RR

غير وارد في الحسبان

Cultural Map | By Renoz

اليوم لن تقودني الطريق إلى مدرسة. كان الشهر قد مضى مثل شعرة عالقة في حنجرة، تتأرجح بِحيرة لا تتعثّر سوى بجدران. هذه فكرتي عن الحنجرة، أنبوب فارغ له جدران يستوعب الهواء والأنفاس المتبادلة وكل ما ينفثه الكوكب أو ما تبعثه السماء، تصدر منه الأصوات.

استيعابي لما يجري من حولي مهزوز. لست مقتنعة بعبور هذه اللحظة مثلاً. احترقت القناعة عندي كما تحترق الشعرات الصغيرة على سطوح أصابع اليد عند مرورها السريع فوق لهب ما. لا أجد سكينة. رأسي كما أردّد أحياناً، طنجرة فوشار.

لا سلالم احتياط عندي بل مراجيح ومركَبات دوارة. ما هي أقصى المشاهد التي قد تشعل فتيل الإلهام في اليومي الذي أخوض فيه بكسل وملل منذ انطفاء حماسة البدايات الطرية؟

الشارع غير المعبد الذي يرقّصني على هواه وحسب إيقاع حُفره وسيل مجاريه، الشارع هذا، مثلاً، هو محض صدفة.

هل يكون إهمال السلطات لأي طريق هو محض صدفة أيضاً؟ ماذا عن أزهار الجلنار تحت شرفتي في هذا الوقت من العام؟ هل هو محض صدفة، أم خطة مدروسة؟ عامل النظافة في القطار أخذ يلملم المتروكات على الطاولات الصغيرة. التقطَ كأساً ورقية، وانتزع غطاءها، وشرب ما تبقّى من محتواها ثم وجّه خطاباً للحياة في قاطرة شبه فارغة: ”لو هاذا اللي الحياة بدها تعطيني إياه بوخذه وهي بتتحمّل المسؤولية“. عاملة النظافة حيث أعمل تقول لي إنّ كيس القمامة في زاويتي هو الأنظف من بين الدلاء الأخرى في المكتب لتليّن شكواها، التي ستتبع مديحها، عن عثرات عالمها.

كتبت في يومياتي قبل عامين أنني سآخذ الوظيفة التي رشّحتُ نفسي لها، وفيما لم أتدبّر أموري سأغادر إلى خارج البلاد.

لم يحدث شيء من كل هذا لأنني علقت هنا ورسمتْ لي الوظيفة مساراتي، فسافرت من مدرسة إلى أخرى، من البيت إلى المدينة مباشرة، في الحافلات وفي العربات المستعارة.

عندما غذّ القلق في أيامي متسارعاً، حاولت إشغال نفسي بأشياء أخرى. شاركت زميلي أنني عزمت على ممارسة الرياضة للخروج من لولب الأسئلة المؤرقة. "لازم أتعلّم أشعر بالوقت عالوقت، أزيح عقارب ساعتي جواتي، ومش أمشّيها حسب وينتا جاي الباص في التطبيق"، قلت له في رسالة صوتية. "يلا مليح، أجا الوقت تغيّري جو وتطلعي من الديكاؤون والأسى"، قال لي بنبرة رتيبة كأستاذ تاريخ يُملي عليّ النصائح.

ارتعشت جفوني مثل عثة تحوم بالقرب من مصباح فلورسنت. جاهدتُ في الاستيقاظ والوثوب من سريري. انتصرت نداءات صلاة الفجر العابرة للحدود والجدران على قوة الجاذبية، ودعتني إلى يوم آخر. سريري هو المحطة الأخيرة في دروب آلام أيامي بعد قضاء ثلاث ساعات على الطريق عائدة من المدينة إلى الغيتو. الوصول إلى البيت مشقة يدركها متني في نهايات الأسبوع فقط. عندما لا أقود السيارة، أسير عشر دقائق بالمعدل للوصول إلى المحطات ومنها، من هنا وهناك أصعد حافلة من المدينة إلى القرية الكبيرة، بعد أن سرتُ على الأقدام من شارع كارليباخ إلى محطة قد يقف فيها الباص أو لا، لأجد نفسي في اليوم التالي مقلوبة الحال. نمتُ حصيلة أربع ساعات فقط وفقتُ بجسد كيس رملٍ يُصدر هسات متفاوتة الإيقاع، هكذا ودواليك، من البيت إلى العمل أو العكس.

يذكّرني والدي أن أضع هاتفي بعيداً عن السرير منذ أن عدتُ لأشاركهما السكن، بينما تتكفّل أمي بمهمة إيقاظي.

حاولتُ أن أجد منفذي لأتفاداها إلا أن لقائنا كان قد حُسم. ”وين شغّالة اليوم؟“ سألتني بعد أن مسحتْ ملابسي بنظراتها. كان صمتها الحاد بعد السؤال وانغماسها في طي الجوارب مؤشراً على مصادقة ما، على انسجام اللباس مع كافة المناطق، ومع أطياف الفئات العمرية، وبيئات العمل المختلفة. أجبت والمرارة تنحت جدران فمي: ”في الشمال اليوم، مدرسة“.

أما عن اليوم، فلم أصعد الحافلات، بل وزّعتُ غضبي في جوف سيارة مخردعة استعرتها من عمتي وتختلس في جوفها رائحة ثوم كثيفة. كدّستْ عمتي يوم السبت الأخير خمس جدائل ثوم ضخمة في صندوق سيارة فوق لحمة اشترتها من منطقة يُمنع شراء اللحوم منها وفق القانون. ”بزبطش نزيّف ريحة الثومِة بس بِزْبُط تزييف المناظر“، قال أيوب ريثما اجتزنا الحاجز في مشوار السبت الأخير. كانت الطريق مدهونة بأخضر أندرويديّ بارز، خالية من أشجار الكينا. سافرنا إلى هناك للتسوق. الأخضر عبر الحدود يبدو أشد وضوحاً. جئتُ معهم لألتقط صوراً في منطقة نظيفة من العبرية ولأصلّح ساعة الكاسيو التي اشتريتها قبل أعوام في شارع ألنبي وقد كلّفني تصليحها خمسة شواقل. تجوّلنا في السوق واستوقفني دكان حقائب. شانيل كأنه أصلي، وجزادين فاخرة الاثنين بخمسين شيكل. ”انسي، الكولا بالضفة بترنّ غير“، تجشّأ أيوب في طريق عودتنا. وأنا أعرف أن الكولا لا تُزيّف في الخليل بل تُعبّأ في أريحا ورام الله. والكولا تسبّب لي الأرق، والأرق همٌّ لا غش فيه.

تجمّدتُ على الطريق بعد الرنة. هناك صنفان من الناس في العالم: صنف الذين يرسلون رسائل متفرقة تزن كل رسالة كلمتَيْن فقط مثل هايكو معتدل القوام، وصنف الفقرات المتراصة منزوعة علامات الترقيم.

أوقفتُ السيارة في هامش الشارع وأمعنتُ النظر في الأخضر الساخر بعد أن قرأتُ رسالة مرام، ”كيف حالك كيف حاسة“ ومرام محامية، أذكّر نفسي، مش صديقة، أجبتُها، ”تمام، الحمد لله“، بدلاً من قول الحقيقة ”إنه مش عارفة، مخربطة“.

ظننتُ في البداية أن ما خبط بي كلبٌ شارد من كيبوتس مجاور أو واوٍ جاء كل الطريق من أرض الواويّات.

كان الليل مقفلاً في حلكته. عدت إلى دارنا دون أن ألتفت خلفي. فضّلت أن أقنع نفسي أن ما خبط بي كان حيواناً غذّت جراحه على الأسفلت.

كانت الطريق معلقة في الهواء بين تلة وكيبوتس بمحاذاة خط التماس. وكان الناس يتدفّقون من شق في الجدار ومعظمهم من العمّال القادمين عبر التلال لجني لقمة العيش وما تيسّره الحياة في الداخل والساحل حيث ترنّ المعالق رنات هجينة؛ يعبرون الطاقة، فرادى أو في ثنائيات، تتدلّى من أذرعهم أكياس سوداء صغيرة يعفّرها غبار الشيد، تلمع في وجوههم التي لسعتها الشمس نظرة باسلة تخترق الكروم المؤدية إلى المدن حيث يعملون.

لم تُغرس أي كاميرات بالجوار، ولم ألتفّ في دوّار محطة البنزين القريبة عائدة إلى خبطة الليل.

واصلتُ سفري إلى يقيني الصامت في البيت.

اليوم لن تقودني الطريق إلى مدرسة. أقود نفسي شرقاً في طرق يشحب فيها إرسال الهاتف وتختفي فيها إشارات تمييز الطريق في التطبيق للقاء عائلة الرجل الذي عرفتُ بعد شهور من تلك الليلة أنه لم يكن حيواناً.

Contributor
بكريّة مواسي

بكريّة مواسي كاتبة ومترجمة وفنانة فلسطينية. تتضمّن أعمالها النصوص النثرية غير الروائية والقصص القصيرة والشعر والرسومات التصويرية والصور الفوتوغرافية. وتشغلها إتاحة المعرفة في المؤسسات الثقافية.

Post Tags
Share Post
Written by

<p dir="rtl" style="text-align: right;"><span style="font-size: 14pt;">بكريّة مواسي كاتبة ومترجمة وفنانة فلسطينية. تتضمّن أعمالها النصوص النثرية غير الروائية والقصص القصيرة والشعر والرسومات التصويرية والصور الفوتوغرافية. وتشغلها إتاحة المعرفة في المؤسسات الثقافية.</span></p>

No comments

LEAVE A COMMENT