RR

هرم في جنوب الأردن

Part of the series Requiem | By Nooshin Hakim

إلى العمال المصريين الذين كانوا أو ما زالوا مغتربين في الأردن


في محادثته الأخيرة مع زوجته على مسنجر، أقسمَت له أن ابنتهما ذات الأعوام الأربعة تنمو عظامها أثناء الليل. فعندما تصحو من نومها، تفاجئ الجميع بمليمترات جديدة من الارتفاع عن سطح الأرض: "طولِت يا خَلَف! بتتطول وهي نايمة!" ظلّ صدى تلك الكلمات يخنق قلبه بقبضة عنيدة بائسة لا تفلته من واقع أبعده عن أهله وأحبابه وعن نمو أطفاله الذين لا يعرف طيفهم إلا عن بُعد. في بعض الأيام لا يستطيع تخيل أشكالهم بواقعية فهو دائماً متأخر عما هم عليه ببضع خطوات. كل ذلك البعد يجعل من جسده الدليل الوحيد على أنه حي.

لولا الجوع والألم لأقسم أنه غير موجود. ولولا الشعرتان الشائبتان في رأسه، لأقسم أنه كائن هلامي لا يعرفه الزمن. استحوذت عليه رغبة ملحة في معرفة اللحظة التي شابت فيها تانك الشعرتان. لم يلاحظهما، بل لاحظهما حمدينو عندما أعلن في وجهه الأسبوع الماضي أثناء العمل: "شعرك بيشيب يا خلف." ماذا يحدث للشعر وهو يفقد لونه؟ هل يختار المخ الشعرات الشائبة ويوشوش لها بأن تخرج عن فروة الرأس فاقدة للونها، متغيرة، وعنيدة؟ أم ينتقيها ويمحو عنها كل ما عرفته عن نفسها منذ خليقتها فتنبت كشيء آخر يعتقد أنه يخرج للوجود للمرة الأولى؟ 

لا مرآة في عشته التي يسكنها بالقرب من المحجر. غرفة صغيرة مصنوعة من الصفائح المعدنية التي تضاعف درجة الحرارة خارجها وتجعل منه إنساناً على صفيح إما شديد السخونة أو قارص البرودة. دون مرآة، لا يرى انعكاساً له على مدار شهور، ولكنه ، عند عودته من المحجر، يعرف أن أغلب شعره قد اكتسب لون الحجارة البيضاء وسوف تتوه الشعرتان الشائبتان وسط وفرة من زميلاتهما الكادحات العفرات. هكذا يعرف بداية اليوم، يبدأ بشعره الأسود وينتهي بشعره الأبيض، ولكن ماذا لو بدأ وانتهى بشعر أبيض؟ الفكرة أشعرته بالغثيان، ألاّ يعرف نفسه كما عرفها من قبل. إذن ليس له إلا النهار والليل حتى يوم الدين. يعرفهما جيداً.

يبدأ خَلَف يومه بقوة. يحمل على ظهره ما يقدر عليه، وحين ينتهي في المساء، يكون جسده حِمله الأثقل. فكمن يرمي شِوالاً مملوءاً عن آخره بالرمال، يرتطم جسده بأرض المحجر أثناء جلوسه في نهاية عمله. كان الإرهاق والشعور بالجوع لا يفارقانه حتى وهو يستريح للأكل. مضت عشر ساعات منذ أن بدأ تكسير كومة الحجارة التي كُلِّف بها. كسارات الحجارة لا تتناول الأحجام الصغيرة نسبياً. الحجر الذي يبلغ وزنه 250 كيلوجراماً لو تناولته الكسارة، لهشّمته وأصبح بلا قيمة. يكسّر الحجارة بشاكوشه كي تصبح بالحجم المناسب، ثم يرفع الحمولة على ظهره في حمّالة جلدية ويصعد إلى الجزء الخلفي من شاحنة النقل ليُنزِل تلك الحدبة الحجرية ببطء وانضباط. وكلما زاد عدد مرات صعوده للشاحنة كلما زاد أجره. 

يوجّه كل حواسه وقوته صوب الشاحنة. صوت رشدي أباظة دائماً في أذنيه يردّد "أنا البريمو" وهو يتفاخر بقوته البدنية في أحد المحاجر في فيلم "إمرأة ورجل". أحياناً ينفجر من الضحك هو وزملائه في العمل حين ينطقون بتلك العبارات من أفلام السينما ليخفّفوا من قسوة العمل ورتابته. إذا هَمّ بالضحك وفقد توازنه أثناء حمله الحجارة، قد ينكسر عموده الفقري. الأسلم، إذاً، أن يكتم ضحكه و يبتلعه كما يبتلع الغبار الذي يتجمّع في حلقه.

كان طويل القامة وعريض الكتفين، بنيته تصلح للعمل الشاق كما يذكِّره مراقب المحجر باستمرار. لا يصارح أحداً باللحظات التي يرفع فيها الحمولة الثقيلة على ظهره ويتمسمر في الأرض كأن جسده لن يقوى على خطوة ثانية. يشعر أن الزمن والعالم  قد تركاه وأكملا سَريانهما، فيظلّ هو كالتمثال في مكانه، وتنشأ مدينة من حوله ويصبح هو صنماً وسط ميدان مزدحم بالسيارات والبشر. 

الشعور الوحيد الذي لا يتركه هو الجوع. لا يفارقه الجوع في نومه، و حتى حين يتخيّل نفسه تمثالاً من الحجر والأسمنت. أصبحت معدته كائناً يحدّثه من داخل أحشائه؛ تحدّثه بعداوة قد تجعل منها وحشاً يأكله من الداخل ذات يوم، فيتحوّل خَلَف إلى معدة هائلة تجلس على جانب الطريق، يستقرّ عليها الغبار وهي تتلوى يميناً ويساراً وتقفز في حركات بهلوانية بحثاً عن مزيد من الطعام.

في الصباح، عندما وضع علبة التونة وخمسة أرغفة من الخبز والبصل والليمون في كيس تحضيراً للغداء، كان يشعر بالجوع. حين جلس وأكل بعد ست ساعات من العمل، كان يشعر بالجوع. حين انتهى من الأكل، كان يشعر بالجوع. جلس على الأرض غير قادر على قضاء المزيد من الوقت في المحجر لأنه يعلم أن مقاومة النوم معركة خاسرة. جلس في ركن يبدو مريحاً وأسند ظهره على مساحة ملساء في الجبل وشعر بآلام ظهره تتأرجح وبالغبار الجيري الأبيض يبتلعه حتى أغمض عينيه. سمع معدته تتمتم:

التعلب فات فات وفي ديله سبع لفات

وفي ضهره تلاتة وتلاتين

وفي ضهره تلاتة وتلاتين

وإذ بصوت يأتي من حضن الجبل ويصرخ فيه: "إنت مش بتبني الهرم يا خَلَف. بُصّ حواليك. فين الملوك اللي نصهم آلهة ونصهم بني آدمين اللي بتفني نفسك علشانهم؟ فين الزاد والسقف اللي عشمان فيهم؟ بصّ في كيسك يا خَلَف، دا انت ما بتكلش غير طَقة واحدة يا جدع." هو صوت مراقب المحجر في تعاليه وقسوته، ذراع وحنجرة مالك المحجر الذي يأمر وينهي كأنه جثة ملبوسة بروح صاحب المال نفسه. لا يحاول أن ينظر تجاهه فهو يتحاشاه طوال اليوم وآخر ما يريده هو أن ينطبع وجهه السمج في عينيه نهاية اليوم. بكلمات خافتة، استرسل خَلَف في سبّه ثم صرخ فيه وأمره بالسكات موجهاً هجاءه بعشوائية في زوايا مختلفة، وأقسم أنه سوف يبني هرماً لنفسه وسوف يأكل كما أكل بُناة الأهرامات من قبله. 

كان لعابه لا يزال في حالة مدّ وجزر داخل فمه. ذهبت شهيته إلى قرص من الخبز الشمسي وكتف لحم ضأن وإبريق من الماء البارد. مسح لعابه بكُم قميصه المحمل بالغبار وبصق على الأرض. مشى بخطى عسكرية ناحية الفراغ ليبدأ في بناء هرمه الخاص. قرّر أن يشيّدّه أثناء ساعات الليل لأن شمس النهار حارقة وهو لن يكرّر مأساة حسن رمضان ويسقط ميتاً بسبب الحر. 

"هاتنام إمتى يا خَلَف إن كنت هاتكسّر في الجبل الصبح وتبني الهرم بالليل؟" يهمس صوت زوجته الذي يعرفه جيداً. هل ترك المسنجر مفتوحاً؟

منذ يومه الأول في المحجر، بذل كل ما يملك من جهد في إيجاد عمل متواصل أثناء فصلي الربيع والصيف. وكان يبحث عن علاج لآلام ظهره أثناء الخريف والشتاء حين تشُحّ فرص العمل في المحاجر بسبب الأحوال الجوية. تنكمش فقرات عموده الفقري في البرد، وكأن كل ما تحتويه سلسلة ظهره من سوائل يجفّ تماماً لتطحن فقراته بعضها البعض، فتضغط على كل ما بينها من أعصاب وتصدر أصواتاً وترية عالية كصوت الكمان، فتصعق كتفيه بنشاز حاد يضرب عظام فخذيه ويرتكز في ركبتيه، فيصدّ الفراغ خطواته ويقع منبطحاً فتصطدم أسنانه بالأرض. كيف لكائن أغلب تكوينه من الماء أن يصل به الحال إلى هذا الحد من الخشونة؟  

اللعنة على فصل الشتاء.

سوف يضيف شوربة العدس التي يحبها إلى صينية الخبز الشمسي والضأن والماء البارد. يتخيّلها تدفئ أمعاءه الباردة. ولكن ماذا عن فقرات ظهره؟ كم تمنّى أن يحقن شوربة العدس الساخنة في عموده الفقري حتى يشعر بالدفء حقاً ويتحرّر من الألم. 

هرول مسرعاً ففاجأه وخز في مؤخرة رقبته وتسرّب في خط مستقيم للأسفل لينحني قاصداً ركبته اليسرى. لم يقوَ على المشي مستقيماً، فأكمل وكأنه منفصل عن عموده الفقري الذي رآه يمشي بجانبه. زاد من سرعة خطواته خائفاً من أن تتركه الحركة فيجد نفسه متوقفاً للأبد. لقد سمع ما يكفيه من الحكايات، حكاية فلان وحكاية علان، كلهم أصيبوا بالديسك وعاهات أخرى بسبب عتالة الحجارة. تذكّر أحدهم حين قال وكأنه يقرأ له الطالع: "ألم الظهر ألم على طول الخط، يخلّيك توحوح زي العيال الصغيرين." لكن خَلَف لا يصرخ من الألم. دكتور العلاج الطبيعي كان يصيح في وجه زميله "إجمد يا وحش! إجمد" ليشجّعه على تخطي الألم بعد أن أتمّ الجراحة التي شدّد على ضرورة إجرائها طبيب العظام. 

كانت تكلفة العلاج في الأردن باهظة، فسافر زميل آخر عائداً للعلاج في مصر. كان صوته مليئاً بالدموع حين تحدثا في مكالمة تليفونية بعد تلقيه العلاج. صرّح له بأن كل المصاريف كانت هباء: "كأني رميت الفلوس في الزبالة تمام. سبعة آلاف جنية يا مؤمن علشان يحقنوني بخلطة كورتيزون وشوية مسكنات، وعلى إيه يا حسرة."

"فوق لنفسك يا خَلَف. فيه كتير مستنيين الشغلانة اللي معذّباك دي." كلمات مراقب الموقع كانت تتكرّر في الخلفية كما الاسطوانة المشروخة.كان يردّد تلك الكلمات على سمعه كالشبح في المنام، مكرراً ما يمليه عليه ساعات اليقظة.

تذكّر نصيحة زميل في محجر مجاور أقسم أن وضعية الجنين أثناء النوم تريح فقرات العمود الفقري مّما يقع عليها من ضغط طوال اليوم. كانا يتأمّلان فصل الصيف بدفئه وجفاف صحراء معان التي تحنّ على مفاصلهما العليلة. "نحمد ربنا على الجفاف، في مصر ماكناش هنستحمل الألم من الرطوبة اللي في الجو. بيقولوا بتعمل تورم في المفاصل وأجارك الله على الألم. بس انت المهم تشجّع نفسك بعبارات رنانة زي ما قال الدكتور: إجمد يا وحش! إجمد."

في أحد مشاويره إلى الصيدلية ذات مساء، سأل المناوبَ هناك عن قائمة افتراضية من الأدوية إذا ما اقتضى الأمر تناول دواء، فذكر له مجموعة من الأدوية كتبها في ورقة وضعها خَلَف في جيبه حينها:

لريكا، مايلوجين، بيوروبيون، بروفين 600 مج، حقن فولتارين.

تذكّر ضحكات الصيدلي المتوترة حين أعلن له أن الجراحة سوف تكلّفه عشرين ألف يورو. وتذكّر أيضاً حين توقّف عن الضحك وأبخس من شأن الجراحة ليذكرّه بأن إدارة المستشفى تضطر المريض للتوقيع على إقرار بعلمه مسبقاً باحتمالية عدم نجاته من العملية حياً واحتمال إصابته بالشلل أو فقد ساق أو قدم. ليلتها، حكى له حمدينو عن قصة قرأها له ابن عمه عن رجل حفر قبر أحد أقربائه كي يستخرج شريحة ومسامير احتاجهم لجراحة مماثلة بسبب عدم قدرته على دفع المصاريف كاملة، وأخذ يقهقه وهو يعيد عليه عنوان الحكاية: "ما فعله العيّان بالميت" وذكّره بأن يشجّع نفسه بعبارات رنانة كما قال الدكتور: "إجمد يا وحش! إجمد."

أحسّ خَلَف بثقل شديد في رأسه يميل به إلى اليمين حتى هوى به إلى الأرض، فانتفض من نومه وعيناه مفتوحتان عن آخرهما. نظر حوله وانتبه أن المحجر لايزال هادئاً بلا طعام ولا هرم عظيم يحمل اسمه، ولكنه أحسّ بفائض مرير من الألم في أسفل ظهره مع قدْر لا بأس به من العَفَرَة في فمه. حَرَّك عيناه فقط لمعاينة الزوايا التي استطاع رؤيتها دون تحريك جسده وقال بصوت خافت لنفسه وللفضاء من حوله: "بتبني لنفسك قبر في الحلم يا خلف؟ قبر يا خلف؟ صحيح اللي مش عايش يحلم بقبر." وانفجر في الضحك.

كي يَهِمّ واقفاً كان لا بدّ له أن يرفع النصف الأعلى من جسده ببطء ثم يتموضع بزاوية تُمَكِّنه من ثني ركبتيه كي تساعداه، واحدة تلو الأخرى، في دعم ساعديه على استقامة رجليه ورفعه في موضع الوقوف. ولكنه لم يفعل وظلّ ساكناً في انتظار قدوم أحد زملائه لمساعدته. لم يقوَ على الوقوف بمفرده في تلك الليلة، ورأى أنه لا بأس من انتظار أحد رفاقه كي يرفعه من رقدته على الأرض، سوف ينتظر أحدهم. عندها رفع نظره إلى السماء بضوئها الخافت وأيقن أن انتظاره لن يطول حتى تدبّ الأقدام في أرض المحجر. ليس له، كما بات يعرف، إلا النهار والليل إلى يوم الدين.

Contributor
هالة رشاد عثمان

باحثة أنثروبولوجيا وكاتبة من مصر تعيش بين عمّان والقاهرة. مهتمة برصد ونقد أشكال التفرقة والطرد للفئات المضطهدة في المجتمعات العربية أملاً في إيجاد سبل للعيش المشترك الكريم للجميع.

Post Tags
Share Post
Written by

<p dir="rtl" style="text-align: right important!;">باحثة أنثروبولوجيا وكاتبة من مصر تعيش بين عمّان والقاهرة. مهتمة برصد ونقد أشكال التفرقة والطرد للفئات المضطهدة في المجتمعات العربية أملاً في إيجاد سبل للعيش المشترك الكريم للجميع.</p>

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.