هجر استعمال الثريا منذُ عاد من باريس
نزع عنها مصابيحها وأنزل النور إلى الأرض.
هذا ما خرج به من التجربة الفرنسية:
لا إنارة تسطعُ فوق رؤوس الضيوف بعد اليوم،
كأنهم فئران في مخبر بل مصابيح صغيرة وشموع
مثل كواكب خافِتة تحيط بالجلسة، وأيضاً
-وهذا يعرفه قبل باريس-
الثريا، في الجزائر، تصلح قبل كل شيء
لمعرفة شدة الهزات الأرضية بعد مرور الزلازل وبقائنا أحياء.
عرف الوقوف طيلة الليل في الساحات العامة
وسط الطُلّاب ينفخ في آلته، يعزف مع الجوقة،
ويُنادي بوقف تمويل الشرطة التي تضربهم بالعصي
هناك، في عاصمة الإمبراطورية القديمة،
اكتشف معنى كلمة "شرطي":
يخترق الجمع مدرعاً بالسلاح حتى الأسنان.
اكتشف أن كل مظاهرة هي خط أمامي لحربٍ أهليةٍ
يعيشها المجتمع كل لحظة ولا يعلم الجالسون في المقاهي
والناعمون بدفء البيوت عنها شيئاً.
في باريس اختبر صاحبي بؤس الحياة الطُلّابية
مثل منفى اختياري، وحضّر لانتفاضة السترات الصفراء دون أن يعلم،
وعاد هارباً ليُشارك في إطلاق انتفاضة أخرى في بلاده
بعد سنوات قليلة.
الصيف في باريس يشبه الربيع في مدينته،
وهو لم يكن يعرف أنه صيفه الأول والأخير في تلك البلاد.
الليل بطيءٌ على مصاطب النهر
حيث يتوزّع العشاق والأغراب والمعارف
والمتشردون والحيوانات وتهدأ الأشجار
ويعيش الجميع ساعاتِ سلامٍ من حرب النهار.
يجلس هو هناك يغنّي ويلعبُ كل المعازف،
حقيبته دائماً فوق ظهره كأنه سيغادر في طائرة الصباح،
لا تتوقّف صفائح البيرة الباردة عن الوصول من مكانٍ خفي
وتمتدّ الأيادي بالنار لتُشعل الجوانات.
أغلب الحاضرين لا يعرفهم: عابرون أو مقيمون،
من الفيتنام والأرجنتين ومدغشقر، أبناء مستعمرات قديمة مثله
حاملو جنسيات مختلفة، لاجئون فرنسيون من خلف البحار.
ساكنو الشارع المقابل تشيليّون، فايكنغ في طريقهم إلى الغزو،
عربٌ من دون رمال وشمال أفارقة بلا أموال
طالت بهم الضيافة
يسألونك سيجارةً ويبدأون الكلام:
وإذا شئتَ فاسمع خبري.
يقول لي لاحقاً أنه فَهِمَ لماذا يحب الجزائريون
العيش في باريس: هي بوابتهم.
هناك يلتقون بعضهم وبقية العالم،
أحاديثُ لا تنتهي قبل الفجر،
طيلة الليل لا تعرف وجه محدثك من الظلام والسُكر،
تكتشفه عند شروق الشمس فترجع برأسك إلى الوراء
وتُضَيِّقُ عيناك وتعتذر خجلاً، تعودان غريبين.
في الطريق إلى غرفته يعاوده ألم بطنه
فيسيرُ خافقَ الأحشاء موهون القوى.
الآن، ينتظر ولداً، ويزور طبيب العظام بانتظام،
يمارس الرياضة وينتبه لمأكله ومشربه
ولجلسته أمام البيانو وهو يعزف للجنين.
يمشي كخيالٍ في مدينةٍ لا توجد سوى في خياله،
ويؤلِّفُ في جملةٍ واحدة بين أهازيج جماهير كرة القدم
وزُرنةِ سلاطين ما عاد يذكرهم الناس.
يُكمل صاحبي الأيام كمن يدفع ديناً
ويبحثُ عن نفقٍ يوصله إلى الجنة.
يقول أنه ضيّع وقته في البحث عن طريقٍ
بعد أن اكتشف ألاّ سبيلَ إلى هناك.
وحدها الأنفاق التي نحفرها توصلنا إلى حيث نريد
أو تعيدنا إلى بطن الأرض.
صلاح باديس
صلاح باديس، كاتب ومترجم، نشر في الشعر "ضجر البواخر"، وفي القصة "هذه أمور تحدث"، يعيش ويعمل في الجزائر.