فصول من كتاب «خريطة الزمن» لآية نبية ننشرها بالتعاون مع «وزيز».
هنا
1
ربما لم يكن الطريق أسود تمامًا، لكني كنت محاطة بليل لا أرى فيه يدي. كان عليَّ أن أتخيل حدود الممشى كي لا أسقط في المياه على جانبيه التي أميز وجودها من صوت جريانها، وأفكر كيف لم يضعوا سورًا هنا: لا بد أن واحدًا على الأقل تعثَّر، غفل، دُفِع في مزاح وسقط في هذه المياه ذات مرة. مطمئنة في خطوة وقلقة في الأخرى، أمشي بإيقاع ناعم منتظم، مغمورة في حالة تأمل مريحة، لا أعرف سوى أني أتقدم في طريق لا أفهمه، ما أفيق منه لأدرك أنه لا بأس أن أحتمي بأحدهم. أنادي على أمي لتسير إلى جواري فتقول شيئًا كأنها تعتذر عن ذلك، أُجرِّب أبي فيرحب، يتأبط ذراعي ولا يعطيني فرصة لأعاود ما كنت فيه، لأنه يبدأ حكاية ما عن فؤاد المهندس وبداياته في المسرح، ثم يشرع في غناء «رايح أجيب الديب من ديله» بنغمة تدعوني إلى المشاركة. أحدق في السواد دون أن أنطق كلمة. نصل إلى ما يُفترَض أنه نهاية الممشى وأن عنده مقام إحدى الصالحات، مبنى من ثلاثة طوابق تقريبًا. هناك فقط، حيث ضوء خافت، أكتشف أني كنت أمشي وسط جمع كبير. يتركني أبي ويتبع أمي التي مرت بالفعل إلى الجهة الأخرى من المبنى وفيها شارع ومقاعد ونهار عادي يمكنني أن أراه من مكاني. لكني أصعد إلى الطابق الثاني، أسأل: «هل يمكن أن أستريح هنا؟» مشيرة إلى حجرة صغيرة إضاءتها واهنة. يرد بعض الجالسين في الساحة أمامها في صوت واحد: «هذه مقبرة، هنا دُفِنت إحداهن.» أواصل إلى الطابق الأخير. تلهيني الفرجة على المكان وأنسي ما جئت لأجله. الوقت، الذي قضيته أتنقل بحثًا عن حجرة أستريح بها، يبدو لي طويلًا جدًّا حتى إنه لم يتبقَّ وقت للراحة. أجد ملابس طفل جديدة نسيها أحدهم في كيس بلاستيكي شفاف أُسلِّمها للحارس وأنا أغادر. أنزل لأجدهم على مقعد على الجهة الأخرى ينتظرونني بغير ضجر رغم طول غيابي. كانوا ثلاثة، لا أعرف الشخص الثالث.
2
كلاب ميتة على طول الطريق من باب الجامعة حتى مبنى ملحق الكلية، بعضها مدفون لا يظهر سوى جانب من رأسه، والبعض ملقى فوق الرمال بكامل جسده أو مجرد فراء مفرغ من اللحم. الجثث تزداد كلما اقتربت من مبنى المحاضرات. أتوقف أمامه أنظر إلى ثلاثة طوابير منظمة من الكلاب بمختلف الأحجام يتقدمها رجل متوسط العمر كأنه يدربها. تربت على كتفي يد لسيدة تسألني عما يجري. «قتلوهم .. ولا داستهم عربية؟» أجيب أني لا أدري. أجيبها هكذا باختصار، لأني أريد اللحاق بمحاضرتي. أتجاوز الطوابير وأدخل المبنى. في يدي كيس بداخله ساندويتشات وبعض النقود. أصعد سلالم رخامية تنقطع فجأة ليقابلني بعدها سلم خشبي. إلى جواري فتاة، ووراءنا صف من الفتيات. بين السلم الرخامي والسلم الخشبي عتبة زجاجية يستند جانباها إلى قلمين رصاص يصلان بين آخر درجة في السلم الرخامي وأول السلم الخشبي. نسند أيادينا إلى العتبة لنستجمع قوانا قبل العبور. يسقط الكيس مني. أقول لإحداهن في الأسفل أن ترسله مع إحدى الصاعدات. الفتيات على الدرج الرخامي وراءنا يثرثرن ويضحكن على الموقف كله. الأمر لا يُحتمَل: العتبة الزجاجية تتدحرج يمينًا ويسارًا فوق القلمين، والسلم الخشبي يتمايل إلى الأمام وإلى الخلف، والتي إلى جواري تقول لهن: «يا جماعة .. لو وقعنا دلوقتي هننكسر»، وأقف معانقة العتبة باطمئنان أني لا بد، في لحظة ما، سأمر.
3
مع أن تمثال سعد زغلول ظهره إليَّ كما أراه من زجاج السيارة، فمن المفترض أني في شارع غمرة. ومع أني سألتقي صديقًا قديمًا في الغورية -أُسلَّم له كرسيًّا بلاستيكيًّا أبيض لم أسأله فيم يحتاج إليه- ولا يُقرِّب المواقع الثلاثة سوى الحرف المشترك، أقرر أن أنزل بمجرد أن ألمح مسجدًا كبيرًا على الجهة الأخرى يبدو أني أعرفه. المدينة، التي انقطعت عنها الكهرباء منذ الصباح، تبدو أرض شوارعها كبحر هائج مظلم. أفتح باب السيارة بحذر وأقفز. أعبر إلى الجهة الأخرى وأنا أحتضن الكرسي، وأتفادى النظر في عيون المارة الذين لا ينتبهون إلى خطورة المشي بسرعة وسط هذه الأمواج. على رصيف الشاطئ الآخر، ألمح صديقي، ملامحي ثابتة، أرغب في أن أُلوِّح له، لكن يدًا تقبض على الكرسي والأخرى أنسى أين هي.
4
أقطع ساقي لأنها ظلت تؤلمني طوال اليوم، ما أفعله بلا تردد وبسهولة هي وحدها مرعبة، مثل قَطع أسطوانة لحم بارد، يمر السكين بنعومة ولا يترك أثرًا لدماء. أضع الساق المنفصلة جانبًا فوق الأغطية المرتبة على السرير مرتاحة لأنها لم تعد جزءًا مني. وبساق واحدة، أعيد السكين إلى المطبخ كي لا ينتبه أحد إلى غيابه، واثقة أن أحدًا لن ينتبه إلى غياب الساق. أعود إلى الحجرة وشيء ما ينقصني، أفكر كيف أعيد الساق الآن، كيف أقنع نفسي بما فعلته حين أستيقظ. دم يسقط لزجًا من قمة رأسي ويسيل على الأرض.
5
في بيت جدتي، أجلس على السرير الصغير في الحجرة ذات الشبابيك الثلاثة، أعمل على اللاب توب، حين ألمح صديقهم، الذي مر على موته عام تقريبًا ولم أكن قد التقيته من قبل، واقفًا إلى جواري يتحدث مع صاحبة المكتبة الجالسة على الطرف الآخر من السرير. لا يكسر سكون الحجرة سوى كلامهما القليل ودقاتي على لوحة الكتابة. نتعارف سريعًا، وتحضر الألفة بيننا أسرع، ويبدو لنا أننا سنصير أصدقاء. يغادر، وبعد قليل، تمر امرأة لا أعرفها تستمع لتسجيلات بصوته وتدندن ما يشبه موسيقى على الخلفية، تقول إنه كان يحب أن يسجل كتاباته، ويُجرِّب رجل دهانًا برتقاليًّا على الحائط يبدو أنه أيضًا متعلق بإحياء ذكرى الصديق. هما يتصرفان على أساس أنه مات، وأنا لا أعترض، مُسلِّمة بذلك تمامًا، أعرف أنه ميت منذ فترة، وأحتفظ لنفسي بقصة لقائه منذ قليل كي لا أفتح بابًا لجدال لا داعي له.
6
ذباب يملأ الحجرة الأوسع ذات الشبابيك الثلاثة. أفتح الشباك الأكبر لأطرده، فأجد جدتي أمامه في الخارج، كأنها تقف على أرض صلبة لا أراها، تغلق الدرفتين وتفتحهما، وتظل تكرر ذلك، فلا يسعني رؤية ملامحها بوضوح. أمي تدخل الحجرة وتُفاجَأ بالجدة. تسألها: «بتعملي إيه يا ماما؟! ادخلي.» الجدة لا ترد، فقط تواصل ما تفعله بدرفتي الشباك. «هاتي إيدك»، تقول لها أمي وتمد إليها يدها. أقف إلى جانب الشباك وأهمس لأمي إن كان عليَّ استدعاء أبي ليساعدها في إدخال جدتي. لا تجيبني، غالبًا لشدة قلقها، لكني أفهم أن الإجابة لا. أمي تمد يدًا إلى جدتي وأنا أقبض على يد أمي الأخرى.
7
يهديني أحدهم نمرًا مرقطًا حديث الولادة. أحمله سعيدة به رغم ثقله ورغم أني أعي أنه قد يؤذيني. ثلاثة صبية يحمل أحدهم نمرًا مرقطًا صغيرًا أيضًا ويبتسم لي.
8
كلبك الساكن في سيناء غيَّر اسمه من جون إلى جاك، ولم يبدُ سعيدًا عكس تعليقك على صورته. أنزل من التاكسي في مكان لم أعتد النزول فيه، لكن السائق يقرر أنه نهاية المطاف. ألمح الكلب، ينظر إليَّ ويقدم نفسه بـ«جاك»، ويبدو أنه يعرفني بالفعل فلا ينتظر مني أن أجيب باسمي، بل يلتفت فورًا إلى السيارات المسرعة أمامنا بعين تراقب فريسة، وأنا أُدقِّق في ملامحه لأتأكد أنه هو، كلبك. يمس ساقي المصباح الخلفي للسيارة التي نزلت منها للتو في أثناء رجوعها، أصيح في السائق ناظرة إليه في مرآته الجانبية بينما جاك لا يزال واقفًا، ينظر في عينيَّ ويقول: «أراقب لك الطريق كي تتمكني من مراقبة حياتك.» يعبر معي إلى رصيف، ثم إلى آخر، ويلتفت إليَّ بين الحين والآخر لأتبعه، وأفعل، لأنه يسير في الاتجاه الذي سأسلكه على أي حال، كما أن السير وراءه كان مسليًّا، أو مطمئنًا، لا أدري، ثم أستدير لأدخل شارعًا جانبيًّا ويكون قد اختفي.
9
أرفف الكتب تحوم بكتبها في الصالة ويناورها غراب لا أجفل منه على الإطلاق، فيما يرمم عمال الصيانة شقًّا في الحائط.
10
إن طائرًا واحدًا قلِقًا يكشف عن وجود طائر قلِقٍ آخر في الجوار.
11
دودة تتلوى على جانب الستار المواجه للنافذة في حجرتي، فأرى ظلها من الداخل. أشعر بالتقزز، وأفكر كيف أتخلص منها، لكني أغفل عنها للحظة فأرى -حين أعاود النظر- دودتين سمينتين على الجانب الداخلي من الستار، تخرج من إحداهما على الفور فراشة كبيرة تستقر على طرف النجفة، واقعية وكلاسيكية جدًّا، بني في أسود، ثم تخرج من الأخرى فراشات أستطيع عدها حين تستقر في سقف الحجرة، أربع، وإلى جوارها الفراشة الأولى وقد تحولت جميعها إلى هيئة ورقية كرتونية كتلك التي تُزيَّن بها أسقف غرف النوم.
12
على الجهة المقابلة من الشارع، زميلتاي في العمل تقفان في انتظار الباص. أُلوِّح لهما من مكاني وأقول في سري: «يا رب كلنا نروَّح بالسلامة.» أوقف الباص، ويسألني السائق: «على فين؟» أجيب: «هروَّح، البيت، روض الفرج.»
آية نبيه
كاتبة ومترجمة مواليد القاهرة، صدر لها ديوان «تمارين لتطوير مهارات الأرق» (2016)، وترجمة لمجموعة «تنويعات الانزعاج» للكاتبة ليديا ديفيس (2016). شاركت أيضاً في عدد من الكتب الجماعية في مصر والخارج منها الإصدار الأول من مطبوعة «الهامشيون»، و«غرفة أخرى للعيش» الذي صدر في ثلاث لغات.