
في فيديو متداول على وسائل التواصل الاجتماعي، يسأل محاور برنامج «كلام الليل» لقناة الجنوبية ثلاثة شبّان يتسكعون في كورنيش قابس عن انطباعاتهم حول صيف المدينة وطيب الحياة فيها من عدمه. يندفع الأول في حماسٍ ويجيب بفرنسية ابن المدينة المغترب الذي يعيش في فرنسا ويعود كل صيف لقضاء العطلة في أرض الوطن. يظهر مستمتعاً بوقته في قابس برفقة صديقيه اللذين سيصبح أحدهما ترنداً وطنياً وتتحوّل مداخلتُه شعاراً سياحياً محلياً. يطلّ شابٌ يافعٌ وشّح أذنه بمشموم يظهر أنه افتكّه من صديقهم الثالث ويتكلم بطريقة عفوية عن قابس بلهجة محلية فيها الكثير من الوداعة: «خويا، قابس سمحة… وعيشتها سمحة… وما فيهاش إجرام». ينطقها في ثلاثة مقاطع متقطعة وابتسامة مخاتلة، تومئ إلى «السماحة».
تكاد السخرية من غياب الإجرام في المدينة تنطلي علينا بعفويتها.
لكن سرعان ما تحولت العبارة بلكنتها وتقطعها إلى ظاهرة منتشرة في الفضاء الافتراضي، فاخترقت المنطوق اليومي وقواميس التواصل بين الأصحاب. كما أصبح التعريف بسياقها ركناً أساسياً للترحيب بزوار المدينة وتهيئتهم للمزاج القابسي.
❂
لا أتذكّر تماماً متى زاد إصراري على ذكر كلمة «قابس» في أحاديثي مع رفقائي الأجانب وأولئك الذين أشاركهم أزمنة الغربة الطويلة والمتوسّعة. كانت رغبتي مختلفة في كلّ مرّة: أحياناً كي أعتزّ بجنوبيتي، وأخرى كي أقاوم مركزية العواصم في تشكيل تصوراتنا عن الآخر، في تنبيه مبطّن للفظ حرف الـ«ڨ» المغلظ ولهجتي المختلفة عمّا يعرفه أصدقائي العرب عن المحكيّ التونسي العاصمي. ليس الإصرار في الحقيقة إلّا امتداداً لتمرين التجذّر الذي أخوضه منذ أن غادرت بيروت بعد انفجار المرفأ. اضطررت حينها إلى مقاطعة تمرين آخر في تفكيك معنى الانتماء والبيت وتزعزع اقتناعي بقدرتي على حمل بيتي أينما حللت مثل السلحفاة. عجزت، وارتأيت ألّا مفرّ من ڨابسيتي وأنّ وطأة الغربة لن تستكين إلّا بقرار كهذا.
تسلّحت في كلّ مدينة أزورها أو أقطنها بأدوات جديدة تساعدني على المضي بثبات في مشروع التجذّر المتجدّد بتجدّد هذه المدن: التصوير، الموسيقى، التأمّل، الكثير من التأمل، مطالعات لأدبيات الغربة والهوية الرتيبة والمتكرّرة، والتصوير.
اشتريت في أوّل أشهر انتقالي إلى دبي كاميرا تصوير أنالوغ وشرعت أحملها معي أينما حللت. أستعين بها في توثيق اللحظات والمشاهد اليومية. أخزّنها في الصندوق الأسود لأعود وأتفاجأ بها بعد أشهر عندما أجد أخيراً مخبراً لتحميض ورقمنة الشريط — أنا الباحثة الدائمة عن دواعي الدهشة.
❂
يتحدّث المصوّر الأمريكي جويل ميوروفيتز عن رحلته الأوروبية التي دامت سنة كاملة في منتصف الستينيات، والتي مثّلت مالاغا أهم محطّاتها، حيث قضى ستة أشهر فارقة في حياته ومشواره التصويري. تعرّف فيها على عائلة إسكالونا الاسبانية وغاص عن طريقها في عالم الفلامنكو الشعبي المتجذّر.
في الفيلم القصير الذي أعدّه متحف بيكاسو بمالاغا كجزء من المعرض الخاص للمصوّر في صيف 2024، يجلس ميوروفيتز الثمانيني على كرسيّ خشبي (أو حديديّ، لقد نسيت)، يتوسّط مبنى تاريخيّاً مفتوح الأسقف، يطلّ على بحر ما — لعلّه المتوسّط. يشبه المكان إلى حدّ كبير الباحة الخارجية لكنيسة سيّدة البحر في البترون.
يصف لنا مشاهد من جلسات الفلامنكو مع العائلة بشاعرية فائقة، بهدوء المتصوّف وتدمع عيناه. يسترسل في وصف تطوّر تجربته مع التصوير والصيرورات الذهنية المتعلّقة بممارسة هذا الفنّ. يشبّه لحظة كبس الزر والتقاط الصورة بلحظة انطلاق صرخة الـ«الأوليه» في موسيقى الفلامنكو. يلفظ تلك العبارات ويتوقّف، كأنّه عاش في تلك اللحظة لحظة استيعاب متجدّدة بالتقاطعات الحسيّة بين تجربتَي التصوير وعزف موسيقى الفلامنكو وعيشها — أو عساه لم يتوقّف البتّة وما هذا إلّا نسج ذاكرتي المشوّهة، تحقيقا لضرورة شعرية ما.
❂
عدت لأقضي بدوري ستة أشهر في قابس وفي ترسانتي النحيلة الكاميرا الحديدية الثقيلة، هاتف جوّال، بعض استراتيجيات التجذّر ودرّاجة هوائية.
أواكب بحرص كلّ مستجدّات اليومي و المحلّي في الشارع وفي الفضاء الافتراضي القابسي، أجالس أكثر رفقائي اهتماماً بالشأن المحلّي وأُدرِج بإصرار وتشبّث ساذج كلمات قابسية قديمة كلّما أتيح لي.
أقضي الكثير من الوقت مع المتعصّبين من رفاقي للقضية الواحيّة — القضية القابسية بامتياز. وأستوعب كلّ مرّة، من جديد، مدى توغّل وحش المجمع الكيميائي في العناصر الحياتية: الماء، الثروة البحرية، الهواء، التراب، الواحة، النخلة، النخلة، النخلة… وغيرها من الكوارث التي تشهدها المدينة.
جذور المأساة البيئية في قابس قديمة. فمنذ نشأة المجمع الكيميائي التونسي في سبعينيات القرن الماضي، توسّع النسيج الصناعي فيه ليضمّ أكثر الصناعات تلوثاً وأفتكها. كل نفس هنا مقامرة. لا تخلو عائلة تقطن في مدار ذلك النسيج من مصاب واحد على الأقل بسرطان الرئة والجلد وكل عضو توغّلت فيه الانبعاثات المسمومة.
❂
أتنقّل يوميّا على درّاجة هوائية. تستوقفني المنازل المهجورة ومشاهد من الحياة اليومية، أشباه عبّاد الشمس والنخلات وواحة شننّي.
«الواحة، شننّي، قابس»، أنالوج (صيف 2024)
«الواحة، شننّي، قابس»، أنالوج (صيف 2024)
«أشباه عبّاد الشمس ، وادي قريعة، قابس»، أنالوج (صيف 2024)
«غراند كانيون، شننّي، قابس»، أنالوج (صيف 2024)
«نخلة في منزل مهجور، المنزل، قابس»، أنالوج (صيف 2024)
وفي البحر، تستوقفني مشاهد مليئة بالتناقضات: المشهد البحري التونسي الممعن في بساطته، وغيمة الموت الصفراء التي تحوم وراء طفل يلتهم قرص اليَشِّي — الدونات التونسية، غير عابئ بالتراجيديا المحيطة به.
التقطت الصورة وقرّرت مشاركتها على إنستغرام. لم أتردد لحظة في اختيار الجملة الأيقونية عنواناً لها: «خويا، قابس سمحة».
«خويا قابس سمحة، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون (صيف 2024)
وباعتبار أن المقولة لا تكتمل إلّا باكتمال مركبّاتها الثلاثة، تراءى لي أن أعتمد تقنية الزوم للانتقال إلى جزئها الثاني: «وعيشتها سمحة».
«وعيشتها سمحة، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون (صيف 2024)
عندما شرعت في تكبير الصورة للانتقال إلى الجزء الثالث والأخير الذي غابت عنّي كل معانيه المحتملة في البداية، شعرت بصعقة الإدراك؛ ذلك الحدث الذهني الذي يتمطّط بموجبه الوعي بشكل مفاجئ وتُسيّس خلاله المعرفة اليومية البديهية. لمحت الغيمة الصفراء — تلك الصورة اليومية التي اعتادتها العين القابسية وطبّعت معها منذ حوالي نصف قرن. لم تزعزعني قساوة التناقضات في الصورة بدايةً، أنا العين القابسية المطبِّعة بدوري، إلّا حين عنونت الجزء المكبَّر الأخير من الصورة: «ومافيهاش إجرام».
«ومافيهاش إجرام، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون ( صيف 2024)
كان وقع العنوان الأخير شديداً وثقيلاً، ما جعلني أعيد تنزيل الصورة نفسها ثلاث مرات متتالية: «ومافيهاش إجرام… ومافيهاش إجرام… ومافيهاش إجرام…» وكأنني أردّد صدى المشهد لأُشارك كلّ من يرى الصور حدّة وقع الجملة وقساوتها. كأنّ لحظة الإدراك تلك أبت أن تكون لي وحدي.
«ومافيهاش اجرام x3، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون (صيف 2024)
❂
إجرام المجمع الكيميائي هو فعلا وجع قابسي، وجع بيئي صارخ لا تخلو منه أحاديثنا اليوميّة، بل لا يخلو منه نفس واحد. تجدنا عند انبعاث غازات الأمونياك، أو ما نسمّيه «البخّارة»، في الهواء نلعن اليوم الذي دشّنوا فيه المجمع الكيميائي في البلاد، ونستاء لعجزنا عن الانتقام من مصدر الموت الذي يوظّف أكبر عدد من العمال القابسيين. فمن أقسى تأثيرات يوم انبعاث البخّارة، إضافة الى تسمّم صدورنا مع كل شهيق، هو تسببها في انقشاع سحب ماطرة طال انتظارها. من جهتي، تبنّيت هذه القضية وفهمت شيئا فشيئا أنّه لا تجذّر ممكنا في هذه المدينة إلّا باستيعاب مآتي أوجاعها.
باشرت منذ ذلك الحين التقاطَ هذه الثلاثيات الفوتوغرافية محاكاة للجملة الشهيرة وتذكيراً ملحّاً ودائماً لما يمكن أن يتوارى وراء العين المجردة ويُفضح مع كبسة زرّ وتكبيرتين.
«وعيشتها سمحة، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون (صيف 2024)
«وعيشتها سمحة، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون (صيف 2024)
«خويا قابس سمحة، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون (صيف 2024)
«خويا قابس سمحة، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون (صيف 2024)
«ومافيهاش اجرام، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون (صيف 2024)
«خويا قابس سمحة، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون (صيف 2024)
«ومافيهاش إجرام، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون (صيف 2024)
«ومافيهاش إجرام، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون (صيف 2024)
«وعيشتها سمحة، شاطئ البانغالو، قابس»، آي فون (صيف 2024)
❂
أواصل جولاتي على الدراجة الهوائية، وما عادت تستوقفني أشباه أزهار عباد الشمس والنخلات النبيلة الشامخة في واحة شنني. تجدني فقط أترصّد بعين ثابتة لا تزيغ ذلك الوحش الذي يحوم لا محالة في أفق المشهد اليومي، أنا التي تسكنني ترومات الغيمات الفطرية الخانقة منذ انفجار المرفأ.
رافقني في هذه الرحلة أختي وأمي وأبي وأبناء خالتي. وصار الكل يرسل لي صوراً من مشاهدهم اليومية التي تظهر فيها غيمة الموت. صارت مشاويرنا العائلية تتضمّن تحويلات غير مبرمجة تنتهي بنا في محيط المجمع الكيميائي أو في محطّات أخرى يمكن رصدها من خلالها، وهي كثيرة.
«خويا قابس سمحة، ميناء الصيد البحري، قابس»، آي فون (خريف 2024)
«وعيشتها سمحة، ميناء الصيد البحري، قابس»، آي فون (خريف 2024)
«ومافيهاش إجرام، ميناء الصيد البحري، قابس»، آي فون (خريف 2024)
❂
تلتقط ابنة خالتي فيديو لمداخن المصانع في طريقها إلى العمل وترسلها لي. يتصّل بي ابن خالتي، القاطنُ منطقةً مطّلة على المجمع الكيميائي، ليعلمني بعد أن يصعد إلى سطح منزلهم أنهم لم يقوموا اليوم بإفراز «البخّارة»، أو عن احتمالية حصول ذلك قريبا بما أنّ الطقس غائم. ترافقني أمّي وأختي إلى المناطق السكنية المحاذية للمجمع الكيميائي ليلة من الليالي التي كانت الانبعاثات فيها قاتلة، وتصرّان على أن أتلثّم قبل النزول من السيارة لالتقاط ما تيسّر من الصور المُدينة.
ذهبت يوماً إلى المنطقة ذاتها مع أبي، هذه المرّة في وضح النهار، وشرعت في التصوير. استوقفتنا سيارة حراسة أمنية — فرقة مكافحة المتفجرات، ونبّهتني إلى أن هذه منطقة عسكرية مشدّدة الحراسة وأنّه لا يمكن التصوير إلّا بترخيص. وعدته، كذِباً، بمحو الصور. لعلّ الصور هي حقّا مُدينة.
«الإجرام، شاطئ السلام، قابس»، آي فون (خريف 2024)
«الإجرام، شاطئ السلام، قابس»، آي فون (خريف 2024)
«الإجرام، شاطئ السلام، قابس»، آي فون (خريف 2024)
«الإجرام، شاطئ السلام، قابس»، آي فون (خريف 2024)
❂
انتهت الأشهر الستّة التي عدت لقضائها في قابس. لا يمكنني الجزم تماما بأن عملية التجذّر قد تمّت بنجاح، فمثل هذا التصريح الجريء يُوجب قليلا من الوقت والكثير من العودة والتكرار. لكنّي غدوت بكلّ تأكيد وبفضل الصور وتقنية الزووم أكثر استيعاباً للصراعات الكمّية التي تعيشها عناصر الحياة هناك في ظلّ إجرام المجمع الكيميائي.
قابس هي مدينة «سمحة» حقّاً، وعيشتها سمحة، وناسها سمحون، وواحتها سمحة، وكورنيشها سمح. لكنّ فيها إجراما. ولعلّ هذا الاستيعاب هو بالتحديد ما يعنيه التجذّر في مدينة مثل قابس… إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.
من قابس التونسية. مستشارة استراتيجيات صباحاً ومرافقة يقظة للسائقين النائمين ليلاً. تكتب عن المدن والهوية وتجارب شخصية عادية. مُشاهِدة فاحصة للتفاصيل والأحداث اليومية. تقود دراجتها الهوائية عبر شوارع المدينة وتصوّر واحات النخيل والبحر والبيوت المهجورة وأحداث المدينة وناسها.
