Skip to main content

Essays | مقالات ذاتية

رحيل زياد أعاد لي ساوند تراك حياتي

CONTRIBUTOR
المساهم/ة
راجي بطحيش

TAGS
الوسوم
posts-ziad, web-featured

PDF

SHARE POST
للمشاركة
CONTRIBUTOR المساهم/ة
راجي بطحيش

روائي فلسطيني وباحث في الشأن الثقافي والفني، يقيم في حيفا.

WORKS BY THIS CONTRIBUTOR
أعمال للمساهم/ة
راجي بطحيش
Essays | مقالات ذاتية

رحيل زياد أعاد لي ساوند تراك حياتي

By راجي بطحيشJuly 30, 2025November 2nd, 2025No Comments

رحيل زياد، أو تجلّيه، أعاد لي الساوند تراك، مدججاً بأدوية من المفترض أن تخفض ضغط الدم. مع المهدئات، صرت طوال الأشهر الإثني عشر الماضية، أخرج مع كلبتي كل يوم في نزهاتنا الصباحية والمسائية على شاطئ البحر القريب-البعيد عن بيروت، أتجول بين القتلة وأبنائهم ومن يرتبطون بهم من بعيد أو قريب. فليس هنالك ما هو بعيد في هذه الديار الملعونة، على بعد ساعتين بالقطار عن مستوطنة «سديروت» المطلة على ماكينة الإبادة والتجويع.

«عليك تناول الأدوية كي لا تصاب بالجنون أو بجلطة في الدماغ. لا شيء يمكنك فعله». هذا ما قالته لي الطبيبة بعد أن كانت قد يئست من إمكانية انخفاض ضغطي وانسحاب نوبات الهلع الصباحية القصيرة، لتتحوّل إلى تلبد متراكم، مثل الأنسجة البيضاء البالية التي تتكدّس على الدماغ وتحجب عنه أية مشاعر ممكنة. كانت الطبيبة خائفة أن أقف فجأة أثناء سيري وأصرخ في وجه أحدهم: «كم عربياً قتلت اليوم؟»، أو «ما هي حصة الفرد اليومية الدنيا من القتل، والتي سيفرضون بعدها عليكم العقوبات؟»، أو «كم بيتاً أحرقت؟ كم بيتاً ستحرق عند عودتك إلى الاحتياط؟»

كلنا مرضى نفسيون على حافة العته. نحشرُ وقتنا الذي يأبى الانقضاء بالأكل والتفاهات والنميمة وفضائح النجمات. يهدئوننا بالأدوية كي لا ننهار أو ننفجر. 

عندما تمشي طويلاً، وخاصةً على شاطئ البحر، يدور الساوند تراك في رأسك. كان هذا الساوند تراك قد غاب في الأشهر الأخيرة، فذكّرني بالصمت الذي يرافق مشاهد الدمار والموت الجماعي في أفلام السبعينيات الواقعية. كان الساوند تراك في أيامي عبارة عن جدل داخلي بشأن محاولة إدارة ما تبقى من العمر. 

أعاد لي رحيل زياد، أو تجلّيه، الساوند تراك الذي كنت قد فقدته. 

فمنذ صباح يوم السبت، السادس والعشرين من تموز، أي بعد أسبوع من اختيار زياد الرحباني مغادرتنا جسداً، عصف بي طوفان من ألحان زياد، من صوره من شتى مراحل عمره، نغماته على البيانو، جمل من أغانيه، صوته، عينيه، والميلانكوليا التي رافقت نصوصه منذ بدأ مسيرة الابداع. 

لكن وقبل ذلك كله، وعلى مدار عامين، داهمتني الصدفة ثلاث مرات عندما كانت تُبَثّ أغنية «إيه في أمل» فجأة في الإذاعة، وأنا أقود سيارتي قبل وصولي إلى وجهتي بثوانٍ. وكأن الصدفة تريد أن تغيظني. في المرات الثلاث، وجدت نفسي أركن سيارتي عند حوافّ الطريق، حتى تنتهي الأغنية لأمضي بعدها، وكأن هذا الوقوف هو دقائق صمت لذكرى زمنٍ قادمٍ مجهول.

لكلٍّ زياده. تكمن عظمة زياد الرحباني وفرادته بتعدّد جوانبه. كلّ شخص يراه من جهة ومن زاوية تخصّه هو، ويمكنه أن يحبّه عبرها. تعرّفت إلى زياد كغيري من فتيان الثمانينات في الداخل الفلسطيني ضمن البيئة اليسارية-الشيوعية الوحيدة التي كانت متاحة في تلك السنوات، ومن خلال أدبيات الحرب الأهلية اللبنانية، والعدوان الإسرائيلي والشرائط المهربة. وتصاعدت تلك المعرفة وتبلورت في مساكن الطلاب الجامعية حيث تكثّفت الخيارات الموسيقية والفكرية. ولكن، ومنذ البداية، كان خياري في عالم زياد مغايراً ربما لما كان سائداً حينها. 

لم أسهرْ وأنا أسمع حوارات زياد المسرحية، ولا حوارياته الإذاعية، بل سهرت على أغانيه وموسيقاه. لم تجذبني كثيراً سخريته السياسية وفلسفته، بقدر ما عشقته موسيقاراً وشاعر أغانٍ، وقد يعود هذا لطبيعتي أنا وليس لمشكلة في برامجه وحواراته المسرحية الساخرة. أعشق زياد عازفَ بيانو حالماً، مؤلفاً موسيقياً.

أعشقه رجلاً رومانسياً عليك أن تعمل جاهداً لاستخلاص العذوبة من عينيه الفاتنتين، المخفيتين بأنف شامي محدب ومحبب. وهذه فرصة لاعترف فيها أنني كنت أغار من النساء اللواتي يعشقهن زياد. كثيراً ما كنت أتخيّل كيف يحبّ صاحب الرجولة الرقيقة والهشة هذا، الرجولة البعيدة عن استعراضات الفحولة الغنائية، الرجولة المرتابة، التي تقرّ بهزائمها، وبهامشيتها وبفشلها بالحب أو بقدرتها على الحفاظ عليه. بعيداً عن البطولات والانتصارات الوهمية، كيف يجعل من حوله يحبّونه، كيف يتبادل الحب الحميم، كيف ينهض في الصباح، وماذا يقول؟ هل يمازح من يحبها؟ هل يحضّر لها القهوة؟ كنت أتخيّل نفسي مكانهن فتدغدغني الفكرة.

ساوندتراك زياد هو ساوندتراك حياتي أنا، على الأقل الساوندتراك الملصق بساعة رملية، المشروط بالاحتمالات الحتمية لهجران الأحباء، والعمر الذي يمضي بشراسة حيث لم يعد هناك الكثير من الوقت، حتى في قمة العشرين أو الأربعين. ساعة لا ترحم أحداً، كما يتجلّى لي في افتتاحية «ميس الريم»، حيث ما بقى بكير يا ستي، جنة موسيقية مشرعة على الخسارة، صور من غادروا ومن رحلوا، بيوت متروكة، وفصول هجران لا ينتهي، موسيقى تبدو منتهية ومتكاملة لكلام كله شك، كله تشكيك بحتمية نهاية الألم، فـ«دايماً بالآخر، في آخر، في وقت فراق»، كلام غير أكيد يتأرجح بين الحب الجارف والسخرية من ملابساته. لا مشاعر حتى النهاية ولا نهايات سعيدة بالتأكيد، بل موسيقى تشكّل ما يرافق تتابع مشاهد حياتك، أو هي مركز هذا التتابع من «على آثار الرمال» و«أبو علي» و«ضيعانو» وصولاً إلى «وقمح» عندما تكتشف، في النهاية، أنّ الرماد هو ما تتراكم به السنوات في النهاية.

أعشق زياد عازف البيانو، حين يحتضن واحدهما الآخر، وزياد الرومانسي في فيلم «نهلة»، هو الذي يردّد جملاً مقتضبة غير واضحة لكنها فاتنة. أعشق صوت زياد وهو يغني الأغاني التي ألّفها لفيروز بعد 1986، وأعشق أكثر من ذلك، الخليط بين صوته وصوت جوزيف صقر بحيث يصعب عليك التمييز بينهما.

رحل زياد جسداً، وهو الذي اختار ذلك ولكنه تجلّى من جديد عبر طَوَفان وجوهه، وكلماته، وموسيقاه، حيث أعاد لي ساوند تراك حياتي بعد عامين من الصمت.

Author

روائي فلسطيني وباحث في الشأن الثقافي والفني، يقيم في حيفا.

روائي فلسطيني وباحث في الشأن الثقافي والفني، يقيم في حيفا.