RR

قطع متناهية الصغر

Untitled | From the series: Sign of the Times | By Paul Gorra

كانت يوليا من مشردي شارع إيلم غروف، تدور دورات كاملة حول الحي السكني وحول الحديقة وحول مصفّ الحافلات وحول المجمع التجاري وحول ياردة الفنون، راسمة بخطاها بتلات زهرة ياسمين متفاوتة الأحجام. في النهار تحوم يوليا بجسد صبية بولندية نحيلة في بداية العشرينات، بانتفاخات سوداء تحت العيون، وثياب غجرية ممزقة ومتسخة، تلمّ الفكة وتلصقها بالعلكة على جدران أزقة ياردة الفنون، وتصرخ في كل من يحاول تخريب جداريتها. على مدار عام كامل، رأيت اللوحة تتكامل وتتغيّر، تزيد أو تنقص قطعة معدنية أو قطعتين، فحين تجوع يوليا تنتزع بعض النقود من جداريتها وتشتري بها شيئاً تأكله. 

يساوي ثمن الوقوف أمام لوحتها والتفرج عليها جزءاً من مستقبل اللوحة. كانت يوليا تفرز الفكة حسب حجمها ولونها، ومن بين كل المشردين، لم تعنِها قيمة هذه النقود. كانت يوليا تعتمد على قطع البنسين والعشرة بنسات، بألوانها النحاسية والفضية وأطرها الدائرية الكبيرة، من أجل خلق امتداد للوحة، فيما تملأ الفراغات الداخلية بقطع البيني والخمسة بنسات نظراً لصغر حجمها ورقتها. أما قطع البنسات العشرين والخمسين، سباعية الأضلاع، فكانت تظهر على الجدران معاً، في وحدات مكونة من خمسين بنساً، تلتصق بأضلاعها سبع قطعٍ من فئة العشرين. غابت القطع من فئة الباوند والباوندين عن جدران يوليا المرتفعة، إذ لم يرق لها اختلاط الذهبي والفضي في هذه العملات. لم أعرف ما الذي كانت تفعله بقطع الباوند، حتى رأيتها يوماً تقايضها مع مشرد آخر بما يعادلها من البنسات. طرّزت يوليا الجدران بأعمدة نحاسية تحمل أقواساً ونقوشاً فضية وكتابات رومانية ورؤوساً مقطوعة تتدلّى ضفائرها وتندمج مع قرون الأيائل التي ظهرت رؤوسها أيضاً بلا أجساد.

وفي الليل تصير يوليا عجوزاً عربية تُدعى شهيدة، تلفّ رأسها بيانس أبيض شفاف يغطّي ظهرها المحدودب، وتلمّ أذيال ثوبها بحزام ملون على خصرها، عيونها خضراء، وتتدفّق حروف أبجديتها التي تنقص السين والصاد والزاي ببطء من فمها الخالي من الأسنان، ما يجعلها عند السكوت تبدو كمن يخشى على شفتيه من الظهور. قابلتُ شهيدة في الساعة الواحدة وأنا أنتظر حافلة الليل. كان المطر شلالاً مجنوناً يضرب فوق صخور منحدر السماء فيتبعثر انهماره. كانت تجرّ أذيال ثوبها فوق الوحل، وحزامها قد انفضّ إلى أفعى تزحف حولها، فتسير شهيدة داخل ما تصنعه الأفعى من حلقات يمحوها المطر أولاً بأول.

قلتُ لها إنني متعبة، فقالت إن عليّ إراحة قلبي بصلاة صادقة أصارح خلالها الله بما يعلمه مسبقاً، فهو من كل كلام البشر، لا يصغي سوى إلى صلوات المحتاجين. يعلّق أصواتهم أقراطاً ويذرع دمعهم أشواطاً، جيئة وذهاباً وافتراقاً واختلاطاً. فجثوت على ركبتيّ، في البلاغة وفي وحل الشتاء، وأمسكتُ في يديّ حفنة من الطين، مسحتُ بها وجهي ودعوت أن تحترق كل أشجار السنديان والزان والقضبان التي لا تكفّ عن رشح الرطوبة والكبر في الإيبنغ فورست، وأن يعلو دخانها نحو سماء الله السابعة، فيختنق وملائكته وأنبياؤه، وتسودّ ألواحه المحفوظة، وتشوي نيران جهنمه جنته بغلمانها وحورياتها وأساورها الذهب والفضة وأنهارها وثيابها الخضر من سندس وإستبرق، وينسى القدر ما قُدّر له، ونسير على الأرض هباء بهباء، كائنات لا رب لها، في حياة لا آخرة لها. قلت آمين فقالت آمين، وربّتت على كتفي المرنخ بالمطر ومضت تتعكّز نحو أشجار البلوط، غابة شاسعة من البلوط ومسارات المشاة والدراجين والمقاعد الخشبية والبرك التي تخرج منها انبعاثات خضراء وبيضاء وفضية. 

زحفتُ خلفها بين عتمات الأيك العالية المتشابكة، وأنا أسمع فحيح الأفعى يتقدّمني ونقيق الضفادع يتبعني. حبوت حتى مطلع الفجر وقد بدأت تظهر في الأفق معالم أرض مألوفة، كلما اقتربت منها زادت شمسها سطوعاً، حتى وجدتني أسير في الضحى ضمن حشد من الناس. أخرجت قنينة الماء من حقيبة الظهر ومسحت الطين العالق على حذاء المشي في الجبال. أغراني مشهد الخَضار المتدرج أفقيّاً في مساحات ممتدة، شاسعة، رائقة، مرتاحة في قربها من الأرض، ومزارعون إن نهضوا فقاماتهم أعلى ما شبّ في الهواء، وإن قرفصوا، فرؤوسهم ورؤوس الملفوف والخس والقرنبيط سواسية. لا أشجار تحجب مدى الرؤية والثقة والحلم، فيلتفّ المدى حولك في هذا المكان مثل حلقات زحل، دون أن يطوّقك، وتحسّ أنك كوكب سابح في الفضاء.

تبعثرنا بين صفوف الخضار الشتوية مثلما تتساقط صغار العناكب عن ظهور أمهاتها. لا يهمّ هنا شمال أو جنوب، فالشمس طرحة عروس مسدلة على رؤوسنا، والعُرس سرّي على كتف الجبل لا تسمع ضجيجه مقترباً، بل تجد نفسك ترقص فيه فجأة كما لو أنك كنت هناك منذ الأزل. أحضر الشباب رزماً من الأكياس البلاستيكية الضخمة، فملأناها وحملناها على أكتافنا مسير خمسمائة متر نحو حقل الزيتون، محطتنا الأخيرة قبل أن تعيدنا الحافلات إلى رام الله. كانت شهيدة تحضّر الشاي على نار الحطب وتصبّه في كاسات زجاج صغيرة، يلمّها ابنها فيما بعد من المتجولين ويعيدها إلى منزلهم قرب الحقل. بإمكانك أن تخلع بيوت الخس والبصل الأخضر والبقدونس والملفوف بيديك، تنفض عنها التراب وتتخلّص من الأوراق الخارجية وتضعها في أحد هذه الأكياس البنية أو الصفراء، وكل ثلاث ملفوفات أو خسات أو زهرات ب عشرة شواكل، أمّا بيوت الزعتر فتنمو مجدداً بعد أن تُقصّ، لذا عليك أن تطلب من المزارع أن يقصّها بخبرته لكي لا تتلفها قبل أن تنهي دوراتها. اشتريت كل ما يقوى جسدي المدرّب قليلاً على حمله فيما تبقّى من مسافة الطريق، وطلبتُ من المزارع أن يضمّ لي نصف كيلو من الزعتر. 

اعتادت أمي شراء كيلوَي زعتر أخضر لتعدّ المعجنات صبيحة الجمعة، وكانت تجمعنا لفرط أوراقها، ولم تكن هذه العملية سوى عذاب خالص، فقرّرت ألا أفرط أوراق الزعتر إلا حين تطلب مني أمي ذلك. لها أن تشقى وتشقينا معها، وسأعينها في ذلك بناء على رغبتها، أما أنا فلن أعذّب نفسي طوعاً، ولن أختار في هذه الحياة القصيرة المؤلمة السريعة أن أفرط أوراق الزعتر. كان هذا واضحاً لدي، وينطبق كذلك على فرط أوراق الملوخية، وتنقيب العدس، ولف ورق العنب، وإنجاب الأطفال وتربيتهم. فردتُ الخضار فامتلأت أرضية المطبخ الصغيرة، وغسلت كل شيء ووضعته في علب منفصلة على رفوف الثلاجة، دون أن يساورني الشك أنني لن أقوى، ولو أمضيت أسبوعاً كاملاً في المطبخ أعدّ الطعام وأتناوله، على استهلاك نصف هذه الكمية. نظّفت الأرض وملابسي وحوض الجلي من التراب، وبقيت ضمات الزعتر الثلاثة على سطح المجلى تحدّق بي بتشفٍ وصمت.

كنت أؤجّل المواجهة، لا مع فرط أوراق الزعتر فحسب ولكن مع انهيار مسلّماتي حول الزعتر أمام شهوة الاتصال المباشر بالأرض وجشع تحققها، ومع جهلي التام بكل ما يسبق فرط الزعتر وما يتبعه، مثلاً هل تُغسل الأوراق على عيدانها أم بعد الفرط؟ وماذا يُفعل بالزعتر حين يُفرط؟ كنت رغم إتقان مجموعة لا بأس بها من وصفات الطعام، لا أعرف شيئاً عن العجين، وكان يبدو لي عملية معقدة ودقيقة لا يجريها إلّا خباز أو أم تعدّ فطور يوم الجمعة لأولادها الفرحين بعطلة الأسبوع. أضف إلى ذلك أنني كففت عن أكل المخبوزات منذ زمن، وقلت إن الأرض أيضاً أم، ورغبتها رغبتي، وشقاءها شقائي، وقد نادتني ذلك اليوم لأقطف هذا الزعتر، وبدأت في فرط أوراقه بعد أن غسلته على عيدانه وقبل أن يجفّ، وكانت هذه غلطة دفعت ثمنها مزيداً من الوقت البغيض الخالي من الجَلَد الذي لدي منه معين لا ينضب لأشياء كثيرة لا تشمل فرط أوراق الزعتر.

هزمتني ثلاث ضمات من الزعتر المغسول ذي العيدان الطرية التي انقطع كل واحد منها دون استثناء أثناء محاولة فرطه، وتبدّد سحر المسير المقدّس الرعوي الفاتن نحو حقول البصل الأخضر والبقدونس والفجل والزعـ… أحسست بالضياع وفقدت السيطرة تماماً وبكيت ورميت كل الزعتر، المفروط منه وذاك المتشبث بأعواده، من شرفة المنزل على الطابق الخامس المطل على باركنغ العمارة، وكانت هذه ورطة أخرى، فقد ترتّب عليها أن أخرج لتنظيف الزعتر. ظللت حتى هذه اللحظة أحسّ أنني أُستدرَج بتسارع حاد إلى شِرك لا فكاك منه حتى رأيت الزعتر المتناثر على الإسفلت وأسقف السيارات، عالقاً بين أوراق نبات المدّاد المتسلق على جدران الباركنغ، فهدأت أعصابي المقطعة مثل أعواد الزعتر الطري. وجدته مشهداً جميلاً، فناً من فنون الطبيعة السابقة لتاريخ المعارض والمتاحف والمسارح حين كان الفن شعوذة وعبادة وممارسة.

في تلك اللحظة كان الزعتر قد قام من حقله على كتف الجبل وافترش مصفّ السيارات حقلاً لتراجيديا انتحاره القروسطي وولادته ما بعد الحداثية التي كنت أنا جمهورها ومأساتها. جلستُ على حافة حوض النعناع الفارغ، ثم تناولت بعض عيدان الزعتر عن الأرض، وصفّقت لها بحرارة، وأكلتها. "يا لها من رائحة قوية"، قال أدريان، وطلب أن يتذوّق بعضها. لملمت عن الأرض ما شكّل ضمة صغيرة بائسة وقدّمتها له، وقلت إن رائحتها ستكون أقوى لو لم أنقعها بالماء. كان أدريان عامل بناء، وقع من الطابق الثالث، وتُلفت ساقه تماماً لأنه لم يستطع تغطية نفقات العلاج دون تأمين صحي، ولم يستطع بالتالي العودة إلى العمل. انتهى به الأمر كسيحاً على باب أحد أفرع سلسلة سابواي. كنت أبتاع لنفسي سلطة الـ Aloo Patty وله ساندويش كباب. يقرّب عكازه إليه قليلاً ويفسح لي مكاناً قربه. أحياناً نأكل معاً، وأحياناً أؤجّل أنا علبة السلطة إلى حين الوصول إلى الشط، محطتي الأخيرة قبل الذهاب إلى المنزل آخر النهار، أو يؤجّل هو الساندويش إلى حين يحضر أحد أصدقائه من المشردين، فيقايضه ببعض الفكة، أو بعض الحبوب التي لم أعرف ما هي، أو علبة عصير. شعره طويل، تتشابك فيه خصل الراستا الكثة مع القشور البيضاء والغبار والعوالق المجهرية. أخبرني أن مكوثه الطويل في مراقبة الناس جعله يكتشف أن بعضهم يمرّ بالمشردين كمن لا يراهم، ولكن معظمهم يفتعل التجاهل لأنه يخشى إصدار أي إشارة تكون بمثابة اعتراف بوجودهم، وذلك لأن فعل إخراج النقود لإعطائها للآخرين هو فعل غير عفوي ويحتاج إلى تخطيط مسبق، لأنه ليس من السلوكات التي نمارسها مع المال بحكم العادة. ولذا فإن التصرف عند ظهور المشرد فجأة في طريق المارق يحتاج إلى قدرة عالية على الارتجال والتوافق البصري-الفعلي. فكّرت أن هذا ربما هو السبب الذي يدفعني للتقرب من هؤلاء، لأحوّل تقديم الفكة لهم من فعل مرتجَل إلى فعل مخطط. اختار أدريان هذا المكان بالذات بعد حسبة بسيطة، اكتشف فيها أن حاجة شاب مقعد إلى الطعام الجيّد أقوى من حاجته إلى النقود التي يتطلّب صرفُها حركة جسدية لا يقوى عليها شاب بساق واحدة. 

مررت ذات يوم من أمامه، فلوّح لي بعكازه كالعادة ونادى عليّ، فتظاهرت أني لا أراه وأكملت سيري دون أن ألتفت إليه. لا أعرف ما الذي جعلني أفعل ذلك. هل كنت أحاول تخليص نفسي من انجذابي إلى بشرته السمراء التي تلمع من تحت القذارة، وسنّه الفتية، وابتسامته العذبة، وعينيه اللتين تتّسعان حين تلتقيان بعينيّ وتضيقان حين تلتقيان بالأفق، ونفوري من رائحته الكريهة، وذكائه الفطري، وابتهاجه اللا مبرر، ومكوثه المتواصل على الأرض؟ كنت أرغب بإمساكه من ثيابه وجرّه على الأرض، بركله، بتحريكه. لو أن فتحة عكازه الطبّي أوسع قليلاً لطوّقت بها حلقة اللحم التي تظهر من عنقه تحت الوشاح، وأمسكت العكاز من طرفها الآخر وجذبته بها إليّ، وأنا أنظر إلى وجهه المشدوه وهو يعافر التمرغ، في المسافة الآخذة بالتلاشي، بين رأسه الكبيرة وثدييّ الصغيرين، فيتعثّر ويسقط، وأسحبه خلفي إلى مياه الشاطئ القريب، وندخلها معاً، أنا للغرق السريع، وهو للتجمد حتى الموت. كان يحكّ جلده ليخرج الوسخ العالق فيه وأحكّ جلدي لأُخرجَه من خلاياي، فلا يبرّد لحمنا المهتاج سوى ما انغرس فيه من أظافر هذا المحيط. كرهته ولم أزره ثانية. غيّرت طريق العودة، ونسيت لاحقاً لماذا غيّرته.

كانت طريقي الجديدة تمرّ بإيريني التي تفترش عتبة مصرف وتمتدّ أمامها بسطة واسعة، واسعة بما يكفي لتستقبل نهايات الخطوط الجيرية البيضاء التي تتفرّع عن الوحدات الزخرفية الدقيقة التي ترسمها. كانت تفرح بمن يقترب لمشاهدة لوحاتها الأرضية، وتبدأ بشرح مستفيض عن معاني هذه الخطوط المجردة وعلاقتها بما تراه في اليقظة أو الحلم، وعن الطريقة التي تضبط بها القياسات والنسب على مساحة كبيرة دون استخدام أدوات، وعن مواد الرسم التي تمكث على الأرض أطول فترة زمنية. حول هذه البسطة، يمكن أن تجد أشكال حيوانات أو وجوه صغيرة الحجم. "أوه، هذه بيتي، قطة مارثا، مسح دينيس الأرعن ذنَبَها، وتبدو أسمن مما هي عليه في الحقيقة، لكنني قرّرت أن أخلّصها من الوزن الزائد لكي تركض بسرعة أكبر تمكّنها من الفرار من قطط الشوارع التي تنوي جعلها حبلى، هههههه، أو ربما هي سمينة لأنها حُبلى. لا يمكنكِ أن تعرفي ذلك على وجه اليقين، فالشاطئ مليء بمخلفات الطعام التي يمكن أن تنعم بها القطط. ليتني قطة لأستمتع مثلها بهذه القاذورات، رغم أنني أكره أن أحبل بسبعة أجنّة. دينيس يحاول دوماً أن يجعلني حبلى، إنه يقف هناك قرب متجر الفضة، أترينه؟ يرتدي معطفاً أسود. عند الفجر يستيقظ ليتحسّس نهود القطط النائمة من فوق الأغطية، وإن كان محظوظاً فمن تحتها أيضاً، لكننّي أموء وأغرس مخالبي في وجهه. لطالما حذّرته من وطء خطوط لوحاتي بأقدامه المتسخة، فالخطوط تتألّم وتشعر بالإهانة لأنها كائنات حية تحمل روح من رسمها، ولكن هذا أمر لن يفهمه سوى فنانة مثلي. بالإضافة إلى ذلك، فإن خطواته تفسد لوحاتي فلا تعود تعجب المشاهدين. "هل تعتقدين أن الخطوط كائنات حية؟" ولكن أنّى لي أن أعرف، فأنا لم أكن يوماً فنانة.

أحاطت إيريني نفسها بأسيجة من خطوط الطباشير كانت تشعر داخلها بالأمان والمِلك، وحين تتحدّث تصرخ بصوت مرتفع ليسمعها مَن حولها خلف هذه الأسيجة. تركت داخل هذه الشبكة المعقدة من الخطوط ممراً ضيقاً يوصل بين العالم الخارجي وسلة قش أبقتها قربها لتجمع فيها النقود، وكتبت على طول الممرّ كلمة WELCOM تبدأ بحرف W من الخارج وتنتهي بحرف M في الداخل. استخدمت شَرطة الـ L السفلية لتملأ القسط الأكبر من المسافة، فبدت الكلمة مقسومة إلى نصفين متباعدين لا تستطيع أن تقرأها دون أن تقول: ويل... كوم. فكّرت أنها بهذا تقترب أكثر من أصلها التأثيلي في الإنجليزية القديمة، حيث كانت عبارة من مقطعين تعني ضيفاً مرغوباً. في ممر إيرني، لا يمكنك أن تصبح "ضيفاً مرغوباً" إلا إذا عبرت الممر كاملاً ووصلت إلى سلة النقود، حيث تكتمل الكلمة، لتُسقط فيها بعض الفكة. أما إذا بقيتَ واقفاً على الطرف الخارجي من الممر، فلست سوى ضيف.

لا أحد يمكنه المكوث طويلاً في وضع "الضيف" دون أن يتّخذ صفة واضحة، فهو إما أن يذهب في حال سبيله، فيخرج تماماً من فئة الضيف، أو يعبر الممر نحو سلة النقود ويصبح ضيفاً مرغوباً. بالنسبة لي، كنت في هذه الحياة كمن يعبر دوماً إلى الطرف الآخر من ممر إيريني، الطرف الخاطئ، حيث أدوس على خطوط اللوحة وأتلفها، فأكون ضيفاً غير مرغوب به، ثم أعود إلى الطرف الخارجي من الممر لأستريح قليلاً في وضع الضيف.

قبل السفر إلى بريطانيا، أهديت غرضاً لكل واحد من أصدقائي وأفراد عائلتي. اخترت أشياءهم بوحي من الصفات التي ستميّز كل واحد فيهم لو كان شخصية في رواية لم تُكتَب بعد. كنت في تلك الفترة أعرف صبيّة شُفيت من السرطان، تُدعى دنيا، تعمل في الخزف وتفتّته إلى قطع متناهية الصغر وتصنع منه حُليّاً فسيفسائية على أرضيات ذهب وفضة. شعرتُ بوجود علاقة لا يمكن وصفها تربطني بهذه الصبيّة. عرفتها من خلال صديق مشترك، ولم ينشأ بيننا أي فضول يدفعنا لبناء صداقة، لكنْ حين رأيت أعمالها، تدفّقت عبرها لغة سحرية قادمة من عوالم بائدة وخاطبتني بها. كانت دنيا تختار رسوماً تمثّل رموزاً نباتية وحيوانية وزخرفية لها حضور في الموروث التراثي الفلسطيني. ابتعت منها

لقاء 250 شيكلاً

قطعة تحمل رأس غزال، وهناك، خارج هذه القطعة، تحت شجرة الحياة، كان الأسد يفترس جسد هذا الغزال. أهديتها لريتا، وقالت لي إنها ستبقيها في عنقها إلى حين عودتي، وإن لم أعد، فستبقيها إلى حين ينتهي الأسد من افتراس لحم الغزال. ضحكنا، قلت إن الأسد تحجّر منذ غرز نابه في لحم الغزال، فماتا أو عاشا معاً.

في حصص الكاراتيه، كانت ريتا لا تنسى إبقاء رأسها مرفوعاً وكتفيها مستقيمتين، فأتخيّلها غزالاً يصرخ في لحظة الذبح. أخبرتها بذلك مراراً حتّى صارت ترفع رأسها بطريقة مبالغ فيها وترفع سبابتَيها إلى جانبيه مثل قرني غزال كلما التقت أعيننا لتُضحكني أثناء التدريبات. لم يكنّ السنسي ليتساهل مع الضحكات الخفية، ولكنه كان يتجنّب توبيخ أيّ منا ويكنّ لنا احتراماً لا حدود له، باعتبارنا الفتاتين الوحيدتين بين زمرة من الرجال والصبيان. حين وصلني خبر إصابتها بالسرطان، سمعت بكاء الغزال، ورأيت دمعه يتساقط حجراً حجراً من إطار تلك القطعة وينكسر في العتمة.

أبرمت دنيا عقد شفائها مع الشيطان، فعبر قِطَع المجوهرات تلك، تُغادر خلايا السرطان جسدها مقابل أن تجد حاضنة جديدة في أجساد من يرتدين هذه القطع حول أعناقهن. كسب مقابل سلب، تُدفع فيه حيواتٌ قرابينَ فداءَ حيواتٍ أخرى. الفائز من يبيع روحه. فازت دنيا. رأيت ريتا ممددة على المذبح، يتساقط فوق جثتها وَدَع العرّافة التي حسمت أمري وذهبت إليها قبل يومين من مغادرة بريطانيا.

كانت تجلس في مكانها المعتاد بين محطة برايتون ورصيف القصر البحري مُحاطة بالخرز والأصداف والشبر الملوّن، وعلى مقربة منها يتناثر فِراش آنّا ومارتن وريبيكا، وكل بقعة منها عالَم صغير مستقل. يمتلك مارتن خيمة صغيرة وكلباً أسود يدعوه تايغر وإبريق شاي فضي ومنفضة سجائر. استغربتُ وجود منفضة السجائر، فالرصيف كله منفضة لأعقاب السجائر والأجساد ولافتات المحال التي تتقن الحد الذي تضطرب فيه أمام ريح المحيط الهادرة دون أن تبارح مكانها.

ريبيكا تفترش تحتها طبقات من الأغطية، وترى قربها دوماً نصف شطيرة أو بعض أكياس رقائق البطاطا والكثير من مخلفات الطعام والقاذورات. تحدّثت معها مرات عديدة، وفي كل مرة كانت تقصّ عليّ حكاية ذهابها لبيع الحليب مع والدها حين كانت صغيرة وانزلاقها على حجارة الطريق الحادة ما بين منزلهم في اسكتلندا والقرى المجاورة، وكيف تركها والدها هناك برجل مكسورة إلى حين فرغ من بيع الحليب وعاد بقنانٍ فارغة فحملها على ظهره مع تلك القناني وأرجعها إلى المنزل. وحين تنتهي من قص حكايتها، ترفع طرف البنطال عن ساقها لتريني الندبة التي خلّفها ذلك الكسر، فلا أرى سوى عروق الدم النافرة بسبب الدوالي، وأقول إن هذا Awful.

أنهت آنا دراستها الثانوية، وتركت منزل والدتها بعد مشاكل لم يعد بوسعها تحملها، مشاكل لم أعرف ما هي، بسبب طبيعة آنا المتحفظة في الكلام، كمن ما زال يحتفظ بترفٍ من كرامة سكان المنازل، ولكنها بلا شك، كانت مشاكل من النوع الذي جعل آنا تفضّل حياة الشارع على مقارعتها. فهمتُ منها أنّهم يستخدمون بيوت إيواء المشردين للاستحمام فقط، أما العيش فيها فكان يشترط عليهم عدم المبيت في الشارع، الأمر الذي لم يكن مجدياً بالنسبة لهم، فالشارع هو مصدر رزقهم الذي لا يمكنهم الاستغناء عنه، ومصدر سلواهم، وتميزهم، وراوي قصتهم الصبور، بضمير المتكلم. ما عدا ذلك، لم تقل آنا شيئاً، فقد كنّا نجلس معاً على الرصيف ونتلقّى قطع النقود المعدنية من المارة الذين يحار منهم من يدقّق قليلاً في مشهد فتاتين تقتعدان الرصيف، واحدة بثيابها المزرية والأخرى بثيابها الضيقة وأقراطها الكبيرة وطلاء أظافرها الأزرق وشعرها المصفف ومكياجها المسرِف، وقد كانت ترضى منّي بالسجائر فقط. مرّ رجل ورمى مرة في حجرها بيني نحاسياً واحداً؛ فأمسكتُهُ وقذفتُه في وجهه، وقلت له إن هذا عيب وإن عليه أن يعطيها المزيد، فأخرج صديقه من جيبه جنيهين وحفنة من الفكة وناولها لي بأدب وابتسام. أخذَت آنا مني النقود دون أن تقول شيئاً.

جلستُ على الكرسي المقابل. وضعَت العرافة يدها في يدي ونظرَت في عينيّ قليلاً لتقرأ سريرتي، ثم قالت إن هذا لن يجدي نفعاً، بل عليّ تحديد سؤال واحد فقط لكي يعرف الودع طريقه. كنت أريد أن أسألها عن ريتا إذا ما اختير لها النجاة، وعن جواد، إذا ما كان إله العرّافين قد سئم مثلي من رسائلنا الإلكترونية الموقعة كل هذه الأعوام باسمي المستعار وكَتب لي في ألواحه الملونة قَدَراً أفضل، يكتشف فيه جواد هويتي الحقيقية، دون أن أعرف، ويلاحقني ويظهر أمامي فجأة، على كتفه الأيمن ملاك يسجّل انتصاره عما سيأتي بيننا، وعلى كتفه الأيسر ملاك يسجّل خسارته عما مضى من عمر كان يمكن أن نتبادل فيه قسطاً وافراً من الأنفاس التي تبدّدت. قرّرتُ أن أفكر اولاً في سؤالي حول ريتا، ثم أعيد الكرّة لأسأل عن جواد. انقلب الخرز على ظهره معلناً سوء الطالع. ولم أبقَ لأسأل عن جواد، لذا لم أعرف إذا ما كنتُ يوماً سألتقيه. دفعت 5 باوندات للعرّافة و5 أخرى لقاء 50 مل ويسكي. حين عدت إلى فلسطين، فتّشت في أغراض ريتا دون علمها، وأخذت قطعة المجوهرات تلك وكسّرتها حتى تفتّت طرف الحجر الذي كنت أضربها به.

بعد موتها، اعتادت ريتا أن تزورني، مريضة وغاضبة وكارهة، أما تلك الليلة، فقد جاءت هادئة وادعة، إذ كانت طريحة الفراش الأخير، بعد أن نحل جسمها وأصبح هيكلاً من العظم المكسو بالجلد المبقع بالأزرق. كنّا في غرفة منزلي في الطابق الخامس، وكانت دُنيا في الغرفة المجاورة قد اصطادت غزالاً وشرعت بتقطيع لحمه قطعاً متناهية الصغر لتصنع منه مجوهرات. قالت ريتا: أشتهي قطعة من لحم الغزال، هل تسألين دنيا أن تعطينا واحدة؟ قلت لها إن دنيا لا بد أن تحضر لنا قطعة حتى وإن لم نطلب منها فهي دائماً ما تفعل. حزنت ريتا وقالت بنبرة يكسوها الأسى والهزيمة: بس أنا جاي عبالي لحم غزال. ذهبتُ إلى دنيا وطلبتُ منها قطعةً من لحم الغزال، فناولتني واحدة أعطيتها لريتا وأكلَتَها نيئة. قالت إن دم الغزال يقتل خلايا السرطان، وإنها على هذه الوتيرة، تأمل بالشفاء في غضون أسبوع. حزنتُ جداً، فقد كان المستشفى الذي تتعالج فيه قد أعادها إلينا لتموت في المنزل، بعد أن استنفدت كل إمكانيات الشفاء. كانت تمضغ اللحم بصمت وأنا أبكي أمامها بصمت، فتنظر إليّ وتقول: "تُء تُء تُء،" وهي تناولني لقمة من لحم الغزال، وتقول: "لا تخافي، إن أكلتِ من هذا اللحم، فلن تصابي مثلي بالسرطان." فآكل منه، وأنا أسمع صوت السكين في الغرفة المجاورة يقطع اللحم.

Contributor
ملك عفونة

كاتبة ومترجمة ومحرّرة من فلسطين. حاصلة على ماجستير في الأدب والفلسفة من جامعة ساسكس. عضو هيئة تدريسية في دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت.

Post Tags
Share Post
Written by

<p dir="rtl" style="text-align: right important!;"><span style="font-size: 14pt;">كاتبة ومترجمة ومحرّرة من فلسطين. حاصلة على ماجستير في الأدب والفلسفة من جامعة ساسكس. عضو هيئة تدريسية في دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت.</span></p>

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.