Skip to main content

Essays | مقالات ذاتية

بحثاً عن قهوة في غزة

CONTRIBUTOR
المساهم/ة
نهيل مهنا

ARTIST
الفنان/ة
Amy Chiniara

WRITER
الكاتب/ة
نهيل مهنا

TAGS
الوسوم
web-featured, سيرة

PDF

SHARE POST
للمشاركة
CONTRIBUTOR المساهم/ة
نهيل مهنا

نهيل مهنا روائية وكاتبة مسرحية من مدينة غزة، فلسطين. كتبت مسرحيات حائزة على جوائز، ونشرت مذكراتها باللغة الإنجليزية طوال الإبادة الجماعية في صحف عالمية. تكتب عمودًا شهريًا في صحيفة برلينر تسايتونغ الألمانية. باللغة الإنجليزية، حرّرت مختارات «فلسطين في كل مكان» (TBA21 - إسبانيا، 2025)، و«أصوات المقاومة: يوميات الإبادة الجماعية» (Comma Press - المملكة المتحدة، 2025). باللغة العربية، نشرت رواية «ممنوع دخول الرجال» (الدار العربية للعلوم، 2021)، ومجموعة القصص القصيرة «حياة في متر مربع» (مركز أوغاريت الثقافي، 2008).

WORKS BY THIS CONTRIBUTOR
أعمال للمساهم/ة
نهيل مهنا
Essays | مقالات ذاتية

بحثاً عن قهوة في غزة

By نهيل مهناAugust 6, 2025No Comments

أغسطس 2024

كنتُ قد قدّمتُ طلبًا للحصول على منحة تفرّغ للكتابة في شتوتغارت، وطلبتُ من اللجنة ألا يكون السفر ضمن شروط القبول، إذ لا تزال الأمور المتعلقة بمعبر رفح الحدودي والسفر عالقةً ومعقدة.

كان هناك مشكلتان:

الأولى: تجميع الأوراق المطلوبة لاستيفاء الطلب.

الثانية: التواصل مع المُساعدة التي ستتولّى ترجمة هذه الأوراق لضمان القبول.

أنا الآن نازحةٌ من بيتٍ إلى آخر دون أوراق رسمية، ثم أن التواصل عبر الواتساب مع المساعدة أمرٌ بالغ الصعوبة بسبب عدم توفر الإنترنت، وإن توفّر، تكون خدمته سيئة.

عندما وصل في الأول من أغسطس بريد إلكتروني يُبلغني بالقبول، لم أكن في البيت، وبالتالي لم أكن متصلةً بالإنترنت. كنتُ، كعادتي، خارج البيت أشتري كوبًا من القهوة، إذ إن الغاز والحطب والخشب وورق الكرتون وأوراق الجرائد قد نفدت، مما جعل إعداد القهوة في المنزل مهمةً مستحيلة. أو ربما كنتُ أمارس عملي الميداني في المدارس ومراكز الإيواء.

عندما اشتريتُ بطاقة إنترنت فور عودتي إلى البيت، تسارعت إشعارات المسنجر. تخبرني مساعدتي بضرورة تفحّص بريدي الإلكتروني. كانت فرحتها بقبولي في المنحة التي تضمنت فقط دعمًا ماديًا لمساعدة الكتّاب والفنانين على إنجاز أعمالهم الأدبية والفنية في أماكن إقامتهم، أكبر بكثير من فرحتي.

نحن في غزة، منذ اندلاع الحرب، أصبنا بالخوف حتى من الفرح، فالفرح مسؤولية، والأمل في تغيير أي شيء فخّ. لكني فرحتُ كثيرًا، وامتلأت صفحة المسنجر بقلوب التهاني والتبريكات. لكن هذه المنحة، التي استغرق تقديم طلبها أسبوعين، استغرق وصول نقودها أربعة أشهر. 

ألم أقل إن الفرح مسؤولية، وإن الأمل فخّ؟

 

أكتوبر 2024

في تاريخ السادس من أكتوبر، مضى على الحرب حتى هذه اللحظة سنة كاملة. للمرة الثانية، حاصرت الدبابات مخيم جباليا، واقتربت من المستشفيات ومنعت حركة الدخول والخروج. توافد الناس إلى مناطقنا حاملين الأمتعة وبراميل المياه وصناديق الطعام والشراب والأغطية والفرش. تعلموا من الدرس الأول القاسي: عندما تنزح خذ كل ما تستطيع أن تحمله، حتى لا تصاب بذلّ المكان. حمّل ما تستطيع من أمتعة، وأسقط ما تستطيع من الذاكرة والعشم، فلا فائدة منهما في هذه الأوقات.

بعد دخولهم جباليا بأسبوع، وسّعوا مساحة الإخلاء حتى شملت جباليا النزلة وآخر الشيخ رضوان ومشارف حي الجلاء، بعدها تمركزوا في بيت حانون وبيت لاهيا أقصى الشمال. ترك السكان أشجارهم وحبات الزيتون، وكذلك السلالم المعلقة على الجذوع. فلقد بدأ الموسم بطقوسه، لولا اجتياح الدبابات في المنطقة. وهناك من ترك أحذيته وملابسه الشتوية ظنًا أن العملية العسكرية ستستغرق أيامًا أو أسابيع، وهناك من حالفه الحظ ونزح بأمتعته، ومنهم من حالفه الوقت ونزح بملابسه وحذائه فقط، ومنهم من لم يحالفه الحظ ولا الوقت، فبقي تحت القذائف والنيران والقصف الجوي.

السابع عشر من أكتوبر. لدي موعد عند دكتور الأسنان، وهي العيادة الوحيدة التي فتحت أبوابها لتستقبل المتألمين في مقر غير مقرها المهدوم والنائي. بعد شهرين من الانتظار بسبب ظروف العيادة الصعبة وكثرة عدد المرضى وشح المواد، وانعدام إبر البنج، تم تحديد موعد خلع الضرس في هذا اليوم.

إنه ضرس عقل، وكل شخص ليس لديه سوى عقل واحد.

وقت العصر، عدت من العيادة.

وضعت يدي على خدي، محل الضرس المخلوع. كنت أشعر بالدوخة والإعياء وأنا أمشي باتجاه البيت باحثة عن مشروب البراد، فقد نصحني به الطبيب ليخفف الألم الناتج من الخلع، وحتى لا يحدث مضاعفات أو ورم في اللثة في ظل انعدام المسكنات في الصيدليات بسبب استمرار إغلاق الطرق والمعابر ومنع وصول الأدوية.

فلم أجد مسكنًا ولا حتى برادًا. أخبرني البائع أن كيلو السكر أصبح بـ60 شيكلاً، فطلبت منه قالب ثلج، فلا أحتاج إلى سكر ونكهات لتخفيف الورم. أخبرني أنه لا يوجد ألواح طاقة شمسية ولا سولار للماتور، وعليه أغلق دكانه منذ أيام واتجه لبيع الشموع ونكاشات الأذنين وبكرات الخياطة وأصابع السيليكون الحرارية وأعواد الثقاب ولفات اللزق. فجأة، علا صراخ الناس في الشارع، كانت قد عاودتني الدوخة والإغماء بسبب الخلع.

«اغتالوا السنوار، اغتالوا السنوار». لوهلة، ظننت أنني أهلوس بسبب الألم، فعبرت شارعًا التفافيًّا حتى وصلت البيت. وعندما وصلتُ هاتفي بالإنترنت، الأمر الذي استغرق خمس عشرة دقيقة كاملة، وجدت الصفحات ووكالات الأنباء تعج بالخبر.

 

سعر البيضة بغزة 14 شيكلاً

«هل هي بيضة ذهبية؟ وهل يشتريها أحد فعلا؟!» هذا ما قلته للبائع حين ذكر السعر بفخر.

بات صنع الكيك بدون بيض والعجة بلا بيض عادة شائعة، فلقد أزلنا البيض من قاموسنا. فعندما وصلتني رسالة تخبرني أنني سأحصل على كرتونة بيض من كوبونة الأونروا شعرت بسعادة غامرة. أخفيت الكرتونة بدقة داخل كيس بلاستيكي خشية حسد المارة وفضول البائعين. عندما وصلت إلى المنزل، تعالت الهتافات والقبلات وكأنني أحضرت معي الأقصى شخصياً. أعددنا طبقاً مليئا بالبيض المقلي بزيت الزيتون، وأكلنا أصابعنا وراءه حرفيًا وليس مجازًا.

 

نوفمبر 2024

نجحنا في توصيل خدمة الإنترنت عبر الراوتر بجهود من شركة جوال والاتصالات الفلسطينية بالتل في مدِّ الخطوط، وكنا من أوائل السكان الذين قاموا بتقديم طلبات. فلقد هرمنا من الشريحة الإلكترونية التي تلتقط إشارة عابرة من الشارع، ثم مقاهي الإنترنت وفضول روادها وانعدام الخصوصية. بعدها، كانت البطاقات البخيلة التي تمدك فقط بسبع ساعات متواصلة، وعليك أن تشبكها في هاتفك ثم تفصلها لتعيد شبكها في اللابتوب، وإلا ستحتاج إلى بطاقتين أو ثلاثاً في اليوم الواحد. ناهيك عن مزاجية موزع البطاقات في المنطقة؛ فلربما تحتاج الإنترنت حالًا، وهو في هذا الوقت نائم أو لا يجيب على هاتفه أو في زيارة لأحد الأصدقاء والأقارب، وعليك أن تنتظره. يعني إنجاز مهامك مرتبط بوقت فراغه وتفرغه ومزاجه السمج.

في العمل، وقع الاختيار عليَّ لتدريب مجموعتين من الفتيات من أجل إخراج قصص من غزة وتحويلها إلى حلقات بودكاست، وذلك بتاريخ الخامس عشر من نوفمبر، ضمن مشروع «أصوات من غزة». تمّ اختيار الفئة الأولى من طالبات المرحلتين الإعدادية والثانوية، بينما ضمّت الفئة الثانية خريجات جامعيات وإعلاميات. كنت أخاف عليهن من الطريق، وتناقشت مع إدارة المشروع حول ضرورة توفير حافلة تنقلهنّ من بيوتهنّ ثم تعيدهنّ، حتى لا يصيبهنّ أي مكروه أثناء التنقل. اعتذرت إدارة المشروع عن تلبية مطلبي لاستحالته، واكتفت بتوفير مواصلات عامة من الموقع وإليه.

تمّ حجز قاعة في الطابق الخامس، مزودة بمصعد كهربائي يعمل بالمولد، ومجهزة بالكهرباء والإنترنت والبروجيكتور والتكييف، الأمر الذي جعل إقناعهنّ بالمغادرة بعد التدريب إلى بيوتهن أمرًا شبه مستحيل، يفوق استحالة تأمين الحافلة.

Amy Chiniara, “Il y’a une fissure dans le mur” (Brush pen and Photoshop, 2016)

دلق القهوة في غزة ليس خيرًا

منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة، ونحن نعاني من انقطاع القهوة، وإن وجدت، يكون سعرها باهظًا، بحيث يصل سعر الأوقية إلى 90 شيكلاً. هناك تعبير… ولكن الآن أصبح من غير المسموح أن تندلق وتقول: «لعله خير»، بل ستشعر بخسارة بسبب تكلفتها العالية. المشكلة ليست فقط في السعر، بل في كيفية غليها. فمنذ عشرة شهور، وسكان شمال غزة يعتمدون على حافظات الحرارة، التيرموس، لحفظ الماء الساخن طوال اليوم بعد انقطاع الغاز. مررنا بمراحل استخدام الحطب، والخشب، والورق، ولم يبقَ شيء لم نحرقه، حتى أعصابنا، لطهو الطعام أو غلي الشاي. والآن بقرص حراري يعمل بالطاقة الشمسية، وهذا اختراع غير مسبوق لكنه يستهلك الطاقة ونحرم من الإضاءة بقية اليوم. بعدها، لجأناإلى تعبئة جرات الغاز الصغيرة بواسطة عبوات سبراي الشعر، أتذكّر أنني قبل هذا البديل كنت أضطر لغلي القهوة على الحطب قبل مغادرتي للعمل، وأحيانا أستخدم زجاجات العطر الغالية لأشعل النار بسرعة بسبب مادة السبيرتو المساعدة على الاشتعال، وأذكر أنه في أول يوم نجحتْ فيه العملية، بدأت أقفز وأهتف «نار نار» تماماً كما فعلها توم هانكس في فيلمه الشهير «المنبوذ». وتذكرت عندما أحرق المدنيون الألمان العملات الورقية في الحرب العالمية الثانية كي يستدفئوا.

ولكن بعد وقت، اكتشفت أن القهوة مغشوشة، إذ كانت تخلط بالحمص. فقد كنت أنام خلال العمل، وعند كتابة التقارير، وحتى أثناء الحديث مع الجارات، فاكتشفتُ أن البنّ لا يحتوي على الكافيين.

لم نرَ عبوات النسكافيه في الأسواق لمدة 6 شهور، حتى أننا نسينا شكله ومذاقه وتأثيره. عندما عاد النسكافيه إلـى سوق الشمال، كان سعره 400 شيكل، أي 107 دولارات ولم يشترِه أحد. فلقد أدمن الناس القهوة المغشوشة وزهدوا في السهر، فنحن ننام الساعة الثامنة ليلاً والصواريخ تنبّهنا في كل وقت، فلا نحتاج لمنبهات. أذكر أنني كنت أمرّ عن البائع وأتفحّص مرطبانات النسكافيه، وأعدّها وكلي فضول أن أعرف كم مجنوناً لدينا هنا ليقوم ويشتري برطماناً بهذا السعر. وفجأة خطرت في بالي فكرة: لماذا لا أكون أنا هذه المجنونة وأشتري واحداً؟ وهنا، خطرت في بالي فكرة أجمل، وهي أن أتقاسم سعره الباهظ مع آخرين. وفعلاً جرى البحث عن مجانين.

تقاسمنا البرطمان وكان المعيار ملعقة صغيرة حرصاً على العدل وخوفاً من الغش. ثم خبّأت حصتي تحت ثيابي، وعندما دخلت البيت وجدت أن أختي وأخي اللذين في جنوب غزة، واللذين باتت تفصلنا عنهما الآن حواجز لا يدخلها سوى الأجانب، قد أرسلا لنا برطمانين من النسكافيه. خوفاً من أن ينكسر البرطمان المخبّأ في ثيابي، قاومت الإغماء ليس من شدة الفرح بل حزناً على 200 شيكل دفعتها قبل قليل.

 

ديسمبر 2024

أعمل في مؤسسة تختصّ في تقديم خدمات الدعم والتفريغ النفسي للأطفال واليافعين من خلال ورشات الكتابة الإبداعية والفنون التعبيرية. عملتُ في المدارس ومعاهد الأيتام، والكنائس، والجوامع، وملاعب كرة القدم، وغرف النازحين، والعيادات، والمستشفيات، وحتى في الشوارع والممرات والأكشاك. استطعتُ خلال الحرب تنفيذ مئات التمارين الإبداعية والحصول على آلاف القصص واللوحات الفنية من الأطفال.

في الثامن عشر من ديسمبر، أخبرتنا مشرفة المشروع أن وفدًا متخصصًا من الجهة الممولة، اليونيسف، سيزور شمال غزة للاطلاع عن قرب على الأنشطة المقدمة للأطفال. التقينا بهم في مدرسة اليرموك، بين الصفوف والخيام التي خُصصت لسكان بيت حانون النازحين. قرأنا القصص، ونفّذنا الأنشطة الكتابية والفنية داخل الخيام، وهذه سابقة تحدث لأول مرة في تاريخ المؤسسة. قرأتُ القصة للأطفال، فاندمجتُ في أحداثها، وعلَا صوتي وسط انسجام وتفاعل المستمعين الصغار ولم أنتبه أن أفراد الوفد ورائي يدمعون، إلا من خلال الصور التي التُقطت داخل الخيمة.

من أكثر الأمور تعقيدًا في الحرب، والتي يصعب فهمها، وتكون محظوظًا إن استطعت ألا تتذكّرها، هي العلاقات. فالصديق الذي يربطك به تاريخ طويل عبر سنوات، أصبح أبعد عنك من جارك الجديد، الذي يستلم معك كوبونة ويصطفّ خلفك في طابور الخبز. فالحرب لا تعترف بالتاريخ، بل تعترف بالجغرافيا.

كيف سأواسي صديقتي المقربة، التي تعيش في كندا، وأستوعب حزنها عندما تحدثني عن تعرضها لاكتئاب بسبب اصطدام أحدهم بسيارتها من الخلف؟ كيف أخبرها أن أولوياتي تغيّرت؟ وأن الحصول على خبز اليوم، أو جرة غاز، أو استلام طرد غذائي أو صحي أو نسائي أصبح أهمّ عندي منها ومن سيارتها ومن صداقتنا كلها؟ بينما جارتي المؤقتة تعلم كل هذا دون أن أخبرها؛ فحين نلتقي بالصدفة في كل مرة، تدرك كلٌّ منا كيف قضت الأخرى ليلتها وكيف سيكون نهارها، وما إن نصل إلى أول الشارع ونحن ندردش، حتى نجد أن المشاكل انتهت فقط لأننا تشاركناها. فمن منّا تجد حلًّا لأي مشكلة يومية، تخبر به الأخرى كي تطبّقه في الحال.

 

يناير 2025

في تمام الساعة الثامنة من مساء يوم الخامس عشر من يناير، تم الاتفاق على وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وذلك بجهود الوسطاء من قطر وأمريكا ومصر. استقبلنا هذا الخبر ونحن نترقّب المؤتمر الذي سيعلَن خلاله عن تفاصيل الصفقة والبنود المتفق عليها. شربنا الشاي، وأكلنا الكنافة العربية، واحتفلنا كما لم نحتفل من قبل. لم يكن هناك شيء يسمّى «احتفال» قبل هذا اليوم. فرحَ أهل الشمال، وفرحَ أهل الجنوب، فسوف يلتئم الشمل، وتُغلق الخيام، ويعود النازحون إلى بيوتهم، حتى لو كانت مجرد ركام. فرُكام بيتك أكرم من بيت مستأجَر يهددك صاحبه بالطرد في أي لحظة، إذا وجد مستأجرًا آخر بإيجار أعلى.

استقبلنا عمَّنا وعائلته في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني استقبلنا أخي الذي لم نره منذ بداية الحرب والنزوح إلى الجنوب. أخبرتنا زوجة عمي أنها تشكّ أن كل كوب شاي تشربه في الشمال مصنوع من أثاث بيتها الذي دُمِّر بالكامل في الأيام الأولى من الحرب بعد أن نزحوا إلى هناك. فبعد انهيار المبنى على نفسه، سرق اللصوص أثاث بيتها وباعوا خشبه بالكيلو في الأسواق، ليحترق تحت تنكات القهوة، وبرادات الشاي، وطناجر التكيات. يا ترى، خشب أرجوحتها التي كنا نتشاجر حول من سيتأرجح عليها قبل الحرب، كان شايه من نصيب من؟

بدأت شركات التنظيف تعلن عن خدماتها لإزالة الركام، وشطف المنازل بالمعقمات والمنظفات والمطهرات، بالإضافة إلى خدمة تركيب النايلون للشبابيك، بأيدٍ متخصصة وفنيين ذوي خبرة عالية. إنها الحرب… قدرات لانهائية على التأقلم.

في السادس والعشرين من يناير، كنت في مهمة ميدانية بإحدى المدارس. لم نجد نازحين لتدريبهم، فقد عاد سكان بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا إلى ديارهم، أو إلى ما تبقى منها، وفرغت المدارس التي كانت تكتظ بهم. في طريقي إلى المنزل، رأيت رجلاً يأكل شوكولاتة بغلاف أصفر. اصفرّ وجهي، ولم أصدق عينيّ. في البداية، ظننت أنه مجرد خيال بسبب شدة الاشتياق، لكن بعد لحظات، رأيت طفلًا يحمل الكيس الأصفر نفسه ويضعه على فمه لتسقط الحبات داخله دفعة واحدة. هنا تأكدت أن الأمر حقيقي، وأن حدثًا جللًا قد وقع. أسير في طريقي وأرى أن البسطات على جانبي الطريق كانت تبيع الشوكولاتة والصودا ورقائق البطاطس. كان ذلك أجمل خبر للغزيين، أجمل حتى من خبر وقف إطلاق النار ذاته.

 

فبراير 2025

دخل الغاز الطبيعي إلى غزة بتاريخ الثالث من فبراير، وتم اعتماد آلية تتيح لكل بيت الحصول على جرة غاز من خلال رابط تسجيل يحتوي على جميع بياناتك، حتى تاريخ زواجك.

استأنفت مطاعم الشاورما العمل، تلتها مطاعم البيتزا، ثم محلات الكنافة النابلسية، كما عادت خدمات التوصيل إلى المنازل. فبدلًا من الانتظار ساعة أمام أي مطعم أو بسطة معجنات حتى يتم تكسير الحطب وإشعاله، يمكنك الآن استلام طلبك خلال عشر دقائق فقط.

فرحتنا بالرسائل النصية التي وصلت إلى هواتفنا، والتي تفيد بموعد تسليم جرة الغاز للتعبئة لدى موزع منطقتنا، كانت أكبر من فرحة الفوز في اليانصيب. هللنا وزغردنا… لقد زارنا الغالي بعد انقطاع دام سنة ونصف.

اليوم هو الخامس من فبراير، عيد ميلادي. لم أستطع صنع كعكة في المنزل، فالمطر حال دون خروجي لشراء قالب جاهز من محل الحلويات الوحيد في غزة. العام الماضي، كان لدينا غاز ولكن لم يكن هناك بيض، واليوم البيض متوفر، لكن الغاز غير موجود. فلقد أرسلنا جرات الغاز للتعبئة وأخبرونا أن عملية التعبئة تستغرق أسبوعا. ما هذا التواطؤ؟ للعام الثاني، يمر عيد ميلادي بلا كعكة، بلا شموع، بلا أمنيات. دائمًا هناك قطعة ناقصة، وكأن الحياة ترفض أن تكون كاملة. كلما نجحت في فهمها، غيرتْ منهجها، ويبقى قدرك أن تلاحق القطعة الناقصة.

Author

نهيل مهنا روائية وكاتبة مسرحية من مدينة غزة، فلسطين. كتبت مسرحيات حائزة على جوائز، ونشرت مذكراتها باللغة الإنجليزية طوال الإبادة الجماعية في صحف عالمية. تكتب عمودًا شهريًا في صحيفة برلينر تسايتونغ الألمانية. باللغة الإنجليزية، حرّرت مختارات «فلسطين في كل مكان» (TBA21 - إسبانيا، 2025)، و«أصوات المقاومة: يوميات الإبادة الجماعية» (Comma Press - المملكة المتحدة، 2025). باللغة العربية، نشرت رواية «ممنوع دخول الرجال» (الدار العربية للعلوم، 2021)، ومجموعة القصص القصيرة «حياة في متر مربع» (مركز أوغاريت الثقافي، 2008).

نهيل مهنا روائية وكاتبة مسرحية من مدينة غزة، فلسطين. كتبت مسرحيات حائزة على جوائز، ونشرت مذكراتها باللغة الإنجليزية طوال الإبادة الجماعية في صحف عالمية. تكتب عمودًا شهريًا في صحيفة برلينر تسايتونغ الألمانية. باللغة الإنجليزية، حرّرت مختارات «فلسطين في كل مكان» (TBA21 - إسبانيا، 2025)، و«أصوات المقاومة: يوميات الإبادة الجماعية» (Comma Press - المملكة المتحدة، 2025). باللغة العربية، نشرت رواية «ممنوع دخول الرجال» (الدار العربية للعلوم، 2021)، ومجموعة القصص القصيرة «حياة في متر مربع» (مركز أوغاريت الثقافي، 2008).