حين ظهر رقمي على الشاشة الرئيسية في البهو الخاص لمركز التوظيف والدعم الوظيفي، خطوت إلى الباب الذي يحمل رقم 7. حاولت أن أتفاءل خيراً بالرقم. كانت الآنسة أولاف ترتدي جيليهاً خاصاً بِعيد الميلاد والذي يقع على بُعد أسبوعين من اليوم، مذكّراً بولادة مخلّص العالم ومعلناً استكمالي السنة الأولى في الحصول على دعم مالي من الدولة بعدما تمّ قبول طلبي في الحماية الإنسانية.
كان من المفروض أن أبدأ تعلّم اللغة والبحث عن عمل، لكن إيجاد منزل مستقل في المدينة قد أخذ مني أكثر من نصف السنة تقريباً، وبقي لي أقل من نصف سنة للبحث عن عمل. وجدت نفسي كل صباح أمام دليل الوظائف الحكومي، أتصفّح موقع البلدية حيث يعلن عن فرص عمل يمكن أن أتقدّم لها. على شاشة الكومبيوتر ظلّت سيرتي الذاتية مفتوحة طوال هذه المدّة، سواء كنت أعمل على تعديلها حقاً أم لا. فكّرت في إرسالها لبعض الناس الذين تعرّفت عليهم بعدما استقرّيت هنا، لكني كنت أتردّد في اللحظة الأخيرة.
قلت لنفسي إن ضغط الدولة ومؤسساتها عليّ لأجد عملاً هي فرصة اغتنمها لأعيد النظر في السيرة الذاتية هذه التي كانت قد كتبتها لي صديقة بنت جارتنا قبل أن تفرّقنا السبل من ثلاث عشرة سنة، فقد كانت تمتاز في الكلام والكتابة بالإنجلش كونها نشأت في الإمارات.
وفعلاً كانت السيرة الذاتية هذه أمراً مباركاً، وفتحت لي أبواباً حين طرقتها. وكنت مع كل وظيفة أستقيل منها طوعاً أو قسراً، أضيف على السيرة مهاراتي وقدراتي الجديدة وأحاول أن ألتزم بنفس طريقة الكتابة التي أبدعت فيها صديقة بنت جارتنا. قبل السيرة الذاتية هذه، وجدت عملين من دونها: الأول ترافق مع سنوات الجامعة قبل أن أتخرّج بليسانس في علم الاجتماع. كان العمل في مركز تصوير يُدعى حوا فوتوسنتر، حيث علمت أنّ مستر عماد لا يحبّ أن يناديه أحد بالأستاذ كما تمّ إخطاري في اليوم الثاني على بداية دوامي. كان مستر عماد متأثراً بأميركا وكان يذهب كل سنة في الصيف ليزور أخواته وأصدقاءه وأحياناً ليشتري بعضاً من الكادجيتز التي كان الناس يأتون من مدن ثانية لرؤيتها وشرائها.
كان مستر عماد أول من علّمني مفهوم الشيفت، وكنّا كفريق في هرولة دائمة بين جامعاتنا واللحاق بالشيفت وانتظار انتهائه وتدوين الاستراحات، فقد كُتب علينا أن نحضر في السنتر قبل ربع ساعة من بدء الشيفت، وكان علينا أن ننتظر ربع ساعة بعد نهاية الشيفت لنغادر السنتر. لم تفهم أمي معنى الشيفت رغم كل محاولاتي للشرح، فقلت لها إن الشيفت هو دوام يُقسّم مثل الصلوات الخمسة، فصارت كلمة شيفت تأتي مع كلمات الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
بعد سنة ونصف، تركت وظيفتي في التصوير والطباعة وبيع اللوازم المكتبية بسبب الكاميرات التي ركّبها مستر عماد في السنتر، والتي صار يعيد مشاهدتها، ويلفت انتباهنا أنه رأى فيها أننا لم نبتسم لزبون ما، أو تمادينا في مدّ الحديث مع بعضنا بعضاً بالقرب من مكنة القهوة الأميركية التي كانت تخرج منها أصوات تحاكي زقزقة العصافير حين يمتلئ الإبريق كثيراً. أصبح الشعور بالكاميرا يوتّرني، وأصبحت أحسّ أن رقبتي تحرقني كلّما تذكّرت أني مراقبة فأنشغل بوضع يدي على رقبتي أو صدري أو خدي للتأكّد بأني لا أحترق، كما أصبح عندي صعوبة في نطق الكلمات لأنّ لعابي صار يفلت مني فجأة أثناء الكلام، وأحسست بأني لا أرمش بصورة طبيعية. حين أخبرت مستر عماد أني سأستقيل، لم يعاتبني أو يسألني عن السبب، بل قال فقط إن الشهر الأخير يُحسب كأنه ثلاثة أسابيع لأني سأكبّده تكلفة توظيف بنت جديدة في السنتر.
بعد توقّفي عن العمل بأشهر وتخرجي في هذه الأثناء، وجد لي سليم الذي كان يعمل معي في الفوتو سنتر وظيفة في مؤسسة علي بك مهضوم الخيرية. كان الدوام من الثامنة صباحاً حتى الواحدة بعد الظهر، وكنت جزءاً من فريق يُحصي المتقدمين للحصول على إعانة من المؤسسة، وذلك من خلال تصوير أوراقهم الثبوتية وكتابة الطلبات أحياناً. أما إذا كانوا ملاّكي شقق، فكنت أصوّر صك الملكية ورقم العقار بالإضافة لكل المعلومات الاجتماعية والمالية الأخرى. كانت مهمتي الأساسية تصوير المستندات وتجميعها في ملف واحد يحمل شعار مؤسسة علي بك. أحياناً كنت أساعد في توزيع كراتين المساعدات الغذائية أو مواد التنظيف، وأحياناً كنت أساعد في تنظيم اللقاءات التي كان علي بك شخصياً يعقدها مع سكان الأحياء القريبة من المركز، حيث كان يوزّع علينا جيليه طُبع عليها لوجو المؤسسة لنرتديها، رغم أنه كان يُطلب منا الحضور باللباس الفورمال والكعب المتوسط مع مكياج خفيف دون ألوان فاقعة للنساء، وقميص نبيذي وبنطلون أسود للشباب.
تركت المؤسسة بعد سنة ونصف من بدء العمل فيها، يوم هاتف عمّو سمير أبي ليحذّره من انتقال علي بك مهضوم من عالم الأعمال إلى عالم السياسة وترشحه لمنصب الحاكم الأعلى للمدينة أمام حاكم بك الذي كان قد مضى على وجوده في الحاكمية خمسون سنة تقريباً والذي قد حوّل يوم الانتخابات إلى احتفال في وسط المدينة حيث كان كل سنة يطلق من مسدسه طلقات بعدد سنين حاكميته. لكننا مثل كل الناس، كنا نلزم منازلنا ونشوي لحم ودجاج ونشارك في الاحتفال من بعيد.
وجدت نفسي بعدها في البيت لأشهر تفوق السنة، أنظّف البيت مع أمي وأغسل ثياب أشقائي الذين كانوا يقضون خدمتهم العسكرية.أرافقها إلى السوق لأحمل معها خضار ولحمة الأسبوع، فأجد نفسي منهكة عند الساعة الثانية ظهراً حين يبدأ أشقائي الصغار بالظهور على أعتاب البيت متأففين من أحوال المدرسة. أقوم وأنظّف الحمام هرباً من مناكفتهم وأحاديثهم الصاخبة، وانتهي بعد ذلك بحمام سريع قبل اختيار بيجاما جديدة لارتدائها. كانت أمي تنصحني دائماً بأن أختار ثياباً قديمة لأصنع منها ثياب الشغل في البيت بدل تغيير بيجاماتي يومياً وحفظها من الاهتراء السريع جرّاء الغسيل.
في هذه الفترة، شككت في إمكانية أن أجد عملاً. كنت قد تقدّمت لوظائف حكومية شتى ولم يتم اختياري، ولا حتى في دورة شرطة البلدية النسائية مع أن شروطها كانت حيازة الشهادة الابتدائية. ترسّخت عندي قناعة في هذه الفترة بأني نكرة، ولا أصلح إلا لشغل البيت.
غير أنه في اللحظة التي أمسكَت فيها هذه البنت الكيبورد، وطبعت اسمي بالإنجلش، شعرتُ بأني أدخل إلى عالم رجال الأعمال. هرّت مني كل قناعاتي السابقة بأني نكرة وأنا أراها تَصفّ سنة التخرج ونوع الشهادة وترتّب تحتها الخبرة، وكأني أتعرف إلى نفسي للمرة الأولى. طلبت مني أن أعدّد لها مهامي في السنتر وطبيعة وظيفتي في المؤسسة من بعدها، وقالت لي إنه من المهم دائماً أن أكتب أربع هوايات، فكتبتُ أولاً كرة السلة ليعرف القراء أني أحب العمل الجماعي وأني أحبّ أن أعمل في فريق وأعرف كيف أكون جزءاً منه. وكتبت أن هوايتي الثانية هي ركوب الخيل أو السباحة، وذلك كي يعرف القراء أني أستطيع أن أعمل وحدي ومن دون مساعدة. ومن ثمّ كتبت الرسم كي يعرف القراء أني أنتبه إلى التفاصيل الصغيرة. أما الهواية الأخيرة التي ذكرتها، والتي تُظهر للقراء أني مهتمة بالعالم حولي كانت الكتابة والقراءة.
قبل أن تنتهي السيرة الذاتية، وضعت البنت خانة جديدة وسمّتها "التطوع"، وقالت إنه عليّ أن أُظهر جانبي الإنساني لقارئ سيرتي الذاتية كي يعرف أني أحمل قيماً ومبادئ سامية. فوضعَت أني تطوّعت في الصليب الأحمر بالتوازي مع سنوات الجامعة. كان اسمي المكتوب على شمال الصفحة بالإنجلش بالخط العريض الكبير وتحته رقم هاتفي وعنواني الإلكتروني وعنوان منزلي يعطيني إحساساً بأني أصبحت فجأة إنسانة ناجحة كلما نظرت إليه على الشاشة أو على ورقة A4 في ملف بلاستيك مفي شنطة ظهري حيث ينتظر الفرصة ليقدَّم لأحدهم.
صرت أرسل السيرة الذاتية كيفما كان وأينما كان، وكلما كنت أرى إعلاناً عن وظائف في المبيعات أو الإدارة على صفحات الإنترنت أو في جريدة الوظائف التي كانت توزّع مجاناً، كما كان الأصدقاء يعيدون إرسال بعض الإعلانات إليّ عبر الإيميل. بعد شهر من إرسال السيرة الذاتية، هاتفني جاد خير الدين، مسؤول التوظيف في مؤسسة هيومانيتي ناو يطلب مني موعداً لمقابلة عمل لمنصب مساعدة أبحاث في مؤسسة كنت قد تقدّمت للعمل فيها.
أحمد الله دائماً أن مستر عماد علّمنا كل ما يمكن للإنسان أن يتقنه عن الإيميلات والطباعة السريعة والتصوير والسْكان، لأني عدت فوراً إلى الكومبيوتر وفتحت بريدي الإلكتروني وبحثت في ملف الإرسال عن هذه الوظيفة. قبل أن نهرب كلنا من الحرب التي وصلت إلى باب البيت، بقي الكومبيوتر القديم في مكانه في الصالون حيث وضعته أمي الله يرحمها لأن أبي كان قد حذّرها من أخطار وضعه في غرفة نومنا. كنّا نستعمله رغم أنه صار بطيئاً وعاجزاً عن مجاراة سرعة الإنترنت. صار أخي يغيّر له قِطعه حتى صار عندي لابتوب، فلم أعد أقربه ونسيت فيه بريد الجي مايل خاصتي والذي كان في زمن ما بريدنا كلنا في البيت.
حين خرجت من المقابلة، كنت واثقة بأنه سيتمّ اختياري، فقد ظلّ مسيو جاد الذي كان بعمري تقريباً، والذي شعرت بالحرج من تسميته جاد، يسألني إن كان لدي مشكلة في أن يكون الدوام من السابعة والنصف صباحاً بدل الثمانية، وإن لم أمانع في عدم تسجيلي في الضمان لما بعد انتهاء أول سنة من التجربة. لم يسألني عن تجربتي كثيراً، ولم يعطني فرصة لأردّد ما كنت قد حضّرته عن أهمية الإنسانية والحفاظ على الإنسان، وتعاطفي مع الشحاذين في الشارع. كما لم يطلب مني مراجع للعمل. كنت متخوفة من ذلك لأني لا أعتقد أن محمد، قائد مجموعتي في مؤسسة علي بك، أو حتى مستر عماد سيذكران من أنا أو سيتكلمان عني بالحُسنى. وثبت ظني حين هاتفني مسيو جاد الذي عرض عليّ معاش الحد الأدنى بالإضافة إلى مواصلات مدفوعة وخمسة أيام إجازة مدفوعة منها عيد العمال ورأس السنة وعيد الوطن ويومين حسب أعياد ديانتي، كما يشمل العرض يومين مرض مدفوعين، وتسجيل بالضمان الاجتماعي بعد سنة. قبلت فوراً.
وأنا أنظر إلى اسم هيومانيتي ناو المكتوب على السيرة الذاتية المفتوحة منذ أشهر على شاشة اللابتوب، تذكّرت أني لطالما اعتبرتها نقطة البداية الحقيقية في مسار مهني يتعلّق بمجال دراستي، ورغم أن هدفي من دراسة العلوم الاجتماعية كان التقدّم لوظائف مثل ناظرة ومساعدة مديرة أو حتى إدارية في المدارس التعليمية الحكومية، متفادية التعليم بسبب أشقائي الصغار. كان تدريسهم في الابتدائي والتكميلي والثانوي يتركني مهدودة الجسد والعقل، وخصوصاً هادي الذي كان يبدأ وصلة البكاء والنق بعد ساعة من التدريس ويقول إن رأسه يؤلمه من الأرقام حتى لو كنّا نكتب نص إنشاء، ومن دون أن يدرك يوماً أني أسمع أيضاً صراخ الأطفال الذي خرجوا إلى الشوارع ليلعبوا ويهربوا من جبروت الوظائف المنزلية.
كنت وأخي الأكبر قد تفرّقنا على حدود بولندا تقريباً، لتنتهي رحلتي في غرفة استقبال فوق مطار شارل ديغول لا يمكنني إقفال بابها، وخارجها حمام لا يمكن إغلاقه ورجال بوليس يختفون ويظهرون في الممرات ليخفوا واحداً منّا أو يضيفوا واحداً علينا.
اتصلتُ بأبي من مركز الاحتجاز فوق مطار شارل ديغول التابع للصليب الأحمر، والذي كانوا يسمّونه الأوتيل. أجزم أن كل من انتهى فيهم الأمر في هذا المركز اعتقدوا مثلي أنهم سيقضون الليلة الأولى بعد طلب اللجوء في أوتيل حقيقي، ومثلي فكّروا في المغطس الساخن ورائحة السرير المعطرة، وأجزم أن كل من نام على هذه الأسِرّة مثلي، سقطت ابتسامتهم بعدما اكتشفوا أن الأوتيل ليس إلا مركز احتجاز مؤقت.
كنت قد ارتحت قليلاً بعد أن أخبروني أن هناك محامياً ناطقاً باللغة العربية سيحضر جلسة التحقيق. وكنت فهمت من الموظف في الصليب الأحمر المداوم في الأوتيل أنها الجلسة التي عليّ أن أطلب فيها اللجوء كي لا يتمّ إرجاعي إلى البلد الأم. فتشجّعت وفتّشت على رقم منزلنا المخبأ بعناية في شنطة ظهري، وطلبت هاتف أبي، وقبل أن أسأله عن أحواله وأمي وأطمئنه، قال إنهم دفنوا هادي في صالون البيت في القرية، وإنهم يسّروا رحلة لشادي، أخي الذي يكبر هادي، وإنّ شادي قد وصل إلى ألمانيا.
أغلقت الخط ومشيت إلى غرفتي. كان موظف الصليب الأحمر قد أغلق الباب وجلس يأكل خلف ورقة معلناً أنه في استراحة عمل. رتّبت شنطة الظهر التي قدّرتُ مسبقاً أنها ما سيتبقى معي في الرحلة ووضعت فيها المهم والضروري بعدما صرت أفقد الحقائب الأخرى التي جرّيتها معي على الحدود وفي الباصات وفي القطارات ولم يحالفني الحظ لأرافقها إلى المحطة الأخيرة. انتظرت الشرطي الذي أتى ليأخذني من المركز إلى مبنى آخر في المطار حيث يقع مركز التحقيق. وأنا أمشي بجانبه وسط بحر المسافرين، فهمت فجأة أنهم دفنوا هادي لأنه مات. ربما كان الشرطي أيضا ساهياً، لأنني وجدت نفسي من دونه، فتواريت عن نظره بين الجموع وغيّرت ثيابي في الحمام وبحثت عن مخرج. قال أبي إنه دفنه في قريتنا التي هُجّر جميع أهلها. وخوفاً من تعرّض جثامين المقبرة للسرقة، حفر له قبراً تحت أرض الصالون، الذي كان قد نُهب أيضاً، كي يبقى في البيت، كما كان أبي يطلب منه قبل أن يُقتل.
حين فتحت سيرتي الذاتية المحفوظة في صندوق الإيميل في مكتبة مركز اللجوء النهائي، كان قد انقضى على آخر وظيفة لي ثلاث سنوات تقريباً وسنة ونصف من الحرب التي ظّلت تأكل المدن والقرى المحيطة بنا، حتى قرّرت وأخي أن نجرّب حظنا مع المجموعات الواقفة أمام المرفأ منتظرةً السفن التجارية الكبيرة كي تنقلهم إلى مراكز الاستقبال المنتشرة. كانت السفن أحياناً تأخذ خمسين نفراً، وأحياناً ألف. وكان الوصول إلى السفن والصعود عليها الخطوتين الأكثر سهولة في كل العملية. وصول السفن كان يسبقه وقف إطلاق النار ينشغل فيه المقاتلون بتحميل البضائع وإخراجها.
كان انتظار السفن الخطر الحقيقي في العملية. فقد أعلنت الأمم المتحدة أنّ بلادنا غير صالحة للسكن منذ سنوات وصارت طواقم السفن تنقل بشراً عند المغادرة. قرأت مؤخراً إحصائية تشير إلى أن فرص الموت قبل الصعود على السفينة قد تصل إلى التسعين في المئة. كُنّا محظوظين، أنا وأخي الكبير، لأننا بقينا معاً ولم يلاحظنا أحد مع حقائبنا ونحن نحتمي داخل حطام مبنى ننتظر السفن. كنا محظوظين لأن كل الخطوات التي مشيناها نحو السفينة كانت خالية من المتفجرات التي يتمّ التحكم فيها عن بعد. ربما كان الشخص في استراحة تدخين، فغاب عنه تفجيرنا.
ضاع هاتفي بسبب التنقل والمشي والهروب، لكني كنت قد كتبت باسورد بريدي الالكتروني على ورقة، واحتفظت بصور لباسبوري وهويتي وشهادات وصور قليلة على شكل رسائل توجّهت لهادي. ظلّت الورقة التي جلّدتها بالبلاستيك، كما علّمني مستر عماد، مطوية في جيب قميص تذكّرني بنفسي قبل كل هذا. وحين سيسألني الآيتش آر عن الانقطاع عن العمل طوال كل تلك المدة، سأذكر السفر والاستقرار وتعلُم اللغة. هكذا علّمتنا المدربة في مركز اللجوء النهائي ونحن نتمرّن على إجراء مقابلات عمل.
هذا القميص أثار نقاشاً كبيراً في هيومانيتي ناو. كان ذلك بعدما فاجأني المسيو جاد بأنه سينتقل إلى مؤسسة أخرى في أول أسبوع لي في المؤسسة. سمعت بعدها من أم موسى التي كانت مسؤولة عن تنظيف المبنى حيث تقع مكاتبنا وعن تقديم القهوة والشاي بأسعار مدروسة للموظفين، أنه بذلك يكون مسيو جاد آخر من يرحل من الطاقم القديم. قبل أن ينقضي الشهر الأول على توظيفي، لم أكن قد التقيت بمديرة المؤسسة مدام لينا بعد، فقد كانت في مؤتمر كبير جداً خارج البلاد حين بدأتُ أداوم.
كنت في القاعة الأساسية لمؤسستنا، حيث كان مكتبي أو بالأحرى مكنة التصوير، أشرب من شاي أم موسى القوي المذاق، حين دخلت مدام لينا القاعة. كنت أمسح بعض الملفات التي كانت المؤسسة ترغب في أرشفتها رقمياً، وطبعاً أطبع المعلومات في الكتالوج كي لا أنساها. لم أتعرّف عليها حين دخلتْ، وافترضتُ أن لديها موعداً مع أحد الموظفين. وحين سألتني عن خلدون، موظف الآي تي، طلبتُ منها أن تنتظر ريثما أنهي طباعة الجملة فأسمعها جيداً. في هذه الأثناء دخل خلدون مرحّباً بها بشكل لم أعهده، وحين قال لها مدام لينا فهمتُ من كانت. جاءت سهيلة مديرة البرامج تعرّفها بي وهما خارجتان من قاعة الاجتماعات. انتبهت أنها تتكلّم الإنكليزية لا العربية، فمددتُ يدي وأنا أقول لها ويلكم باك مس لينا، فصحّحت سهيلة: "مدام لينا". وأنا أحاول الاعتذار بأني لم أعرفها، قاطعتني لتقول لي أن القميص الذي أرتديه لا يصحّ للعمل لأنه رجالي وأنا بنت، فخجلت من نفسي، ولكنها رحّبت بي في الفريق وطلبت مني أن أصعد معها إلى الطابق الأخير من المبنى حيث يقع مكتبها كي أجلب الشوكولاطة التي اشترتها من المطار للموظفين في الطابق السفلي. سألتني وأنا أمشي معها نحو المصعد عن عائلتي ومكان سكني ونوع دراستي. حلّ الصمت من بعدها إلى أن أعطتني الشوكولاطة وطلبت منّي أن أضع صحن بقايا الدليفري التي كانت على مكتبها في النفايات وانا في طريقي إلى الخارج.
سبع سنوات عملتُ مع مدام لينا. من كان ليقول لأم موسى أنّ أحدث موظفة أصبحت الأقدم على الإطلاق؟ كان الموظفون يأتون ويرحلون بشكل دائم، وكنت وسهيلة وخلدون ثابتين. كانت سهيلة من صديقات مدام لينا المقربات وكانت الوحيدة التي تناديها لينا، دون أي ألقاب. كانتا تمضيان الكثير من الوقت في مكتب مدام لينا، وأحياناً تتناقشان وتجتمعان مع أشخاص مهمين وأحياناً أسمع ضحكتهما وأنا أشك في سمعي وخصوصاً بعد أن أصبح مكتبي ومكتبة التصوير في الطابق الأخير ملاصقين لمكتبها. أشكّ لأن مدام لينا لم تكن تضحك ولم تكن تبتسم. كانت تذكِّرني بسيدة في الفوتو سنتر أعطيتها مرّة خصماً 5% على فاتورتها لأنها انتظرت ثلاث دقائق في مسار التصوير السريع، فاشتكت عليّ بأني وقحة. بعدها نبّه علي مسؤول الشيفت بأن أنتبه وأعلم أن المسار السريع والأغلى هو للناس الذين يفضّلون ألّا يتوجّه لهم العاملون بالكلام. نسمع وننفّذ فقط، ونكبس على زر استدعاء المانجر في حال كان للكلام ضرورة. قبل أن أعلم أنّ السيدة اشتكت عليّ، كنت قد ابتسمت لها وردّت الابتسامة بشفاه مزمومة فيما كانت تحدّق بشاشة هاتفها. أعطيتها خصم لأني اعتقدت أنها تضايقت من الانتظار، إلا أنني لم أدرك أنها تضايقت من الابتسامة.
كان الناس الذين يتوظّفون عندنا لا يكملون السنة. منهم من كان يجد عملاً آخر ويستقيل دون أي حوادث تُذكر، ومنهم من كانت العلاقة معهم تسوء بسرعة فيصبح المكتب مكاناً مشحوناً بالأحاديث الجانبية وبأصداء إيميلات مس سهيلة عن الدوامات والتأخير، فيتغيّر ويتوسّع دليل السلوك الحسن سنوياً. حاولت النأي بنفسي عن كل تلك النقاشات بقدر ما استطعت. كنت أنا وخلدون ثنائياً سعيداً في المكتب وعلى علاقة جيدة بالجميع، وحين كنّا نشهد على مشاكل الموظفين والإدارة، كنّا نحاول أن نقيم مكاناً للصلح. بعد سنة، طلبت مدام لينا أن أنتقل إلى طابقها، وصرت ألتقي بخلدون فقط في استراحة الغداء في القاعة عندي وبعد أن أستلم وجبة مدام لينا وأسخّنها وأطمئنّ بأنها لن تحتاج شيئاً.
في تلك السنة شككت في قدرتي على البقاء. اعتقدت أن مدام لينا تكرهني، فقد كانت تطلّ برأسها من الباب يومياً لتعطيني ملاحظات حول لبسي، إلى أن أصبحت أرتدي بنطلوناً أسود وقميصاً أبيض صيفاً وشتاءً. وحين نقلتني إلى الطابق الأخير عندها، اشتريت مئزراً لغسل الأكواب والصحون التي كانت تتركها في القاعة لأنها كان تعمل حتى وقت متأخر. كنت آخذ تعليماتي من مس سهيلة، وصرت أمسح وأصوّر كتباً وصوراً، وفي نفس الوقت كنت أهتمّ بضيوف مدام لينا وأطلب من أم موسى الشاي والقهوة وأستلم سعيد ابنها من الباص كل يوم وأسخّن له الغداء الجاهز. أحياناً كنت أساعده في حل بعض الواجبات أو ألعب معه إلى أن ينتهي دوامي. ولكن بعد سنة كاملة أضافوا على معاشي 15%، فصار دوامي ينتهي مع باقي الموظفين، وصرت أسلّم الولد إلى أبيه إن كانت مدام لينا ستعمل لوقت متأخر، أو أسلّمه لأختها في أسفل المبنى لأن مدام لينا لا تحب أن يكون بمفرده في المصعد.
كان الاستقرار الذي أتى بعد حصولي على عقد ثابت جميلاً جداً. وكنت أشجّع الزملاء الغاضبين على الإدارة بالتنازل عن آرائهم الغريبة عن العمل، فأقنعهم مثلاً أن تنظيف الصحون أو القيام بأعمال أخرى هو جزء من العمل، وماذا لو عملوا ساعة إضافية واحدة أو حتى خمسة؟ وماذا لو أخذوا مهاماً عن مس سهيلة؟ فهي تعمل طوال الوقت من أجل مؤسستنا، وأنه علينا أن نكون مثل العائلة المتكاتفة، فالمعاش يظهر في أول الشهر دون تأخير في الحساب. كان الموظفون يتحاشون الكلام معي بعد ذلك عن موضوع العمل، وكانت أحياناً مدام سهيلة تسألني اذا كان فلان أو فلانة في مزاج سيئ، ولا يعجبها جوابي. لسنوات طويلة في المؤسسة كُنت تابعة للإدارة بنظر الموظفين، فيما لم أكن سوى موظفة بنظر الإدارة. في السنة الخامسة، تقدّمت لدورة تدريبية
في إدارة نظام المكتبات والفهرسة. كان قد وصلنا إعلان عنها، وكانت مدام لينا تضع كل الرسائل والدعوات غير المهمة على مكتبي لإتلافها، غير أن يدي لم تطاوعني على تمرير الدعوة والملصق في مكنة التمزيق، فسألت خلدون عن رأيه، وكان مشجعاً جداً ومتأكداً أن مس سهيلة لن تمانع أن أخرج من الدوام باكراً للالتزام بالدورة.
بعد أشهر من موعد التقديم، وصلتني رسالة القبول في الدورة صباحاً، وقبل نهاية الدوام، وصلتني رسالة من مس سهيلة تخبرني فيها أنهم اعتذروا عن كتابة توصية لي لحضور التدريب، وأنهم مصدومون من سرقتي لمعلومات خاصة بالعمل وتوظيفها لمصلحة شخصية. في اليوم التالي، حين دخلت إلى القاعة لأضع حقيبتي وأحضّر القهوة قبل وصول مدام لينا، رأيت خلدون جالساً على مكتبي يصلح شيئاً ما، وبذلك علمت أن رحلة طردي بدأت من خلال نسخ محتويات حاسوبي واستعمال أي شيء فيها ضدي. قدّمت استقالتي وأخذت تعويض شهر عن كل سنة، وفي آخر أسبوع كانت مدام لينا تضع صحونها الوسخة على مكتبي، من دون أن تتكلّم معي ومن دون أن تنظر إليّ. كنت قد رفضت الاعتذار عن تقديم طلب التدريب ورفضت اتهامي بسرقة معلومات تم وضعها على مكتبي للتلف. فقد حاولت، في الحقيقة، التطور في وظيفتي. في نهاري الأخير في العمل، ومثل العادة، اشترت مس سهيلة تشيز كيك تحبّه مدام لينا، وأتى الموظفون عند الغداء وودّعوني وأخذنا صورة ستُعلّق على الحائط الذي وضعوا عليه جملة "هيومانيتي ناو بيج فاميلي".
من بعدها، أرسل لي خلدون إعلاناً عن وظيفة مسؤولة مكتب لقناة 7 الأجنبية حيث توظّف هو بعدما طردته مدام لينا لأنه لم يقبل أن يساعدها في تركيب شبكة إنترنت جديدة في منزلها الذي كان في منطقة بدأ يحوم حولها المسلحون. تزامن ذلك مع إغلاق هيومانتي ناو مكتبها في المدينة وانتقالها إلى العمل في بلد محاذٍ خصوصاً بعد الانهيار المالي، وظهور ملامح انتفاضة المزارعين في الأقاليم تسارع أحداثها. قال لي مستر جوناثان، الذي كان متحمّساً جداً لي كمرشحة ، إني حين وعدته بأني سأهتمّ بالمكتب كأنه بيتنا، كان متأكداً أني الشخص المناسب. في السيرة الذاتية، لا يكمل عملي في مكتب قناة 7 السنة، ولا ينتهي، ويبدو صغيراً مقابل تجربتي مع هيومانيتي ناو. في أقل من سنة، رحل جوناثان من القناة والبلد كله، وصار النقل الأجنبي يعتمد على الدرونز فقط. تحوّلت انتفاضة المزارعين إلى حرب مسلحة، وأضحت الحرب طائفية في بعض المناطق، وفي غيرها كانت عائلية، وفي مناطق أخرى كانت بين الجيش ومجموعات مسلحة صرنا نسميها بالمجموعات "العشوائية"
وقد أصبحت هذه المجموعات الأكثر سيطرة وانتشاراً في الحرب. بعد أن رحل كل الطاقم، لم تخبرنا قناة 7 شيئاً، حتى أنها لم ترسل لنا رسالة تطلب منا التوقف عن العمل، أو إيصالاً بالمبالغ المتبقية، بل اختفى جميع موظفيها بعد أن جمّدوا البريد الخاص بالعمل. حين التقيت به لآخر مرة، كان خلدون داخل المكتب يفكّ الحواسيب ليبيعها بدل معاشه الذي لم يُحوّل من أشهر. أخبرني بأنه سيترك البراد لي، إن رغبت فيه ويستطيع أن يأتي هادي وينقله بسيارة البلدية حيث يعمل. كنا قد وضعنا صورة الفريق بعد توظيف المراسلين على باب البراد بالإضافة إلى ملاحظات عن النظافة والقهوة وجدول أسماء العاملين في الشيفت الليلي. في الشهور الأولى، كنت أتوجّس من هذا البراد، لأن وجبتي ظلّت تختفي منه، حتى علمت أن جوناثان كان يأكل كل ما يجده فيه. كان يفترض أنّ ذلك جزءاً من ثقافتنا وأعتقد أننا خجلنا من تصويب أفكاره. في هيومانيتي ناو، كانت مدام لينا تتأفّف إذا وضعت وجبتي في البراد في تبروير وحمل اسم محل أو مطعم، وكانت في البدء ترميها في النفايات، فاشتريت تابيروير خاص وكنت أضعه في الجارور أسفل البراد خوفاً من عينيها. كانت تبتسم فقط حين تجد صندوق الكرز الذي كنت أطلب من أبي إحضاره لها من من أرضنا. سبع سنوات وهي تشكرني فقط بعدما تتأكّد بأنه غُسل جيداً.
أرسلنا البراد إلى البيت في القرية، ولحقناه هرباً من الحصار الذي بدأ يُفرض على المدينة. كان هذا آخر صيف نمضي أيامه سوية وتماماً كما كنا أطفالاً، فصرنا نذهب إلى الوادي في الصباح الباكر ونحوّش زعتر وهندبة ونبحث مع أمي عن ثوم وبصل بري. ومن بعدها، كان شادي وهادي يغيبان ويأتيان بأرانب بريّة أو بخشب كي نخزّنه للتدفئة شتاءً. ومن بعدها في موسم الحصاد، قطفنا الكرز حبة حبة، وجلست مع أمي على الطريق العام لبيعه، لكننا لم نلتقِ، إلا نادراً، بمن يشتري. وتُذكّرنا الحرب والطرقات المقطوعة بأن العملة التي تدهورت بشدة، بسبب وتوقف المطبعة وانقطاع الكهرباء وهروب حاكم المصرف إلى الخارج، قد أصبحت شحيحة. قلنا إننا نقبل بكيلو من الجبنة أو دزينة بيض أو شريط بنادول أو كيلو طحين مقابل كيلو ونصف من الكرز. لم يبادلنا أحد.
واصلت البحث عن عمل، وكنت مؤمنة أني سأعيَّن في قطاع الدولة لأن الناس كانت ترحل إلى البلدان المحيطة براً أو إلى الجزر المحيطة بحراً بأعداد مهولة. في ذلك الصيف خَلَت المرافئ من السفن والقوارب والفلوكات من كل الأحجام، وعادت وازدهرت تجارة صناعة القوارب. كان شادي يفكّر في الاستحواذ على قسم من محمية طبيعية أقامتها البلدية في قريتنا، وكانت تقضم جزءاً من الدونمات التي كان أبي قد أعلن أنها إرث شادي، وفيها شجر سرو وكينا وصنوبر وأرز من خيرات الله. عرضنا عليه أن يصنع لنا قارباً وأن نسدّد ثمنه خشباً ونرحل بحراً. لكن بعد انتهاء الصيف، تركنا البيت كما هو وأسرعنا في العودة إلى المدينة لأن "العشوائية" بدأت تحصل في إقليمنا. في هذا الخريف، احتدّ كل شيء والآمال في المصالحة تحوّلت إلى سيطرة العشوائيين على كل شيء تقريباً، فصرنا نقضي أسابيع من الخوف والفزع وأسابيع أخرى من الحياة الطبيعية، قدر الإمكان، حيث كنت أحاول أن أجد عملاً قريباً من البيت أو حتى من البيت، لكني لم أنجح.
تُقلّب الآنسة أولاف في سيرتي الذاتية المطبوعة أمامها والتي أرسلتها لها قبيل الموعد، وتكتب بجانب السنة التي بدأت فيها العمل في قناة 7 أني انتهيت من العمل في نفس السنة. تضع سيرتي أمامها على الطاولة وتنظر إليّ، ثم تتأكّد من أنها تلفظ اسمي جيدّاً كما تتأكّد من أني غيّرت عنوان سكني، وتضع إشارة "صح" على خانة "وجدت سكن مستقل"، وتسألني عن نوع الوظيفة. فأقول مترددة: "أنا… أنا أبحث عن عمل".
سارة أبو غزال
سارة أبو غزال، كاتبة نسوية فلسطينية من بيروت، تنطلق كتاباتها من تقاطع الخطاب النسوي مع التراث الشعبي. صدر لها المتتالية القصصية "احلمي يا سيدي" (2022) عن منشورات خان الجنوب وقصص قصيرة ومقالات في مواقع أدبية ونقدية وإخبارية.