يخرج سعيد يومياً إلى عمله، ويلعن بطريقه القمامة المنتشرة بكثافةٍ بين الأرصفة التي لا يغسلها إلا هطول المطر في شتاء رام الله القصير. بل يلعن كل شيءٍ، خاصّةً موسيقى السيارات وزماميرها التي تزاحمه على هوامش الرصيف بينما يتمتمُ في سرّه قائمة المهام التي سيُنجزها لهذا اليوم.
سعيد رجلٌ خاض في مراهقته أعتى المواجهات وأكثرها قسوةً لشابٍّ لم يكن قد تجاوز السابعة عشرة؛ فسعيد لم يعترف في تحقيقٍ دام أربعين يوماً وأمام عشرةٍ من خيرة المحقّقين في جهاز الشاباك، بل حافظ على صمته أمام الابتزاز والتحايل والتعذيب الجسدي والنفسي. كان سعيد يرتمي بعد كلّ جلسة تحقيقٍ ويغنّي أنشودةً كان قد حفظها بين شجرتي زيتونٍ كبيرتين في قريته التي تطلّ على أكبر معسكرٍ للجيش في الضفة الغربية، يتأمّل المعسكر، ويطربُ لسماع صدى صوته وهو ينشد «يمّا مويل الهوى يمّا مويليَّا، ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيَّا».
لطالما تساءل سعيد كيف يمكن لجنود ذلك المعسكر التعاطي مع الضجر في قلعةٍ ضيّقةٍ تُراقب تقدّم الجيوش العربية على الجبهة الشرقية. يبتسم إعجاباً بخاطرته تلك ويُكمل: «أكبر اشي ممكن يتحرّك على هاي الجبهة من فلسطين هما مهربين الحشيش».
علّمته تجربة التحقيق أن يُنصت بإعجاب لجميع الأصوات التي تدور حوله، وتعلّم كيف يوظّف تلك الأصوات في خلق موسيقى لا تحتاج للكثير من التوزيع أو التنقيح أو الإنتاج، موسيقى ربّانية تُنتجها الطبيعة وتخفّف من الملل داخل الزنزانة.
حتى أن سعيد صادق صرصوراً صغيراً أسود داخل زنزانته المعتمة. كان للصرصور أجنحةٌ بيضاء، يتراقص سعيد على وقع أصواتها التي إذا ما امتزجت مع هطول المطر في لياليه الوحيدة والطويلة، يحوّل الزنزانة إلى قاعة أفراحٍ يزفّ فيها صديقه الوحيد خلف القضبان.
يضوجُ سعيد من العمل. مع مرور السنوات، تأصّل داخله شعورٌ حادُّ بالاغتراب عن كمية الهراء الذي ينشغل به يومياً، حتى وصلت به الأمور بأن يبلع في كلّ صباحٍ حبوباً تُعالج ذاك المدعوّ «توتّر». المفارقة أنه، مع كلّ حبةٍ كان يبلعها، كان يزداد توتره من احتياجه للحبوب وإدمانه المستميت عليها.
سعيد ينزعج من كل شيء في تكرار اليوم لنفسه. يشعر أحياناً أنه معلّق في دائرة تعود إلى نفسها دون انقطاع، دون أن يظهر له جديدٌ. ينزعج من طقطقة الكعب العالي ذهاباً وإياباً في أروقة المكتب الضيقة، ومن ضحكات السكرتيرة المعجبة بأحد الموظفين، ومن تفاهة مدير المؤسسة وإصراره على أن الجميع يجب أن يلتزم بارتداء بدلة رسمية، ومن كثرة المعجنات والأكل السريع الذي أصبح طقساً جماعياً يومياً يسبّب الإعياء والانتفاخ. وأكثر ما كان يشعره بالحنين إلى الزنزانة هو الدسائس الغبية التي احتلّت مساحة كبيرة من تفكير زملائه الذين يرى فيهم أسوأ مما رآه من محققي الشاباك. كان يهمس لروحه التعبة بالمكتب المكتظ بالمكائد:
بالزنانة كانت الوحدة والعزلة والصمت هي سلاح المحقق. بيحطك بين الحيطان السكنية، وبيسكر باب الحديد، لحد ما تصير تشتاق تقعد مع حدا، وكنت كثير اشتاق للمحقق. على الأقل المحقق بيخليك تحسّ إنه في حدا ثاني بيطلّع عليك وبيسمعك وبيذكّرك إنك موجود. صحيح إنه العزلة كان هدفها بالنهاية إني أحكي وإعترف وإتعرّى قدامه. أقوله إني ندمان ومذنب، وإنه صحابي مذنبين كمان. بس كنت بشتاق كثير انو حدا ثاني يشوفني، وإنه في حدا مهتم يسمعلي. بس هلق وأنا قاعد على المكتب المغبر، وبين الورق اللي بوثّق فيه عدد الأسرى والشهدا والجرحى والبيوت المهدومة، كل اللي بدي اياه أروح واقعد مع حالي، اقعد بصمت بدون ما حدا يسمعني ولا يشوفني. هلق كل اللي بشتاق إله هو مخدة بدون ما حدا يهمس لحدا عن حدا، وبدون ما أشوف زملائي اللي عايشين بالنسيان وبيتقاتلو مع بعض على الفتات.
في صباح أحد الأيام بينما كان زميله في العمل يستعدّ ليشرب قهوته الصباحية، رحل سعيد بعقله إلى زنزانته الضيقة وتأمل عملية الذهاب إلى الحمام. كان سعيد قد أدرك في اليوم الأول للتحقيق أن الانتصار على المحقق يتطلّب التعاطي المريح مع الضجر، بأن يجد المتعة في كلّ ما يسمعه وكلّ ما يراه، بل أن يرى المتعة في اللامرئي أيضاً، في المستور، في خبايا العقل، في فانتازيا شابٍّ قرويٍّ لم يتعدّ السابعة عشرة.
فعند كلّ رحلةٍ من فرشته إلى الحمام داخل ضيق الزنزانة، كان سعيد يتعمّد إقامة طقوسٍ طويلةٍ تروي ظمأه بقتل الوقت. يهمّ من فرشته المبتلة والمليئة بالبراغيث، يبدأ بغناء ما حفظه من الفيروزيات الصباحية، ويخلع ملابسه المتسخة رويداً رويداً، يتحدّث إلى صديقه الصغير ذي الأجنحة عن الفتاة التي يحبّها، ويتأمّل جدران الزنزانة ومن ثم يتمتم بنغمةٍ غنائيةٍ تشبه الهتاف في التظاهرات: «الحمام الوسخ أنظّف حمام».
يغتسل بماءٍ يميل إلى الاصفرار، ويضحك على خوف صديقه الصغير من خطواته الثقيلة تارةً والخفيفة كراقص دبكةٍ تارةً أخرى. يقبع في الحمام ساعتين وهو يتأمّل قصص من سبقوه ومكثوا بين الجدران الرمادية، ويبتسم لكلّ حركةٍ من صديقه الصغير المجنّح، ولكلّ تشققٍ في حائط الزنزانة لم يكن قد لاحظه سابقاً.
في صباح ذلك اليوم وبينما كان يشرب زميله القهوة، لعن سعيد قسوة الزمن. لعن كيف أضحى الزمن سريعاً لا يهدأ، بل يباغته بسرعة تقلبه وتقلب الرزنامة المعلقة أمام مكتبه. في تلك اللحظة وبينما كان زميله في العمل يطقطق على الحاسوب الذي يقبع أمامه على مكتبه الخشبي، وقف سعيد وصرخ بأعلى صوته: «يُمّا مويل الهوا يما مويليّا. ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّا»
أيقن سعيد حينها أن خناجر اليوم ليست معدنيةً ولا هي حادة، بل هي انشغاله الدائم في الهراء. رحل بخطواتٍ هادئةٍ إلى الحمام وهو يتمتم «الحمام الوسخ أنظف حمام»
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
ليست حكاية سعيد هذه مجرد قصته الخاصة. إذ عادةً ما يصاحب أي حوار حول العمل في فلسطين نقاشٌ عن الملل والخيانة، عن معاناة الحياة في دوامة الروتين، وعن انفصال المعنى عن العمل، والمحاولات البائسة لخلق سبل للقائهما. قالت لي صديقة ذات مرة: «أكثر إشي بعطيني إياه الشغل إنه في إشي بيستناني، إشي بده إياني أجي كل يوم، وإشي بيخليني أحس إني مرغوبة، وبيزعل مني إذا غبت أو تأخّرت». أخبرتني هذا بعد أن أعلنت سلطات الاحتلال أن المؤسسة التي تعمل بها لرصد معاناة الأسرى والانتهاكات بحقهم، قد صارت في نظرهم مؤسسة تروّج للإرهاب. فرض هذا الإعلان عليها التفكير بما هو أبعد من تكرار اللغة والأرقام ذاتها يومياً، وفي تراكم هذه الأرقام التي توثّقها بعناية، أرقام تقول لنا الكثير عن كمّ الجراح، ولكنها لا تبدأ بخدش سطح الجرح نفسه. فكل يوم تُسجّل انتهاكاً جديداً وكل يوم تستقبل مكالمة من أهالي أسير جديد يتساءلون عما إذا كانت للمؤسسة معلومات عن أي من مراكز التعذيب التي نُقل إليها ذووهم.
لم تخفِ صديقتي دهشتها من أن دولة الاحتلال تعمد إلى منعنا حتى من توثيق الجرائم، أو من تشييد ملفات تنمو أفقياً كشهادات من ورق تنطق بأن هنا وقعت جريمة، وأن هناك إنساناً تحطّم واعترف أمام عدوّه، وآخر صمت واكتسب صيتاً بأنه بطل، وطفل بكى وتبوّل على نفسه عندما حاصره الجند، وآخر أطلق من فمه مجموعة متتالية من اللعنات ورفع لهم إصبعه الأوسط وابتسم، وهناك من سُلبت روحه على يد السجان قبل أن يتنسّم الحرية، وهناك من انتَزع حريته بملعقة وحفر النفق.
كانت دائماً تجيب على من يسألها عن طبيعة عملها، فتقول إنها تحوّل الجراح إلى ندب من ورق. ولكنها كثيراً ما كانت تغضب على نفسها وتقول: «شغلي كمان جريمة. لازم الجرح المفتوح يضل مفتوح».
واعترف لي صديق بأنه طوّر قدرة هائلة على التحايل على ساعات العمل الثماني. ففي المكتب حيث يعمل، يستطيع أن يخرج إذا ما كان لديه اجتماع مع أحد العاملين في الوزارات للقيام بمهام بحثية، أو للاطلاع على تطورات في أحد الملفات التي يتابعها. قال لي: «صار عندي قدرة هائلة على أني اعمل اجتماعات كاذبة واروح عليها. بس بالواقع أنا كنت أروح على قهوة واشتغل منها على أشياء ثانية، أشياء ما الها علاقة بالشغل بالمرة. بهي الطريقة كنت أفصل بين الشغل اللي باكل منه، والشغل اللي بحبّه».
كان صديقي هذا يمقت الساعات التي يقضيها في المكتب الرثّ، ويحبّ تلك الساعات التي يقضيها في القراءة وكتابة يومياته، أو تلك التي يقوم بها بكتابة مقال ويرسله للنشر مع الإبقاء على اسم الكاتب مجهولاً. وهكذا أعتقد أنه وجد الحل: يعمل في ما لا يحبّ، ويحبّ ما لا يوفّر له قوتاً. فكما صارحني مرة: «كنت باكل من فتات أوسلو، وبقاتل هي الفتات بوجبة ثورية من الكلمات اللي بتنبذ وبتستحقر أوسلو. بمرحلة معينة، فهمت إني كنت بكتب استحقاري لنفسي».
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
يخبرني عامل الدهان، الذي جاء لتقييم حاجيات منزلي، أنه، كما أصرّ على أن يُخبرني، تخرّج من الجامعة واستقرّ به الأمر أن يكون عامل بناء في الداخل الفلسطيني المحتل. يقول لي: «المعلّم اليهودي أحسن من العربي»، ويضيف: «على الأقل، لما يحتال عليك يهودي، ما بتحس بانكسار، وما بتحس إنه في شخص خانك. ولما يعاملك معاملة منيحة، بتشعر بشوية امتنان، لأن احنا المفروض منكره بعض.»
أردت أن أقول له: «ما بتشعر بالغضب؟ ما بتشعر بحرقة لأنه في تراجيديا حقيقية إنه إحنا عم نبني بايدينا هادا الإشي اللي إسمه إسرائيل؟ إحنا اللي بنينا البيوت والشوارع والعمارات الكبيرة المزينة القزاز اللي واقفة مش بعيد من بحر بيبكي على غرق حجار يافا.» ولكني صمتُّ، لم أجد ما يسعفني لأقول للرجل إن الجوع خيار ايضاً.
هناك إدراك عامّ في فلسطين أن غالبية ما نقوم به هو انشغال باللغو، مجرّد محاولة لإيجاد منهج في البقاء. إن غالبية ما يتوفّر من عمل، كالمؤسسات والشركات والوزارات وحتى العمالة في سوق العدو، مشروطة. تأتي بمنطق «كُل ولا تنطق»، «ابنِ بيتاً فوق بيت وكدِّس الإسمنت ولكن لا تتوسع أفقياً»، «راكم الأموال في البنوك ولكن لن تصرفها إلا في حرية اقتناء المزيد من السلع». أن تعمل في فلسطين يعني أن تخون نفسك وأرضك قليلاً.
«عادةً ما يتصل العمل بالقيمة التي يخلقها للقائم به». نحن، الكائنات البشرية، لم نعد نصطاد في الغابات أو نجمع الفاكهة من الأشجار؛ بل نجتهد لنصير شيئاً ما، لنحقّق ذاتاً في السلالم الرمزية للمجتمع. لكن في فلسطين، العمل ينطوي على معادلة مختلفة. يُشعرنا بالاحتجاز، ويظهر كفرض، وكثيراً ما نسخر من الجديّة التي يتحلّى بها البعض في سعيهم للوصول إلى منصب أو تحقيق إنجاز، «وشو يعني تصير رئيس وزراء؟ بيضلّ مدعوس عليك زينا كلنا». ومع ذلك، فإن ما يرهبنا هو العيش بلا عمل، الحياة بلا قدرة على الخيانة الصغيرة، بلا إمكانية للتذمّر من مهامنا، بلا لذّة التذمّر ذاتها، بلا الكتابة عن الجريمة التي تحوّل الجرح إلى ندبة، لعلّنا نتطهّر قليلاً أيضاً.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
أقسى شيء في العمل في فلسطين هو ربّ العمل الذي يريدك أن تحبّ العمل. هم عملة نادرة، فعادةً ما يكون الخوف والرقابة وعلاقات القوة الظاهرة هي في صلب معجم العمل. ولكن هؤلاء القلة يريدوننا أن نكون جيدين في عملنا، سعيدين، ومرتاحين دون حق التذمّر. يريدون أن يحرموك من متعة لعنة اليوم والروتين والحقد المتعاظم لرب العمل.
صديقي نديم كان يشكو لي من أنّ ربّة العمل في مؤسسته المتخصّصة في البحوث الاقتصادية تبدأ يومها باجتماع صباحي مع كافة أفراد فريق الباحثين. استغربت وسألته: «كل صبح بتجتمعو؟!» فأكّد ذلك مضيفاً أن «الاشي اللي جد بيزعجني وبيكركب معدتي، هو أنه صوتها كثير صاحي على الصبح، بيشبه صوت المحاضرين بمحاضرات التنمية الاجتماعية. تخيّل عم تبدا يومك وحدا عم بيصرخ عليك: «صببباح الخير!» وبعدين بتعيد وبتزيد عن أهمية الإنجاز اليومي، والسينيرجي، وبعد ما تخلص وهي تدحش كلمات بالانجليزي بتسألنا عن مهامنا لليوم، ودايما في قهوة وشوية معجنات رخيصة مليانة سكر عشان نصحصح من النوم.»
ويكمل نديم وهو جالس أمامي بعد يوم طويل آخر من العمل:
أكثر إشي كنت بدي إياه بهديك اللحظة هو إني إرجع علي البيت، وارتمي في التخت وأحط اللحاف الأبيض فوق راسي واختفي. بعرفش يا زلمة، بس انا كثير نادر التقي مع حدا بيخليني بدي اختفي. يعني التقيت مع ناس مش حابب اقعد معهم، أو ناس مزعجين بيخلوني بدي أهرب ولو للحظة منهم، أو ناس بالشغل اللي بيتسخدمو قوتهم لاهانتك أو بيتعاملوا معك بتكبّر، وحتى في ناس ومدرا بتتعمّد تذلك. بس ما التقيت مع حدا بيخليني بدي اختفي، وشرطه عشان آخذ معاشي هو إني احسسه دايماً إني مبسوط.
فيما كان يتحدّث، استحضرت في ذهني التحول الذي طرأ على بعض الحواجز العسكرية الإسرائيلية وعلى الجسر الذي يفصل بين فلسطين والأردن. لقد باتت دولة الاحتلال تغدق في استعراض صور خاصة على الجسر، تزيّنها بعبارات الترحيب بالمسافرين «أهلاً وسهلاً بكم»، وتضمّ صوراً لمسافرين يبتسمون أمام سجّانيهم وحراس الحدود. هذا الجسر، الذي يقف حاجزاً أمام عودة الملايين ويتحوّل إلى سجن للمئات، يصرخ في وجوهنا بواقع أن هناك شعباً آخر يتحكّم بمصائرنا، يمكنه أن يقذف بنا خارج الجسر أو يحتجزنا في السجن، لكنه يتوقّع منا أن نعبر ونحن مكلّلون بالابتسامات.
أسوأ ما في الأمر، أننا بدأنا نفقد القدرة على تصديق الابتسامات، تلك التي يفرضها علينا المستعمر، وتلك التي تفرضها علينا متحمسة بشكل مبالغ فيه للعمل.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
صديقي مروان الذي هاجر بحثا عن عمل، يقول إن العمل خارج البلاد أفضل بكثير. يحدّثني عن المهنية، وعن التعويض المالي المغري، وعن عدد الطلبة المحدود في كل مساق، ويقول لي: «ليش ما تيجي يا راجل؟ بتقدر تكتب شو بدّك. الجامعة والمركز اللي بشتغل فيهن بيفرضوش عليك أي قيود». كدت أن أصدقه، وأقع في الفخ. ولكني تذكّرت أنه بعد أن غادر إلى تلك الدولة الخليجية الصغيرة، لم يعد يكتب كثيراً، ولم يعد يسيل حبره بحرقة وعجل واكتراث، ولم يعد يشعر بأن نصه هذا سيضيف أو يكسر قوالب الفهم وأنماط التفكير السائدة. بل صار يشكو الوفرة والترف القاتل، يقول لي، «فيش إشي بصير هون». أدمن مروان الإيقاع الممل واختفاء التناقضات وراء الجدران العاجية المبنية بأيدي العمالة المستكينة، تلك العمالة التي تأتي مكرهة، لعلها تصوغ طوقاً بسيطاً للنجاة.
أما أنا، فحين أكتب، أكتب الأمزجة. أنقش الكتل المشاعرية التي ترقص بنا، وتقرّبنا أكثر فأكثر إلى فهم الواقع، ليتغيّر المزاج فجأة ومعه أيضا كل فهمنا للواقع. وأحيانًا، يغلب على المزاج كثرة الضحك على فتور الحياة وبلادتها، وأحيانا أخرى تكون السخرية حليفك الآني وصديقك الحنون الذي يمكّنك من مواجهة العالم. وأحيانا تفقد اللغة قدرتها وتعجز أمام هول الحدث، فتكتب عن صعوبة الكلام.
أغلقت الهاتف وهمست لذاتي، مؤكّداً على حقيقة احتجت لسماع نفسي أقولها قبل أن أنفض فكرة الهجرة من رأسي، «على هي الأرض ولدنا، وبكل توتراتها ومزاجاتها منعيش، وعليها رح نموت».
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
هناك من غمرته طقوس العمل حتى اعتنقها عقيدةً وجعل منها مرساة لكيانه وحركته في هذا الكون، ينافس الشوارع في سباقه اليومي ليتقدّم الصفوف. سميرة ترحب بكثرة الواجبات المهنية، وتدّعي أن الزمن لا يسعفها لمناقشات الحب وأحلام العائلة، بل حتى الروابط الاجتماعية تبدو لها كأنها عالم موازٍ بعيد المنال. تجدها غارقة في بحر الهياكل والمسؤوليات الوظيفية، حيث أن اللقاءات محصورة بالأدوار المحددة مسبقاً ضمن هرمية المؤسسة التي تنتمي إليها. حاججتها بأن العمل أحياناً هو هروب من الأمور التي نعجز عن مواجهتها. ولكنها رفضت سماعي، وواصلت الحديث عما يجعلها ترى في العمل مرساة لها.
سميرة التي تنثر الشفاء في أروقة المستشفى الحكومي، تعشق نشوة النجاح في تقديم تدخلات علاجية طارئة. تنتشي بالنجاح وتحزن لأي خسارة، خاصة تلك الخسارات التي يمكن تفاديها. تتعاطى مع كل الحالات كملف، ملف من ورق، ملف يسرد لها لغة الجسد: وجع هنا، وجرح هناك، وكائنات صغيرة تلعب بنا لعبة الحياة والموت، فهذا الملف يعدّد مواقع الإصابة وطبيعة الجرح أو المرض. اعترفت لي مرة، «طلع أكثر اشي بستمتع فيه بالشغل، هو الشعور إنه الأمور بإيدي وإنه كل شي على المحك، إنه ميزان الموت والحياة بيعتمد علي». ولا يضرّ أنها تجد الآخرين يعاملونها كملاك صغير قادر على شراء لهم وقت إضافي في الحياة، وسيط مع الله يؤجّل المحتم.
لكل وظيفة نشوتها، إلا أنه عقب الحرب على غزة بدأت سميرة تشكّك بقدرتها كطبيبة على مواجهة الإبادة. تقول لي «انا بعيش كل يوم مع الموت وبشوفه بعيني، بس الموت بيضل فكرة بعيدة عني وغريبة، خاصة فكرة أني أنا ممكن أموت. هلق بغزة الدكاترة هما كمان مرضى وجرحى وشهدا وأنا أسوأ كوابيسي إني أصير ملف». قلت لها: «ما تقلقي، بغزة هلق فش وقت يعملو ملفات، كل شي عالطاير».
يحاول الكثيرون بناء المعنى من خلال العمل، أو التخفيف من وطأة الاغتراب من خلال بناء سردية متماسكة حول أهمية أدوارهم في الحياة، خاصة تلك الأدوار التي تقيهم من رؤية حدود الحياة، والتي تمنحهم موطئاً للانشغال قبل الموت، حتى عندما يكون عملهم يدور في فلك الموت.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
في نطاق الإبادة، كل شيء أصبح له معنى. الابتسامة لها معنى، والحضن الدافئ في شتاء الإبادة له معنى، والبقاء مع المرضى له معنى، وتوثيق الجريمة له معنى. حتى تبادل أطراف الحديث والنميمة صار لهما معنى. في غزة، انحسر الاغتراب لحظة أصبح فيها الجميع جنوداً للنجاة، حتى عندما ينطق البعض صرخات الهزيمة أو يؤكّد على حتمية الهجرة. ولكن في اللحظات الأولى للحرب ترسّخت مقولة أصبحت دارجة في المجتمع الفلسطيني؛ مقولة لفظتها معظم الألسن معاً مرة واحدة، وكأننا في السابع من أكتوبر اكتسبنا فجأة إحساساً عميقاً بالقيمة الحقيقية للعمل.
في تلك اللحظة التي عبر فيها المقاتل الفلسطيني عائداً إلى قريته التي دُمّرت قبل خمسة وسبعين عاماً، صدحت الأصوات بإجماع: «هادا هو الشغل الصح».
عبد الجواد عمر
محاضر وكاتب، يعمل حاليا كمحاضر في دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، ويكمل رسالته في الدكتوراة حول تشكلات المقاومة الفلسطينية في الانتفاضات الكبرى (١٩٨٧-٢٠٠٥)، ويكره كتابة البايو.