كل يوم أستيقظ وأظلّ في السرير لأكثر من ساعة. أفكّر: "يوم آخر" أو "الكابوس يبدأ ثانية" أو أنه اليوم ذاته يقتل نفسه ويتناسخ. أتساءل: "إنها القيامة إذاً؟ الديستوبيا؟ نهاية العالم؟ يوم الحساب؟ كيف سيتمّ جرد كل هذا؟ التراكم اللانهائي من الخطايا؟ الجسور والمباني؟ هل ستتحرّر اليابسة أخيراً من بعضها البعض؟ تعوم على ظهرها في المحيط دون جسور تشدّها إلى وتد العالم؟"
أمسك بحبل أفكاري قبل أن يفلت مني على الآخر. أسحبه لأنهض وأضع رجلي في الواقع.
أحاول ممارسة الرياضة، أبدأ بتمرينات الإحماء، أدور بخصري في الاتجاهين ثم بظهري. مثل كثير من النساء لم أتعلّم الرقص، لأني أيضاً لم أتعلّم كيف يكون جسدي لي، جسدي الذي في الحقيقة تملكه أمي. هي من قررت إن كنت فتاة أو امرأة. في يوم ما أعلنت لي عن تحولي. أخبرتني أني لن أستطيع الاختباء مطولاً عند الجندر الآخر بقميص فضفاض وكرة قدم وقَصّة قصيرة. قالت إن جسدي – الذي تملكه هي – هو عبارة عن سر، سر بسيط وممل، ولكنه يفضحني أنّى حللت. إن قصصت شعره، توبّخني على فعلتي. حين تشويه الشمس، تشتكي من سماري. وإذا نحل وزنه، تتّهمني بأني أم فاشلة لهذا الجسد، وبأني لا أعرف صون الأمانة.
أحاول أيضاً القراءة الكتابة الترجمة. أقرأ عن معضلات شتى إن تراكمت فهي تشكّل حياتي. عن المنفى واللغة وكيف يفضّل المهاجرُ الشعرَ بلغته الأم والنثرَ بلغته الأخت. أقرأ عن الفروقات النحيلة بين المهاجر والمنفي، أحدهم يعود إلى النبع متى حاصره العطش، بينما الآخر يكوّم سنواته في ملف إلكتروني لا ينفضه إلا وقد ذهب عقله. ملابس بالية كبرتُ عنها ولا يرغب فيها أحد.
أحبس نفسي في المكتب على الأقل خمس ساعات، أنجز، أكتب هذه القصيدة مثلاً. أخطّط لإلقائها في المحيط لو وجدت قارورة. أكتب هذه القصيدة كمنشور فيسبوكي أولاً ثم كنوتة صفراء على الموبايل. أقوم بتقطيرها وتكريرها بعدما حفرت الصخور نحوها لأجتثّها من بطن الأرض. أسحلها عبر الطبقات بينما يلوّث دمُها الآبار الجوفية. أتمّ العملية كاملة لوحدي، اكتفاء ذاتي، تنقيب تصنيع تصدير. كثيراً ما تتمّ الأمور على خير، رغم أني أكون قد لوّثت الماء في عملية إنتاج القصيدة. القصيدة يقرضها الآخرون في ثوانٍ، بينما العطش يستهلكني لأيام، بل لأسابيع أهيم خلالها في صحراء الشعر.
مرات ألتجئ إلى الترجمة لأنها غابة. أحبّ رطوبتها والخضرة الزاخمة وكيف تسيل سيمفونية الكون كشلال في مجالها الصوتي. أحاول قدر المستطاع ترجمة الشعر فقط، أو مقالة أزعم أنها ستغيّر حيوات الناس في اللغة المستهدفة. أكتب العنوان واسم المؤلف. أتفادى كتابة اسمي حتى أنتهي من العملية بنجاح. إن فشلت، أترك الجسد ينبض مفتوحاً وأهرب من الغرفة. ستتكفّل الممرضات بالتخلص من الجثة. القليل من الكحول والقطن والخيوط ثم يصلن بها إلى الثلاجة. أو ربما أنزل يوماً إلى السرداب، أسحبها من الثلاجة لأنفث فيها الحياة من جديد.
وبعدما أكون قد أنجزت ما يكفي؛ قدّمت مشاركتي للإنسانية؛ تمدّدت أمام عجلة الإنتاج لتدوس على ظهري وتمضي؛ توهّمت أن للوقت مثقال ذرّة من المعنى، أقرّر أخيراً ترك عقلي على طاولة المكتب والذهاب بجسدي إلى المطبخ. آكل الخضراوات وأحرص على أن تتوزّع بين ألوان عدة. أتفادى الخبز والرز لأني أكلت ما يكفي منها في حياتي السابقة. أصنع تشكيلة جيدة من الفيتامينات وألتهمها بشكل آلي. أدرك بأني امرأة خيّرة تفعل كل شيء على أفضل ما يرام. يدفعني الاستدراك إلى الغثيان، إلى التساؤل: إنها القيامة. الديستوبيا. نهاية العالم. يوم الحساب. ما همني إن ظل هذا الجسد على ما يرام؟ أفتح صناديق الحلويات واحدة تلو الأخرى. أخرج لتدخين سيجارة. ثم أدخل وأفتح الثلاجة. أشرّعها. أشرّع الأدراج. التقط كل الأجساد المضرة والتهمها بضراوة. التهمها كمن يتلذّذ بطعم الانتقام. كمن يعلم باقتراب النهاية ويريد فقط لو يعرف كيف ستحدث لحظة بلحظة.
أستحمّ بالماء الساخن قبل النوم علّ جسدي يهدأ. أسناني تصرّ، تصطكّ، وكأنها تتشبّث بالوقت من طرف قميصه. أرق طويل، مراجعة لا نهائية لأخطاء الماضي. أضيف جملة هنا، أزيل جملة من هناك. أحياناً أدسّ صفحات كاملة في الماضي، بل حتى شخصيات، شخصيات متعددة وددت لو أكونها. ألعب بسيناريو حياتي دون أي تحفظات. عندي ميزانية مفتوحة، وطاقم كامل ينتظر بتشوق اكتمال النص. لسنوات كنت أقسم القصة إلى جزأين: المنفى وقبل المنفى، أو: قبل الثورة وبعدها. الآن تحوّل هيكل القصة. بات في حياتي فصول، ومرات أصادف شخصيات من الفصول المبكرة يحاولون تذكيري بهم لكني أفشل في التعرف عليهم. ازدحمت حياتي بالغرباء، بالعابرين، حتى لم أعد أكترث لأسمائهم ووجوههم، وفي الأخير يتناوبون ما بينهم شغر ذات المساحة. حتى الكوابيس التي تأتيني مكررة ومملة ومتوقعة، كلها مطاردات على الرغم أني أمقت الآكشن. أحدهم يطاردني، أختبئ، ثم أفاجئه وكأننا في لعبة غميضة. قد نعكس الأدوار، أو قد أسمح لبديلتي بلعب المطاردات بينما أشاهدها من على سريري تلهث وتنط وتتفاجأ وتقتل أو تُقتل.
وبعد كل هذا، ورغم كل هذا، هو اليوم ذاته لا ينتهي.
استمع لألبوم كامل. وحدة النص باتت مهمة بالنسبة لي. الوحدة والمعنى والأسلوب والنوع كلها أمور باتت في غاية الأهمية عندي. التراتبية أيضاً. لا يمكن سماع ألبوم من المنتصف مثلاً. أبدأ من الثانية الأولى إلى الثانية الأخيرة. تهدأ روحي مع هذا الصعود وذاك الهبوط لأني كنت قد سلّمتها بيد المغني وكلي يقين أنه لن يلقي بي من أيما سلمة. إلا أن أغاني العالم كلها لا تنجح في منحي اغفاءة عين واحدة. بالكاد دمعة تغسل قلق الرؤية.
أترك الموسيقى والتفت إلى الطبيعة. أشغّل فيديوهات موجات البحر المتوسط، البحر الكاريبي، المحيط الأطلسي. بحور التقيت بها مصادفة ولم نعتد بعضنا البعض بعد. بحور – لو كان التاريخ قد سار بشكل طبيعي – لما علمت حتى بوجودها. أبحث عن تسجيلات صوتية لصباح نيويوركي: صافرة بوليس، صافرة إسعاف، عشاق يقطّعون بعضهم إرباً، مدمنون يسألون السماء لعقة أخرى، شباب يغطّون الخواء بالهيب هوب، أطفال ولدوا من صدف تعيسة، قطارات لا تكاد تصل حتى ترحل. أشعر أن العالم موجود وأني فيه. أغمض عينيّ. وحدها تسجيلات المدينة تهدّئ من روعي قليلاً.
منى كريم
منى كريم شاعرة "بدون" ولدت في الكويت وتقيم في الولايات المتحدة. صدرت لها ثلاث مجموعات شعرية آخرها "ما أنام من أجله اليوم."