لم يعد الفن هذا الحصن المنيع ضد الإنتاج المتسارع والثقافة الاستهلاكية وتراكم الأرباح وكدح العمل. فبالرغم من أنه دائماً ما يطرح نفسه خطابياً كفعل مقاومة في مواجهة توحش الإنتاج والاستهلاك الرأسماليين، لأنه تلك الدعوة للتباطؤ والتأمل، والاستراحة للإنصات والركود والتخيل، وعملية البحث المستمرة التي لا يحدّها وسيط معين بعيداً عن الإنتاج والعمل، إلا أن الفن ودعم الفنانين، منذ سيطرة مرحلة النيوليبرالية على الإنتاج الرأسمالي، أصبحا مجالاً للاستثمار والتراكم الرأسمالي، وقاطرةً تقود مشاريع توسع الأسواق الرأسمالية الاستعمارية.
حدث ذلك عبر مشاريع استثمار عقاري وإحلالٍ طبقي عمراني، أي "الجنترة"، على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية، بدرجات متفاوتة وبشكل واضح وعلني. ولا تصمد بلاغة "مساحيق الغسيل" أبداً في تبرير ذلك، حيث تُشيَّد المشاريع الفنية والمعمارية الضخمة (متاحف ومؤسسات أكاديمية تعليمية بحثية) أو تُطلق فعاليات فنية كبيرة (مهرجانات ومؤتمرات وبيناليهات) تؤدّي كلها دور قوى ناعمة ودبلوماسية ثقافية لتعويم الأنظمة الاستبدادية والسلطوية، والشركات في هيئة دول، والكيانات الاقتصادية العالمية، داخل إطار المجتمع الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي الدولي. ويعمل من خلالها الخطاب النقدي للفن، بصفته دعوة إلى الاستمرار في التباطؤ والتأمل والتبطل والتعطل خارج الإنتاج والعمل، كوقود لتلك المتاحف والفعاليات، فيما لا يزال خطاب أيديولوجية "استقلالية الفن" وحرية الفنان هو الخطاب السائد والمهيمن حينما يأتي الحديث عن علاقة جماليات الفن بسياساته.
أما قبل: التاريخ كُرةٌ وليس خطّاً
يسعى هذا النص إلى نقد السرد البياني لتاريخ علاقة الفن والعمل من خلال التعريج على منهجية بنيامين في أطروحات حول التاريخ (١٩٤٠) التي ترى إمكانية للثورة على أثر الفاجعة، باعتبارها جنين انعتاق وتحرر لمستقبل دائم التشكل والمراجعة من رحم الماضي والتقاليد الثورية لتواريخ مقاومة المقهورين المنسية. بناء على تلك المنهجية، ينقد هذا النص خطية التاريخ السلطوية للعلاقة بين الفن والعمل عبر النظر في موقع التاريخ وجغرافيته.
يتعقّب هذا النص تاريخ العلاقة الجدلية بين الفن والعمل في إطار الهيمنة الاقتصادية الرأسمالية العالمية، وذلك من أجل اختبار صحة بعض الافتراضات التي ينطلق منها النص. فمنذ القرن الثامن عشر وحتى خمسينيات القرن الماضي، زمن صعود الرأسمالية الصناعية والفوردية والتايلورية وهيمنتها، أدّى تقسيم العمل التاريخي العالمي بين الفن والعمل إلى نتيجتين. أولاهما كانت تخصيص مساحة محددة يُنظر فيها إلى الفن بواسطة خطاب "الاستقلالية الفنية"، على اعتبار أن الفن نوع من أنواع اللّا-عمل، أي أنه نشاط إنساني إبداعي ذو خصوصية ينتج ممارسات ومنتجات مادية ورمزية في آن واحد، ومنزهة عن الغرض والاستخدام والعمل والدورات التقليدية للإنتاج والاستهلاك. أما النتيجة الثانية فهي أن في تلك المساحات المخصصة للفن، ينتج الفنانون فناً بصفته "لا-عملاً"، بالنيابة عن القوى العاملة التي أصبحت مستهلِكة للفن ومنتجة للعمل، حيث أن انسحاب الفن من العمل ودورة الإنتاج الرأسمالي المتعارف عليها يؤدي إلى مراكمة العمل على كاهل القوى العاملة لتعويض العمل المغترب والمكرر، الضروري للتراكم الرأسمالي.
وبالتالي، فإن خطاب استقلالية الفن وحرية الفنان هو بمثابة سِتار أيديولوجي مدعوم من قبل رأس المال مباشرة. يتجلّى ذلك بوضوح في الرأسمالية الاستعمارية للدول القومية المركزية الأوروبية والغربية، كما في الدولة كشكل من أشكال رأس المال، خاصةً في الدول القومية ما بعد الاستعمارية في الأطراف ودول الجنوب، التي أعادت إنتاج النموذج الاستعماري ذاته ولكن داخل مشروعات تحرر وطني. يقوم هذا الستار بحجب التقسيم التاريخي والعالمي بين الفن والعمل، وذلك لأن الرأسمالية تعمل دوماً بشكل عالمي وفقاً لمنطق الأواني المستطرقة، أي أنها تستقطع عملاً هنا وتراكم آخر هناك، أو تغلق سوقاً هنا بعد اضطرابات مستمرة لتفتح سوقاً أكبر في مكان آخر.
ومع انتشار خطاب "استقلالية العمل"، الذي يعني الإدارة الكاملة لمواقع الإنتاج من قبل العمال، وبالتالي زيادة أوقات فراغهم وعطلاتهم، وتحرير طاقاتهم الإبداعية والفنية، أصبح لدينا عمال بصفة شعراء وفنانين وموسيقيين وكتّاب. تطوّر هذا الخطاب بموازاة خطابات وحركات نبذ العمل واستقلاليته في أوروبا بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي (مثل تيار العمالية واستقلالية العمل في إيطاليا) نتيجة لتراكم معدلات الإنتاج والرفاهية في المراكز الأوروبية التي أدّت بدورها إلى مراكمة أعمال كثيرة مقابل أجور أقل على عاتق القوى العاملة المهاجرة واللاجئة والقوى العاملة في جنوب العالم، وتحديداً الأعمال الشاقة والمتدنية والعمل اليدوي المغترب المكرر في مختلف الصناعات. فمع بدء سيطرة الحقبة النيوليبرالية والأمْوَلة على التراكم الرأسمالي عالمياً، هاجرت الكثير من الصناعات جنوباً ليصبح العمل الذهني والعمل الإبداعي الحر واقتصاد المعرفة في مجالات التسويق العقاري والدعاية وتكنولوجيات التواصل هي المصادر الأهم لمراكمة الأرباح المتسارعة الضخمة. وتمّ بالتالي دمج مساحات الثقافة والفن المتنوعة كمساحات إنتاج وقاطرات للاستثمار المالي العقاري والعمراني، ومساحات عمل يكون السبيل الوحيد فيها للفنانين والمنتجين الثقافيين نحو الاستقلالية الفنية هو عملهم الشاق.
في المحاور التالية، سأناقش التاريخ النقدي للمحطات بالإضافة إلى النقاشات التي عرفها مفهوم "استقلالية الفن" بين الفن والعمل مركّزاً على المنطقة العربية، ومعتمداً على نماذج من مصر ولبنان، منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم.
جدلية استقلالية الفن والعمل: سياق تاريخي
تعود جذور خطاب استقلالية الفن الى فلسفة كانط الجمالية المثالية. يرتكز كانط إلى حكم جمالي يرى أن على الشيء أو المنتج الفني أو الممارسة الفنية أن تكون جميلة في ذاتها ولذاتها ومنزهة عن النفع أو الغرض أو الاستعمال أو الاستعراض أو المصلحة أو الانحياز السياسي أو الدعاية الأيديولوجية، ومستقلة عن القضايا الوطنية والاجتماعية والسبل المباشرة في التعبير عنها. تطوّرت فلسفة كانط تلك بالقطيعة مع تاريخ الإنتاج الفني في عصور الإقطاع، حيث كان الفن يعتمد على تكليفات وإقامات للفنانين والحرفيين من قبل مؤسسات دينية وقصور الملوك والأمراء والنبلاء. فكانت قيمة الأعمال الفنية تعتمد على ما تعكسه من قيمة مالية وشرائية ووجاهة اجتماعية وإبهار للمؤسسات والأفراد، الذين قاموا بتكليف عملها، باستثناء بعض الحالات الفردية لفناني عصر النهضة الذين كانوا في جدال وتفاوض مع المؤسسات الدينية وجهات التكليف. هنا بالضبط تكمن جدلية الاحتمالية الثورية والأيديولوجية في خطاب استقلالية الفن: فبالإضافة إلى الجانب الأيديولوجي الذي ذكرناه آنفاً، هناك جانب آخر يحمل بذور احتمالية ثورية يطرح الفن من وجهة نظر رأس المال كنقيض للعمل، لا ينتج سلعاً تقليدية قابلة للاستعمال، ولا يخضع بالكامل لشروط قوانين الإنتاج والاستهلاك الرأسمالي.
وهذا ما نجده في عمل فناني الطليعة في أوروبا الذين شكّلوا خطاب استقلالية الفن كأداة ومساحة لأطروحات نبذ العمل، بدءاً بألعاب الدادا التي تسعى إلى دمج الفن بالحياة، مروراً بدوشامب وثورة المنتجات الجاهزة المصنعة سلفاً مثل "المبولة" (1917) التي عرضها كعمل فني داخل سياق الجاليري والمتحف دون جهد أو عمل، لتصبح من طليعة الممارسات الفنية التي تدعو إلى نبذ العمل والحق في الكسل، بالإضافة إلى دعوات السوريالية لتحرير الرغبة واللاوعي، وصولاً إلى الأممية المواقفية لعدد من المثقفين والفنانين الطليعيين في فرنسا وأوروبا، الذين دعوا بشكل أوسع إلى رفض العمل ودمج اللعب بالحركة في المدينة المعدة للإنتاج، وذلك عبر تبني مواقف الجغرافيا النفسية وأدبيات التسكع.
ومع استقرار حكم دولة ما بعد الاستعمار في المنطقة العربية، صلب هذا البحث، حلّت البرجوازية العسكرية المنبثقة من الجيش، أو منظمات التحرر الوطني ذات الطابع العسكري، محل البرجوازية الوطنية المكونة من أعيان وإقطاعيين ورجال صناعة واقتصاد. كما تمّ التخلي عن الديموقراطية التمثيلية، وتوليف صيغ من رأسمالية الدولة والسلطوية بدون تنظيمات سياسية ونقابية فاعلة، تحت فئة "الاشتراكية العربية"، كما حدث في الجزائر ومصر الناصرية وسوريا والعراق البعثيين و ليبيا الجماهيرية.
في خضم ذلك كله، ظلّت مساحة استقلالية الفن ونقاشاتها الساخنة، بوصفها تخفيفاً للفنانين من عبء العمل وبالتالي من قلب النسيج الاجتماعي والإنتاجي، مكفولة من قبل مؤسسات دولة ما بعد الاستعمار والتحرر الوطني. في مصر مثلاً، استطاع الفنانون من أصول طبقية أقل دخلاً، عمالية كانت أم فلاحية أو من طبقة الموظفين البسطاء، أن يلتحقوا بالكليات الفنية عبر مبادرات رسمية في التعليم المجاني ومن خلال تعريب مناهج التعليم، بعد أن كانت الدراسة الفنية محصورة بالشرائح الميسورة، كالطبقات المتوسطة والعليا. وأخذت الدولة على عاتقها توظيف القوى العاملة من فنانين وكتّاب ومثقفين في وزارة الثقافة وهيئاتها ومراكزها، أو في مؤسسات النشر الصحفية والإعلامية، أو في الجامعة والكليات الفنية.
ومع نهاية خمسينيات القرن الماضي، بدأت وزارة الثقافة نظام مِنح التفرغ، المستمر حتى اليوم، بعد مسيرة من الفساد والتعثر، وذلك كي يتمكّن الفنانون والكتّاب والمترجمون من إنتاج أعمال ومعارض فنية وأدبية ونقدية، وترجمات، وتأسيس إقامات فنية وستوديوهات للفنانين يعملون فيها على منتجاتهم الفنية، إلى جانب قاعات العرض في وزارة الثقافة وقصور الثقافة، وبعض الجاليريهات الخاصة الصغيرة. وحتى المثقفين والفنانين الذين تم اعتقالهم لأنهم شيوعيون، لم يتمّ فصلهم من أعمالهم في عصر عبد الناصر. أما في عصر السادات، قام يوسف السباعي، ضابط الأمن الثقافي أثناء فترة حكم يسار الناصرية ويمين الساداتية، في منع أكثر من مائة وخمسين كاتب وفنان يساري وتقدمي من الكتابة والنشر، واعتقال بعضهم. وفي مناسبات أخرى، أُجبروا على إتمام أعمال كتابية لمحلات المستلزمات المنزلية، مثل عمر أفندي وشملا وغيره، ليتقاضوا مرتباتهم دون إزعاج السلطات، وذلك عقاباً على آرائهم السياسية العلنية، ونشاطهم التنظيمي الشيوعي السري، وليس بسبب أعمالهم الفنية. لكن داخل إطار دولة يوليو الوطنية، لم يكن مطروحاً فصلهم من العمل.
ربما باستثناء واضح وهام لمبادرات النشر الثقافي والأدبي الخاصة، أو تلك التي قام بها مثقفون وأدباء وتبنّتها دور نشر في بيروت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مارس الفنانون استقلاليتهم في كتاباتهم الإبداعية والفكرية والنقدية من خلال ممارساتهم النشرية. وتمكّنوا من قلب دورة رأس المال للإنتاج والاستهلاك الثقافي العالمي، لتصبح بيروت واحة للحرية، بعيدة نسبياً عن الرقابة في وسط دول ما بعد الاستعمار والتحرر الوطني السلطوية في مصر وسوريا والعراق. لذلك استطاع الكثير من الكتّاب والمثقفين الماركسيين والتقدميين نشر كتبهم ومنشوراتهم في مطبوعات ودور نشر بيروتية مثل الطليعة والفارابي وابن خلدون. وبقيت بيروت تؤدّي هذا الدور حتى الثورة السورية عام 2011.
هكذا ظهرت في الخمسينيات والستينيات مطبوعات ومجلات مثل "شعر" (أسّسها يوسف الخال) و"مواقف" (أسّسها أدونيس) و"الآداب" (أسّسها الناشر والكاتب سهيل إدريس) لتبدأ سجالات الشعر الحديث وقصيدة النثر والحداثة الفنية العربية ودعوات لنقد الفكر الديني، ونقاشات هامة حول الفن والأيدولوجيا، وحول دور الفن والفنان: هل الفن للفن أم الفن للمجتمع؟ الواقعية الاشتراكية أو الالتزام؟ هل يجب على الفن أن يكون له غرض وهدف؟ هل يجب على الفنان الطليعي العمل على توعية وتثقيف الشعب والمجتمع حول أسباب استغلاله؟ أم أن الفن غرض وهدف في حد ذاته؟ هذا الى جانب الجدل الرئيسي حول استقلالية الفن وحرية واستقلالية المثقف والفنان، ودور المثقفين والفنانين في الأنظمة القومية العربية، والالتزام السياسي للفنان: هل يجب على الفنان أن يكون حزبياً ومؤدلجاً في إنتاجاته الفنية؟
شملت تلك المطبوعات، بالإضافة لترجمات إليوت وعزرا باوند، تغطيات لمناقشات الأوساط الثقافية العربية، واحتجاجات وبيانات مايو 68 في باريس وأوروبا، ومقالات سياسية ونقدية لعدد من المثقفين الماركسيين المصريين الذين لم يتمكّنوا من نشرها في مصر، منهم غالي شكري وإبراهيم فتحي وإسماعيل المهدوي. وكان ذلك قبل النكسة وبعدها، وقبل صعود وسقوط مجلة "حوار" التي ترأس تحريرها توفيق صايغ وضمّت نصوصاً متنوعة عن نقاش الحريات الثقافية والفنية، كالترجمات الأولى لحركة الزنوجة والكاتب والسينمائي السنغالي عثمان صمبين والكاتب الأمريكي الأسود جيمس بولدين، قبل أن يتّضح أنها كانت ممولة من المخابرات المركزية الأمريكية ومنظمة مؤتمر الحرية الثقافية، إبان الحرب الباردة بين السوفييت والأمريكان. وبالرغم من تضخيم دور المجلة و شيطنتها، فقد كان للمجلة دور في توسيع مساحة الحوار والنقاش بين المثقفين، الذين قد يكون بعضهم استفاد منها وفقاً لقناعاتهم ومساراتهم ضمن صراعهم نحو الاستقلالية الفنية وحرية الفنان والتجريب والحداثة الفنية.
من الأسهل دوماً تصوّر كلية الفعل في مراكز الهيمنة، عوضاً عن بذل جهد للبحث عن إيماءات الذاتيات النابضة برد الفعل ومناهضة الهيمنة من خارج المراكز. فقبيل النكسة وحتى نهاية ثمانينيات القرن المنصرم وربما استلهاماً من تجارب مجلات بيروت، تشكّلت مجموعات بشكل ذاتي ومستقل كضمانة لمسار استقلالية أكثر حرية ومراجعة ذاتية، بعيداً عن مؤسسات وسلطة ودعم الدولة في الثقافة والفنون التشكيلية والسينما. أسّس تلك المجموعات مثقفون وفنانون يساريون وقوميون حزبيون وغير حزبيين، غالباً ما اجتمعوا حول مطبوعة أو مجلة يعملون فيها بشكل تطوعي، وموّلوها بجهودهم الذاتية التي غالباً ما تكون من مدخرات بسيطة جنوها من عملهم في مؤسسات رسمية ثقافية وفنية وإعلامية، أو من البنى التحتية التابعة لها، أو من كيانات حليفة مثل مجموعة مجلة "أنفاس" في المغرب، وجاليري 68 في مصر التي حاول السباعي اختراقها بشتى الطرق حتى توقّفت. كذلك يمكننا النظر إلى أمثلة على نقاش الاستقلالية الفنية في الإنتاج الفني السينمائي لثلاثة صنّاع أفلام مصريين اسكندرانيين من فناني التحرر الوطني، وهم شادي عبدالسلام وتوفيق صالح ويوسف شاهين.
اختار شادي عبد السلام طريق الدفاع المستميت عن استقلالية الفن، التي يجب أن تكون مدعومة من رأس مال الدولة، ليصنع جواهر سينمائية وجمالية منها فيلم "المومياء" من بين نماذج لا تتبنّى مفهوماً محدداً أو هوية ثابتة في مسيرة التحرر، إلا أن عبد السلام مات كمداً وهو ينتظر الدولة أن تدعم فيلم "إخناتون" الذي كان مشروع عمره. أما توفيق صالح، سينمائي الواقعية الاشتراكية والموجه المحرض الذي تعب من عراقيل الإنتاج في مؤسسة دعم السينما المصرية، فاختار أن يتنقّل بين الفاشيات الدكتاتورية البعثية ليقدّم "المخدوعون" في سوريا و"الأيام الطويلة" في العراق، مدعوماً من صدام حسين وشريكاً له في الكتابة. ولو أن يوسف شاهين عانى من الرقابة وتضييق مؤسسة دعم السينما المصرية بعد فيلم "الاختيار"، إلا أن المصادرة لم تكن مصير مشروعه. سعى شاهين إلى الإنتاج المشترك مع "أونسك - الجزائر" في فيلم "العصفور" و"عودة الابن الضال"، ثم أسّس شركة إنتاج وتوزيع، وبدأ إنتاجاً مشتركاً مع منتجين فرنسيين ثم أصبح للشركة دور عرض تعرض وتوزّع إنتاجات شاهين وغيره من السينمائيين، كما تقترح برامج دورية للعروض. باختصار، أصبح شاهين فناناً منتجاً يعمل على إنتاج استقلاليته الفنية مشتبكاً بملابسات الدورة الرأسمالية للإنتاج والتوزيع والاستهلاك السينمائي. يخفق حيناً وينجح أحياناً ويفاوض ما تبقّى من الوقت، لكنه ظلّ يعافر وراء حريته واستقلاليته الفنية حتى مماته.
السحر الخفي لسلعة الفن
نصل الى نقطة التحول المحورية في تاريخ الرأسمالية بصعود وسيطرة النيوليبرالية ومابعد الفوردية ومجتمعات التحكم نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، وصولاً إلى الأمْوَلة، التي نشهد عليها الآن. لا يحدث إنتاج الرأسمالية والتراكم الرأسمالي في المصانع ومواقع الإنتاج فقط، بل صار جلياً أن منطق النيوليبرالية الرأسمالية يحتلّ المكان والزمان. ترحل النيوليبرالية الرأسمالية من المصنع والبيت والمؤسسة الى شبكة كوكبية تغطّي المكان الزمان مراكِمةً قيمة وأرباحاً. وهذا ينطبق على أيديولوجية استثناء الاستقلالية الفنية بوصفها مساحة لا-عمل ولا-إنتاج، فيما هي تُراكم، في الحقيقة، رأس المال.
لكن النيوليبرالية اخترقت جدار هذه المساحة الاستثنائية والأيديولوجية، لا لتجعلها مساحة إعادة إنتاج رأس المال فحسب، بل لتحوّلها إلى مساحة إنتاج وتراكم رأسمالي تجعل الفنان والعامل في الثقافة عاملاً مقلقلاً ورائد أعمال في آن واحد، كما يقول الناقد الفني ديدريش ديدريشسن. فالفنان عامل مقلقل، بحسب ترجمة أحمد حسان لكتابات فرانكو بيفو براردي، أي عامل متعاون مع المتاحف والمؤسسات الفنية الكبيرة والجهات المانحة من جهة، ورائد أعمال يعمل مع مؤسسات الاقتصاد الإبداعي والعمال الفنانين الأصغر سناً وخبرة من جهة أخرى ، مما يجعلنا إزاء نقطة تحول تاريخية ومحورية نحو إعادة التفكير الجذرية في طرح الاستقلالية الفنية أيضاً.
لكن يبقى السؤال لماذايصرّ منظّر نقدي بحجم تيودور أدورنو، وتحديداً في كتابه النظرية الجمالية (1970)، على ضرورة الدفاع المستميت عن استقلالية الفن والعمل الفني، وهي مقاربة أراها تنسحب على جميع المنتجات الفنية والفكرية كما نعرفها الآن من مقطوعات موسيقية وكتب أدبية ونظرية وأعمال فنية تقليدية وممارسة فنية مابعد مفاهيمية وورش عمل وكورسات دراسية وأوراق بحثية، باعتبار تلك المساحات الحصن الأخير الذي يمكنه أن يقترح جدلاً للنفي والتحرر والانعتاق دائم التشكل والمراجعة؟ يقول أدورنو ذلك رغم أنه يعي تماماً في كتابات أقدم له أن استقلالية الفن مدفوعة ومدعومة ومموّلة من قبل هيمنة رأس المال، القائم على تقسيم عمل حاد وتاريخي وعالمي بين الفن بصفته لا-عملاً والعمل بصفته لا-فناً.
الإجابة تأتي من طرح أدورنو للمنتَج الفني لا كسلعة تقليدية ولكن كسلعة مطلقة لا تخضع بالكامل لنظرية العمل للقيمة كما أسلفنا، لكنها تخضع بالكامل، في الوقت ذاته، للطبيعة المزدوجة لشكل السلعة أو للغز السلعة وسرّها وفقاً لماركس. فلأي سلعة طبيعتان وجانبان: مكوّن مادي وآخر فيتشي ما-فوق مادي، بحيث يحدث الخطأ المعرفي إذا حصرنا السلعة في جانب واحد فقط من جانبي طبيعتها المزدوجة.
فبالنسبة لأدورنو لا يحدَّد رأس المال بواسطة سوق الفن أو المتحف أو الجاليري أو المؤسسة الفنية القيّمة أو فائض القيمة أو سعر منتج فني ما. فالمقطوعة الموسيقية أو الكتاب أو الفيلم أو اللوحة أو ورشة العمل لا تحدَّد قيمتها المالية (السعر) والمادية بناءً على العمل الذهني واليدوي المبذول لإنتاجها من قبل فنان أو كاتب أو فريق فني، بل بناءً على اعتبارات أخرى كثيرة كما يوضح ديدريشسن، ومن قَبله عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو. تشمل تلك العوامل تاريخ الفنان في المجال وشبكة علاقاته وموقعه الطبقي في الوسط الفني وفي أي سياق سياسي واقتصادي وتجاري يعرض منتجه، بالإضافة إلى ظروف إنتاج وعرض وتوزيع المنتج الفني وحجم ونوع الجدل والنقاش الفني والسياسي الذي يطرحه. كل ذلك مهم جداً، وربما من الضروري مناقشته ونقده وتنظيم فعاليات وتحركات ومقاطعات بشأنه إذا لزم الأمر، وفقاً لسياق كل إنتاج أو عرض فني. لكن أدورنو يرى أن تلك المعايير تتعلّق فقط بالجانب المادي من السلعة الفنية والجانب المؤسسي من الإنتاج الفني، دون أن تشمل الجانب ما-فوق المادي وربما المؤسسي، رغم أن هذا الجانب ما-فوق المادي/ المؤسسي لا ينفصل أبداً عن الجانب المادي في تكوين شكل أي سلعة وطبيعتها، لا سيما السلع الفنية المطلقة.
عبر هذا المكون والجانب ما-فوق المادي الذي يشكّل فائض المعنى من العمل والمنتج الفني، يستطيع الفنان النقدي أن يطرح للمتلقين اقتراحاً وخيالاً للانعتاق والتحرر، وعملاً لمساءلة ونفي الفيتشية، دون أن يؤكّدها أو يكرّسها، وهو ما أرى أنه يمكن أن يحدث في صورة إيماءات ولمحات بسيطة، يستحث فيها أفكاراً وخيالات منفلتة. وهذا ليس حصراً على المنتجات الفنية التجريبية (بخلاف حجة أدورنو هذه المرة)، حيث أنه يمكن أن يحدث تحولاً أيضاً في الصناعات الثقافية ومنتجات الثقافة الجماهيرية عبر تكنولوجيات الإنتاج الفني المختلفة التي تنتج موسيقى جماهيرية ودراما تلفزيونية وسينما تجارية رائجة وإعلانات وفيديوهات تيك توك وميمز على فيسبوك نستهلكها، لكنها تحمل بصمات عمل فنانين ومبدعين يعبّرون عن استقلاليتهم وذواتهم المتفردة.
أيديولوجية استقلال الفن وعمل الفنانات
من المفارقات التي تدعو إلى التأمل أن كلمة labor بالانجليزية تعني آلام الولادة كما تعني أيضاً كدح العمل. فكأن بطن الحامل المرتفع التي تظهر للجميع وتشير إلى أن المرأة ستصبح أماً، تشبه قمة جبل الجليد التي تظهر من جسد الجبل الضخم المخفي تحت سطح المحيط، أي أن بطن الحامل المرتفع الظاهر هو جزء يسير يخفي كمّاً من كدح العمل اللامرئي من أعمال الرعاية والأمومة والأعمال المنزلية، والتي هي أصل وجوهر كل عمل.
عام 1972، أطلقت الماركسيات النسويات سيلفيا فيدريتشي وماريا روزا ديلاكوستا، القادمتان من صفوف حركة "الاستقلالية الذاتية"، والايطالية سلمى جيمز حملةً عالمية تحت شعار "أجور في مقابل العمل المنزلي". ونشرت فيرتشي كتاباً بنفس العنوان عام 1975 رأت فيها كيف أن الأعمال المنزلية، التي تشمل التنظيف والطبخ وتجهيز البيت والرعاية والأعمال العاطفية وتربية الأولاد، إلى جانب الرضاعة وأعباء الأمومة، هي أعمال فرضها النظام الاجتماعي الأبوي للتراكم الرأسمالي حصرياً، كواجب مفروض ومضمون ومتوقع من النساء. تطرح فيدريتشي مع مجموعة الحملة العملَ المنزلي كأحد أعمال إعادة الإنتاج الضرورية لاستكمال دورة رأس المال من إنتاج واستهلاك وصيانة وإعادة إنتاج، فدونه لا يتمّ الإنتاج ولا تكتمل دورة رأس المال، وذلك لأن العمل المنزلي عمل مخفي ولامرئي، وهو بالتالي غير مدفوع الأجر.
في سياق الفن المعاصر، تفاعلت عدّة فنانات ومنظّرات فن مع أطروحة فيدرتشي منذ نهاية الستينيات حتى اليوم، فأنتجن أعمالاً فنية تشير إلى إمكانية إعادة النظر بالاستقلالية الفنية من خلال النظر في عمل الفنانة أو العاملة الثقافية عبر محاكاة العمل المنزلي، أو العكس، أي مناقشة العمل المنزلي من خلال عمل الفنانة، كون كلا العملين غير مرئيين وغير مدفوعي الأجر. على سبيل المثال، صنعت شنتال أكرمان في فيلمها "جين ديلمان - 1975"، الذي صار من كلاسيكيات السينما الفنية والنسوية، مشاهد بطيئة ومطولة تحاكي الجهد والوقت الذي يستغرقه العمل المنزلي. كذلك، طرحت أعمال الفنانة المعاصرة النسوية الأمريكية الأيقونية ميرلي لادرمان يوكيليس كلاً من السلعةَ الفنية والممارسة الفنية والمنتج الفني كممارسات جمالية، وفقاً لمنهجية أدورنو، فهي ليست فقط سلعاً تقليدية، بل أعمالاً نافيةً تمارسها الفنانة بواسطة السلطة التي منحتها القدرة على التعبير عنها، عن طريق محاكاة النقيض لمساءلة هذه السلطة نفسها، ولزعزعة هيمنتها، وكشف الغطاء عن أيديولوجيتها وتعقيدات سياقها التاريخي والاجتماعي[1]Vishmidt, M., Stakemeier, K. 2016.. Reproducing Autonomy: Work, Money, Crisis and Contemporary Art. Germany: Mute Publishing.. ويؤكّد لنا ذلك كيف أنه لا يمكننا طرح حقوق إنسانية وسياسية وحريات فنية وذاتية كمبادئ كونية، بمنأى عن السعي نحو العدالة الاقتصادية، في سياقاتها الاجتماعية والتاريخية، بحيث لا حقوق وحريات سياسية دون حقوق اقتصادية واجتماعية، فهما صنوان لا ينفصلان.
وهذا بالضبط ما تطرحه ميرل في عملها الأيقوني "مانفيستو من أجل فن الصيانة - 1969"، كمقترح لمعرض "عن الرعاية"، حين تقول إنها فنانة وأم لم يعد لديها الوقت الكافي للإنتاج الفني لأن عمل الأمومة يستهلك معظم طاقتها ووقتها، خلافاً للفنانين الذكور غير المضطرين إلى هذا النوع من التضحيات. وعلى الرغم من ذلك يسألها الكثير من الناس: "ألا تعملين؟" لكن واقع الأمر أنها، كأم، تعمل كثيراً على رعاية الأطفال وصيانة المنزل. لذا، قرّرت ميرل أن تعرض هذه الممارسات اليومية المنزلية للأمومة والرعاية والصيانة في مساحة فنية باعتبارها فناً. تقول "لدي الحرية في تسمية الصيانة فناً. يمكنني أن أجعل الحرية تصطدم بعكسها المفترض وأطلق عليها اسم الفن، ما أسميه فن الضرورة." كما قدّمت سلسلة عروض أدائية عام 1973 قامت خلالها بتنظيف مدخل متحف في هارتفورد في ولاية كونتيكت، ثم عرضت أدوات التنظيف كأعمال فنية. وهناك مثال من مصر. عام 2021، أنتجت الفنانة هاجر عزالدين العمل الفني "ألبوم العمل اللامرئي" الذي يعيد إنتاج فكرة ألبوم الصور العائلي، إلا أن هذا الألبوم يشمل الصور التي لا تلتقطها العائلة لتضعها في ألبومات، فتظلّ متروكة وغير مرئية، وهي صور الأعمال المنزلية كالعمل على ماكينة الخياطة وجلي الصحون وأدوات الطبخ وغيرها، من منظورات مختلفة. وتستخدم عز الدين جماليات منازل الطبقة الوسطى، فتعمل على الصور باستخدام ورق استنسل، وتعرضها في براويز منزلية مزركشة، وعلى صفحات الألبوم المصنوعة من ورق الرز المعاد تدويره، لتجعلنا نرى ما اعتدنا ألا نراه. أي أنها تجعل من أعمال الخلق الفني المستقل ممارسة اجتماعية واقتصادية، وذلك عن طريق إعادة إنتاج ومحاكاة عمليات العمل المنزلي اللامرئي، بشكل يسلط الضوء عليها ويجعلها مرئية عبر العمل الفني.
عام 2020، أطلقت عالمة الجغرافيا والفنانة ماري جرمانوس سابا صفحة على تطبيق إنستجرام بعنوان "لا توجد إجازة أمومة". تجاوز هذا الحساب سمات الصفحة العادية حيث تضع الفنانة صوراً وتعليقات عن يوميات عملها كفنانة - أم أثناء رعايتها لطفلتها، وصار حملة وعملاً فنياً بحثياً للمطالبة بحق إجازة الأمومة غير المعمول به في الولايات المتحدة حيث تسكن الفنانة. وتسلّط جرمانوس الضوء من خلاله على عمل الأمومة غير المدفوع وغير المرئي.
اتخذ عمل جرمانوس الفني-البحثي التجريبي "نظرية العمل للقيمة الفنية"، الذي بدأ عام 2021، أشكال المحاضرة الأدائية والنص والفيلم، كما اتخذ منهجية العمل المنزلي كعمل لإعادة إنتاج التراكم الرأسمالي ليبحث في علاقة العمل المنزلي بعمل الفنانين والعاملين الثقافيين المقلقلين غير المدفوع وغير المرئي، الذي يعمل بدوره على إعادة إنتاج التراكم الرأسمالي في المساحة الفنية والثقافية. كما شاركت ماري في الكتاب الذي أصدرته مؤسسة مفردات عام 2020، ويشمل نصوص عدد من الفنانات المعاصرات وقيّمات فن وتجاربهن كفنانات وعاملات ثقافيات وكأمهات، وهن بسمة الشريف ولارا خالدي وميرين أرسانيوس ونيكي كولومبس ومي أبوالدهب.
وقد يكون هذا الكتاب ألهم بدوره مجموعة من فنانات القاهرة، منهن نادية منير ومي الشاذلي ورانيا عاطف، لاقتراح مجموعة فنية للنقاش والتفكير، وربما الإنتاج، في عملهن كفنانات وأمهات. تسعى تلك الأعمال مجتمعةً إلى تأسيس منهجية فنية حول العمل اللامرئي، فتستخدم مساحة وخطاب الاستقلالية الفنية وحرية الفنان لكي تعيد إنتاج أداءات وعمليات عمل الفنانات وعمل الأمهات الرعائي والأمومي والمنزلي اللامرئي، المستبعدة والمنفية من دائرة العمل والأجر والاقتصاد. ومن خلال حوار واشتباك واضح مع نظرية أدورنو الجمالية، تضعها الفنانات عبر أعمالهن وممارساتهن الفنية في قلب المنتَج الفني، وبالتالي في قلب مساءلة الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية البطريركية التي تراكم أرباحاً مادية ورمزية نتيجة استغلال قوى عمل الفنانات والأمهات والنساء بوصفها أعمالاً لامرئية.
الأمْوَلة والفن المعاصر والمجتمع المدني
منذ سيطرة الأمْوَلة على الاقتصاد الرأسمالي، باتت مساحة الفن المعاصر والثقافة المستقلة في المنطقة العربية هي تلك التي تعيد إنتاج البنى التحتية ذاتها للاستقلالية الفنية المكفولة والمدعومة من دولة ما بعد الاستعمار، ولكن هذه المرة على مستوى ربما أضيق من قبل كيانات غير حكومية. حيث أنه مع بدايات الألفية الجديدة، أصبحت تلك الاستقلالية الفنية مدعومة من المجتمع المدني الدولي واقتصاد المنح العولمي الذي ازدهر مع هيمنة السياسات النيوليبرالية.
هكذا هرولت دولة ما بعد الاستعمار العربية، بعد اتفاق الطائف واتفاقية أوسلو وحرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفياتي، بشكل أسرع نحو تعاليم صندوق النقد الدولي والسياسات النيوليبرالية وخطط التنمية وإعادة الإعمار، تاركة نخبها الفنية والثقافية والسياسية، طليعيي الستينيات والسبعينيات وسلطويي التسعينيات والألفينيات، حراساً لمعبد الاستقلالية الفنية، وذلك من خلال بلاغة جوفاء مغيبة عن الواقع والعالم، تدافع عن أوهام تصوراتهم المهيمنة عن الهوية والوطنية والقومية والالتزام السياسي والتنوير، وعن مصالحهم الخاصة مع الدولة.
على المقلب الآخر، ساد على مساحة الفن المعاصر والثقافة المستقلة فنانون ومدراء ثقافيون وقيّمون فنيون، غالبيتهم من الشرائح العليا للطبقة المتوسطة، ذوو تعليم جيد باللغة الانجليزية، كما نتعلّم من حنان طوقان في كتابها الأخير(2021)[2]Toukan Hanan. 2021. The Politics of Art : Dissent and Cultural Diplomacy in Lebanon Palestine and Jordan. Stanford California: Stanford University Press. نشرت مجلة فَمْ ترجمات … Continue reading. بفضل امتيازاتهم التعليمية والطبقية، كانوا قادرين على ممارسة أنماط العمل المعولمة الجديدة، من كتابة مقترحات وميزانيات مشروعات فنية وثقافية مختلفة إلى السفر الدولي الدائم لبناء شراكات وشبكات إقليمية ودولية مع فنانين وفاعلين ثقافيين وجهات مانحة ومؤسسات فنية. ويوضح هذا التحول طبيعة أدوات الإنتاج الفني الجديدة في ظل الفن المعاصر وهيمنة عصور مابعد الفوردية والنيوليبرالية واقتصاد المعرفة والاتصالات والشبكات على الإنتاج الرأسمالي عموماً.
كذلك قامت هذه المساحات على مأسسة الممارسات المعاصرة التجريبية للفن والكتابة والإنتاج المعرفي، التي تعيد ترميم الاستقلالية الفنية حول الذاتية، لنشهد ذوات فنية جديدة تسع العالم وتتصل به وتشتبك مع واقعها بطرق مستقلة وذاتية وجماعية، بعيداً عن الدولة والالتزام الحزبي التقليدي. فجاءت أولويات الفنانين والفاعلين الثقافيين لتركّز على مبادرات تعليم الفنون المتواصلة مع الإنتاج الفني المعاصر في العالم، إلى جانب الاشتباك النقدي مع السلطات والخطابات المهيمنة جمالياً وثقافياً وسياسياً، والمدعومة من قبل النخب الثقافية والفنية السلطوية القديمة أو المرتبطة بالدولة.
إذاً، في السنوات العشر الأولى من الألفية، لم يكن على قائمة أولويات الفنانين المعاصرين الاشتباكُ مع البنى السلطوية التقليدية فيما يخص الاقتصاد السياسي للإنتاج المعرفي وأيديولوجية استقلالية الفن المعاصر المكفولة من قبل المجتمع المدني الدولي واقتصاد المنح العولمي، على اعتبار أن مؤسسات الفن المعاصر وحقوق الإنسان والعمل التنموي المجتمعي هي نتاج نيوليبرالي خالص، وفي الوقت ذاته أماكن عمل. هذا كان بالمقارنة مع أولوية أكثر إلحاحاً، وهي تأسيس شبكة بنى تحتية نشيطة ومشتبكة لمساحات الفن المعاصر والثقافة المستقلة في العالم العربي. وهو ما يبدو متناسقاً تاريخياً واجتماعياً مع طبيعة الصراعات مع الأنظمة السلطوية العربية والأوضاع السياسية والاقتصادية حينها.
مع صعود الانتفاضات العربية حركات احتلالات الميادين الأخرى في العالم ومن ثم أفولها، بات ملحاً الاشتباك مع مساحة الفن المعاصر نفسها، كونها مساحة تراكم رأسمالي و هيراركية طبقية واستغلال ومراكمة عمل فنانين وعمال ثقافيين كعمل يعاد إنتاجه دون أجر، بدعوى أنه تدريب أو تطوع أو تشبيك أو عرض وانتشار، ظاو بسبب استغلال المؤسسات الفنية الكبيرة للمساحات والمشاريع الفنية الصغيرة المبتدئة. لذلك، ظهرت تحالفات ومجموعات فنية تتكوّن من العمال الفنانين والعمال الثقافيين من أشهرها W. A. G. E بالإضافة إلى مطبوعات وكتب لمناقشة وبحث سبل مواجهة تلك القضايا الملحة.
مع عودة الهيمنة لقوى الثورة المضادة في العالم العربي، وتركز سوق الفن في دول الخليج العربي، وتآكل غالبية البنى التحتية لمساحات الفن المعاصر التجريبية والنقدية، ظهرت بعض المجموعات كي تناقش قضايا العمل الثقافي وعمل الفنانين في المساحات والمؤسسات الفنية بشكل يحيي الأمل دوماً في إمكانية العمل الفني، منها "مجموعة ق.ل" في مصر و"تجمع عاملات وعاملين في الفن والثقافة في لبنان". تدفعنا تلك المبادرات إلى النظر إلى مساحة الفن المعاصر ليس كمساحة للتراكم الرأسمالي فحسب، بل كمساحة عمل وتنظيم وإضراب أيضاً. وعليه، لا تتشكّل الاستقلالية الفنية ولا يصبح لها معنى فعلي إلا من خلال عمل الفنانين والمنتجين الثقافيين المضني، كالعمال الثقافيين المقلقلين عبر التنظيم والحوار والتفاوض والصراع نحو استقلالية وحرية فنية يصنعونها بعقولهم وأياديهم على مستويين لا ينفصلان: المستوى المادي المؤسسي، والمستوى اللامادي الفني الإبداعي، الذي يسعى دوماً لمساءلة كل مستقر ومتسلط ومهيمن من أجل استعادة خيال كل ما تمّ نفيه واستبعاده، وللإنصات لمن تمّ اسكاته والتواطؤ عليه.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
جزيل الشكر للأصدقاء الأعزاء مي طه وهيثم الورداني وسامر فرنجية وليلى أرمن على ملاحظاتهم ومساعداتهم التحريرية.
علي حسين العدوي
علي حسين العدوي قيّم أفلام ومشروعات فنية بحثية وناقد وباحث ,يحرر أحيانا ويكتب في أحيان أخرى.
Footnotes:
↑1 | Vishmidt, M., Stakemeier, K. 2016.. Reproducing Autonomy: Work, Money, Crisis and Contemporary Art. Germany: Mute Publishing. |
---|---|
↑2 | Toukan Hanan. 2021. The Politics of Art : Dissent and Cultural Diplomacy in Lebanon Palestine and Jordan. Stanford California: Stanford University Press.
نشرت مجلة فَمْ ترجمات لمقتطفات من كتاب حنان طوقان في عددها العاشر/المال. |