وأدرك شهرزادَ الصباحُ وانشقّ الفجر فسكتت عن الكلام المباح…. صونًا لجسدها المستباح.
وقالت أختها دينارزاد يا أختاه ما أغرب حديثك وما أطيبه. فقالت شهرزاد وما هذا ممّا سأحدّثكم به الليلة المقبلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك….
ولكن على عكس اللّيالي الأخرى، في هذه الليلة الملك شهريار قد اشتغل سرّه إلى درجة أنه لم يعد يستطع كتمان فضوله فثار ثورة عارمة عندما سمع شهرزاد تختم حديثها، غير أنّها أبتْ إكمال الحديث بعد طلوع الضوء قائلة إنّ الليل وحده قادر على حفظ أسرار حكاياتها وإنّ النهار سيُفسدها لكن كاد الملك يطير عقله وتوعّد شهرزاد بضرب عنقها إن لم تُكمل.
وإذا بدينارزاد تتدخّل مناشدة الملك ذي الجنون الجامح بأن لديها حديثًا آخر وأحلى سيكفيه طيلة نهاره حتى تنال أختها قسطها المستحقّ من الراحة.
"شو هالحديث،" قال الملك ساخرًا، "ما بصدّق انه في مرا ثانية قادرة تحكي قصص مثل شهرزاد ولو كان الأمر كذلك لكانت كل النساء اللواتي قتلتهن حاولن أن ينفذن بجلدهنّ مثلما استطاعت أختك لحد هلق."
فردّت دينارزاد "ألم تسمع من أختي حديث الجارية تودّد التي أذهلت أمير المؤمنين هارون الرشيد بعلمها وحذقها؟ الآن سأتفوق في إذهالك أنت ومجلسك،" قائلة أنه باستطاعتها هي أن تحكي له قصة ستلهيه عن شهرزاد حتى يحين موعدها في الليل. قال "لا أصدّقك" فقالت "بل صدّق يا جلالة الملك المعظّم." فقال، "حسنا سأمنحك فرصة واحدة ما في غيرها حتى تثبتي براعتك إن نجحتي فيها سلمت روحك وإن لم تنجحي فضربت رقبتك." فقالت "سمعاً وطاعة مولاي." فقال "اوعِك تفكري أنّ امتحانك سيكون سهلا فسأنصب لك منافسين وأنتي لازم تِغلبيهم كلهم."
"إنّ الله هو ناصري الوحيد،" أجابت "وقصّتي رح تعجبك وأكثر."
"بل هي ليست قصّتك كما ستَرين،" قال الملك، ثم صفّق مرّتين وإذ بمهرّج البلاط يحضر أمامه. أمره الملك: "يا كركوز! أتحفنا بحديث ليس له مثيل لنشوف إذا ما كانت دينارزاد قادرة على تكملته أو لا." فقال كركوز: "حبّا وكرامة يا مولاي ثم توجّه إلى دينارزاد قائلا يا بنت الناس إسمعي آخر قصّة بتسمعيها بحياتك لأنك ما رح تقدري عليها فإنّه حديث عجيب أمره غريب….
بلغني أيّها الملك السعيد أنّه كان في قديم الزمان بحّار شجاع جميل الشباب فاتن الألباب ذو وجه كالبدر التمام ولسان ظريف الكلام اسمه موّاج. في يوم من الأيام كان راكب سفينته في رحلة عبر البحار الوسيعة، لما نزلت عليه عاصفة هاج به البحر وماج فتحطّمت قلوع السفينة وأغرقت باقي البحّارين كأّنهم حبّات ملح ذابت في ميّة البحر. وكان موّاج عم يتلعبط بالميّ وعلى وشك أن تبتلعه الأمواج فإذ بمخلوقة غريبة تطلّ على سطح الميّ هي نصف انسانة نصف سمكة بزعانف وذيل، يعني حوريّة بحر، ذات جمال ساحر وجسد باهر كجسد بحّارنا في قدّه واعتداله، اسمها لؤلؤة كونها وُلدت في صدف المحار. فلمّا شافت موّاج طافيًا مغمى عليه ضعيف الحيل ملقى على صخرة القدر القاسي حنّتْ عليه وراحت كمشته. لمّا قلبته على وجهه سلب عقلها وقلبها بجماله وكماله وشدّة حسنه ولياقة كسمه. ومن فرط افتتانها به قرّبت شفايفها على شفايفه وطرقته بوسة طويلة عميقة وفي نفس اللحظة بشفطة واحدة سحبته تحت الماء. ليَكنْ في علمك أيّها الملك أنّ هذه وإنْ كانت حوريّة بحر مثل ما قلنا إلّا أنّها لم تكن مجرّد أي حوريّة بحر عاديّة بل أميرة يعني بنت ملك البحور الأعظم وتسري في دمائها طاقة سحريّة على البشر. فقد كان لقبلتها هذه مفعول سحريّ على موّاج إذ مكّنته من التنفّس تحت الماء مثله مثل سائر الأسماك ولا حدا يقول إنه يغرق يغرق. ثمّ أمسكت الأميرة لؤلؤة بيده وقادته عبر سراديب البحر التي لا تنتهي إلى أعمق الأعماق، البحر الْ بلا قاع حيث لا تشرق الشمس، حتى وصلوا إلى قصرٍ فخم ولمّاع يتّسع للعمالقة وتضيئه الكائنات البحرية المنيرة.
لم يعد موّاج يصدّق شو صاير فيه، هل هو ميّت أم حيّ أم يهلوس، وهذا فضلا عن دهشته بأنّه يتنفّس تحت الماء وما عم يغرق (كما قال شاعر ما). وكل هذه الفترة، ما التفت وراءه ولا مرّة ليتطلّع على الأميرة القمّورة الّا الآن، عندما وقفت لتشرح له مين هي ولوين عم تودّيه. ساعتها وعلى الفور سلبتْ لبّه وعقله فافتتن بها بالضبط مثل ما فتنها، فنسي كل ما جرى له من مصائب وكل شيء سواها. طبعا لم يفُتْه أن يشكرها جزيل الشكر على أنها خلّصت روحه من أنياب الموت. وهي بدورها لم تفوّت الفرصة لتفسّر له أنها حوريّة بحر وبنت ملك البحور الأعظم وأنهم رايحين الآن على عاصمة مملكتهم في أعمق أعماق البحر بالتالي لن يشرّفها أي شيء أقلّ من الزواج من موّاج، فقالت له تعال معي حتى أعرّفك على والدي ملك البحور الأعظم الذي رح يزوّجنا على سنّة الله ورسوله. فلما شرّفوا إلى عند مجلس الملك وموّاج بعده شبه مندهش والحُباب خارجة من فمه، قدّمته الأميرة لؤلؤة لوالدها وحكت له حديث سفينته التي شاءت الأقدار أن تصادف هي غرقها وكيف لقطته في نصّ الميّ وأعادت إليه روحه، فانغرمت فيه من أوّل نظرة. وأنها حاسّة أّنه هو مراد قلبها وذلك بالرغم من أنه ليس من كائنات البحر. فخرّ موّاج أمامها وقبّل الأرض بين رجلي الملك قائلا له خدّامك بين يديك أيّها الملك الأعظم، لك عهد مني أن أكون أوفى وأخلص أمير بايعك. فعدّله الملك ذو الهيبة والجاه واقفًا ورحّب فيه كما يرحّب بابنه وصرّح بأنّه شاب مليح ذو لسان فصيح وابن حلال وكما الرسول لم يفرّق بين عربي وعجمي فلن أفرّق بين برّي وبحريّ في نصيب بنتي الأميرة إلّا بأخلاقه. ولكن لي شرط – والكل حبسوا أنفاسهم لحظتها – على كل من يتقدّم لبنتي مهما كان من نبله وأخلاقه أن يبتلى بمهمّة وهذا عهد قطعتُه على المرحومة والدة الأميرة قبل أن تنتقل إلى رحمة الله، فإن نجحت بهذا الامتحان وعُدت منه سالمًا ساعتها تصير منا وفينا ووريثي الشرعي لسلطنة البحور. فَقَبِل البحّار موّاج الشجاع المتيّم لتوّه بالأميرة مصيره قائلا روحي فداها وفداك يا مولاي الملك-
-هنا قاطع الملك شهريار مهرّجه قائلا، بيكفّي هيك يا كركوز أنت عملت اللي عليك وكفّيت ووفّيت. ثم التفتَ إلى دينارزاد وخاطبَها، هيّا يا شاطرة يا أخت الشاطرة اللي بدّها تتشاطر علي، هلّق إجا دورِك. أنت لازم تكمّلي القصّة وتجعليها أحسن منه حتى تشوّقيني إلى سماعها فلو ضجرت وملّيت حانت نهايتك.
-تأكّد يا مولا إنّي رح أعجبك وأكثر، صرّحتْ أخت شهرزاد واثقةً من نفسها. إذا أردتَ فعلا أن تمتحنني يا مهرّج، كان فيك تصعّبها علي شوي، فأنا من نفس السلالة التي تنحدر منها أختي العزيزة شهرزاد، فأصغِ إلي أيّها الملك الكريم طوّل الله بعمرك:
بلغني أيّها الملك السعيد من حديث البحار موّاج المليح الشجاع وحبيبته الأميرة لؤلؤة فشرح له الملك ياقوت المهمّة التي أُلقيتْ على عاتقه وهي كانت كالتالي. عليك أيّها البحّار الشجاع أن تسافر الى جزيرة صغيرة في وسط البحر بعيدة عن البرّ من كل جهة. وإذا وصلت بسلامة فعليك أن تفتّش عن شجرة تقع في وسط تلك الجزيرة وعلى رأس هذه الشجرة هناك جوزة هند وفي نواته غرض ثمين جدًّا يخصّ بنتي أميرة حوريّات البحر. عليك أن ترجع ومعك جوزة الهند هذه ولكن لا تخلّي الفضول يسيطر عليك وتروح تفتحها وينكسر الغرض الهشّ بلبّها. حلف له موّاج الشجاع أنه لن يفتح جوزة الهند مهما يكن الأمر. ثم فرسان الملك ومعاونيه جهّزوه للسفر بكل ما احتاج إليه من عتاد وزاد و قلّدوه بطلاسم وتمائم يحتمي بها من كل عدوّ وشرّ. ثم دعتْ له حبيبته الأميرة القمّورة لؤلؤة وأبوها وجميع من في حضرته بالتوفيق.
وانطلق موّاج في مهمّته سعيًا لتلبية شرط الزواج من الأميرة البحريّة. استطاع أن يصل بهداية ربّ العالمين بدون مشقّة أو بلاوي إذ هو الآن أصبح قادرًا على التنفس في الماء والهواء على حدّ سواء وكمان ما واجه أيّة صعوبات لحتى يلاقي الشجرة اللي حكوا له عليها وعربش عليها بفضل جسمه المفتول القويّ من كل السنين التي قضاها كبحّار بيشيل وبيحطّ ليل نهار. وكانت جوزة الهند موجودة معشّشة في قرنة على رأس الشجرة بالظبط مثل ما حكى له ملك البحور فالتقطها وحطّها في عبّه. ولكن لسوء حظّه أنّه من شدّة فرحه بأنّ الفَرَج قد اقترب ما لمح الجنّي المتربّص له تحت في أسفل الشجرة.
وهذا الجنّي الذي يُدعى هرهور لأنّه من شقاوته كان يستقصد أن يُقشّط الأشياء من أيدين العباد البحريّين أيضا له حكايته، فهو من عشّاق الأميرة السابقين والمغضوب عليهم، فهو قد كان من العفاريت الساكنة في البحر سابقًا حيث تعاشق هو ولؤلؤة قبل ما يخونها مع حوريّ من غلمان الملك ياقوت فقامت بطرده من البحر ومنعته من العودة إلى سائر البحار وسلبته من القدرة على التنفّس تحت الماء ليكون عبرة ليعتبر بها كل خوّان. وهرهورنا هذا ما كان يعرف موطن غير البحر فبعد طرده منه ما لاقى غير هذه الجزيرة المعزولة في وسط البحر ولا مكان يتفيّا به غير الشجرة الوحيدة هذه يربّي تحتها حقده على لؤلؤة ومملكتها الموعودة له.
فلما لمح الجنّي هرهور موّاج البحّار الشجاع عم يعربش على الشجرة فطن أنّه قادمٌ من طرف الأميرة فقرر أن يدبّر له مكيدة، فبعد أن همّ موّاج بالنزول، عيّط له هرهور، مستغلاً سحره للشرّ بدل الخير يا عشقان لو كان وزنك أخفّ شوي وكان إلك جناحين بتنزل أسرع فخلّيني أساعدك! وإذ في غمضة عين مسخه هرهور في صورة عصفور فلم يعد موّاج قادرًا على حمل جوزة الهند لأنّ وزن الطير بطبيعة الحال أخفّ من وزن جوز الهند فسقطت من ايديه وبدأت تتدحرج. بس صار اللي ما كان مخطّط له هرهور الماكر إذ وقتها عندما سقطت جوزة الهند، ما تحرّك هرهور من شماتته وكبريائه من محلّه تحت الشجرة فأصابت الحبّة رأسه مباشرة كأنّها كانت تستقصده فوقع على الأرض مغمى عليه ولأنّ رأسه كان يابس وسميك تكسّرت جوزة الهند لما ضربته وتكشّف ما كان في نواتها واللي تعهّد موّاج الشجاع بصونه قبل أن يسافر ويُخرَج إلى صورة عصفور.
[وكان الملك قد سمع من الحكماء في حاشيته بخبر الطير نصف الذكر نصف المؤنث يوجد في بلاد بعيدة وراء المحيط الأكبر تُدعى دير عَمر الكِياء جاب فيها عرب أوائل من بني أمية وأطلقوا على المكان الذي أبصروه فيه اسم دارة بنت السفيانية. ولاحقًا عندما هزموا الكفار الأعاجم العرب المسلمين شوهوه اسم البلاد الأصلية لأميركا (لعجز لسانهم على لفظ العين والهمزة) واسم المكان لبنسلفانيا حقدًا على الخلافة. ولباعهم الطويل في مراقبة الطيور في سماء الصحراء الصافي فطنوا ل"ازدواجية" الطير هذه من كونه ذي لونين يدلّ أحدهما على الذكورة والثاني على الأنوثة.]
لكنّك رح تسألني أيّها الملك ما شأن هذا الجنّي و شأن جوزة الهند المنشودة؟ القصّة هي أنّ جوزة الهند هذه كانت مجرّد وعاء صنعه هرهور الخبيث خبّأ فيها مبايض الأميرة لؤلؤة إذ بعدما فضحت لؤلؤة أمر خيانته مع غلام أبيها الملك الأعظم وطردته من البحر قرر هو سرقة مبايضها نقمةً عليها وانتقامًا منها بفعل قواه السحرية. ثم بعدما وصل إلى هذه الجزيرة ولاقى فيها مأوى دسّ المبايض في جوزة الهند هذه تاعت تلك الشجرة وأقسم أنه لن يرضى يرجّعها حتى ترضى هي ترجّعه. ومع أنّ الأميرة دِريتْ بالأمر طبعا - كونها الأميرة لديها علم بكل ما يحصل في البحر من ذبذبات أمواجه وتقلّبات أجوائه وحركات مخلوقاته - ما كانت بيدها حيلة إذ من ناحية هي مش قادرة على التنفّس بالهواء ككائنة مائيّة ومن ناحية أخرى من دون مبايضها ما رح تقدر تتزوّج وتخلّف أميرات وأمراء صغار تورثهم ممكلة البحر قبل ما تلاقي لها شي طريقة لترجّعها. وظلّت هي يائسة للغاية من أمرها وأملها في نصيبها، تائهة ضائعة حتى صادفت البحّار موّاج المفتّل المعدّل الذي كان بإمكانه استعادة أغلى شيء تملكه ويللي ما ممكن تعويضه لأنّه في الأصل بني آدم برّي قادر على التنفّس في الهواء، فكان هو مش بس حبّ وغرام جديد لها إنّما كان فوقها بمثابة نسمة الأمل الجديد, أمل إعادة أمومتها كما كان أبًا محتملا لأولادها الذين بفضله سيولدون كائنات برّمائيّة.
إذن، حينما سقطت جوزة الهند على رأس الجنّي هرهور وغيّبته عن الوعي وتكسّرت قشرتها وتبعثرت فتاتها كان بحّارنا الشجاع الغيّور ما زال مشدوهًا بما جرى له ومش مستوعب أنه انمسخ في صورة عصفور كما كان مكسور الخاطر أنه خذل حبيبته الأميرة ووالدها الملك في مهمّته فجلس يلعن حظّه وقساوة القدر عليه الذي أودى به إلى هنا. لكنّه شيئأ فشيئا بدأ يعود إلى رشده رغم الفزع والانكسار فانتبه أنه لازم يحاول يحافظ على نواة جوزة الهند التي لم يدرك بعد أنّها في الحقيقة مبايض حبيبته الأميرة. كان من المستحيل وهو في صورته العصفوريّة أن يصطحب جوزة الهند هذه فكان عليه أن يدبّر حلاً ما بسرعة قبل أن يستفيق هرهور الشرّير من إغمائه ويمعصه معص. ولكن كيف له أن يطير حاملا ذلك الشيء الهشّ الذي صار أثقل وزنه هو ويسافر به عبر البحار ثم يغوص به في عمق البحر ليسلّمه بدون إفساده أو لا سمح الله إضاعته؟ لم يكن ثمّة من وسيلة تخطر على باله حتى لمعت في رأسه فكرة جهنّمية، فما كان منه إلّا أن ابتلع النواة للحفاظ عليها بكلّ ما فيها راميًا القشرة للرياح. كان حريصًا قبل ما يحلّق إنّه يبلعها كاملة فرد مرة وما يعضّها أبدا لأنه، على الرغم من أنه ما كان عارف أنّها تنطوي على جزء من لبّ لؤلؤته ما كان لازم يتجزّأ أبدًا، فحدسه قال له حافِظ على النواة سلامتها. ثمّ طار ليرجع إلى عمق البحر وإلى لؤلؤته اللبيبة، فسمّى بالله واستعاذ به من كلّ بلوى قد تعترضه في طريق العودة وانطلق من الجزيرة المعزولة في وسط البحر العريض كسائر الطيور ضاربًا جوانحه الحديثة العهد في الهواء الطلق فوق سطح البحر اللامتناهي. بس مثل ما نعرف هو ما كان معه علم بما يوجد داخل النواة اللي بلعها، أي أنّ مبايض حبيبته أصبحت الآن بأحشائه وأصبح الحفاظ عليها مسؤوليّته!
اسمع أيّها الملك الجليل ولا تأخذنَّك سِنةٌ من النوم، فطرافة الخبر وغرابته لا تتوقّفان هنا.
وبعدين… فأثناء سفره الطويل فوق البحار وهو متشبث بالنواة، بلّشت المبايض هذه تضرب جذورها في أحشائه لموّاج الشجاع وتترسّخ وابتدت تعمل كأنها عضو في جسمه الممسوخ. وفجأة وهو بنصّ الطريق حسّ بحّارنا بشيء غريب عم يتحرّك في أحشائه من حيث لا يدري، وإذ به يبيض بويضة غريبة عجيبة ملوّنة ولمّيعة. سقطت البويضة ووقعت في البحر وقعة مطنطنة لجلجتْ سطح البحر سمعها القاصي والداني في كل أنحاء المُلك البحري بما فيهم الأميرة لؤلؤة التي أخذت تحسّ إحساس غريب مبهم في داخلها حالَ وقوع بويضة مما كانت في يوم من الأيام مبايضها. ففطنت أنّه في شيء صار بس قمحة ولا شعيرة ما كانت قادرة تجزم. رغم ذلك، وبدون ما تقدر تحدّد أنّ الذي وقع هو بويضة من مبايضها لقت نفسها عم تنجذب شوي شوي إلى مكان سقوط بويضتها من غير تفسير لوين رايحة أو مين أو شو عم يشدّها للنقطة في قاع البحر اللي أخيرًا استقرّت فيها البويضة. لمّا وصلتْ إليها وأبصرتْ بويضتَها الملوّنة الزاهية اللمّيعة في ظلام عمق البحر حيث لا يصل أي ضوء من السماء فطنتْ بحذقها بأمر البويضة. ثم انتابها مزيج من الخوف على حبيب قلبها موّاج الشجاع والغبطة بأنه لا يزال لأمومتها احتمال قائم. وبعدين باندفاع غريب هبّ فيها وبدون ما توعى شو عم تعمل قرّبت من البويضة ولقّطتها وبلعتها كاملة بالظبط مثل ما عمل قبلها بحّارها الشجاع بمبايضها. وفي ذلك الحين كان بحّارنا الشجاع المُعَصفَر يطير فوق البِحار حتى شعر أنه اقترب من موقع قصر ملك البحور الأعظم كما بدأت طاقته على الطيران تكلّ فتباطأ وأخذ بالإسفاف على سطح الماء فوق موقع القصر ثم استوى عليه فلمحتْه أميرته التي لا يغيب عنها خبر مخلوق في كل البحار. إذن لمحت لؤلؤة عصفورًا أبيض مثل الثلج يذيب القلب بجماله وأناقته وزقزقته تطرب الأسماع غير أنّها لم تفطن لحقيقة أمر هذا العصفور اللي ما كان غير بحّارها الحبيب إلّا أنّها افتتنت به هو الثاني شكلاً وصورة إذ كان في شيء في تطليعة عينيه لهذا العصفور سحرها من أول نظرة وكأنه موّاج آخر فكما وجدت نفسها تبتلع البويضة تلقائيًا الآن وجدت نفسها تنجذب صوب العصفور وتمتمتْ له بحجاب خاصّ يُقرأ لطيور البحر لتشدّه بسحرها لتحت الماء. هو على كل حال لم يقاوم لأنّه أيضا كان قد لمحها وفطن أنّها تريد الإمساك به فتركها تجرّه تحت سطح الماء وسلّم لها أمره.
وهنا قبل أن ينفضح المهرّج بتفوّق روايتها لدينارزاد قاطعها الملك شهريار وأسكتها عن الكلام الذي أبيح حتى الآن. حاول سدى أن يخفي إعجابه غير المتوقّع بقدرتها تحت رداء الهيبة والوقار فتوجّه إليها قائلا سلّيتِنا يا بنت الحلال وألهيتِنا أكثر ممّا توقّعت بتكملة بحديثك وأقنعتِني بإبقائك حيّةً مع أختك. ولكن رغم هذا بعد لم أتسلَّ كفاية بحكيك قدرما سلّتني أختك شهرزاد في ما سبق وأجدني الآن في مثل موقف ملك الصين في حكايتها عن الأحدب فأريد من يمكن أن يكمل لي حديثك تكملة أكثر تشويقًا وأختصارًا من سردك المسترسل الفضفاض اللامتناهي كمملكة البحر في حكايتك، فإنْ توفّق/ت خليفتك في ذلك وسلّتني بتتمة مسلّية فساعتها سلمتْ روحك وإنْ لا فطيّرت رقبتك. لا أملك إلا الرضا بحكمك أيها الملك السعيد أجابته دينارزاد، فصفّق بيديه مرّتين وإذ بالمخنّث المفضّل عنده واسمه دجاجة يحضر ويقبّل الأرض بين رجليه قائلا خدّامك دجاجة بين إيديك يا مولاي. أمره الملك شهريار بتكملة الحديث من مطرح ما قاطعها لدينارزاد. سمعًا وطاعة قال. ثم برم هنيهة باتّجاه دينارزاد ووَشوَش لها لا تقلقي ستَسلَمين أنتِ وأختك من هذا المعتوه، ثمّ توجّه إلى الملك قائلا:
بلغني أيّها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد الذي لا تقرّ له عين خلال خبر مثير بسمعه جدير أنّ بحّارنا موّاج المعصفر كما أوردت خدّامتك دينارزاد ترك أميرته الحبيبة تجرّه تحت سطح الماء إلى عمق البحر مطمئنًا كامل الاطمئنان إلى ألا يصيبه أي مكروه وفعلا هذا الذي حصل، فما لبثت الأميرة أنْ سحبتْه تحت الأمواج حتى قرّبت شفتيها من منقاره وقبّلته قبلة خفيفة وتمتمت بكلمات سحرية استطاع موّاج المعصفر بمفعولها أن يتنفّس في الماء كما كان في الهواء وهو لا يزال في صورة عصفور فقال في سرّه سبحانك يا ربّ الذي تُخضعني لتجربة لم أكن لأتخيّلها في حياتي. يا ترى هل ستنجيني ممّا أنا فيه وتحقّق أمنيتي للوصال بلؤلؤتي البحريّة؟
وظلّت الأميرة القمّورة تحمله بيديها وهما يتعمّقان أكثر فأكثر في البحر حتّى وصلا إلى قصر المملكة في قاع البحر حيث كان الملك يستنظر ابنته الغائبة عنه يومين وأكثر ولا يعرف عن أخبارها شيئًا ولا عن عريسها وأخبار مهمّته فما إنْ أبصرها بصحبة العصفور الأبيض اللي معها حتى اطمأن قلبه المنهك من القلق. طبعًا هو مثل ابنته ما كان دريان أنّ هذا العصفور بالفعل هو البحّار الشجاع موّاج ما غيره. غير أنّ هذا العصفور سلب لبَّه للملك هو الثاني بجماله الفائق وسِحر التطليعة في عينيه اللي كثير ذكّرته بتطليعة عينيه للبحار موّاج. بعد أنْ تعانقا الملك وبنته ساعة وهنّأها بعودتها بالسلامة حكتْ له لؤلؤة قصة عثورها على العصفور افتتانها به وأجمعا على إبقائه معهما لأنهما استبشرا به خيرًا.
وهكذا، قعد عصفورنا في قصر الملك ياقوت بعض الأيّام (أو عامَ وطافَ فيه بالأحرى) أذهل فيها سائر أبناء البحر وبناته من حاشية الملك والأميرة ولم يفارق حجر لؤلؤته للحظة ولم ينفكّ يحدّق في عينيها ويطيل وكأنه عم يلمّح لها أنه في شيء بدّه يفهّمها ياه لو قدر ينطق. وخلّينا نحطّ في بالنا أيّها الملك السعيد أنّ لؤلؤة بدورها كانت قد ابتلعت بويضة باضَها موّاج المعصفر من مبايضها التي كان سبق وابتلعها بعد وقوعها على رأس الجنّي هرهور الخبيث. طبعًا هي ما كانت واعية وقتذاك أنّ هالنواة اللي بلعتْها هي بالفعل بويضة من مبايضها وأنّ البويضة رفضت أن تُهضم في بطنها كما سبق وجرى لدى موّاج بل بدأتْ تضرب في أحشائها جذورًا سرعان ما ترسّخت تتّخذ منها عشًا تستقر به وتنمو تمامًا كما حصل مع عصفورها عندما ابتلع النواة٫ إذ هذه أصلاً مبايضها والبويضة التي انباضت ما كانت غريبة عن جسمها. خلال أوّل يومين استغربت ليش عصفورها الجديد يظلّه يؤشّر لبطنها كل شوي يا امّا بمنقاره ويا بمخالبه. وهذا فقط زاد الانسجام والتناغم الغريب بين الإثنين كأنهم حبيبين وظلت تلتصق به افتتانًا حتى في يوم من الأيام ومن فرط إعجابها به زرعتْ قبلةً خفيفة ونظيفة على منقاره وكأنّها عم بتبوس شاب مليح وزين. غير أنّ القبلة هذه لم تكن مفعمة بالحبّ والغرام وحسب بل أيضًا بالسحر ولو من غير ما تعلم إذ كانت أميرتنا هذه مرّات بيطلع منها سحر وهي مش قاصدة. وكان مفعول القبلة السحرية هذه أنها أخرجت البحّار موّاج من صورة العصفور وأعادته إلى صورة بني آدم. فهيّصت لؤلؤة وحباب الماء تتصاعد من فمها جرّاء الزغاريد التي أطلقتها ولكن التهييص هذا ما طوّل كثير فمع أنّ السحر في هذه القبلة رجّعه إنسان بالطول والعرض فإنّ انعدام القصد لدى الأميرة عند قبلتها عمل خلل صارخ وفادح في مفعوله ألا وهو أنّ بحارنا موّاج صحيح عاد إلى صورة إنسان ولكن من جنس بنات حوّاء! يعني يا مولاي المعظّم رجع موّاج بني آدمية بدل بني آدم بجسم مرأة ومش زلمة! وربما حصل هذا الخلل في السحر لأنّ مبايض الأميرة الأصليّة كانت لسّاتها موجودة في أحشائه. بينما وفي ذلك الحين كانت مبايض جديدة قد بلشت تنبت وتطلع لدى الأميرة بعدما بلعت البويضة. طبعًا فطنت لؤلؤة لمغزى الحدث وعرفت حبيبها الذي صارت الآن حبيبة فلم يفرق لا عقلها ولا قلبها بين ما كان عليه سابقًا وبين ما عادت إليه الآن جسدًا وجندرًا. وجلست هي وياه – أو لنقل وياها – ساعةً يهنّو بعض بسلامتهم ويواسوا بعض على هذه الحالة. ثم حكوا مع بعض حديث عشيقين عتبانين على بعض شرحت له الأميرة لؤلؤة أثناءه قصّتها مع الجنّي هرهور المغضوب عليه وأمر مبايضها التي سرقها منها انتقامًا منها لطرده من البحر وموّاج بدوره (أو بدورها بالأحرى!) شرحت لها شو صار معها في الجزيرة المعزولة وكيف سحره هرهور في صورة عصفور وهو يهبط من على الشجرة وتكسّرت قشرة جوزة الهند وإلى آخره حتى تلك اللحظة. وسرعان ما اتّضح لكلاهما كل ما حلّ بالآخر من الألف باء للياء وأدرك موّاج أخيرًا تمام الإدراك لماذا أُلقيت هذه المهمّة على عاتقه كشرط للزواج من لؤلؤة وحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه وشكره على رجوعه بالسلامة ولو في جسد أنثى.
والأميرة في هذه الأثناء كان يتنازعها شعورين متناقضين، فمن ناحية كانت طائرة من الفرح أنّ أمومتها ما ضاعت إلى الأبد ولو كانت مبايضها في جسم حبيب قلبها موّاج (اللي تحول بدوره) فقد شاءت الأقدار أن ترجع لها بويضاتها، ومن ناحية ثانية كانت متشائمة بعودة موّاج إلى صورة البشر كأنثى فكيف عساها أن تتزوّج من حبيبها أرجل البحّارين وهو أصبح الآن غير ذكر محبوسًا مطويًا داخل ذلك الجسم. فما نفع الزواج من غير إمكانية لتخلفة خليفة يرث الملك ياقوت المعظّم المملكة البحريّة؟ وكانت موّاج المؤنّثة تشعر نفس الشعور المزدوج فظلّوا الإثنين ساعة من الزمن يبكبكان على حالهما لدرجة بكت عليهما حتى الأسماك بالماء كمل تقول الأغنية الشعبية بأرض السواد، إذ هما قد تم وصالهما ببعض ولكنهم ما تذوّقوه بالفعل. كلاهما أرجع تأنيث موّاج إلى عوارض متبقّية من تأثير السحر تاع هرهور الحربوق وأن قبلة الأميرة لم يكن مفعول سحرها قويًا بما يكفي لفكّ سحر الأوّل فتخربطت العمليّة خلال تحوّله إلى صورته البشريّة الأصليّة. فبعد ما قعدوا مع بعض بائسين يائسين عم يحاولوا يفكروا كيف بدهم يطلعوا من هذه الورطة وعم يلعنوا حسد العشاق السابقين اللي ما عندهم لاشغلة ولا عملة غير ينقموا علينا يخربوا بيوتنا.
وهنا قاطع الملك شهريار مخنّثه دجاجة وأسكته عن الكلام المباح قائلاً خَلَصْ يا دجاجتي كفّيت ووفّيت وتستحقّ مني الثناء. ثم أخلع عليهما هو ودينارزاد وأمر بمكافأتهما. ولكن ما أن تنفّست دينارزاد الصعداء وهي تظنّ أنّ روحها سلمتْ حتى كمّل كلامه قائلا لها ولدجاجة لا تفكّروا أنكما سلمتو، فلقد أعجبتني يا دجاجة بتتمة غير كهذه بس أنا بعدني أشعر بأنّي في موقف ملك الصين في حكاية شهرزاد، إنّ فضولي يثار كل مرّة ولك بدون أن ينجح أي منكما في إطفائه. ومن الواضح رغم قوّة مخيّلتكما أنّكما غير متمرّسين في فن الحكايات الغريبة العجيبة. مع ذلك أمنحك من سعة صدري وكبر فضلي يا دينارزاد يا شطورة فرصةً أخيرة لتنفذي بريشك مثل ريش بطلك الإنسان الطاير المتحوّل موّاج. ثم صفّق بيديه مرّتين وإذ بشابّة تحضر أمامه مسترجلة مشَوْربة كالشابّ الزغرت القبضاي. قدّمها الملك لدينارزاد ودجاجة واصفًا إياها مسترجلته المفضّلة من بين خدمه وحشمه وهي تدعى فتّاتة كونها فتاة تفتّت لسان من يستخفّ بها. ثم قال لدينارزاد إن توفقتْ خليفتك في بنفس القدْر بتكملتِها لحديثك وتشفي عطش فضولي وتشوّقني أكثر من حكيك الفضفاض فساعتها سلمت روحك، وإنْ لم تتوفق فطارت رقبتها مع رقبتك من وراء لسانها الجاني على وقت راحتي وحكمي بين العباد ومظالمهم. لا أملك إلا الرضا بحكمك أيها الملك السعيد أجابته دينارزاد بكل صبر وحلم. ثمّ أمر الملك مسترجلته الممضلة فتّاتة، بعد أن قبّلت الأرض بين رجليه، أن تختم له هذه القصّة ختامًا شيّقًا ومختصرًا من مطرح ما قاطع دجاجة. سمعًا وطاعة يا مولاي قالت فتّاتة، ثمّ تلفّتتْ هنيهةً إلى دينارزاد كما فعل دجاجة قبلها ومثله همست لها لاتقلقي ستسلمين أنت وأختك من هذا المعتوه لا ريب في الأمر، ثمّ نحنحت نحنحة جعورية فتوجهت إلى الملك قائلةً:
بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد الذي لا تقرّ له عين خلال خبر مثير بسمعه جدير أنّ الأميرة اللؤلؤة من يأسها على حبيبها التجأت إلى حضن أبيها ياقوت ملك البحور الأعظم ليواسيها ويطبطب عليها ساعة على ليروّح عن نفسها وهكذا فعل. ربّت على كتفها وهي عم تفشّ له همومها هي وموّاج فأمهلها حتى خلّصت حكي وبكي ثمّ توجّه إليها قائلاً إسمعي يا أميرة يا بنت ملك ملوك البحر الأعظم لقد حان الوقت لأصارحك بالحقيقة.
وأيش هي؟ سألته بنته قلقة. ما في مشكلة انحلّت بالشلي والبكي، أجابها، فاسمعي هالكلمتين هلق. كل اللي صار معك كان مكتوبًا عليكِ منذ أن توفّت الملكة المرحومة إمّك فبعد ما فقدتها نزلت على بيتنا وآلنا وأصحابنا أجمعين لعنة لعناء من الأخطبوط لبّيط الذي استولى على ملكنا في عهد جدّك المرحوم والد إمّك لفترة قصيرة قبل ما أسترجعه منه وأقبره منفياً منبوذاً في مغارة تحت قاع البحر جزاءًا على النحس اللي جاب لنا ياه. بيجوز خبّرتك عن هالأخطبوط لما كنتِ صغيرة، مخلوق حقود و بلا روح شراسته ووحشيّته وما إلهم حدود. وعمل هذه العملة من شعوره بالنقص والقبح قدّام بقيّة أبناء وبنات البحر، فأنزل علينا هذه اللعنة بل وذهب أبعد من هيك فزرع الشرّ والحسد في قلب الجنّي هرهور لمّا كان عشيقك فحرّف سحره ليسرق مبايضك وأمومتك وأولادك. وهلق لبيط اتخذ هذيك المغارة حصن منيع بدل ما يكون منفاه ينقبر فيه للأبد. والآن قاعد هو يشمت فينا حتى يتحين الفرصة ليستولي على الملك كمان مرّة. واللعنة ما رح تنفكّ حتى نروح نقتل لبّيط الأخطبوط ونرتاح منه إلى أبد الآبدين. بس أنا مثل ما أنتِ شايفة يا بنتي يا جوهرة الجواهر صرت ختيار وعلى حافّة القبر وخايف انهزم هزيمة شنيعة واخسر له كل شيء، فالبركة فيك أنتي وموّاجك الشجاع، أو الشجاعة لا تفرق معي، الله يخلّيكم لبعض. وتابع الملك محذّرًا إياها أنّ الأخطبوط لبّيط إله مئة رجل تتلعبط في وجهك كلها فرد مرّة وبيستخدمهن خصوصي ليصفّي حساباته مثل أي بلطجي من البشر. وفوق ذلك كل يوم تطلع له رجل جديدة يمسك ويلوي ويعصر بها المظلومين والمعتّرين اللي يقعون في شركه.
حاشاك من القبر وحكي القبر! صاحت الأميرة لؤلؤة مذهولة ومش مصدّقة أذنيها. أنا وحبيبتي موّاج فدا روحك وبعدين بدنا نقاتل مش بس منشانك والمُلك. بدنا نخلص منه تا نقدر نتزوّج ونعيش في تبات ونبات ونخلّف صبيان وبنات. لم يجادلهما الملك كثيرًا واستودع لؤلؤته وموّاج في أمان الله في مهمّتهم الجديدة المصيريّة وعلّق على رقابهم طلاسم وحجابات يحتموا فيها من خبث الأخطبوط. وما لبثا أن وصلا إلى معقل الأخطبوط حتى وجداه متربصًا لهما متوقعًا قدومهما فالشًا أرجله كلها لاصطيادهما وهذا الذي صار. وبعد ما أحكم السيطرة عليهم قعد يشمت فيهم ويذلّهم إذلال بشع ومهين وهم عم يتعصروا ويتلوّوا بين أرجله المتطايرة مش عارفين كيف رح يطلعوا من هيك ورطة لما فجأة تغشّتْ أبصارهم أسراب هائلة من الأسماك الصغيرة آخذة الأخطبوط على حين غرّة فتلبّك لبّيط وبات اسمًا على مسمّاه يلبّط تحت المي ويخبّط في الأسماك وخصومه على أبو جنب الأسماك هاي حالت دون أن يقشع قدّامه. بس عنصر المباغتة فقد السيطرة ارتخت قبضة الأرجل اللي كانت كامشة الأميرة وحبيبها موّاج فتمكّنوا من أنهم يفلتوا منها ويتسرّبوا وفكروا أنهم خلص زمطوا لكن لم يلبثا حتى لما فجأة حسّوا بأيدي أليفة تكمشهم من وراء. وأصحاب هالأيادي ما كانوا غير الجنّي هرهور الحربوق مصطحبًا الملك ياقوت الأعظم لنجدة الحبيبين! إذ هرهور كان شكله أخيرًا استوعب وتقبّل أنّ الأميرة لؤلؤة لن تكون من نصيبه وتهيّأ أنه ندم على كل ما تسبّب فيه من مصايب في حياتها وذلك لأنه خلال غيبوبته عن الوعي بعد ما وقعت جوزة الهند من أيدين موّاج على رأسه تطهّرت روحه ونفسيّته من كل الحقد والشرّ اللي تراكم عنده وتطهّرت قوّته السحرية هذه من كل ما هو سلبي. فعاد تائبًا من الجزيرة المعزولة لقصر الملك ياقوت العجوز اللي أبلغه بكل ما جرى فارتمى هرهور (أو لنقل غطس) عند رجلين الملك والأميرة مستسمحًا وحلف أنه بس درى بوقوع لؤلؤة بين أرجل الأخطبوط لبّيط قرّر بدون أدنى تردّد أنه لازم يساعدهم. وهكذا تسرّعوا فورًا لمعقل لبّيط. ومع أنه الأخطبوط كان قد أثّر على قواه السحريّة لهرهور فعزلة الجنّي الطويلة على الجزيرة المعزولة بعّدته عن نفوذ الأخطبوط فبالتالي أضعفت من تأثير لبّيط عليه. و إذًا، كان عارف نقطة ضعفه للأخطبوط ليواجهه ولذلك استنفر كل أسراب الأسماك هاي ونقى منها سربين، اللي كانوا كافيين ليقدروا يطوّقو الأخطبوط كلياً. والسربين هذين طلّعت من مساماتها حبر أغمق وأكثف من أي حبر أخطبوطي بلش إثره رأس الأخطبوط سرعان ما يحلحل من محله حتى انفصل وتفسّخ تماما والأسماك تغمره. وهيك تخلّصوا من هالأخطبوط اللي كان أصل بلوتهم لأبد الآبدين وعادوا لقصر الملك ياقوت منتصرين معززين مكرمين كلهم من غير أي أذى وارتاحوا من هااللعنة التي تنذكر ولا تنعاد إلا لتكون عبرة لمن اعتبر من هكذا حكايات وخرافات.
كانت بقيانة فقط مسألة المبايض هاي فهرهور الذي سبق وكان حربوق وهلق صار حبّوب تكرّم بالحل وعرض على كل المعنيين قدراته السحرية ليستعملها للخير المرة هذه. ترجّوه يحلّها بمعرفته الغيبية وأقسموا أنه ما كانت فارقة معهم شو بيصير طالما استطاعوا يتزوجوا.
"هل أنتو أكيدين أنه مش فارقة معكم؟" سألهم. أكيدين، جاوبوه. فسمى بالله واستعاذ به من كل شرير حاسد. فقالوا باسم الله وراه. ثم طلّع الجني هرهور الحبوب حبتين جوز الهند من حيث لم يدروا وطلب من موّاج/ة ولؤلؤة أن يشقّوا كل واحدة شقفتين ثمّ يطعموا بعض شقفة من كل حبة وهم يتمتمان بآيات قرآنية بعينها قرأها هو عليهم. وهم عم يتمتموا ويعملوا هيك فجأة اضطربت المي وهاجت من قاع البحر لسطحه وبلشت تفور وتزبد حواليهم وتغشّتهم الرغوة والزبد وحجتهم عن أنظار الملك وكل الحاضرين. بعدين لما هدأت المي وسكنت انقشعت عنهم وكشفتهم التنين سالمين آمنين في حضن بعض ولكن بفرق واحد وكبير ألا وهو أن الأميرة لؤلؤة اللماعة تحولت ذكرًا كقضيب البان بقضيب بائن بينما ظل موّاج موّاجة على ما كانت عليه من أنوثتها المكتسبة وصارت قطعيًا صاحب(ة) المبايض اللي زُرعت فيها التي ستنجب - أو خلينا نقول ينجب - منها لؤلؤة أولاده ويديم بها سلالته. رغم دهشة الكل بالحدث الغريب تقبلواالأمر وعزوه الى مشيئة رب العالمين وكل صنيعة من صنائعه مباركة ومرغوبة على حدّ سواء. ثم ما طوّلوا لتصالح هرهور الحبوب ولؤلؤة نهائيًا وسمح له الملك ياقوت الأعظم بالعودة إلى المُلك والبقاء وين ما يريد وأقسم هرهور بدوره أن يفدي الملك بحياته وبسحره. ثم أقام الملك أفخم وأكبر وأعظم عرس شهده البحر في تاريخ الوجود على شرف بنته المستحيلة عريسًا لؤلؤة وعريسها المستحيل عروسًا موّاجة الشجاعة وعاشوا في تبات ونبات وخلفوا مش صبيان وبنات بل مخلوقات أخرى عصية على كل تصنيف وحكموا في مملكة البحار أعدل وأحكم حكم دام أعمار وأعمار ودانت بولائهم الخاص والعامّ في كل أقاليم البحر قاصيها ودانيها من سطحها حتى قاعها.
وهذا ما ورد إلي أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد من حديث البحار/ة موّاج/ة وحور/ية البحر لؤلؤة. ثم سكتت فتّاتة عن الكلام المباح.
لم يستطع الملك أن يواري إعجابه بهكذا ختام شيّق ومثير وغصبًا عنه تخلّى عن نيته لضرب رقبة دينارزاد. أخلع عليها وكذلك على المخنث دجاجة والمسترجلة فتّاتة وأمر بمكافأتهم كلهم. ثم توجه إلى دينارزاد قائلاً شوفي يا متشاطرة يا أخت الشاطرة لقد نفدتِ بجلدك ونجحتي في تسليتي عن حديث أختك شهرزاد النهار كله وعليه تستحقّي التقدير. ولكن – والكل سحب أنفاسه خاصة دينارزاد التي استعاذت بالله من جنون الملك – بما أنك لم تكوني لتنجحي لولا إعانة كلٍ من مخنثي ومسترجلتي لك فعقدت العزيمة وقرّرت أنهم رح يضلّوا معك أنتِ وأختك بالليل لرواية الحكايات في الأيام التي يطلع على بالي أسمع فيها حديث أو حكاية بالنهار. وفوق ذلك أنتم مكلفون بإدارة كل شؤون الحكم والبلاط والاستماع إلى المظالم التي لم تُعالج في النهار. هل أنا مفهوم؟ فأجابوه سمعًا وطاعةً يا مولاي. ثم انصرف الملك الى شهرزاد التي تكون قد استيقظت في ذلك الحين وبدأت بالاستعداد لحديث تلك الليلة. ما إن غاب عنهم حتى غمزوا لبعضهم وعقدوا اجتماعًا طارئًا ليخطّطوا كيف سينقذوا البلد وبناته من هكذا طاغوت الذي لا يخلّي حدا ينام بالليل والآن يبدو أنه ولا يريد يخلّي حدا يفيق من كابوسه بالنهار….
يتبع...
سونيلا موبايي
سونيلا موبايي نالت شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة نيو يورك حيث تخصصت في التقاطعات بين الشعر العربي الكلاسيكي والحديث. قامت بترجمة القصص القصيرة والقصائد بين العربية والانكليزية والأردية ونشرت أعمالها في مجلة بانيبال، بيروت ٣٩، جدلية، وغيرها.