يُنشر النص في تعاون أول مع «مدى مصر»
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
في البدء كانت الوعود المؤجَّلة. تعثر فاطمة في بيتها القديم على علبة شوكولاتة فاخرة، ولكن لا شوكولاته في علبة الصفيح، بل كيس مهترئ وقصائد قديمة ورائحة تفتح على الراوية بابًا لسرد ذكريات الطفولة. التنافر المعرفي بين ما تعد به علبة الشوكولاتة من أناقة السكريات المستوردة، وما هي عليه في الواقع، أي صفيح صدئ، ألوانه باهتة، فيه أوراق وكلمات عن قسوة الحياة كما عرفتها فاطمة، سيؤطّر سردية «أقفاص فارغة» (الكتب خان، 2021) للشاعرة فاطمة قنديل.
الطبقة الوسطى قفصًا
تتناول قنديل في روايتها الأولى سيرة امرأة من أسرة مصرية متوسطة تسعى إلى تحقيق وعود فردية وجمعية لن تتحقّق. ولدت الراوية في أواخر خمسينيات مصر الناصرية، وكبرت بين مدينة السويس وأحياء الطبقة الوسطى في القاهرة. تشهد فاطمة على مدينة تتغيّر أبنيتها، كما بنيانها الاجتماعي، أسرع مما يمكن رصده في جيل واحد: مبانٍ ومشاريع سكنية تعد بتأمين حياة رغيدة لطبقة توظّف الدولة معظم أفرادها، إلا أنها لا تلبث أن تتفكّك وتتحلّل.
ترصد قنديل خطوط الصدع التي بدأت تظهر في دولة يوليو التي سيدرك العاملون في مؤسساتها أنها لا تضمن شروط النجاة. فوالد الراوية، أستاذ المدرسة المتقاعد الذي نشأ على وعد التحرّر القومي، قل دخله مع ازدياد التضخّم، فعاد ليدرّس في القطاع الخاص وبقي متّكئًا إلى عطايا «التموين»، دون أن يتمكّن من شراء مستلزمات دراسة كلية الطب لابنه ولا حتى تأمين ما يزيد عن الأساسيات لأسرته التي غابت عنها رفاهية اللحوم والفواكه الثمينة والحلويات.
أما والدة الراوية المنحدرة من عائلة تجار ميسورين، فعرفت الهبوط الطبقي بعد زواجها. تتقشّف الأم بمصروفها الشخصي -فساتين تُرتّق وأحذية تهترئ ولا تُستبدل- قبل البدء بالتقشّف بمصروف البيت وبأصناف من المأكولات، كالبسطرما التي تشتهيها الراوية، والتي لن تُقدّم إلا في المناسبات. يجتاح الأمَّ العارُ من نظرة الأقرباء إلى موقعها الطبقي الذي سيزداد تردّيًا، فتقطع علاقتها بالعائلة الممتدّة، ومن ثم بأخيها الذي، وإن كان مديونًا لها في الماضي، إلا أنه صار يعيّرها بعوزها اليوم.
تصوّر الراوية سبعينيات السادات التي بدت وكأنها تقول للطبقة الوسطى: أما وأنّ وعود الناصرية بالارتقاء لم تتحقّق، إليكم وصفة جديدة تقوم على الاقتصاد الحر ومنطق الجني السريع. فكان زمن الخلاص الفردي والتشظّي الطبقي الذي سيعود ليفتّت جيل الراوية وجيل والديها من الأسر المتوسطة. تُظهر فاطمة كيف أنّ السعي إلى الارتقاء، لا سيما من خلال المكانة الاجتماعية التي لا بدّ أن يحقّقها الطبيب أو المهندس الذكَر للعائلة، سيرهق العائلة ماديًا، وسيستنفد قدرتها على التماسك. فطريق الطبقة الوسطى إلى السعادة، كما سيتبيّن، معبّد بالديون والقهر.
ينتقل التأمّل بالدولة إلى التفاؤل بالهجرة. سيسافر أخ الراوية راجي إلى ألمانيا، ويختفي فيها عقودًا، قبل أن يعود إلى مصر معطوبًا، هو أيضًا، جراء تلك الآمال الفارغة التي سعى إليها في أوروبا. ينتقل، رمزي، الأخ الثاني إلى الخليج، حيث الوعود بالجني السريع والرفاهية التي وإن صدقت أحيانًا، إلا أنها لن تحقّق السكينة في بلاد لا تؤمّن أبسط شروط المواطنة للعاملين فيها، حتّى لو سعوا إليها طوال عمرهم.
التنافر بين ما تحلم به أسرة الراوية من ارتقاء مهني ومعيشي والإرهاق والخيبة اللذين تعرفهما وهي تسعى إليه، يحيل إلى مفهوم «التفاؤل المؤذي» للنسويّة ومنظرة الانفعال، لورين برلنت.[1]ترجمة للمفهوم الذي تحدّثت عنه لورين برلانت في كتابهاCruel Optimism (2011). الترجمة السائدة والتي استخدمتُها سابقاً هي … Continue reading تشير برلانت إلى أن انصهار الآمال الفردية بالجماعية، وما يعد به من ارتقاء وغنى، كما يتجلّى تحديدًا في «الحلم الأميركي» وبغيره من القيم الثقافية الجامعة (الحب، العائلة، الثروة)، يصبح في الواقع عائقًا أمام ازدهار الفرد والجماعات، وذلك ليس لأنّ هناك ما هو مؤذٍ بشكل جوهري في موضوع الرغبة، بل لأن طريق السعي إليه لولبي، مرهق، وغير مجدٍ، فلا يحقّق بالضرورة الهدف المرجوّ. فالارتقاء الذي يسعى إليه أفراد أسرة الراوية، من أبناء الطبقة الوسطى، يجعلهم متمسّكين بأهدافٍ (المكانة المستمدّة من مهنة «الدكتور» أو «المهندس») من الصعب تحقيقها (لا قدرة لأسرة الراوية على شراء مستلزمات كلية الطب، مثلًا). لا بل تعمل تلك الأهداف على تطبيع شروط قهر المتفائلين (من خلال الاستدانة، مثلًا) الذين يتحرّكون في سراب السعي إلى الارتقاء إلى ما لا نهاية. هي دوامة سيزيفية ستظلّ تدور فيها أسرة الراوية، ولو على حطام أفرادها.
الأسرة فراغًا
تُظهر «أقفاص فارغة» كيف تكون الأسرة في أحلام الطبقة الوسطى، مجمعًا للأذى. تعد الأسرة بالاحتضان والرعاية، إلا أنها لا تلبث أن تتحوّل لومًا وعنفًا وسمًّا. فأمام الوعود المؤجلة بالارتقاء الجماعي من خلال مؤسسات الدولة أو بالارتقاء الفردي الذي يأخذ شكل زواج أو وظيفة جديدة، باتت الأسرة بدورها خلاصة العنف الذي يسبّب أذىً لا يلبث أن يمتدّ إلى علاقة أفراد الأسرة ببعضهم بعضًا. تذكر فاطمة كيف أن عائلتها الصغيرة لم تعتد أن تجتمع على مائدة الطعام؛ كيف أن لحظات الحنان التي عرفتها مع الأب قليلة ومتباعدة؛ كيف أن علاقتها مع أخويها قامت على مدّ وجزر عاطفي سريعًا ما ينقلب عنفًا لفظيًا أو يتحجّر ضغينةً. سيتبيّن أن العنف ليس دخيلًا على أسرة الراوية، بل متجذر فيها، تحديدًا، في ذاكرتها الجيلية.
هي رواية أجيال ثلاثة من رجال تحطّموا وهم يسعون إلى آمال مؤجلة: جدّ الراوية لأمّها أضاع ثروته على الملذّات؛ وجدّها لأبيها أعلن إفلاسه، فأجبر ابنه على التخلّي عن تحقيق حلمه بأن يصبح مهندسًا فخلص به الزمن مدمن كحول، لا تتذكّره فاطمة إلا بالروب مكتئبًا. تصف فاطمة العار الذي اجتاحها بعدما لمحت والدها في محطة قطار وهو يناديها من بعيد، ثملًا، مترنّحًا وهي برفقة صديقاتها الجامعيات الأنيقات (ص. 14). يحيل ذلك المشهد المقتضب إلى آخر تصفه آني إرنو في سيرتها الذاتية «العار» (1997) وتنسب إليه ما تسمّيه «الولوج إلى العار»، بمعنى إدراكها الأول لذاتها بعين الآخر الحارقة وانكشافها أمامها. تسرد إرنو لحظة شعرت بنظرة صديقات مدرستها الخاصة لوالدتها وهي تستقبلهن في قميص نوم مبقع ورثّ. تتحدّث إرنو كيف أن نظرة الآخر لجسد والدتها المهترئ المتكشف في قذارته، كشف فقر عائلتها المدقع وصبغ وعيها لذاتها. وكأن فاطمة قنديل تجنّبت ذلك المصير عندما جعلت راويتها تتجاهل والدها الثمل في محطة القطار، وكأنها تحميه وتحمي ذاتها من عين الآخر الشاجبة، والتي كانت ستكشف عمق انحلال تلك العائلة التي تستمدّ معايير تصرفات أفرادها من قيم طبقتها. تشكو فاطمة لوالدتها هول تلك اللحظة التي تداركتها وتدعو على والدها بالموت. بعدها بقليل، سيموت الوالد بما يشبه الجلطة، وكأن الذي لطالما عرف التشظّي، قد انفجر أخيرًا من داخله، قبل أن يتمكّن من محو عاره.
ليس الوالد وحده مكسورًا. تذكر الراوية كيف تنتقل أحلام الترقي بين أجيال من الرجال، على هذا القدر من التراجيديا ومن العنف، لا سيما لدى أخويها الوحيدين: «كان أبي يحمل حلمه كجثة في أعماقه، بينما حمله راجي، برعونة من يتناول طفلًا حديث الولادة، من يد أمه، يؤرجحه، بعنف، أمام عيني أبي المكلوم» (ص. 22). بعد انحلال الأب ثم وفاته، ينبذ أخا الراوية، راجي ورمزي، أدوارهما المعيارية التي تملي عليهما رعاية نساء الأسرة. فيمارس كل على طريقته لعبة التخفي، حتى باتا يُحتسَبان بعداد المفقودين. وبينما يهاجر راجي إلى ألمانيا ويختفي فيها عقودًا، يعمل رمزي على التنصّل من مسؤولياته المادية بتأمين مصاريف علاج والدته. الكسر متأصل لدى خال الراوية الذي مات منتحرًا، فتحوّل موته سرًّا، وتحوّل سره عارًا سيجاهر به أخ الراوية الذي لوّح هو أيضًا بالانتحار من دون أن يجرؤ عليه.
الأقفاص الفارغة هي أيضًا البيوت التي تسكنها فاطمة آملة بالأمان، ساعية إلى بناء حياة فيها، إلا أنها تعجز عن امتلاكها. تسرد فاطمة ذكريات طفولتها وشبابها في سلسلة من البيوت التي انتقلت إليها العائلة بحثًا عن الرفاهية، عن عمل، عن مستقبل ما، فلا تلبث أن تتركها بحثًا عن بيت آخر يعد مجددًا بتأمين شروط النجاة: بيت السعودية الذي لا تتذكّر منه الكثير، وبيت الطفولة والروابط العاطفية الأولى في السويس الذي ستنتقل منه العائلة المتوسطة الدخل إلى مجمّع «الألف مسكن». في ذلك البيت الذي أمنته الدولة للأساتذة الحكوميين، لم يكن للراوية غرفة، بل فراش تنام عليه في الصالة كيفما اتفق. بعد انحدار المشروع السكني الحكومي، بما هو وعد بالرفاهية الطبقية، ستنتقل الأسرة إلى مدينة نصر حيث سيصبح للراوية مساحة تنام فيها خلف ستارة في غرفة طعام استصلحها أهلها بعدما استولى أخوها راجي على الغرفة الكبرى. وفي بيت العائلة الأخير في مصر الجديدة، ستنتهي الراوية وحيدةً مع والدتها في بيت هو لها، دون أن تملكه تمامًا. تختتم فاطمة سردها في بيت لا تعرف عنوانه ولا حتى رقم هاتفه أحد.
تظهر الراوية كيف تسكن النساء بيت الأسرة: بكل ذلك الحذر والقلق، وعلى هامشه دومًا، فتقول: «كأنني أنا نفسي كنت معلقة بخيوط غير مرئية، بذلك البيت القديم، لأربعين عامًا بكاملها، وكأنهم لا يستطيعون رؤية سوى ذلك الكائن، المعلق في جدرانه، وكأنني كنت عنكبوته المقيم، عنكبوته الخارج، أخيرًا، عاريًا، وفي فمه كل ذباب العالم، يجري بها لاهثًا، ومذعورًا» (ص. 254). تمسك الراوية بخيط واهن ولكن قوي بقدرته على محوها وتحويلها إلى كائن منبوذ، منكر، يسكن شبكات ومنازل تستحيل أقفاصًا. هكذا يبدو بيت العائلة في «أقفاص فارغة»، مساحةً تسكنها الراوية دون أن تتمكّن من التجذر بها.
ترصد قنديل مآل تلك العائلة المصرية المتوسطة ومساحات عيشها، فتبدو وكأنها تحاكي كاتبة مصرية سبقت قنديل جيلًا، لا كانت شاعرة، ولا عرفت عائلتها مصير عائلة فاطمة، إلا أنها تلتقي مع قنديل في قدرتها على النظر إلى الذات من خلال العلاقات الأسرية والعاطفية التي تتحرّك في بنى اجتماعية وسياسية مأزومة. تسرد الكاتبة والناقدة، لطيفة الزيات (1923-1996) في سيرتها الذاتية «حملة تفتيش: أوراق من حياتي» (1992) كيف عايشت التحوّل في أنظمة الحكم في مصر-منذ تشكّل وعيها مع حركات مقاومة الاستعمار البريطاني، وبنائها لذاتها على امتداد أحلام دولة يوليو، وتمسّكها بماركسيتها من داخل سجون السادات التي تشكّل فيها أيضًا وعيُها بذاتها الجنسية، انتهاءً باصرارها على الكتابة بالرغم من ذكورية حراس الثقافة والنقد. ما يبدو للوهلة الأولى سيرةً ذاتية تتحرّك في زمان ومكان لا يدنٌوان من رواية قنديل، يعود ويتكشّف صلة قرابة تشبه التوتر المشروط بعلاقات النسب التي نراها في «أقفاص فارغة».
فيما تصف لطيفة الزيات إيمانها بالأسرة المصرية التي تشتدّ تماسكًا على وقع الإيمان الأوسع بالسردية القومية، تسبر فاطمة قنديل في «أقفاص فارغة» مصائر تلك العائلة اليوم بين التفكك والاختفاء والهجرة. تضيء «أقفاص فارغة» على الوعود بالترقّي والرعاية الأسرية التي لا تلبث أن تتحوّل عنفًا يجتاح العلاقات الأسرية. تتكشّف أمام فاطمة كل الوعود المؤجلة، فتبدو وكأنها تسرد قصة فقدانها لإيمانها بأن أحلامها بالخلاص ستتحقّق، وأن المؤسسات -سواء كانت الزواج أو الأسرة أو الجامعة أو الصحيفة التي تعمل فيهما- قادرة على تأمين العناية أو سبل النجاة لها.
فأولئك الرجال الآملون، المهزومون، المنكسرون، المختفون طوعًا وقسرًا، يعيدون التأكيد على أن التشظي هو حال تلك الأسرة كما سلطتها الأبوية. فالتفاؤل بدور المؤتمنين على السلطة الأبوية والتماسك العائلي، وإن تجلّى عنايةً في لحظة ما، فإنه لا يلبث أن يتحجّر تمنينًا وتعييرًا وينضح كرهًا وأسرارًا -وكلّها مكونات للعنف والعار اللذين ستعرفهما فاطمة طوال حياتها.
البتر خلاصًا
ولما كان الشروع في القتل
جرائميًا أيضًا
ضغطنا بقبضتنا على الشرّ
ولعقنا ما انفلت من بين أصابعنا.
فاطمة قنديل، «فحص الخيوط» (1999)
أما وأن الراوية قد أدركت تمامًا عمق العنف المحيط بها والذي أصبح شرط الذاكرة الجيلية، ستتحوّل إلى مراقِبة باردة، منسحبة، ثم إلى سفاحة الشخصيات الأبوية المتفسخة، تلك الناقصة والمريضة والمبتورة، والتي ستدفنها الراوية دون تردّد أو أسف جليَّيْن.
تستهلّ الراوية سردها بالإعلان عن نيتها: «لا أريد سوى أن أمسخ كل الذكريات إلى أصنام، ثم أكسرها، ثم أكنس التراب المتبقي منها، حتى ولو كنت، أنا نفسي، صنمًا من بين تلك الأصنام» (ص. 18). تقطع الراوية وتكسر وتمحو الأصنام، تلك الروابط العاطفية التي تحجّرت فيها آمال لم تتحقّق: سعاد هو اسم والدتها، ولكننا لا نعرف اسم والدها، لا بل نعرف أنها حذفته من اسمها تمامًا. تفضّل فاطمة أمها على أبيها، وتدعو عليه بالموت.
تتعاقب تجليات العنف على تركيبة الراوية العاطفية. تتمرّس في طقوس القطيعة والبتر، تعرف الغيرة وحب التملك والكره والتنافس والإحساس بالفشل، لا سيما عندما تتذكّر إخفاقاتها: «الفاشلة أتت، الفاشلة ذهبت، وها هي "الفاشلة"، وحدها تمامًا، في مواجهة الموت» (ص. 144). ولكن على عكس جميع شخصيات حياتها، تخرج فاطمة من تلك التجارب بذات قد تكون تشبّعت عنفًا، إلا أنها لن تفقد تماسكها، ولن تنكسر. تبتُر الراوية العلاقات المؤذية ولا تبتُر الذات، أو بالأحرى، تَبتُرُ العلاقات المؤذية كي لا تُبتَر ذاتُها.
تتوحّد فاطمة مع والدتها بعد أن تطهر مساحتها الخاصة من عنف ثلاثة أجيال من الرجال المكسورين قهرًا وظلمًا. أي أنها تتفرّغ لرعاية والدتها عندما تدرك أنها لم تنجُ تمامًا من ذلك العنف، وبأنها لم تُهزم تمامًا جراءه، فصارت صاحية على الخذلان وألاعيبه، على الوجع وندوبه. تؤدّي فاطمة دور الرجال الرعائي والدفاعي الذي كان يجب أن يكون، حتى ولو صارت وأمها وحيدتين، مهملتين. تذكر فاطمة كيف أنها، بعدما قاطعت رجال عائلتها الصغيرة والممتدة، اعترفت لوالدتها التي تحتضر أمامها: «ماما، أنا وأنت زوجين سعيدين»، مضيفة: «بس يسيبونا فحالنا» (ص. 187).
الأمومة ملاذًا
أقول يا زياد: أنا أمك
ولن تكون
أقول يا زياد: رحمي شظايا
كيف أُسكِنُكْ؟
فاطمة قنديل، «فراغات شائكة تتحرك فجأة» (1993)
تصوّر «أقفاص فارغة» الأمومة على شكل شبكات العناية والرعاية والعاطفة التي تنشأ على هامش الوعود المؤذية التي تنضح بها الدولة ومؤسساتها كما الرعاية الأبوية. لذلك، ربّما، تلجأ فاطمة الصغيرة إلى النساء اللواتي يقدّمن لها إما عطفًا أو عناية، أو الاثنين معًا. تتّكئ فاطمة ماديًا إلى خالتها وصديقة أمها وصديقتها في لحظات مختلفة من حياتها، وإلى النساء العاملات المحيطات بوالدتها في طفولتها. ولو أن الراوية تلمّح إلى ذكريات من الانتهاكات الجنسية المسترقة بين لحظات العاطفة، فإنّها لا تسقط عليها أحكامًا قانونية أو أخلاقية بمفعول رجعي، ولا تقرأها كتعدٍّ جنسي اليوم، بل بكثير من التسامح، فتبقيها خارج اللغة وخارج الخطاب.
تزوّجت فاطمة مرّتين دون أن تنجب، ولكنها جعلت من الأمومة ملاذًا لها. عرفت فاطمة الأمومة عندما باتت وحيدة تعتني بوالدتها المحتضرة. قلبَ مرضُ الأم الأدوار، فأصبحت هي الأم لوالدة ستزداد هشاشة وتضمحلّ أمامها رويدًا رويدًا. صحيح أن فاطمة تبنّت والدتها طوعًا، إلا أنها رفضت أدوار الأمومة الأخرى التي فرضت عليها -سواء من خلال رفضها إيواء بنات أخيها أو حتى التوقع أنها سوف تعتني بأخيها راجي الذي عاد من بين الأموات أكثر ضياعًا. تبدو فاطمة وكأنها ترفض الدور الرعائي المعياري الذي صوّرته الزيات في وصفها الدقيق لكيف اعتنت بأخيها على فراش موته، وكأن بذلك تقول فاطمة إن الرعاية خيارًا وتعبيرًا عن حبّ وحميمية وليس امتادًا للأدوار الرعائية التي تفرض على النساء.
العنف شاعريةً
وكانت أمي
تتحرك في أحشائي
مثل جُوالٍ فارغ
فاطمة قنديل، «قصيدة إلى أمي» (1991)
تتجلّى حالة التشظي الأسرية التي تشهد عليها الراوية شكلًا سرديًا. فتنقسم «أقفاص فارغة» إلى أربعة أجزاء أساسية: الطفولة؛ الشباب؛ مرض الأم؛ وعودة الأخ الضال؛ إلا أن هناك بعثرة في استحضار قنديل للذكريات، فهناك ذكريات من الطفولة في سن الشباب، وذكريات من الشباب في سنوات الرشد. لكن بالرغم من التعاقب الثابت للأزمنة، فإنّ الزمنية في الرواية تشبه الذاكرة في تفتّتها وانتقائيتها وعشوائيتها.
تجتمع في «أقفاص فارغة» جميع عناصر الكتابة التي تلوّح بالميلودراما: خناقات عائلية؛ حب لا يرى الشمس؛ عوائق أبوية أمام تحقيق الأحلام. إلا أن فاطمة قنديل ترى الميلودراما مقبلة، فتفرّ منها مذعورة. تعلن الراوية منذ البداية أن لا شيء ينفّرها أكثر من أن تصبح صنمًا أدبيًا، مزارًا للباحثين عن الحكمة المقطّرة في جملة مفيدة واحدة، أن تمسي حياتها «قولًا مأثورًا» وأن «تصير درسًا، أو عبرة». وتجنبًا لذلك التحجّر الجمالي -اللغوي- الفكري، تسرد الراوية سيرتها «بلغة عارية تمامًا، لا ترتدي ما يستر عورتها من المجازات» (ص. 61).
تصدق الشاعرة قنديل بذلك، فتكتب رواية «أقفاص فارغة» بلغة يصعب تصنيفها. لا تشبه لغة قنديل واسعة العبارة «الكتابة البيضاء» التي حدّد خصائصها بارت كما رآها في أعمال ألبير كامو وغيره، وكما نراها في روايات آني إرنو اليوم-كتابة هجرت المجاز والبلاغة وابتدعت طريقًا جديدًا بواسطة جمل تقطع الأواصر مع البليغ في الكتابات الكلاسيكية. ولا تقرب لغة قنديل شديدة الوصف من «كتابة الفاجعة» التي نظّر لها موريس بلانشو، عبارة تولّدت من الفواجع والخسارات، يقوم بنيانها على نقصانها وتفسّخها بما هي محاولة، ستبقى ناقصة، للتعبيرعن البتر والمحو والنسيان. في سرد قنديل وصف دقيق، إلا أنها تعود وتذكّر قارئتها بأنها، في الأصل، شاعرة، فتختم فقراتها بتكثيف مباغت، يحيل إلى قصائدها الجارحة في وجعها كما في برودتها.
يبدو للقارئة وكأن لغة قنديل لا هي «الكتابة البيضاء» تمامًا ولا «كتابة الفاجعة» تمامًا، بل اجتراح للغة سردية ثالثة. تجعل قنديل من جملها ندوبًا دون أن تلقّن، أو لعلها تؤسّس لبلاغة يكثر فيها الوصف الدقيق للمشاهد والمواقف، للروائح والأصوات، للخسارات المتلاحقة وللحظات السعادة المتباعدة، دون أن تدنو من الانفعالية أو النبر العاطفي. هي بليغة في قدرتها على تصوير الأذى وحدّته بموازاة الانسحاب العاطفي الكلي؛ على اختزال تجارب مريرة مع العنف بجُمل ستنزل وجعًا على القارئة، بالرغم من قربها أحيانًا من الوصف الدقيق، أو ربما بفضله.
إذا كان للأذى الجمعي أثر على الذاكرة والجملة السردية التي ستبقى باردة حتى النهاية، فما هو أثر الأذى على الجسد؟
الرغبة
تحفر قنديل في الذاكرة الفردية فتتتبّع أثر العنف العائلي والحميمي على الذات. تكتب بمشرط بارد، مشرط يقطع أواصر الروابط العاطفية التي تشترط العنف. تشهد الشخصيات على عنف بنيوي يبدو وكأنه قدر إنساني، تتفاعل معه، تكبر عليه، ويتشكّل وعيها إثره. يتجلّى أثر العنف على المستوى المعنوي الذي لا يلبث أن يترك ندوبًا على الأجساد: جسد الأم المقروح والمعتلّ، جسد الأب المهزوم الهزيل الذي لا يُذكر إلا لمامًا، قبل أن ينفجر دون أسف عليه.
يترك العنف ندوبًا على الأجساد، إلا على جسد الراوية. لا أثر لجسدها في ذاكرتها ولا سردية لما شهده من قمع أو رفض أو انتهاك جنسي، مثل الذي تعرضت له في صغرها على يد صديق أخيها المراهق أو الدادة التي كانت تزور والدتها. فالراوية تذكر تلك التجارب، ولكن سريعًا. لا تتعمّق في وصفها ولا تقدّم لنا مفردات وعبارات واضحة للدلالة عليها أو على أثرها على جسدها، فتبقيها في مجال المحظور والمسترق. تتساءل القارئة إن كانت الراوية لا تلحظ جسدها فعلًا بما هو تفصيل ثانوي في سردية الأسرة الأوسع، أم أنها أدركت أن لا مكان في اللغة لذاكرة الأذى الذي عرفه جسدها؟
بعكس لطيفة الزيات التي ترصد وعيها بذاتها الجنسية لحظة القبض على جسدها في سجن سياسي، يدلّ صمت فاطمة قنديل الكثيف على استتار الرغبة وضمورها وبقائها خارج الخطاب في «أقفاص فارغة». يقلّ الكلام عن الجسد، وتعجز اللغة عن التعبير عن رغبة الراوية. حتى حين تستذكر فاطمة سنوات رشدها وعلاقتها بزوجها الأول الذي عرفت معه الإهمال العاطفي، وبالثاني الذي خافت على حياتها من عنفه، لا تتحدّث عن مكمن رغبتها وشكلها وتفاعلها مع أشكال العنف المحيطة بها. حتى النهاية، لا نعرف إن كان العنف المعنوي الذي عرفته في علاقاتها الأسرية أو العاطفية قد حدّ من رغبتها الجنسية أم أنّها قد بترت رغبتها بيدها تخفّفًا من فراغ القفص الذي يأسر الجسد. فالرغبة والجسد اللذان اشتعلا في نص الزيات على ضوء العقيدة الماركسية التي أنبأت بمستقبل لا بدّ أن يُقبِل، لا أثر لهما اليوم في نص سردية قنديل. وكأن قنديل نظرت إلى انسدادات الحاضر واستحالة المستقبل، فأدركت أن لا حياة للرغبة أو الجسد على حطام آمالٍ ستبقى مؤجَّلة.
لا أثر لجسد الكاتبة ولا لرغبتها على وقع سردية العنف، ولا أثر أيضًا لشخصها كشاعرة. كيف صارت الفتاة الهاوية للشعر شاعرة حقًا؟ دخلت الراوية عالم القراءة من خلال الكتب التي كان يمدّها بها أخوها راجي، والشعر بواسطة جدها الذي نسب إلى نفسه أبياتًا لامرئ القيس، فتعلّمت الفتاة التي ستصبح شاعرة لاحقًا، أن الكبار يكذبون وأن الشعر ملاذها. إلا أن القارئة ستظلّ تتسائل مثلًا، لمن قرأت فاطمة، ومن قرأ لها، وأين نشرت نصوصها الأولى، ومع من شاركتها، عدا والدتها التي تبدو الوحيدة التي تقرأ لها وتسمع لها وتنقدها. يقلّ التفصيل في سردية فاطمة قنديل للجماعة الشعرية التي تتحرّك الراوية داخلها وتتفاعل معها؛ ولا سردية عن رحلة الراوية الشعرية والجمالية مع قصيدة النثر التي نعرف الآن أنها لم تكن سهلة. هناك فقط إشارات مبعثرة إلى أنها أصبحت شاعرة معروفة وكأن ذلك حدث بغفلة عن القارئة، وعن الشاعرة أيضًا. ليست «أقفاص فارغة» سردًا لتاريخ الشاعرة الفكري، إذن، وكأن للتأريخ الفكري طريقًا آخر، بل كأن هناك ما استولى على مساحة التأريخ الفكري وغطّى عليه: قصة اصطدام امرأة من أسرة متوسطة بوعود لن تتحقّق وانزلاقاتها العديدة نحو التحلل والعنف.
هل هذه قصة الراوية فاطمة أم قصة فاطمة قنديل نفسها؟
تبحث القارئة عن الحدود التي تفصل بين الذاتي والخيالي في الرواية، فلا تجدها. تتحدّث فاطمة قنديل في مقابلتها مع إيمان علي عن «أقفاص فارغة» كسيرة ذاتية، بينما ينصّ غلاف الكتاب على أنه «رواية». ربّما اختارت قنديل سرد قصتها داخل ذلك الالتباس، في المساحة بين المعاش والمتخيل، وذلك كي تقوى على مواجهة تلك البنى الصلبة التي تأسر الذات، فترصد تفسّخ تلك الأقفاص وما حوته يومًا: البيوت التي تنتهي إليها النساء دون أن ترثها؛ الأدوار الأبوية التي لا تعلن عن نفسها إلا عبر قصورها تارة والعنف الذي تمارسه على أفرادها تارة أخرى؛ السعي المرهق الذي يصاحب آمال الانعتاق بمستوياته المهنية والطبقية والعاطفية؛ الرغبة التي لا لغة لها؛ الجسد الذي يبقى خارج السرد. هل تلجأ إلى ذلك الالتباس لأن الخيال يخفّف من آلام البوح؟ أم لأنه سبيل لممارسة محو الذات، كما اعتادت الراوية فاطمة أن تفعل؟
الشوكولاتة المستوردة في علبة الصفيح التي استهلّت قنديل سردها بها، تعود إلينا لا كحلويات تعد باللذّة، بل كوجعٍ على شكل سيرة. فقد وصلت الراوية إلى المستقبل الذي كان قد وعد بالانفراج والارتقاء والسكينة. إلا أنها وصلت إليه وحيدة، مرهقة. لم تجد خلاصًا، بل انحدارًا جمعيًا وتشظيًا فرديًا، فاجترحت لغةً تدلّ على الأذى الذي لحق بأجيال متلاحقة ممّن صدّقوا وعود الارتقاء، ثم تاهوا وهم يسعون إليه.
زينة الحلبي
زينة الحلبي كاتبة وأكاديمية ومحررة مختصّة بالأدب والثقافة المعاصرة. صدر لها كتاب عن تمثيل المثقّف في الأدب والسينما منذ تسعينيات القرن الماضي، إضافةً إلى نصوص وملفات وترجمات عن الأدب والموسيقى والفنون البصرية. تعمل حالياً باحثة في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت ومحررة القسم العربي في «فَمْ: مجلة بيروت الأدبية والفنية». لا تهوى الترجمة، ولكن هناك نصوص تعترضها دون خجل أو سابق إنذار.
Footnotes:
↑1 |
ترجمة للمفهوم الذي تحدّثت عنه لورين برلانت في كتابهاCruel Optimism (2011). الترجمة السائدة والتي استخدمتُها سابقاً هي «التفاؤل القاسي». إلا إني بتّ أرى أن «المؤذي» أدقّ من «القاسي» للتعبير عن الوجع الذي يسبّبه التفاؤل الواعد بالانعتاق والسعادة. |
---|