رأينا منك في هذا العالم هو فروة رأسك. كانت صهباء كالدبس، وأنت تحاولين الوصول إلى يديّ". كان طشت الماء الساخن ينتظرها، والمقص الفولاذ (وقتذاك، كان المنتظرون والمنتظرات يُبشَّرون بالمولود الذكر في حركة صامتة، منسية: تدلية المقص مغلقاً نحو الأسفل). لم تفارقْ جدتَك في مرضها الأخير. كانت تضع صورتها الأولى في يمناها، والمرآة في يسراها، منقلةً عينيها الواهنتين بين تشققاتِ هذه وتجاعيد تلك، كأنها بنظراتها المديدة تريد دمجهما في صورة واحدة ولا تستطيع، كأن الفراغ الفاصل بين يديها هو عمرها. كانت تقول: "صدئ حديدُ دمي، وحديدُ عظامي... حتى صورتي صدئت!" لم يكن لها من صباها كلّه غير صورة واحدة، تقف فيها بجديلتين طويلتين، مغطّيةً ضحكتها بيدها، قرب هضبة جاغر بازار. التقطها منقّب الآثار، زوج أغاثا كريستي. على وجهها الخلفي إمضاء من دون تاريخ، مع بضع كلمات هلكتَ حتى فككت شفرتها: "You ARE amazing"، لا بسبب اهترائها وبُهوت الحبر، بل لأنك استصعبت دوماً قراءة الكلمات الأجنبية بخط اليد.
شهدت، يوماً بعد يوم، كيف يشحب وجه جدتك ويبرد، حتى دخلت نومتها الأخيرة، مغمضة بابتسامة خفيفة دامت حتى النهاية. مرات معدودات، توقّدت، عقلاً ولساناً، فحسبتها عادت إلى الحياة، ثم عاودت الهمود، فيما وجهها يتشنّج ويرتخي، ولمّا سألتها: "موجوعة؟" لم تفهم من غمغمتها سوى كلمتها الأثيرة: "لا". كان مزاحها الأخير، حين أتيتَها إلى فراش موتها بالمرآة الصينية ذات الوجهين، وقبّلتَ يدها: "لولا خوفي من الله، لأطفأتُ نفسي كالشمعة، بالسبابة والإبهام. انظرْ إليّ كيف أذوب!" بللتَ شفتيها الجافتين بماء بارد. قلتَ "إن شاها رمت حجراً في وجه أختها"، وأقسمتَ: "حجراً حقيقياً!" فأضاءتْ ضحكةٌ صامتة وجهها، كأنك بدّدتَ بعبث طفولتك عبثَ موتها. أمطَرْتَها بملاحظاتك عن شاها، وكيف يُكشَف مرورها بلمعان اللعاب وراءها كالبزاقات، على المخدات وصدور الكنزات: "هل رأيتِها تصفّق بقدميها للمنتصرين؟ اليوم، لعقتْ حصاة، ورضعتْ زهرة. إنها تظنّ العالم كله ثدياً. كل شيء مصنوع من حليب: إصبعي، إصبع الدمية... كوعي... أنفي... ذقنك... جديلتك... ثم تبكي حين لا تجد شيئاً، لأنها زحفت الطريق كلّه عبثاً!"
أسكتك صفاءُ ما قالته جدّتك في أيامها الأخيرة، دون أن تفهمه، لا وقتذاك ولا الآن، مثلما لم تفهم هي لغزَ اعوجاج أنفها في المرآة، واستقامته في الواقع: "هيهات... هيهات... أكثر من مرة... حاول عزرائيلي أن يقبض ناري... لأنّ ساعتي لم تحِنْ... لم يفلحْ... كالطفل الخائب قدّام أتفه المهمّات ... رقّصتْ أنفاسه شمعتي... لا أريد أن أزعجكم برائحتي بعدما أنطفئ... لن تخطئوها حتى في الظلام. ستودّعني بهذا أولاً، يا خروفي"، وداعبتْ أنفك، بعدما خفّفتَ بحيائك جهامةَ كلّ تلك المواعيد التي فشلت. "دمي شديد السخونة... عزرائيلي يشربه برشفات صغيرة...كنتُ بردانة... وها هو يلفّني بعباءته الخضراء...كما كان أبي يلفّني بعباءته وأنا صغيرة... تحت شمس الشتاء... حتى أشمّ إبطه".انطفأتْ جدتك على مهل، وحدها في مكان غريب، مثل شمعة على مائدة غرباء، تضيء سكرانا يشخر وحده في نهاية السهرة، وسط الزجاجات الفارغة، وسط الصحون والملاعق والسكاكين، البلاستيكية المبعثرة، والمناديل الورقية المتسخة، بعدما غادر جميع المدعوّين.
تمنّت جدتك أن تسكن منزلاً عند الزاوية لتطلّ على أربعة شوارع. كانت شرفة أم هاگوب فسيحة، مقوّسة عند الناصية، تكاد تطلّ على البحر، وتحتها شارعان هادئان. كنت مرتفقاً مزهرية نحاسية، ضخمة كناقوس مقلوب مملوء بالتراب، وأنت ترشف قهوة بماء الزهر، مترقّباً أن تسألك المضيفة عن أصلك، حين سمعت دوياً. التفتَّ نحو البحر، وراء الطريق السريع، حيث الميناء المحجوب بسور من إسمنت. بدا الموج أغبرَ، كامداً في الضياء القويّ. رأيت عمالاً يقفون على أنابيب إسمنتية ضخمة، ساكنين مثلك يستطلعون ما جرى. تجمّد واحدٌ منهم تحت كيس الجبصين على كتفه، ويده ممسكة بخوذته فاقعة الصفرة. كانوا بجانب برج من تسعة وعشرين طابقاً (عددتَ الطوابق أثناء انتظار القهوة، وتنهّدت لأن الرقم ليس زوجياً). عدة نواطير مطّوا أعناقهم. رجل يبول وراء حرش القصب، في قطعة أرض لم يُبنَ فيها شيء بعد، أدار رأسه، مثلكم، نحو الجهة نفسها. فتاة وحيدة تدفن قطاً عجوزاً، مسجّى على حجر تحت شجرة تين، بقرب ركامٍ من المشاجب المحطّمة في انتظار شاحنة لترحيل الأنقاض، توقفتْ عن حفر القبر الصغير بملعقة كبيرة، ثم نفضت بظاهر يدها وبرَ الميت الملتصقَ بفستانها، وهي تصيخ السمع مثلكم.
درفة نافذة مهترئة، في شقة مقفلة بالطابق الثالث، هوَتْ من تلقائها، فخرقتْ سقف سيارة فوق الرصيف. مرسيدس خضراء قديمة. ربما رُكنتْ هناك طمعاً بالظلّ، في مصاعب الباركينغ الدائمة. ربما احتفظ بها صاحبها لأنه مترَف، أو لأن الزمان قد يجور، ويجبره على العمل كسائق سرفيس، أو ربما تعطّلت فتركها، ذاهباً للبحث عن حلٍّ لم يجده حتى الآن.
انحنيتما ونظرتما. أمسكت أم هاگوب بنظارتها لكيلا تنزلق عن أنفها، وتتحطّم في الشارع. وضعتَ يدك اليسرى في جيبك، لكيلا يسقط خاتم جدّتك، الفضي ذو الفيروزة الصغيرة، فقد ينزلق من خنصرك، بعد نحولك الأخير، فتراه يتدحرج نحو الشبكة الحديدية لمجرور الصرف الصحي، ويختفي إلى الأبد.
ظهرت عجائز أخريات على الشرفات. حملقتم جميعاً بالسيارة المطعونة. قالت إحدى الجارات:
"أترون؟ كالسكين في قالب كاتو. سنة حلوة يا جميل!"
جولان حاجي
شاعر وكاتب سوري كردي، مقيم في فرنسا. نشر العديد من المقالات والدراسات والترجمات، الأدبية والفنية، في صحف ومجلات عربية وأجنبية.