
تنشر فَمْ الأجزاء الأولى من رواية يوحنا وليم «في التجربة…» (250 ص.، صفصافة، 2025).
«ابني شاذ وأختي مصابة بالسرطان» ابتلعت ريقي ثم نهضت مسرعا إلى باب المنزل لاصقا أذني به. سمعت خفقان قلبي وكدت أخلط بينه وبين وقع أي خطوة على سلم العمارة. مكثت في مكاني لدقيقة أو أكثر ثم عدت إلى فراش غرفة النوم. مسحت يدي المتعرقة في ملاءة الفراش وأكملت القراءة في مذكرات ماما.
«..أعرف أنك تعاقبني يارب. لا أعرف السبب بالتحديد، لكنني متأكدة. أفكر إن كان هذا صليبي الذي عليّ حمل نيره والسير وراءك في طريق الجلجلة[1]الطريق الذي سار به المسيح لبلوغ موقع صلبه.» فرحت بقيامتك منذ ثلاثة أسابيع، لكن منذ قمت والمآسي تتوالى على حياتي. اكتشفنا مرض أختي الكبرى بمرض الملكوت بالصدفة حيث كانت تعاني من آلام في ظهرها منذ بداية السنة. صدمنا مع التحاليل أنها في مرحلة متأخرة وتذكرت أمي (أو maman كما كنت أفضل مناداتها) التي ماتت بالمرض اللعين منذ تسع سنوات. يقترب الدور منّي…»
سمعت صوت تكة المفتاح. انتفضت من مكاني واضعا المذكرات بسرعة في الدرج الثالث من التسريحة. ومع صوت إغلاق الباب ووقع الخطوات المتجهة نحو الغرفة الموجودة في أقصى شمال الشقة، أدركت أن الوافدة هي أختي.
سألتها من وراء الباب الذي أغلقته لتغير ملابسها عن مكان ماما. أجابتني من خلف الباب أنها ذهبت إلى الكنيسة المجاورة للمنزل. نظرت إلى ساعة الصالة فوجدتها تقترب من الثانية ظهرا، فسألت متعجبا: «كنيسة ايه دلوقتي؟». خرجتْ من غرفتها متجهة إلى المطبخ لتسخِّن الأكل من دون أن تجيبني.
تسحبت إلى غرفة النوم لقراءة باقي المذكرات ودقات قلبي مازالت مسموعة في أذني. وجدت في الصالة عدة أكياس بيضاء عليها صورة «القديسة ريتا». نظرت في داخلها فوجدت أقلاما تحمل الصورة نفسها للقديسة شاخصة أمام صليب المخلِّص بعيون مفعمة بالامتنان وفي منتصف جبينها شوكة من الإكليل الموجود على رأسه.
أدركت أن اليوم هو الثاني والعشرين من مايو، تذكار نياحتها. تواظب ماما سنويا على الذهاب إلى كنيستها بالمنشية في نفس الميعاد. تشتري لكل فرد من العائلة قلما أزرق جافا ليجيب به في امتحانات نهاية العام، وصورًا للقديسة يضعها في مقلمته وبخورا لخالتي الكبيرة. توصيني بأن أذكر في صلاتي أن تتشفع لي شفيعة المستحيلات القديسة ريتا عند الله كي أتفوق في دراستي.
حافظت على تلك العادة حتى تخرجت في كلية الصيدلة منذ عامين، ثم فقدتها كما حدث لإيماني. أتذكر مقولة لدوستويفسكي قرأتها أيام الكلية وحفرت في ذهني: «الأسوأ من عدم الإيمان هو عدم الاكتراث.»[2] رواية االشياطين – ترجمة سامي الدروبي أفكر كثيرا أن تلك الجملة هي الأدق في وصف علاقتي بالله منذ بدأت اسكتشاف ميولي.
*
أسمع صوت حركة أختي في المطبخ فأكمل طريقي نحو المذكرات في لهفة لقراءة المزيد. ألاحظ استطراد ماما في الكتابة عن حالة خالتي الصحية التي تدهورت في الآونة الأخيرة. أفر الصفحات بعيني حتى أجد اسمي. يجف ريقي حين أقرأ باقي الصفحة الظاهر بها بقعة دموع قد نضبت.
«قرأت مذكرات يوسف بالأمس. أنا مصدومة، لم أحتمل قراءة بضعة سطور حتى وجدت دموعي تسيل بلا توقف. لا أعرف إن كنت أبكي بسبب كذبه عليّ كل تلك الشهور الماضية حين كان يقابل من كتب عنه، أم لمعرفتي الحقيقة كاملة؟ قرأت فشلي كأم أمامك يا الله. أنا عاجزة …..».
انتفضت من مكاني بعدما أنير مصباح الغرفة فجأة من خلفي فسقطت المذكرات من يدي.
2
لا أكف عن الإلحاح على أهلي للذهاب إلى الخلوة[3]معسكر صيفي كنسي للأطفال التابعة للكنيسة في فيلا كينج مريوط. يرضخون بعد فترة معتبرة من الزن المتواصل وتدخُّل تيتة، لكن بشرط واحد فقط يعلنه بابا بصرامة: «متتصلش بالليل تقول تعالوا خودوني.»
تعد ماما معي حقيبتي، واضعة لي فوق ما سأحتاجه من ملابس الضعف. تعينني حتى ألفح الحقيبة على ظهري، تقبلني بقوة ثم تقف في منور السلم لتطمئن أنني نزلت بسلام دون أن أتعثر. أحضر مدارس الأحد ثم ننطلق من الكنيسة إلى أتوبيس «عم سمير» الذي سيقلنا إلى الفيلّا.
أشعر بنغصة في قلبي لأول مرة في حياتي بمجرد ركوبي الأتوبيس وسماعي لمن حولي يتحدثون بحماسة عن ماتشات كرة القدم التي سيلعبونها عند وصولهم. احترت فيما سأفعله عند بلوغنا الفيلا، حيث أنني أكره الرياضة بكل أنواعها. تحمست فقط لتلك الرحلة من أجل الذهاب إلى حمام السباحة في الغد ورؤية ما يخفيه أستاذ «جوزيف» تحت ملابسه.
تدمع عيني وترتعش يداي الصغيرتان من الخوف، لكنني أتماسك وأكبَتُّ كل ذلك حين يسألني «سامي» –صديقي من المدرسة- الجالس جواري: «جبت المايوه عشان بكرة؟»
أشتت نفسي بالحديث معه ومسابقة الترانيم المقامة بين الصفين الأيمن والأيسر حتى نبلغ الفيلا وقت الغروب. وزعونا في الغرف فأتوتر شاعرا في داخلي برغبة متزايدة للعودة إلى المنزل، لكن يرن في ذهني وعدي لبابا.
أبدل ملابسي في الحمام كما نبهت عليّ ماما ثم أنطلق نحو ملعب كرة القدم. لا أتوقع الاندماج في اللعب، لكن سامي لا يفارقني. ضمني إلى فريقه، كي أقف حارسا للمرمى. خفف ذلك من شعوري بالوحشة بعض الشيء، ولهاني عن التفكير في منزلي حتى ينادونا للذهاب إلى صالة الأكل. نصلي بعدها ثم نتجه إلى غرفنا لنستعد من أجل الإستحمام.
في طريقي إلى غرفتي أرى أستاذ «مايكل» خارجا من دورة المياه فأتسمر في مكاني. إنها المرة الأولى التي أرى فيها جسد ذكر بالغ أمام عيني.
أفكر في مدى اختلاف جسده عن «طرزان» الذي أتشوق لمشاهدته كل ليلة على القناة الثانية. أتأمل بشرته السمراء وبطنه الممتلئة بعض الشيء والشعر الذي يغطي صدره وجزءا من ظهره. هل بدا عليّ الارتباك؟ ابتسم لي أستاذ مايكل وأخبرني مشجعا: «يلا خش جهز هدومك عشان تستحمى.»
*
علمتني ماما قبل ذهابي للخلوة كيفية ترتيب ملابسي في طريقي للاستحمام حتى لا يقول عليّ أحد إني «مش متربي». أبدأ بالكيلوت الأبيض والفانلة المماثلة له في اللون ثم يليهما البيجامة وفوقهم الفوطة الكبيرة التي ستلتف حولهم كلهم. حين أدخل الكابينة، أعلق الفوطة وباقي الملابس بعيدا عن الدُّش كي لا تبتل.
أتبع تعاليمها بحذافيرها وأقف منتظرا دوري في دورة المياه التي تضم خمس كبائن. أرفع ملابسي بيد وفي يدي الثانية صابونتي وكيس بلاستيكي فارغ كي أضع فيه ملابسي المتسخة. أبلع ريقي بصعوبة لرؤيتي ذلك الحشد من الأجساد الذكورية العارية. أتمنى أن تطول يدي أجسادهم جميعا.
ألمح أحد الأولاد لا يرتدي سوى كيلوت ممسكا في يده بآخر نظيف ويخبط على إحدى الكبائن بعنف حتى يخرج من بداخلها. أسمع صوت ماما يزعق في ذهني: «ملكش دعوة بحد، وخليك في نفسك.» فأنتظر بجوار أول كابينة صامتا.
أعقد خلال فترة انتظاري مقارنات بين أجساد أبطال الكرتون الذين أهيم بهم كـ«علاء الدين» والوحش من فيلم «الجميلة والوحش» وبين الأجساد التي حولي. أوقن أن صورتي الذهنية عن جسد الرجل كانت خاطئة، فأجسام شخصيات الكارتون معظمها ملساء ممشوقة، على عكس ما حولي من شعر وترهلات.
يفتحُ الباب المجاور لي، فأدخل. أخلع ملابسي حتى أصير عاريا تماما. أشعر بالإثارة لأن من يجاورني في نفس الحالة فينتصب عضوي. أتنصت على صوت حك الأجساد في الكابينة المتلاصقة لي متلذذا بهذا الانتصاب الذي لا أعرف كيفية التصرف به،لكن صوت الخبط على كابينتي يدفعني لفتح الدش والانتهاء سريعا من الاستحمام.
أفكر لوهلة بأن أخرج مرتديا الكيلوت فقط كزملائي وبعض الخدام[4] لقب الشباب المسئولين عن الأطفال في المعسكرات، لكن بمجرد النظر إلى منحنيات جسدي أخجل وأرغب في ستره بالبيجامة.
يرن فجأة في الحمام صوت ضحكة يتلوها خبطة قوية على أحد الحوائط ثم ظلام دامس.
3
«أتمنى أن يدلني أب اعترافه على حل..»
هذا آخر سطر أقرأه قبل سماع سؤال أختي: «انت بتعمل ايه؟». أضع سريعا المذكرات في مكانها ثم أجيبها بأول كذبة عبرت في بالي: «بدوّر على صورة.«وقبل أن تداهمني بسؤال آخر، أتجه إلى باب الغرفة وأسأل: «هو في إيه على الغداء؟»
أسمع تكة المفتاح، وأخمن من صوت حركة الأجراس الخفيفة المعلقة على الباب أنه بابا. أتنفس الصعداء وأتجه إلى غرفتي بعد أن أشار لي بيده مرحبا. أردُّ آليا: «إيه الأخبار؟» وأتركه قبل أن أسمع إجابته.
*
متى توقفت عن احتضانه لحظة عودته إلى المنزل؟
أتذكر انتظاري له في الطفولة أمام باب الشقة منذ ميعاد انتهائه من عمله في الكنيسة. أرفض محايلات ماما كي آكل، وأجلس في الصالة متنصتا على باب الشقة. ترن ساعة الطرقة في الرابعة والنصف فألصق أذني بالباب ومع سماعي لوقع خطوات في بهو الدور أفتح الباب فاردا ذراعي.
أعتقد أنه حتى في وقت المراهقة وبداية تصدع علاقتي ببابا، استمرت تلك العادة. لم أعد أنتظره عند باب المنزل، لكنني أمتنع عن تناول الغداء حتى وصوله وجلوسه معنا على المائدة.
نتحلق أربعتنا حول الطاولة في المطبخ. يشاهد ثلاثتهم فيلما على «نايل سينما» أو «الحياة سينما»، وإن كان يعرض على إحداهما فيلم مصنف «جريء» يغير بابا المحطة إلى فيلم أبيض وأسود قد يحتوي على راقصة أو قبلة، لكنهما يقبلان وجودها ضمن السياق طالما من الزمن الجميل حيث الجميع محترمون وكل شيء مبرر.
لم أكن أعبأ بما يفعلون ، فقد بدأت فترة عزلتي الاختيارية عن عائلتي. أقرأ مجلة ميكي في صمت، غير معقب على أي مما يجري. أسمع ماما تروي مشاكلها في المدرسة وأختي تتحدث عن مشاجرتها مع إحدى زميلاتها، بينما ألوذ بالمجلة في عالم خيالي متمنيا لبطوط الخلاص من سلطة عم دهب.
أفكر أننا لم نعد نحضن بعضنا حين توقف عن ضربي. يشكل الضرب جزءا غير منفصل من تكويني الحالي. دفعتني «عُلَق» بابا، إلى عدة محاولات انتحارية فاشلة في فترة الإعدادي، غرضها فقط تسجيل اعتراضي وتهديد سمعته الكنسية. رغبت في فضحه وسط من يطلقون عليه «الإنجيل المعاش»، متمنيًا تحطيم صورته بأي ثمن حتى لو كان حياتي.
تمحورت كراهيتي في مراهقتي حول شيئين، جسدي وبابا. أتذكر أحد العلق التي كاد يتحطم بها ذراعي. رجوت الله يوم ذهبت مع ماما لعمل أشعة سينية على ذراعي أن يكون مكسورا. تخيلت نشوتي خلال سيري في الكنيسة ومَن حولي يسألونني عن إصابتي فأنطق وملامحي كلها أسى بكلمة واحدة: «بابا.»
حُفِرت تلك المشاجرة في ذاكرتي. أحبس نفسي في غرفة أختي خوفا من بابا الثائرة أعصابه. أسد باب الغرفة بمقعد بلاستيكي. يبدأ في الهبد على الباب والتخبيط بكل ما أوتي من جسده الضخم. أتكور في فراش أختي من الرعب. حين يكاد يخلع مقبض الباب، أنتفض من مكاني كي أسده. يستمر في الزعيق والتهديد كي أفتح، لكنني أصرخ رافضا.
تهدأ الخبطات فجأة. أسمع حركته في الشرفة، فأعدو إلى النيش كي أغلقه. أشد على مقبضه المعدني، لكن بابا أشد بأسا منه. يحطم المقبض وسط محاولات من ماما لتهدئته قائلة:«اخزِ الشر» و«مفيش فايدة من الضرب» و«وفر طاقتك». أتخيل الجيران شاهدين على ما يحدث، متمنيا مرور أي شخص من الكنيسة فيرى بابا في تلك الحالة من الهياج العصبي ويدرك وجهه الحقيقي.
يكسر المقبض، ويدخل معه عصا بلاستيكية لإحدى المكانس القديمة- تحتفظ بها ماما لسبب مجهول في الحمام. رافقتني تلك العصا في استنماءاتي الدائمة وقت استحمامي، كنت ألعقها وأحيانا أحاول إدخالها في شرجي، ثم أنظفها جيدا بعد بلوغ نشوتي. توقعت أن تتحول في يده إلى ثعبان كعصا موسى وتختفي، لكنها عاونته في الوصول إلى رغبته.
ظل يضربني بها وقد حل عليّ صمت مطبق حتى هدأت أنفاسه فصرخت معلنًا ألمًا في ذراعي وعدم مقدرتي على تحريكها. هدأ هياجه فجأة. بدل ملابسه ثم غادر المنزل.
قد تكون تلك هي آخر علقة أخذتها من بابا، لذلك أتذكر تفاصيلها وإن نسيت سببها. تجنبته تماما من بعدها واكتفيت بكراهيته في صمت. تحول في ذهني إلى بنك، آخذ منه النقود دون فوائد أو وعد برد القروض.
توقف عن ضربي، وتوقفت عن اعتباره بابا. صار رجلا ينام مع ماما في الغرفة نفسها ويشاركنا في البيت. لم أعد أتحدث معه سوى في أضيق الحدود. حاول مرارا أن يصلح تلك العلاقة المحطمة، لكن وفاة تيتة في الصف الثاني الثانوي، عمقت من عزلتي.
فانعزلت عن الجميع وليس بابا فقط.
4
حين أرغب في رؤية تيتة في الأحلام، لا أشغل بالي سوى بشيء واحد فقط.
الجنس.
أقابل أي رجل عبر تطبيقات المواعدة أو أبحث في دفاتري القديمة عن أي ممن يرغب في تكرار تجربتنا معا. أنغمس في الجنس بكل حواسي وأركز أفكاري حول متعتي الحسية.
إن لم أعثر على أحد أو لا يوجد مكان متوفر كي نتقابل به، فما عليّ سوى الاتجاه نحو الإنترنت مفتشا في الصفحة الزرقاء وأمثالها عما يرضي ذوقي الحالي. أستمني في بعض الأيام ثلاث وأربع مرات. لا يهم عدد المرات مادمت أنهك جسدي وأدفن كراهيتي له.
حين أضع رأسي على الوسادة في أي ليلة من تلك الليالي، تفتح لي تيتة باب منزلها وتتركني أزورها.

Jimmy Dabbagh, Transparent 1, Photography, 2016
5
أرى الإحباط في عيني ماما. يتسرب إليّ شعورها بالعار من إنجابي إلى هذا العالم. تجبرني على الذهاب إلى أب اعترافي في اليوم التالي من عودتي من الخلوة. لا تكف عن قول: «اوعدني إنك مش هتعمل كده تاني.» أومئ رأسي بقوة في كل مرة تكرر الجملة السابقة.
لا أرغب في سرد ما جرى لأب اعترافي وأعلن ذلك ناظرا في سيراميك المطبخ حيث رويت لها ما جرى يوم عودتي من الخلوة. لا أعرف إن كان اعترافي لها سببه خوفي من أن تعرف ما حدث من خلال أحد الأساتذة، أم رغبة مني في إشراكها في كل جزء من حياتي، أم إنني أريد فهم إن كانت تلك هي طبيعة الأشياء بالنسبة لي.
تسحبني ماما من يدي نحو الكنيسة. أجلس جوار «أبونا» الذي يسألني بلطف عما جاء بي إليه اليوم. أصمت لوهلة وأنظر إلى ماما الجالسة في نهاية الكنيسة، رافعة عينيها نحو المسيح المصلوب المعلق فوق ستر الهيكل. أسمع زعيقها في ذهني: «لازم تعترف لبابا يسوع.» فأبدأ متلجلجا في الاعتراف.
6
«انت أكيد اتجنيت.» تصرخ ماما وتزغر لبابا- الممدد على السرير متابعا لفيلم أكشن- طالبة العون. لا يفهم بابا إشارتها فتريه اسمي في الكشف الذي أصدرته إدارة التكليف وبجواره: «المعهد القومي للأورام– جامعة القاهرة.»
يبتسم بابا ويقول: «مبروك يا حبيبي»، فلا أتمكن من كتم الضحكة حين تنفجر ماما: «ده هيروح القاهرة.» ينتبه بابا ويغلق التلفاز مدققا النظر في الكشف ويلاحظ أن رقم الرغبة الموجود في أقصى يسار الكشف هو واحد.
يصمت للحظة ثم يقول آمرا: «انقل إسكندرية.» أبتعد عنه بضع خطوات وأجلس على الكرسي المقارب للباب. أحاول عابثا التفكير في أي كذبة تنتشلني من هذا المأزق الذي توقعت حدوثه منذ ملأت رغباتي في التكليف.
أثق أن جزءًا كبيرًا من هلع ماما إن لم يكن كله سببه «آسر» الذي قرأت عنه الأسبوع الماضي في مذكراتي. لا تعرف أننا انفصلنا منذ شهر ونصف. لكنني لم أتمكن من كتابة ما جرى بيننا لعدم استيعابي له حتى الآن.
أعلن لبابا عن رغبتي في نقل حياتي إلى القاهرة متحججا أن سوق عمل الأورام هناك أوسع ويجلب أموالا أكثر. لا تمهلني ماما فرصة في إعلان أسباب قراري الذي اتخذته يوم تلقي رسالة آسر الأخيرة. تقاطع كلامي بالزعيق كعادتها مرددة جملها التي حفظتها على مر السنين من أمثلة: «انت عايش لنفسك» وأخواتها التي تعني أنني متمركز حول ذاتي.
أتعجب من صمت بابا الذي انتهى حين تعبنا من الشجار وسألني بهدوء: «انت استشرت أب اعترافك؟»
7
أرى العري في كل مكان. يجري أحد زملائي حول حمام السباحة مرتديا كيلوتا مبتلا ويلاحقه أحد الخدام في محاولة يائسة لستره حتى لا ينكشف عضوه الصغير أمامنا. أتساءل إن كان يشبهني أم لا وأفكر إن كان عضوي سيكبر كباقي جسدي.
ألاحظ جسد أستاذ جوزيف ناعما كعلاء الدين، وإن كان أكثر بياضا. حلمتاه صغيرتان ورديتان، يبرز منهما نتوء صغير على عكس حلمتي المنغلقتين على ذاتهما. أتأمل صدره المتساوي مع جسده بينما يأخذ صدري منحنى بسيطًا عن بطني التي تنقسم عند سرتي الناعمة على عكس سرته التي يتناثر حولها عدة شعيرات بنية اللون.
يظهر بعض الشعر في قدميه، بينما قدمي مازالت ملساء. أحب أصابع قدمه المتناسقة جميعها على عكس أصابعي القبيحة وغير المتناسقة.
*
لدى بابا رجل ضخمة كعبها خشن، أصابعه طويلة وأظافره دائما مقصوصة لكنها غليظة. إبهامه هو الأطول ويليه باقي الأصابع بشكل متدرج، بينما يكاد يتساوى إبهامي مع السبابة ويليهما باقي أصابعي في الطول.
يتركني بابا أفرك في أصابع يده المليئة بالزوائد وأحيانا في قدمه فيجري اللعاب في فمي وأنام في أمان. حين أحاول أن أفعل المثل مع أصابع يد أو قدم ماما ترفسني بعصبية. ترفض أن ألمس أصابع يدها المشابهة لي أو أصابع قدمها الغليظة معلنة أن ذلك الفعل يوترها ويثير أعصابها.
توصيني ماما خلال جلسة قص أظافري الأسبوعية- التي تنتهي دوما بجروح في إبهام قدمي العريض لانبعاجه بعض الشيء- بالاهتمام بشكلها وقصها بانتظام. تخبرني أن عنوان نظافة الإنسان يبدأ من أظافره فصرت أحكم على كل من حولي بهيئة أظافرهم. إن كانت نظيفة ومتناسقة، أطمئن لهم، وإن كانت طويلة ومتسخة، أحذرهم.
*
هل بدا علي التركيز الشديد مع أصابع أستاذ جوزيف؟ سألني مازحا: «عاجباك رجلي؟ أسيبهالك؟» ابتسمت له شاعرا بسخونة وجنتي ونزلت المياه بحذر.
لا أعرف العوم. أتسند على السلم المعدني سائلا سامي و«بطرس» الذي تعرفت عليه البارحة قبل النوم: «فيه طول عندكم؟». يرفع سامي يده معلنا وقوفه بينما يقترب مني بطرس ووجهه مرتسم عليه أمارات غدر. يحاول إغراقي فأصرخ: «مبحبش الهزار في المياه.»
أشعر بأحد الأولاد الأكبر مني سنا وحجما يحتك بي عدة مرات. لا أنظر له، ولا أقاومه. أقف في مكاني مثبتا عيني على سور حمام السباحة أو أتأمل العصافير الطائرة حول الشجر المتناثر في فيلا الكنيسة. صرت كالمخلع[5] معجزة شفاء مريض بيت حسدا – إنجيل يوحنا الإصحاح الخامس في انتظار الملاك كي يحرك البركة ويشفيني.
يمسك الولد بيدي ويقودها للمس عضوه المنتصب فأسحب يدي مبتعدا عنه بسرعة. أسمع خفقان قلبي في أذني ويخفت صوت زملائي من حولي. لا أعرف ما جرى أو ما لمسته، لكن كل ما أفكر به هو: «هقول ايه لماما لما أروّح؟».
أبتلع ريقي بصعوبة ثم أرى سامي يقترب مني متسائلا إن كنت بخير. أومئ برأسي وأحاول عبثا الاندماج معهم في لعبة كرة المياه. أفشل في التقاط الكرة عدة مرات وتتزايد رغبتي في التبول. أرغب في الخروج وأعلن ذلك. يحاول بطرس إثنائي عن ذلك، لكن سامي يطلب منه عدم الضغط علي حين يلمح الضيق في عيني.
أصعد من المياه عاقدا العزم على الاستحمام وتغيير ملابسي للتو وإن تمكنت من العودة إلى البيت سيكون أفضل؛ فقد رأيت ما أتيت لأجله واكتفيت. أتنفس بصعوبة ويدي ترتعش من الخوف إثر تعنيف ماما المستقبلي. أجمع ملابسي المبعثرة على فراشي في حقيبتي ثم أخرج من الغرفة ممسكا بملابسي كي أستحم وأتخلص من رائحة الكلور العالقة في جسدي، لعلي أهدأ.
استوقفني صوت حركة في الغرفة المجاورة. أقترب منها وأحاول التنصت. أسمع صوت قفز وضحك فأدخل في فضول لمعرفة من صعد مثلي إلى الغرف قبل الميعاد المحدد . إنها شلة «الأشقياء». يقفزون ويجرون في الغرفة مرتدين كيلوتات، وكل منهم يحتضن الآخر عاريا فيحكون أعضاءهم ببعضها.
يأمرني أحدهم بغلق الباب فورا والدخول. يتعطل ذهني عن التفكير فأطيعه دون مناقشة. ألقي ملابسي جوار الباب، وأتعرى للكيلوت –الذي أرتديه تحت المايوه المبتل- ثم أندفع تجاههم ضاحكا. ألمس صدر زميلي وأداعب آخر ملامسا شفتيه كي أقبله.
يقتحم الغرفة أحد الأولاد وفي ذيله أستاذ مايكل الذي ينهرنا جميعا، طالبا منّا الخروج فورا. يختفي من كان جواري، وأرى نفسي وحيدا ومشلولا في مكاني. أشعر بعينيه تحرقانني وكل ما يدور في ذهني هي الفضيحة التي جلبتها على بابا وماما ومقدار الضرب الذي سأتلقاه وقت عودتي للبيت.
8
أجد نفسي محبوسا في مصعد بناية بيت العائلة. أرى انعكاسي في المرآة مرتديا قميصا مخططا ألوانه زاهية. يرتفع المصعد نحو دور غير التاسع حيث مقصدي. يأخذني في رحلة حلزونية داخل البناية حتى تكاد روحي تغادرني. تختفي الأبواب من أمامي، فأخشى الانزلاق من المصعد وأعود متمسكا بالحائط الخلفي حيث أبقى ملتصقا طيلة رحلة صعودي وهبوطي.
أحاول يائسا التعرف على الدور الذي أمرُّ به، من خلال التدقيق في الباب الحديدي الذي ينتصفه زجاج معشق، مكسور أو مشقوق في أي جهة. في أوقات أخرى ألاحظ كتابة مميزة على الباب الحديدي العابر أمامي فأعرف المتبقي حتى أصل، ثم يتعطل المصعد.
أحاول عبثًا كسر قطعة الزجاج في المنتصف أو الصراخ حتى يسمعني أحدهم؛ فينقذني أو يصلح المصعد، لكن لا أحد يجيبني، وإن فُتِح الباب من تلقاء نفسه، فمع أول خطوة للخروج من المصعد يصير إشارة له كي يسقط في هوة عميقة.
لا يوصلني المصعد إلى غايتي أبدا. أرغب في الوصول إلى الطابق التاسع، لكن الباب لا يفتح سوى في الرابع عشر. ينتابني الخوف من انتظار المصعد في الصمت المطبق المسيطر على الدور. أراقب أبواب الشقق المغلقة فينقبض قلبي رعبا مما تخفيه وراءها.
أكرر الضغط على زر المصعد، لكنه لا يستجيب. أسمع صوت خطوات تقترب من الأبواب. أعدو نحو السلم المهجور كي أبلغ هدفي. أراقب في الطريق النافذة المطلة على المنور المظلم حيث تعيش القوارض بأنواعها كما تردد ماما دوما.
أسمع صوت باب يغلق وخطوات آتية ورائي على السلم. أزيد من سرعتي، خوفا من مقابلة المجهول. أفكر هل ينزل الأموات السلالم مثلنا؟
أجري حتى تنقطع أنفاسي. لا أدري في أي طابق أنا موجود. تستحيل السلالم أمامي إلى مزلاق كبير. أفقد السيطرة على خطواتي فأتعثر واقعا على وجهي. أنزلق على بطني بعضو منتصب نحو ظلام مدقع.
9
يسألني أبونا حول سبب رغبتي في الذهاب إلى القاهرة. ألعن عائلتي كلها في سري. الكذب على عائلتي شيء، لكن أمام من يملك سلطة الحل والربط من الله شيء آخر. أفكر أن حياتي مصيرها النار في كل الأحوال. فهل إخفائي السبب الحقيقي عنه سيخفف من حدة الحرارة؟
منذ هجرني آسر وأنا لا أفكر سوى في حكاياته عن حياة (الكوميونيتي) في القاهرة. يخرج معهم ويذهب إلى حفلاتهم المقامة في بيوت أحدهم ويضاجع من يريد وقتما شاء، دون تعقيدات من أمثلة: «عندك مكان؟» و«المكان فاضي لحد امتى؟»
أصبو إلى الجنس بلا حساب أو حدود. لا أعبأ بتعقيدات هجر البيت التي تخوفني منها ماما. لا أطيق الجلوس مع نفسي. أرغب في نسيان آسر، بشخص ثان وثالث.
أردد وراء أبونا: «واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا[6]جزء من الصلاة الربانية .» أحني رأسي تحت صليبه المعدني، شاعرا بكل شعرة في جسدي تقف متطهرة من الخطايا التي يرتكبها. أرجو أن يسامحني الله. أخبرت أبونا أنني سأهاجر للقاهرة من أجل مستقبل وظيفي أفضل.
10
أحب يوم الجمعة وإن كنت أكره بدايته. أفتح عيني بعد سماعي صوت غلق بابا للباب إثر ذهابه للكنيسة كي يحضر قداس[7]صلاة مسيحية في الكنيسة الكبار. أصلي في صمت ألا تنهض ماما ويطول نومها. أصغي إلى البيت الغارق في الهدوء. أنظر لساعة الحائط فأراها تقترب من الثامنة. أدعو بابا يسوع ألا ترن.
أتسحب على أطراف أصابعي، محترسًا ألا تصدر قدمي الحافية صوتا على السجادة. أتجه نحو التلفاز كي أضغط على الزر وأفتحه. أسمع صوت القنبلة المتناهية الصغر في داخله معلنة فتحه، وأرجو بابا يسوع ألا يسمعه غيري. أمسك بالريموت كنترول لحظتها؛ لأخفض الصوت المرتفع دوما لحظة فتح التلفاز. أنقل المحطة إلى القناة الثانية الأرضية كي أشاهد كارتون «عروس البحر».
ترن الساعة ولا أسمع حركة في البيت. يبدو أن صلواتي استجيبت ولن تستيقظ ماما. أجذب الغطاء عليّ في سعادة وأشاهد الكرتون المكتظ برجال نصف عرايا. لن أذهب للقداس اليوم فأردد: «شكرا يارب».
لا ينقضي أكثر من عشر دقائق ويصلني صوت شبشب ماما متجها نحو دورة المياه معلنا رفض السماء لصلاتي، أغلق التلفاز حين أسمع صوت غلق باب الحمام خلفها. أخبئ الريموت تحت الغطاء جواري. أدفن رأسي تحت الوسادة في محاولة يائسة للاستغراق في النوم مرة أخرى، فلعل ماما تتعاطف معي وتعفيني من حضور القداس اليوم.
تقتحم الغرفة وبدلا من قول صباح الخير تعلن في آلية: «أنا عارفة إنك صاحي.. قوم يلا عشان تلحق القداس من أوله وأبونا يرضى يلبسك شماس[8] رتبة كنسية للرجال الذين يعاونوا الكاهن في أداء الخدمات الدينية والصلوات الكنسية وإلا مفيش كمبيوتر بليل» أتذمر في مكاني، لكن للتهديد الأخير مفعول السحر.
[9] الكتاب الحاوي لصلوات القداس الإلهيأنهض متأففا. أغتسل ثم آخذ من دولابي حقيبة بلاستيكية حرصت أن تكون لعلامة تجارية مميزة وتحتوي على التونية[10]رداء الشماس -التي خاطت جدتي والدة بابا صليبها الأحمر- مع الخولاجي ذي المقاطع الملونة. لم أحب يوما خياطتها. أقارنها بما يرتديه أصدقائي من تونيات جاهزة مخيط عليها صور لقديسين وصلبان مزخرفة ملونة بشكل احترافي، فأتحسر على تونيتي ذات الصليب الواحد عند منتصف الصدر. لا أجرؤ على الاعتراض، فبابا لم يعد يتساهل مع أخطائي مؤخرا ولن تدعمني ماما أمامه.
دائما هناك عقاب سواء باللطم على الوجه، دفعي بعنف، أو إلقائي بأي شيء تحمله يداه لحظة عصبيته. يتبع الإهانة الجسدية، حرمان من شيء أحبه، كاللعب على الكمبيوتر المشفر بكلمة سرية لا يعرفها سواه هو وماما، عدم شراء عدد ميكي الأسبوعي الجديد، أو عدم تأجير شريط فيديو لكرتون من مكتبة الصوتيات بالكنيسة.
أفكر أن سماعه لاعتراضي على خياطة أمه، سيليه كل تلك العقوبات السابقة ومن يعلم، لعله يخترع شيئا جديدًا ينغص به حياتي.
كاتب وصيدلي مصري من مواليد الإسكندرية 1996. صدرت له رواية «بعد الحرب» 2017، «بيت الرجاء» 2022 والمجموعة القصصية «الفرار من حوض الاستحمام» 2023. كما فاز بمنحة بيت التلمساني ودار صفصافة للنشر 2024، بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).
Footnotes:
↑1 | الطريق الذي سار به المسيح لبلوغ موقع صلبه |
---|---|
↑2 | رواية االشياطين – ترجمة سامي الدروبي |
↑3 | معسكر صيفي كنسي للأطفال |
↑4 | لقب الشباب المسئولين عن الأطفال في المعسكرات |
↑5 | معجزة شفاء مريض بيت حسدا – إنجيل يوحنا الإصحاح الخامس |
↑6 | جزء من الصلاة الربانية |
↑7 | صلاة مسيحية في الكنيسة |
↑8 | رتبة كنسية للرجال الذين يعاونوا الكاهن في أداء الخدمات الدينية والصلوات الكنسية |
↑9 | الكتاب الحاوي لصلوات القداس الإلهي |
↑10 | رداء الشماس |