RR

أنا هو الملفّ إياه

Untitled | From the series: Sign of the Times | By Paul Gorra

كنت أبدأ كتابة شيء أخاله طويلاً، عندما بدأ جهازي يموت، متلوناً كل يومين بشاشة زرقاء عليها وجه حزين. نقّلت ملف الوورد بين أجهزة متعددة وأنا أشرع في شراء لابتوب جديد، رغم قلة المال وقتها. جاء اللابتوب وواصلت العمل، لا تفارقني مع ذلك ذكرى الشاشة الزرقاء، ترعبني كالجحيم مع احتدام الكتابة.

- لن أدع الجهاز يتعطّل إلا بعد الانتهاء من الكتابة.

- لن أدع نفسي أموت إلا بعد الانتهاء منها.

ربما قلت الجملتين في هذه المرحلة. ربما قلت واحدة واخترع عقلي الثانية. ربما لم أقل أيهما وإنما فقط أحسست بهما عميقاً. ما أذكره بدقة أنه كثيراً ما كان يخطر لي، أثناء الكتابة، أني سأموت في نومي، خاطر كئيب يواتيني كثيراً--وأخاله يواتيكم أيضاً--فأقوم من السرير لفتح اللابتوب، أحفظ الملف الأحدث على فلاشة ثم أرسله لمجموعة أصدقاء، نوع من تسليم العهدة على أكمل وجه قبل الاستقالة أو الخلود للنوم.

 

--<>--<>--<>--<>--<>--<>--


يشبه الأمر جلسة صاخبة في المقهى تمور بالضحك والنميمة، فيما يربض في الركن تلفزيون يعرض فيلماً لا علاقة له بما يجري، حياة صغيرة تدور في زاوية الحياة الكبيرة.

تقدّم مثل هذه اللقطة في الأفلام خدمة إخراجية سهلة. عبر راديو أو تلفزيون في خلفية المشهد يمكن التلميح لما تمنعنا مقتضيات الدراما من التلميح له، الشيخ شعراوي كخلفية، خطاب لعبد الناصر، إسماعيل ياسين، مدرسة المشاغبين، أي شيء يمكن إبداله بأي شيء ولن تتأثّر الحبكة، بقعة خاملة متاحة لكل من هبّ ودبّ.

شيء مثل هذا يحدث ونحن نكتب، صحيح بشكل أعقد وقد مرّ بمرشّحات اللغة والخيال والمجازات، ولكن في كل الأحوال ثمة هنا حياة منبتة الصلة بما حولها، ليست سبباً ولا نتيجة، لا تؤثّر ولا تتأثّر.

في الأيام التي أنشغل فيها بالكتابة، تتوزّع نفسي بين حياتين، العالم وملف الوورد، وتأبى عصابيتي ساعتها إلا أن ترى في الأخير الحياة الأصلية. أفاجأ بعينيّ، وأنا أكلّم الناس، تطرفان نحو الجهاز الساكن الأصم، كمن تغمزان للشخصيات بداخله، انتظاراً لأن يحلّ الليل فأرتمي في حضنه.

أنت لست عملك، يقال تشجيعاً، ويقتنع عقلي بهذا وأنا أكتب ولكن قلبي يعجز عن تصديقه. يداهمني إلحاد عنيف كالذي داهم لويس الرابع عشر وهو يقول: "أنا الدولة" أو فرعون وهو يقول: "أنا ربكم الأعلى"، لا بل أنا هو ملف الوورد.

 

--<>--<>--<>--<>--<>--<>--


كأن الكُتّاب، في حياة سابقة، قد أقسموا على خدمة الأموات كما يخدمون الأحياء. ينزلون عالمهم لبرهة، يتأملونهم ويحاورونهم، ثم يخرجون من هناك وقد اغتنموا ما يمكن إهداؤه للأحياء بالأعلى. على قدر ما زادت متعتهم بالأسفل، على قدر ما زاد استمتاع الأحياء، وهذا لأن أجمل الأشياء ما صُنع بشغف، أليس كذلك؟

نعم هو كذلك، فقط لو تحقّق، إذ يهدّدنا الشغف، وهذا عيبه، بعدم الإنجاز. عشرات الأعمال أعرفها لم تُنشر بسبب رغبة كاتبها في التدقيق لما لا نهاية، برفكشنزم عنيد يتلبّسنا فنرتعب من مغادرة بقعتنا دون الوصول بها للكمال، الذي هو، بالتعريف، مستحيل، قفزة رشيقة للأمام وخدعة أنيقة من لا وعينا وإصرار أعمى للإنسان ألا يكون إلا إلهاً. "تريد تركيزاً، خذ تركيزاً،" يوسوس له الشيطان، وينصاع البيرفكشنست كالمسرنم، ينسى نفسه وأهله ووظيفته، ينسى الحياة التي تعهّد بخدمتها مع الموت. ينسى أن هدفه كان الخلط بينهما وليس تغليب أحدهما على الآخر. يقبع في القبو المظلم يصحح مسودات للأبد، في إصرار يحكم به على عمله ألا يولد أبداً، لأن الآلهة لا تخطئ، وهو كلما صحّح وجد أخطاء.

إن كان مبدأ العمل أن نَخدم لنُخدم، فإن كتابة الأدب، مشاركة الناس هواجسك عساهم يجدون فيها شيئاً مواسياً أو على الأقل مسلياً، هي عمل، هكذا أفهم الأمر. صحيح أنه عمل مزاجي ، ينطلق من لعب المخ والأصابع والمفاتيح والشاشة، ولكنه سرعان، لدى النشر، ما يأخذ إطاره التشاركي؛ يذوب صوت الكاتب في نفوس قرائه ويبدأ نصه في التأثير على الأحداث من حوله.

يعني هذا أن سعي الكاتب يجب ألا ينحصر في الجودة بل في الإنجاز أيضاً. والمشكلة كالعادة أن الرديئين هم من يتلهّفون على الإنجاز، أما الجيدون فيرهبونه. ومَن أفضل من كافكا مثالاً، لو صحّت قصته، وقد أوصى بحرق كتاباته بعد موته، تمتّع بها، أما مشاركتها الآخرين فلم يثق فيها. ظلم نفسه فكاد يظلم معه الناس، لولا امتناع صديقه، الحمد لله، عن تنفيذ الوصية.

 

--<>--<>--<>--<>--<>--<>--


ذات مرة شرحت الشاعرة الراحلة عناية جابر كيف احتمل اللبنانيون الحرب الأهلية. قالت بما معناه إنهم كانوا، يومياً، يتوقّعون انتهاءها في اليوم التالي. وهكذا مرّ ستة عشر عاماً من انتظار اليوم التالي.

شيء مثل هذا حدث معي وأنا أكتب، في الأول ظننتها مسافة عام وأنتهي. وانتهى العام وانتهيت، ولكن دون أن أكون قد شبعت تماماً، فأمهلت نفسي عاماً آخر، ومرّ العام الآخر، وانتهيت بجد هذه المرة، فقط باستثناء تنقيحات خفيفة في القسم الأخير. فتعال يا نائل نلقي نظرة، ثم سيكون كل شيء سهلاً، وآتي وألقي نظرة وأعالجه وأطمئن له. أما ما لا أعود مطمئناً له الآن فهو الأقسام السابقة، فألقي عليها نظرة أخرى، وهكذا دواليك رواحاً ورجعة بين أقسامها إلى الأبد. 

ليس بالضبط إلى الأبد. ما أقوله هو أنه لم يكن إلى الأبد، أدرك، بعد عامين ونصف من التحرير وأربع ونصف من الكتابة، أن ثمة تسارعاً في الزمن؛ بعد أن كانت مراجعة جزء واحد تستغرق شهوراً أصبحت تستغرق أياماً ثم في الأخير ساعات. وكأنني بدأت أطمئن للمسودة بالتدريج، بالتوازي مع وعي ينمو بداخلي بمفاده مايقدرش على القدرة غير ربنا. هذا أنا وهذه طاقتي وهذا ما أستطيعه.

كان تذكر هذا مريحاً، وعملياً أيضا لأقصى حد. به استطعت تهدئة البرفكشنزم والتحرك صوب الإنجاز، شيء من التواضع بمفاده لن تتوقف الحياة بسببنا. أنا وهي، شيء من التواضع شديد الصعوبة أحياناً، ساعدني على أن أرفع رأسي يوماً، وبعد جولات محمومة بين أول الرواية وآخرها، لأهتف: أنا انتهيت.

"أنا انتهيت" الآن صار معناها أني انتهيت لأني أريد أن أفعل أشياء أخرى وليس لأني وصلت للكمال، انتهيت كما أقدر وليس كما ينبغي.

أو ربما "انتهيت كما أريد"؟ 

أتمنّى من كل قلبي أن أكون انتهيت كما أريد، ولكن لهذا حديثاً آخر.

 

--<>--<>--<>--<>--<>--<>--


الآن مضت ثلاثة أسابيع لم أفتح فيها الملف إياه ولم أغيّر فيه حرفاً، في أطول مدة أقضيها بعيداً عنه. أعرف مواضع تحتاج للتعديل، وأسجّلها في مفكرة ورقية، فقط هو نفسه أمتنع عن فتحه، بشيء من الإجبار الذاتي المؤلم. أتخلّى عن عكازي النفسي الذي لازمني طويلاً، الشيء الوحيد الذي أحسست وأنا أفعله أني أفعل شيئاً، ثم إذ بي أسدل الستار عليه مغادراً أرض الراحة لأرض الصراع، كمن ظلّ ينظر لموبايله طيلة الجلسة ثم رفع عينه عنه وفوجئ أنه مطالب بأن يقول شيئاً لأصدقائه.

الأمر ليس سهلاً، ولكني أثق أنها، إن شاء الله، مسألة تعوّد. دعواتكم يا شباب.

Contributor
نائل الطوخي

كاتب مصري يبلغ خمسة وأربعين عاماً، في 1998 نشر أول قصة له، وفي 2023 أنهى كتابة روايته السادسة. آخر رواية منشورة له هي "الخروج من البلاعة"، عام 2018 عن دار الكرمة. تخرّج من قسم اللغة العبرية بجامعة عين شمس بالقاهرة عام 2000، ومنذئذ يترجم عن العبرية ويولي اهتماماً خاصاً للشأن الإسرائيلي. آخر رواية ترجمها هي "تشحلة وحزقيل" لألموج بهار.

Post Tags
Share Post
Written by

<p dir="rtl" style="text-align: right important!;"><span style="font-size: 14pt;">كاتب مصري يبلغ خمسة وأربعين عاماً، في 1998 نشر أول قصة له، وفي 2023 أنهى كتابة روايته السادسة. آخر رواية منشورة له هي "الخروج من البلاعة"، عام 2018 عن دار الكرمة. تخرّج من قسم اللغة العبرية بجامعة عين شمس بالقاهرة عام 2000، ومنذئذ يترجم عن العبرية ويولي اهتماماً خاصاً للشأن الإسرائيلي. آخر رواية ترجمها هي "تشحلة وحزقيل" لألموج بهار.</span></p>

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.