
الشاعر لا يستطيع أن يواكب، إنه يتباطأ. (…) على شخص ما أن يتعثر في المؤخرة، ولو فقط من أجل التقاط ما جرى دهسه وضياعه في موكب انتصار القوانين الموضوعية.
— فيسوافا شيمبورسكا، قراءة غير ملزمة، ترجمة إيمان مرسال
.1
ليس في النهار هو الليل (2024، Night Is Day \ Contretemps) لغسان سلهب سوى عين واحدة. هي كاميرا وحيدة ثبّتها المخرج على صدره، منذ لحظات الاحتجاجات الأولى في بيروت في تشرين الأول 2019 حتى الشهر الأول من إبادة الفلسطينيين في غزّة. [1] خالص الشكر لمؤسسة Civitella Ranieri التي منحتني الوقت والمساحة لكتابة هذه المقالة. هي مشاهد طويلة، مَنتجَها سلهب على ما يدنو من ستّ ساعات في خطّ زمنيّ بطيء للأحداث المتلاحقة التي شهدنا عليها طوال السنوات الخمس الماضية.
في ما يبدو وكأنه بداية الاحتجاجات، يمشي المُخرج-المتظاهر مع مجموعات نسوية تصلنا هتافاتها ويافطاتها من خلال عينه التي تتأنّى في رصد التفاصيل التي يشاهدها أمامه، والتي يسجّلها ويدقّق بها ويحفظها في مشاهد طويلة ومتّصلة. تلتقط عدسته أدقّ التفاصيل الثانويّة — العرق المتجمّع على جبين متظاهِرة، قبضة يد قاسية لحظة مواجهة العسكر، حاجب جندي مكفهرّ— بوصفها الأكثر قدرة على الإفصاح. نرى كيف تحمل الناشطات بصمت وثبات اليافطة العريضة ذاتها التي كنّ قد حملنَها على مدى سنوات في اعتصاماتهنّ في المدينة، إما دعماً لقانون الأحوال الشخصية، أو تنديداً بمقتل نساء على يد رجالهن، أو بعد مقتل عاملة أجنبية: النــــظــــام الأبــــــــوي قـــــــــاتـــــــل.
برغم السخرية من المثالية، والذي قضيتُ سنوات أنمّيها كسبيلٍ وحيدٍ للحياة في هذه المدينة، وجدتُني أرضخ لحنين خجول لتلك اليافطة ولكلّ ما فيها من تكثيف سياسي وشاعرية فجّة. لكنّ الحاضر ما لبث أن أعادني إلى مكاني. فاليوم، أي بعد سنوات على تلك المشاهد، بتُّ أدرك أن النظام الأبويّ القاتل نفسه، ذاك الذي تندّد به النسويات في الفيديو، سيزداد توحّشاً. فكّرتُ لوهلةٍ لو كان بإمكاني أن أُحذّرهنّ، هنّ اللواتي يسرنَ إلى المستقبل بكثيرٍ من الإصرار والفرح، ألا يستعجلنَ كثيراً. فها أنا اليوم أسكن ذاك المستقبل، إلا أنه يبدو ناقصاً، بل مشوَّهاً بفعل غيابهنّ: فهذه هاجرت، وتلك رحلت، وتلك اكتأبت، وتلك صمتت.
لم تكن قد عدّت عشر دقائق على الفيديو حتّى بدأ الوجع يبدو ثقيلاً، فلماذا، إذاً، البقاء؟
“Loss — Season 1,” Zeina G. Halabi, December 11, 2020
2.
لا أتحرّك من مقعدي، لأن على المقلب الآخر من العجز الذي سيزداد، أعرفُ أنّ في رصد سلهب لمصير تلك الجماعات، ما يعنيني شخصياً، وما يخصّ عالمي الحميميّ. أنظر إلى المتظاهرين والمتظاهرات، وألمحُ وجوهاً أليفة: مَن كان صديقاً وبعُد، مَن كان بعيداً وهجر، من كان هنا ورحل، من كان يقظاً وغفا، من تعاطى الحلم فانكسر. أرى ذاك الذي وقف على الحافة ضاحكاً، ثم هوى. أُحصي تلك الوجوه الأليفة ويجتاحني شعور، لا هو حنين مكتمل ولا هو مرارة نقية، بل قرصة في الأمعاء تُنبئ بقساوة ما لا بدّ له أن يأتي. ولكنّي بقيتُ مكاني، وكأنّي سلّمتُ لسلهب دور اجتراح لغة سينمائية تقول شيئاً لم يُقَل عن السنوات الخمس الماضية.
وفيما كنتُ أُحصي وجوه المحتجّين، لمحتُها.
كانت تسير في نزلة بشارة الخوري، مختبئةً وراء نظاراتها، تحت خصلات شعرها الأحمر، يلفّ رقبتها شال نبيذي سميك. اليوفوريا التي كانت تُسكر الجميع في ذلك المشهد، لم تكن كافيةً لإسكات القلق الذي كان يقضم أحشاءها. كانت ترتاب من كل ذلك المرح، حتى من شوارع المدينة التي تفتّحت لها فجأة. كانت تتجنّب الصداقات المتحلّلة، أطياف الماضي القريب قبل البعيد. تنظر فجأةً إلى كاميرا سلهب، لأقلّ من ثانية واحدة، قبل أن تتابع سيرها. ذهبتْ يومها عند المحلِّلة النفسيّة وقالت لها إنّها تشعر بالقلق من كلّ شيء، وإنّ الأشباح تمشي جنبَها نهاراً وتؤانسها ليلاً.
“Loss — Season 2,” Zeina G. Halabi, April 16, 2021
3.
الموسم: العنف
المكان: ثكنة الحلو
مجموعة من المتظاهرين يقفون أمام الثكنة يصرخون بوجه الشرطة مطالبين بإطلاق سراح رفاقهم المعتقلين. أحدّق في الشاشة ولا أرى المرأة ذات الشعر الأحمر. لكنكِ كنت هناك. وقفتِ تدخّنين وأنت تنتظرين إطلاق سراح الشبان الذين وإن كنت لا تعرفين عددهم ولا أسماءهم، إلا أنك شعرتِ بحب قديم لهم. كيف اقترب منك الرجل الخمسيني الذي بدأ بالهذيان: الاستخبارات الأميركية تلاحقه والطائرات السوفياتية تحوم فوقه وفرق من الجيش قد سمّمت طعامه. يخبركِ كل ذلك بنَفَس واحد. تحدّقين في عينيه، تشعلين له سيجارةً، وتصدّقين كل كلمة يقولها. تدركين تماماً أن لا فرق بين الارتياب الذي يسكنه وذاك الذي يطحنكِ وأنت تردّدين شعار «لا ثقة تسقط العصابة» مع طلوع كل فجر، سوى قدرتك على توفير الأمان والعلاج لنفسك.
إلا أنّ حبل التماهي طويل. ستلتقين الرجل الخمسيني مجدداً بعد أسبوع كامل — نعم، هو نفسه — في حشد من المحتجين على جسر الرينغ والقنابل المسيلة للدموع تشعل الأفق. كما في المرة السابقة، يقترب منك دون سواكِ (أولستِ أنت التي تبحثين عنه كل مرة؟)، وهو يحمل طفلته على كتفيه وزوجته تصفّق جنبهما. يدعوكِ أن تغنّي لطفلته التي تحتفل بعيد ميلادها الرابع، فتغنّين مع الجموع بأعلى ما أوتيت من فرح: ســــنـــــة حــــــلـــــوة يــــــا جــــــمــــــيــــــــل، علّ ما يطارده ويطاردك ينساكما قليلاً. هكذا يتقابل المرتابون في ساحات المدينة وهم يبحثون عن أمن فقدوه.
تتعاقب في الفيديو أزمنة حياتنا وتتكثّف. فعلى مدى ساعات طويلة، اختبرتُ الوجع الذي عرفتُه طيلة خمس سنوات وهو يحتلّ قوالب مختلفة بحسب مواسمه المتعاقبة. مواسم لا تلبث أن تعود دون أن تتكرّر، لأن الوجع يأخذ فيها أشكالاً مختلفة، من وجع التعاطف إلى وجع التماثل.
على الشاشة أمامي، مظاهرة تطالب بالكشف عن ملابسات اغتيال شاب بدم بارد. كيف لم تغفي ليلتها، بل سهرت حتى الفجر تبكين ذلك القتيل المجهول، المألوف. كيف طلبت موعداً عاجلاً من المحللة النفسيّة وذهبت إليها متّشحةً بالسواد، فاستقبلتك بفستان أسود، وكأنكما متواعدتان على دفن أحدهم. كيف طرتِ من عيادتها وشب جديد يصدح، بل يهمس لك وحدك: «وما نهاب الموت/ لو جاني الموت/ تراني احط عينيه بعيني»، كيف استهديتِ إلى بلدة القتيل، وجلستِ في سيارتك الصغيرة وشعرك الأحمر يغطي عينيك الحمراوين، تتأمّلين المعزّين يدخلون مجموعات نادبة وغاضبة. كيف توقفت سيارة أمامك فنزلت منها امرأة شقراء يحملها رجل من كل كتف كي لا تسقط من حزنها. سار الجميع إلى الأمام، إلا الأرملة الشقراء توقفت والتفتت إلى الوراء وحطّت عينيها في عينَيْ تلك الغريبة — في عينيك أنتِ — والموت يحدّق فيكما.
أُكمل المشاهدة لأنّي بتُّ أعرف أنّ سلهب سيوسّع لي المساحة كي أحفر عميقاً في الذاكرة، وأنّ ما هو مُقبِلٌ أشدّ قساوةً. شعرتُ أنّي عالقة في كرسيّ، ثم عدتُ واستسلمتُ لتجربة أن أشاهد تعاقب الأزمنة وكأنها في حلقة مقفلة تتكرر ببطء. إلا أنها مع كل عودة، تصبح أكثر كثافةً، فتزداد حدّتها، كما ثقلها. في مواسم الوجع الجديدة، يعلو صوت الرصاص على الهتافات، وتتوسع الحلقات النسوية أمام وجوه ملثّمة تواجه السلطة بالحجارة وأجساد نصف عارية.
“Loss — Season 3,” Zeina G. Halabi, June 11, 2021
4.
لا يدعونا سلهب لمواجهة الماضي وحسب، بل يواجهنا بحاضرنا المبتور أيضاً. فها أنا الآن أجلس في السينما، في مستقبل المشاهد التي وردت في الفيديو. أنظر إلى الشاشة فأرى نسخةً منّي، نسخة خسرت الكثير لكنّها لم تخسر كل شيء بعد، لأن الفيديو وصل الآن إلى ربيع 2020، وأعرف أنّ الخسارة الكبرى والأكثر إيلاماً قد اقتربت. تتصاعد دقات القلب ويضيق النفس وأنا أتهيّأ لما سيأتي، وأودّ لو كان بإمكاني أن أحذّر المتظاهرين الذين يمشون وخلفهم البحر أن النــــظــــام الأبــــــــوي قـــــــــاتـــــــل فعلاً، وإنه سيحاول قتلهم يوم 4 آب 2020.
لا يمثّل سلهب صوت دويّ انفجار ثلاثة آلاف طنّ من نترات الأمونيوم في المرفأ. لا نرى منها في الفيديو سوى سحاب أحمر فوق السطوح، يرافقها صمت طويل. ينأى سلهب عن ابتذال السلطة وأدواتها الفنية في تمثيل الانفجار، فيقدّم مساحة للدلالة على الكارثة، ليس بوصفها نصباً لذاكرة متحجّرة نقف أمامه وننظر إلى الأعلى لنتأمّل عظمته، بل بوصفها حفرة لا يدلّ عليها إلا أولئك الذين وقفوا يحصون الأموات.
يقطع صمت الانفجار صوت إحدى الناشطات وهي تتلو أسماء القتلى الـ236 الذين سقطوا، إسماً بعد الآخر. شعرتُ بغصّة امتنان لأنّ مَن يجلس إلى جانبي قد نجا من الانفجار صدفةً، وها هو الآن يمسك بيدي المتعرّقة. إلا أنّ الناشطة عندما تصل إلى الجثث المجهولة، تلك التي لم يطالب بها أحد، تقرأ بسرعة تكاد تكون جارحة: «مجهول الهوية، مجهول الهوية، مجهول الهوية… مجهولة الهوية، مجهولة الهوية، مجهولة الهوية…».
أدركتُ أنّه كان كافياً لسلهب أن يمثّل الانفجار بوصفه ضحايا مجهولين وحفرة واحدة، حتى أدرك أنك لم ترتطمي بقاعها بعد.
يطرح سلهب قراءات مختلفة عن جدلية الصمت والقول. يقدّم في ذلك الفيديو الصامت معجماً عن أصوات الوجع، منها صيحات المتظاهرين الجرحى ورصاص الشرطة الحي وعجلات الدبابات. لكنه مع تقدّم السرد الزمني في الفيديو والهبوط إلى الجائحة التي قضت على كل حركة، يتوقّف عند صوت المطر والعصافير والرعد، أي التمثلات الطبيعية التي لا يلتفت إليها أحد، والتي صار زمننا يتحرّك على إيقاعها. فرغم أن في الفيديو أصواتاً كثيرة، إلا أنه يبقى عملاً صامتاً.
يجعلنا سلهب نتساءل كيف يمكن لفيديو خالٍ من الحوارات أو أي إشارات شرحية أن يظلّ قادراً على الدلالة على العنف الكامن في تلك المواسم المتعاقبة، وأن يرينا مآل الأحلام التي لم تتحقّق. نتساءل أيضاً كيف يمكن لتلك المشاهد الصامتة أن تقدّم قولاً مكتملاً عن الصمت، ليس بوصفه تعليقاً للكلام، بل استمراراً له، لا بل تكثيفاً له، في مواسم الوجع العصيّة على التمثيل.
“Loss — Season 4,” Zeina G. Halabi, August 25, 2021
5.
يصوّر سلهب اللغة ركناً إضافياً في تعاقب أزمنة الوجع. فيعود إلى منطق النقصان في تصوّره للّغة وقدرتها على التعبير. هكذا تبدو عناوين الفصول في الانجليزية والعربية مشروطة بالنقصان، متباينة أحياناً بالمعنى، بوصفها عاجزة عن التعبير تماماً عن كل ذلك الوجع الذي توحّد معه المخرج حتى التماهي.
تمدّد الوجع حتى اخترق حدود الإطار السينمائي ليطال المخرج نفسه. يسترجع سلهب من خلال جمل على الشاشة حواراته مع والدته المريضة التي بدأت تنسحب من الحياة، وصولاً إلى وفاتها. لا فيديوهات للأمّ سوى مشهد ليَدِ امرأة مسنّة تتدلّى من السرير، وصورتين بالأبيض والأسود لامرأة مع مَن يبدو أنه زوجها، وأخرى للأمّ مع سلهب الصغير. لا تمثيل لذلك الوجع، بل مجرّد كلمات تسرد مشهد موتها واللحظات الأخيرة قبيل دفنها.
تحجّم خسارةُ الأمّ الخساراتِ الجماعية التي تعود وتحجّم خسارةَ الأمّ. فلا مساحة لوجع سلهب الفردي أمام أزمنة الخسارات الجماعية، إلا أني أستدرك لأقول إنّه لا سبيل لسلهب (ولا لأيٍّ منّا) لاحتساب الخسارات الجماعية إن لم يتمّ الحداد على خسارته الفردية. وكأنّ الوجع في حلّته الجديدة، يمكن أن يكون على هذا القدر من الحميمية أيضاً، على هذا القدر من الرقّة.
كيف لعمل عن مواسم الوجع المتعاقبة أن يُختتَم؟
6.
في الدقائق الستّ الأخيرة من الفيديو، تبدأ إسرائيل بإبادة غزة. للمرة الأولى في الفيديو، يظهر مقطع صوتي يسرد فيه المتكلم، بصوت رقيق خافت، القلق الذي تسرّب إلى محادثة مع صديق فلسطيني في بيت لحم، ويتذكّر كيف ساد المحادثةَ صمت وفراغ. ينتهي الفيديو.
الموسم: الإبادة
الزمان: 17 تشرين الأول 2023 (هل تصدّقين إنها كانت في الذكرى الرابعة لانتفاضة تشرين؟).
المكان: مستشفى المعمداني في غزة حيث اغتال الاحتلال أكثر من 500 مريض فلسطيني.
كيف بلعتِ مهدِّئاً، وكم كان نومك عميقاً. حلمتِ بأصواتٍ تنشد بالأخضر كفنّاه، بالأحمر كفنّاه، بالأبيض كفنّاه، بالأسود كفنّاه. كيف بدأ صوت المنشدين يعلو حتى انضممتِ إليهم في الحلم وبدأتِ تنشدين معهم. كيف فتحتِ عينيك فجأة لتدركي أنهم ينشدون تحت شرفتك.
أعلم تماماً أن سلهب لم يرفق أي مشاهد من تلك الليلة، لأنه وببساطة لم يكن في غزّة. ولو أني لم أرَ مشاهد عن تلك المجزرة، إلا أن الفيديو كان قادراً على استحضارها وجعلي أدرك كيف يتسلّل وجع الشهادة على قتل الفلسطينيّين إلى اللاوعي. هكذا، وعبر الدلالة على اثر الصمت والإبطاء كممارسة سينمائية، يقدّم لنا سلهب المساحة التي تنتظرها ذاكرتنا الانفعالية كي تخرج إلى الضوء.
فيما أكتب الآن، لا تحضرني تفاصيل أخرى من الفيديو حول الوجع في موسم الحرب على غزة. هل لأن ذلك الموسم بدا لي زائداً؟ أم لأنّي، بعد كل عنف السنوات التي سبقت الإبادة وكل ما أيقظه فيّ الفيديو، قد طالني خدر الوجع؟ أم لأنّ الإبادة، على عكس أحداث 2019 وما تلاها، لم تنحسر بعد، ووجعها لا يكفّ عن التمدّد؟
“Loss — Season 5,” Zeina G. Halabi, September 6, 2021
7.
تتوالى مواسم الوجع في في «الليل هو النهار» وتنحدر. يقدّم سلهب منمنمة ضخمة عن فصول الوجع المتتالية في خطّ تنازلي: أن يتجلّى الأمل أمامك وأنتِ مدركة علامَ سينتهي، أن تخافي على مجهولين لا تعرفين متى بدأتِ تحبّينهم، أن تكوني قد ضحكتِ وأنت تهتفين ضد الطبقة السياسية غافلةً عن أطنان النيترات التي خبأتْها لك، أن تحوّلكِ الجائحة من متظاهرة تبصق بوجه النــــظــــام الأبــــــــوي القـــــــــاتـــــــل إلى قاصرة تحتمي بسلطته من خطر الوباء، وتخشى الغرباء أنفسهم الذين علموها يوماً كيف تتنفس رغماً عن الغاز المسيل للدموع.
لكن هناك وجع يخص أعداد الناس. كيف بدأ كل شيء مع عشرات الآلاف الذين افترشوا الشوارع، والذين صاروا آلافاً في فيديو سلهب، ثم العشرات الذين حضروا عرض الفيديو، انتهاءً بالقلّة التي صمدت خلال ساعات العرض الست تحتسب خسائرها.
يدعونا سلهب، من خلال ما تلتقطه عينه-عدسته، لتتبُّع الآمال، لكن أيضاً الخسارات التي لم نلحق التوقّف عند كل منها، لأن ما تلاها كان دائماً أشدّ قساوةً. يتوقّف عندها بتباطؤ يشي برفضه لمنطق الانتاج الميكانيكي للوجع والعنف التاريخي المشروط عليه، لا سيما في السياق اللبناني. فالتباطؤ في الفيلم هو حفر في التفاصيل الثانوية والهامشية التي سقطت عن سردية الخسارات المتلاحقة.
هكذا يكون فيديو سلهب مكاناً للذاكرة، لا بمعناه الرسمي والسلطوي، بل بوصفه الوقت الذي لم يتسنَّ لنا بعد، والذي ظننّا أنّنا لن نُمسك به أبداً، ونحن في دوامة الكوارث المتلاحقة. هي الساعات الست التي قدّمها دون انفعال ولا خطابية، كي نستدعي الوجع فنراه يتحوّل أمامنا، ونرى عالمنا ينفرط وفق مواسمه، بكل ذلك العنف، بكل تلك الرقة.
سوف نَقبل «الليل هو النهار» لغسان سلهب، إذاً، كهدية. قد تكون هدية ثقيلة، لكنّها تقدّم المساحة للتباطؤ، كي نقتفي أخيراً أثر مواسم الوجع المتعاقبة على المدن والمجموعات والعلاقات والأجساد وذاكرتها. علّنا نلتئم.
“Loss — Season 6,” Zeina G. Halabi, August 3, 2022
Zeina G. Halabi is a writer, editor, and scholar of modern Arabic literature. Her research explores the contemporary legacy of 20th century emancipatory traditions, texts, and figures, with a regional focus on Egypt and the Levant. She is the author ofThe Unmaking of the Arab Intellectual(2017) and essays and translations on topics ranging from literature to music and visual culture. She is currently Research Associate at the Orient Institute in Beirut and the Arabic Editor ofRusted Radishes: Beirut Literary and Art Journal. She is no lover of translation, yet certain texts overtake her, insistently and without warning.
زينة الحلبي كاتبة وأكاديمية ومحررة مختصّة بالأدب والثقافة المعاصرة. صدر لها كتاب عن نقد المثقّف العربي في الأدب والسينما منذ تسعينيات القرن الماضي، إضافةً إلى نصوص وملفات وترجمات عن الأدب والموسيقى والفنون البصرية. تعمل حالياً باحثة في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية ومحررة القسم العربي في «فَمْ: مجلة بيروت الأدبية والفنية». لا تهوى الترجمة، ولكن هناك نصوص تعترضها دون خجل أو سابق إنذار.
Footnotes:
| ↑1 | خالص الشكر لمؤسسة Civitella Ranieri التي منحتني الوقت والمساحة لكتابة هذه المقالة. |
|---|



