RR

الموعد

هذه النصوص مأخوذة من كتاب عنوانه المؤقت "الموعد". اختار جولان حاجي اللوحات من مجموعة "حياة الآخرين" لغيلان الصفدي، بالاتفاق مع الفنان. كانت النواة الأولى لهذا الكتاب نصاً عنوانه "سأم بيروت"، قرئ جزء منه ضمن ملتقى "مينا" الذي نظمته مؤسسة "اتجاهات" في بيروت سنة 2017. لم يسلم من تلك الكتابة الأولى إلا سطراها الأخيران. اختيرت اللوحات من مجموعة "حياة الآخرين" لغيلان الصفدي.


 

أن تعبر منعطفاً مظلماً في ليلة صيف، وعلى ظهرك طفل نائم

كنتَ ترى في غبش الفجر أطيافاً سوداً، خادمات تُنزلهنّ "الڤانات" عند مفترقات الجسور والأنفاق. كنّ يظهرن، مثلك، في أمكنة خطرة لا تصلح للمشي. سيارات سريعة تدوّم الهواء حولهن، فيمشين بحذر، ممسكات بالـ "ساري". خجولات، خفيضات الصوت. قد يرهَب غموضَهن الأولادُ المدللون. قد تقلّدهن طالبات جامعيات في ارتداء بيجامات نوم، أو بيجامات أديداس، تحت التنانير. معهن أحياناً حُزَم من أوراق الموز، من مزارع الناقورة أو صيدا، يغلّفن بها كُراتِ الأرزّ اللاذع المتبّل بالزعفران، يطبخنه على بقايا الجمر، بعد انتهاء السادة المتنزهين من شوائهم، وتلاشي دخان اللحوم، المحمول على نسائم المتوسط إلى أنوف المارة. أحزانهن لا تُضعِف ذاكرتهن، فلا ينسين أين تتوارى المملحة، أو الفلفل الأسود. يظهر بعدهن، في ساعات الصباح الأولى، شبانٌ صامتون. لا يجادلون أحداً. فوريون في تأدية المهام. لا يعصون أمراً، ولا يفاوضون. أرخص أجراً. ليسوا جيراناً، ولا إخواناً، ولا شركاء في المصير. مريحون. مؤقتون. لا يُخاف من أن يضربوا بجذورهم هنا، لكنهم ليسوا محاسبين أو مهندسين ليفكروا بالرجوع إلى جذورهم هناك، حيث كانوا دهانين، أو ربما باعة جوارب، أو باعة جوالين لسموم الفئران والجرابيع... يسارعون، بسطل الصابون والإسفنجة، ليمسحوا زجاج السيارات الواقفة في عجقة السير، بادئين بالزوايا التي لا تبلغها المسّاحات (يبدو عليهم تعب ما، مهما تحمّسوا). لطفاء تُنسى أسماؤهم بسرعة (ما لم تكن أوراقهم مزوّرة): "محمد" ما، "حسين" ما، "شهاب" ما... أسماء عوائلهم لا تستلفت أحداً. هم الواقفون، وهم المبادرون إلى تحية السائقين، مع ابتسامة لا يُشَكّ في صدقها: "سلام" (الأهون من "مرحبا" نطقاً). ظننتهم هنوداً، يشبهون بعض أقربائك الأكراد في ضمورهم وسمرتهم. شعر فاحم لم ترَ مثيلاً لشدة سواده وملاسته. بشرة مشوبة بمسحة خفيفة من البنفسجي والبرتقالي. كروشهم، إنْ وُجِدت، صغيرة، مدوّرة، صلبة. لم يقوّس الخرَع سيقانهم. أحياناً، كنتم تتبادلون نظرات صامتة تنمّ عن التعاطف، أو التضامن. أحياناً أخرى، لمحتَ استعلاء في أعينهم، كأنهم نزعوا عنك قناعك في حفل الأنساب التنكري. لم تعلم، في لحظة التعرية تلك، إلى أي درَكٍ من مراتب منبوذيهم سوف يزجّون بك.

كنتَ، في عيون الجميع، واحداً من هؤلاء الغرباء. رمتكم المصادفات إلى قرى بين الجبال لم تسمعوا بأسمائها من قبل. ظهوركم تكدير لبشاشة الوجوه، تشويش لجمال الفراغ، تشكيك في تناغم الحياة. لا يسمح لكم القانون إلا بحثالة الأشغال. كان وجهك وجه عامل بناء من "الفعّالة"، أو كنّاس لدى "سوكلين وليد بك"، أو حمّال مياوم يجلس تحت جسر الكولا، في انتظار سيارة ينزل بلور نافذتها وتلوّح له يد بالسبّابة لكي يقترب. اللوحة البيضاء، ذات الكلمات الحمراء: 

 

هذا المبنى مراقب بالكاميرات
24/24-7/7

 

مثبّتة عند مداخل البنايات، من ڤِردان إلى الضاحية، خصيصاً لمن هم على شاكلتكم.

لا تكترثون بصحتكم. ربما وجباتكم الوحيدة الدسمة من بقايا المآدب. أنتم المستيقظون قبل طلوع الشمس، تتركون تأمل الشروق لغيركم. تتركون الكآبة الحقة لغيركم. لا وقت لديكم لتحزنوا، لأن حياتكم هي الحزن بحد ذاته، وأنتم تحتالون عليه بالصبر، بقوة الذراع. تركبون السرافيس للذهاب إلى جنازات أترابكم قليلة المشيِّعين، وتقولون: "الغربة جنازة سعيدة". وإنِ استطعتم، اشتريتم من صندوقكم التعاوني بطاقات طيران التوابيت ليرجع موتاكم إلى ذويهم البعيدين، سالمين أو محطَمي الأضلاع والجماجم.

The Lives of Others 19 | 2020 | acrylic on paper | 56 x 76 cm
The Lives of Others 19 | 2020 | acrylic on paper | 56 x 76 cm

تظهرون مع القطط والكلاب التي نسي أسيادها المخمورون أن يطعموها. مثلما يتخاطف المعوزون سحور موائد الرحمن، ربما تجْهزون على فوضى الموائد، حين يضربها الشفق في نهاية السهرات (ذاك الضوء المحمرّ، الأغبر، الذي يبثّ مرآه في البدن حمى طفيفة، حتى ينحبس تحت الثياب بخارٌ خفيف من العرق، مغلِّفاً بوخزه الخفيف الفخذين وما بين الكتفين). ربما لا تتوانون عن أن تفطروا الكبة النيئة مع بصل أخضر، أو حساء الشوندر البارد بالفريز المزيّن بورقة حبق، أو سلطة البطاطا الباردة مع متبل الباذنجان بالخبز الفرنسي المحمص... تلتهمونها على عجل، وأنتم تنهرون قططاً بطيئة استردّت غريزة الوثب فالتمّت حول طبق من لحم "التارتار" النيء لم يُمسّ، وترمون إلى الكلاب، المسكينة المنسية، قطع لحم طويلة، قاسية كالألياف، حاول الضيوف مضغها وتركوها بموازاة الأطباق. تأكلون وأنتم تغالبون نفوركم من الكلاب، لأن لعابها ملأ أكباد آبائكم بأكياس الماء. ربما تتسلّلون كالضباع، فتسكرون بثمالة كؤوس الآخرين، وتكرعون ما تبقى في الزجاجات، خالطين الكالڤادوس بالكونياك المعتّق في براميل من خشب البلوط، غير آبهين بالخلط، ثم تحلّون أضراسكم ببقايا قوالب الحلوى فنية التصميم التي توصى لدى سلسلة مخابز "پُول"، المحشية بالتوت البري، المسقوفة بكريما الشانتيه المخفوقة. البقايا حصتكم: تلبسون قمصان الموتى الموزعة بالمجان في الأسواق الخيرية، وتأخذون صحونهم إلى منازلكم لتملأوها برغلاً بالبندورة. الجحور سكناكم تخطفون إلى رطوبتها، سيئة التهوية وسيئة الإنارة، لقمةَ العيش التي ينتظرها فراخكم الجوعى، ليحتفلوا بنصف فروج بروستد مع كريم الثوم، أو علبة فلينية من مندي حضرموت بالدجاج والزبيب. تعملون لتأكلوا، لأنكم إذا لم تأكلوا فسوف تموتون. لم تسمح لكم كرامتكم بالوقوف لساعات في الطوابير، حتى تنزف أنوفكم تحت الشمس، قبل استلام سلال المعونات الغذائية. أنتم الآن تلهثون من الصباح إلى المساء، مطاردين الأسعار الرمزية برواتبكم الرمزية التي بتّم تستلمونها بالشيكات. تتسوّقون خضاركم في الدقائق الأخيرة قبل توضيب الباعة صناديقهم في سوق صبرا، ولا تزالون مدمنين على السمن المغشوش. سبب كروشكم كلُّ "حَرام كبُّه" ينتهي في بطونكم بدلاً من سلال القمامة. معداتكم قوية كالديناصورات التي كانت تزدرد الأحجار مع الكلأ والفرائس تفادياً لعسر الهضم، زاحفة ببطء في السهوب التي لم تكن صحارى وقتذاك، واهبةً شحومها ولحومها إلى نفط المستقبل. في متاحف التاريخ الطبيعي، تُصفَّف تلك "الأحجار-العقاقير" على الأرض، أسفل العمود الفقري للحيوان المنقرض، لأنها لم تكمل الرحلة داخل أمعائه.

 

الأشياء أجمل في الواجهة

تتّسع الخطوات فوق المياه المزبدة على الأرصفة، حين تُشطف بارات الحمرا الفارغة في الصباح، ويعذب النهار بالصوت الشجي لنصري شمس الدين، أو جوزف صقر. رغوة وسخة كانحسار زبد البحر (لا تشبه الصابون، ربما فيها بقايا رغوة البيرة، ورغوة حساء الكرنب؟). في مقهى ليلى، ازدانت كل طاولة بصبار قزم في قدح من تراب، داعبتَ أزاهيره الحمراء أثناء مشيك، فاكتشفتَ أنها من قماش ومثبّتة بدبابيس. افتقدتَ الزعتر اللذيذ "تاتا ماري" عند Plan B، حيث كتب خِيطَتْ يدوياً، معطّرة بزيت الخزامى وورق الشاي الأخضر. ارتبكت مراراً على عتبة مثل تلك المحلات، الفارهة، المضاءة جيداً، ذات الأغراض القليلة، الصحية. بناطيل زبائنها زاهية الألوان، ذات نضارة وَبِرة، بين المخمل والجينز، كأن بخاراً نورانياً يغلّلها، مفشياً فحش سعرها. أصحابها، الهادئون المتنعمون بالفراغ، هجروا الخبز الأبيض، وعادوا إلى النخالة والشعير، خبز المحتاجين، الملعونين بالفراغ.

كان سقفك في البذخ "منقوشة محمّرة بالقشقوان" على الصاج، من بربر، تمتطّ كالعلكة بين يدك وأسنانك، أو شطيرة "شاورما غنم" من كبابجي، تأكلها بما تستطيع من بطء، لكيلا يتقطّر دبس الرمان على قميصك أو بنطلونك. ما كان ذوقك ليغامر بسواها حين تُتاح لك اللذائذ. كنتَ تعلم أنّ لمستك انتهاك، فإذا مسستَ شرائح البسطرمة التفتَ نحوك البائع الصامت (ويداه في جيب مئزره الجلدي، نبيذي اللون)، ناظراً في عينك أثناء ترددك لتحسم أمرك، وأرغمك على شرائها بقوة نظرته وحدها.

المدينة تغصّ بالمعروضات، والمتفرجون قلقون. الصراف الآلي لبنك عودة، بوميضه الأخضر كصليب صيدلية مناوبة في عين مدمن، ينتظر بطاقة الائتمان القادمة. كاميرا المراقبة تحتفظ، لمدة أسبوع أو أسبوعين، بتسجيلها التفاتةَ الزبون المتوجس إذ ينقر رقمه السري (وفي الوقت نفسه، يتحقّق بطرف العين من خلو الدائرة حوله)، لكنها لا تستطيع أن تلتقط الشبح الذي يحرم نظرات الزبون من الإحساس الحقيقي بالأمان، وقد يخطف نقوده العزيزة من يده فور سحبها.

ما عدتَ تذكر في أي بنك من بنوك شارع الحمرا عُلّقت موعظة "ora et labora" - البنك الأهلي أم البنك اللبناني السويسري؟ ما كان لأي بنك أن يرضى بفتح حساب لك، ولو تضرّعت إلى أرباب العمل فيه حتى يوم الحساب، فأنت قد عشت في زمان مقايضة البضائع بالبيض وطاسات الطحين. كل ما عرفته عن البورصة (برغم تعدد محاولاتك لكي تفهم شيئاً مجدياً من رموز لغتها، ومؤشراتها الخضراء والحمراء) هو أنها سوق أشباح متربصة بك. بالنسبة إليك، كان التناسب عكسياً بين المتعة والإنفاق. كانت ذروة حزنك هي ذروة الهدر أيضاً. كم مرة اشتريت أشياء رخيصة جداً لا تحتاجها، حتى أمست تسلية التسوق كابوساً أيقظك؟

قرأت هذا التحذير، بحروف منفوخة كالعضلات، على جدار في شارع مونو: "سبائك الذهب، وإلا عمّت الفوضى عالمنا" (فوضى أخرى غير السائدة حالياً). كان فنان غرافيتي، سِيق إلى محاكم بيروت، قد صمّم شعاراً جديداً بالأصفر والأسود لوسترن يونيون، فيه الزبائن والموظفون فئران تجارب (استلهمه من "حديقة المباهج الدنيوية" لهيرونيموش بوش، حيث إمبراطور عارٍ كالطير الجارح يلتهم عارياً آخر تنبثق السنونوات من مؤخرته، فاحمةَ السواد (لا ضوءَ في الجحيم ليفضّض صدورها أثناء هذا التحليق)، وأسفل العرش الذهبي عراة معذبون، يتقيؤون ويتغوّطون ليرات ذهبية تتساقط في الهاوية). كنت تظنّ أصحابَ البنوك مصابين بالإمساك، يتداوون منذ طفولتهم بقطرات من زيت الخروع، لأنهم، في تربيتهم العصامية، أباً عن جد، يترعرعون على الاستفادة من كل شيء، حتى فضلاتهم، لأطول وقت ممكن. إنهم مختلفون عنك، فأنت تليّن قلبك ووجهك، وهم يليّنون أمعاءهم ومفاصلهم. تعلّموا أن ينظّفوا صحونهم بلباب الخبز حتى قطرة المرقة الأخيرة. لم يفرّطوا حتى بالقروش التي كنت تراها مرمية، نحاسية البريق، على الأرصفة ومقاعد الباصات، فتتكبّر ولا تكلّف نفسك عناء التقاطها وتوفيرها، مثلما لم تتورّع عن هدر المحارم الورقية، ونسيت غالباً كيس التسوق فأضفت إلى فاتورتك قروش الأكياس الورقية التي عادت إلى الرواج مؤخراً.

Untitled 36 | 2015 | acrylic on canvas | 100 x 100 cm
Untitled 36 | 2015 | acrylic on canvas | 100 x 100 cm

أصحاب البنوك أناس صرحاء، منتجون. يعتقدون بحواسهم، ولم يعتقدوا بالقدَر مثلك. سريعون في الاستيقاظ، ولا يبدؤون الصباح بتفسير الأحلام، وتفقُّد "برجك اليوم". إنهم مؤمنون بالعقل والإرادة. عقلهم لامع كالليرة، وإرادتهم حديد. لا تتقهقر معنوياتهم، ليظهروا على الدوام رابحين ومنتصرين. لا وجود في قاموسهم لمفردات مثل الضعف والفشل والهزيمة. صارعوا الوحوش والضواري في غابات الحياة حتى صاروا ما صاروا إليه، من دون أنين أو شكوى، أحراراً يأنفون أي ترويض، سادةَ مصيرهم، سادةَ الأرض. حين تدنو ساعة موتهم سيتبرّعون بمقتنيات أسفارهم إلى كبرى الجامعات والمتاحف. أما الآن فهم مضطرون مرة أخرى، آسفين، ليلقّنوا أمثالك من المبذرين الدرسَ نفسه. ابتزّوكم بالفوائد، ولم يرحموا سهوكم وأخطاءكم لعلكم تفكّرون، فأنتم "الثوريون" المزيفون، تفركون أكفكم متلهفين لحفيف النقود، منتشين بروائحها حين تستلمونها، ثم تسدّون أنوفكم وتزمّون جفونكم حين تتمرّدون وتحرقونها، لأن دخان النايلون الذي سُكَّتْ منه أوراق النقود يزكمكم ويدمعكم. تدشّنون المشاريع، ثم لا تكملون ما تبدؤون كعمارة توقّفت عن النمو، بسبب نفاد التمويل، ثم تلتهون بإخفاقاتكم، وتحوّلونها إلى نكات: "كسلنا من الجود والكرم، كله طاقة كامنة وقوة شخصية!" أنتم محرومون من راحة وُجود هدف واضح أمامكم، مدمنون على الاحتجاج ضد كل شيء. لا معنى لديكم لأوّل الشهر، ولا لآخره. أنتم حمقى، ملوكٌ جيوشهم من ظلال الغيوم، تسدّون آذانكم عن النصائح الجاهزة في فلسفة الحياة: "إنّ مراكمة المال هي أرقى أنواع العبقرية". كان عليكم، أنتم معشر "الثورجيين" المضحكين، أن تتعلموا منهم المثابرة، والدقة في التخطيط، والدقة في التنفيذ، أيها التعساء، الفوضويون، الاتكاليون، الأنانيون المهملون، المتضورون حزناً، وخوفاً، وقرفاً، وألماً، وجوعاً، وحسداً.

قرشاً فقرشاً تنتفخ المدخرات، كمَحافظ الباشوات حين كانت تُحشى بالنقود حتى تكاد قُطَبُها تتفتّق. قرشاً فقرشاً، وثانيةً فثانية، ينمو الرصيد كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، ويتكدّس الحصاد حتى يصير جبلاً من ذهب، ثم يتفضّل الأفاضل، المبارَكة ممتلكاتهم، بإقراض المحتاج شيئاً من فضلاتهم: قروض مخفضة الفائدة للفلاحين المفلسين في الهرمل؛ قروض الكنَف للأرامل والمطلقات؛ قروض عقارية طويلة الأمد للمعلمين كي يشتروا بالتقسيط الشهري، على مدار عشر سنين، شققاً قديمة في فرن الشباك...

كنت تعرف بعض العالقين على الدرجات الأولى من السلم الاجتماعي عديم الرحمة، الطامحين بأظافرهم ونواجذهم إلى أعلى عليّين، والمهددين بالنزول إلى أسفل سافلين، مثقلين بالديون، يلاحقون المستقبل، زاحفين على بطونهم وظهورهم تحت الأسلاك الشائكة كالمتدربين على تطعيم المعارك في معسكرات المقاومة بجرود البقاع. فوزهم يُستثنى منه ضمان راحة البال. هم مثلك يخافون الإفلاس المفاجئ، حتى لو حدّدوا سقف مشترياتهم، وأحصوا كل نفقاتهم بالمليم، متفقدين ما تبقّى من رصيدهم في البنك مراراً، ومغيّرين الكلمة السرية لحسابهم كل شهرين. لا مناص من إنفاقهم ما يجنون. أولئك العمال المنضبطون في مطاحن الذهب، الموظفون الأنيقون في المستنقع، لم يطِرْ صيتهم إلى الآفاق كما حلموا، ولكن لا أحد ينكر أنهم محترمون. إذا حدث واستقلّ واحد منهم سرفيساً، اختنق الركاب بربطة عنقه. يدلّكون وجوههم، بمُطَريّات "جيليت"، بعد حلاقة الصباح اليومية. تعساء أيضاً، في جهنم المقارنات، ولكنهم محظوظون. محظوظون ومحسودون، فقدّامهم على الأقل خياران، أحلاهما كوليرا: الزحف في قطاع الخراء العام، أو الزحف في قطاع الخراء الخاص. بعدما تحضّروا، تعلّموا معنى جديداً للحضارة: القلق وأنت مرتاح، لأن الموبِّخ الذاتي سيلعلع في رأسك إذا جلستَ دون أن تفعل شيئاً. المرتاحون مرتابون. تتوعّدهم اللحظات الساكنة، الخاوية. الاستقرار يحقن المتحضرين بقلق أسمى وأضرى. الحياة تعجّ بالمؤجَّلات، ولا بد أن تفعل شيئاً، حتى لو كنت على فراش موتك، حتى وصولك إلى التنفس الصناعي: اعزقِ الأعشاب؛ قلّمِ الشجيرات قبل تقليم أظافرك؛ اكنس عتبة بيتك (دون أن تتخطّى شبراً واحداً محسوباً على ملكية غيرك، لكيلا ينتقص هذا الكَنْس الإضافي من مقامك، أو لكيلا يغضب جارك باعتدائك على خصوصيته)؛ ادهن سياج حديقتك باللكر في صباح مشمس؛ رتّب مكتبتك في نهار ممطر؛ ثبّت المشاجب؛ ركّب الستائر؛ خُذ طنجرة التيفال المقحوطة إلى مكب المعادن؛ ارمِ البطاريات الفارغة في حاويتها المخصصة، الصغيرة والبعيدة جداً عن سكنك؛ نظّف بفرشاة أسنانك القديمة وسخ الزوايا المستعصية في إطار حذائك، ورطّب مخملَه بثمالة الشاي، ثم بُخّه بصباغ شفاف؛ قوِّم المسامير العوجاء؛ نزّل منسيات العلّية إلى القبو الواسع؛ تعلّم لغة أجنبية فائدتها الوحيدة المتعة؛ نوّع تمارينك الرياضية؛ صلّح ألعاب أحفادك المعطَّلة... هذه الجهود الصغيرة تساهم أيضاً في دفع عجلة التطور إلى الأمام، واقتحام المجهول. العطلة نوع آخر من العمل. النوم نفسه جزء لا يتجزأ من العمل.

سدى حاول أهل الخير أن ينقلوا إلى الشبان الكسالى أمثالك عدوى الفضيلة التي سمّيتموها "عصاب العمل القهري"، لأنكم لا تعرفون حدوداً للوقت، لأنكم، أيها الضالون أينما كنتم، تعكير لصفو الطمأنينة، مَفْسدة للتوازن. سدى عدّدوا لك الفروق بين الخامل والعامل، بين الشرق والغرب، بين تركيا وأوروبا، بين الشمال والجنوب... أنت العنيد، لم تتنازل عن حقك بالوقت الميت. ما أحسستَ ولا رأيتَ إلا بفضله. عشته على مهل، ليبزغ لك بين لحظاته بستانٌ صغير تفيء إليه. لولا الوقت الميت لما شهدت أعاجيب الأشياء العادية، تلك الخفية عنك برغم أنها لم تفارق ناظريك، وأرجأتَ دوماً النظر إليها. في أي قصة، من بواكير الأدب البوليسي، كان دليل الجريمة مكشوفاً كالرسالة على طاولة مكتب؟ أهو القاتل في شارع المشرحة، القرد قاطع الرؤوس عبر محاكاة الحلاقين؟ لم يكترث المجرمون بأن الركن المستبعد للعثور على أي دليل ضدهم هو هذا الماثل قدّامك: حياتك العادية، برهان جرائمهم. كانت حياتك فضيحتك.

سدى حاول أهل الخير إقناعك بأن أسّ مشاكلك هو البطالة وليس العمل. في البدء كان العمل، وأنت السافل تتذاكى بمثل هذه الشعارات الجوفاء: "ستستمرّ الحروب وتستمرّ العبودية ما دام العمل مستمراً".

 

سِفْرُ الأيام

"الربيع بلغ الركب"- استعدتَ خيبة مالك الحزين عند الوصول إلى سهول كردستان، بعدما أبرق السنونو، الرسول الأسرع، وأراه اللطخات الخضراء على منقاره القصير وساقيه القزمتين، مثلما تلطّخ أسفل بنطلونك السكري بعد احتكاكه بأوراق العشب في شقوق الأرصفة. صعدت شوارع وأدراجاً حتى غابت الشمس وراء أشجار الزيزفون في أوتيل ديو، ودكنت أوراقها. الظلال أندى بعد العواصف الرعدية. تبلّل حذاؤك الطري، المصنوع من جلد بقرة. بقع البلل كشفت سعره، وأدكنت لونه الأخضر، فصعب عليك تمييزها في دكنة المساء. اكتشفتَ جدوى أخرى للقطعة الحديدية في رؤوس الأحذية.

رأيت القمر مسرعاً بين سحب بيضاء، وشطره المضيء يشي بشطره الظليل. "سيوان"، الكردية، هالة الضباب المتقزّحة حول القمر. ما عدتَ تدري بأي لغة تتحدّث إلى نفسك، وفي أي لغة حقاً تقيم. خفيف الخطوة، لم تعبأ بمَن يسدّد خطاك إلى تلك الوجهة. كدت تحضن الهواء كالبالون الدافئ بعد نهار طويل من المطر، والإسفلت يتقزّح ببقايا المحروقات. كأن نظرتك، من فوقك، ظلّت تتابع صعودك. ما ذوتْ غبطتك، بغتة، هذه المرة. أهنأتك بطولها. لم تحرّفك ضربات قلبك إلى التفكير بحتفك. خلعتَ سترتك الخفيفة لتعلقها فوق رأسك كشراع تخفق فيه روحك، وجسدك النحيل السارية. معلقةً بين شجيرات زيتون، في أصص حمراء ضخمة على ترّاس أحد المباني، رفرفتْ لافتة مثقَّبة، لم يكن فيها حرف واحد كبير: "aie le courage d'être heureuse" (فهمت، من محاولاتك، القليلة والفاشلة، لتعلّم الفرنسية عبر الإنترنت، إنّ المخصص بالسعادة مؤنث). استهديتَ بنقيق الضفادع، في أيامها الأولى بعد شهور البيات في الوحل. وعَدتَ نفسك بأنك لن تسجّله على هاتفك. كأن هذا ما انتظرت منذ شهور، حاذفاً كل الأصوات الأخرى على الطريق: عاصفة من أبواق السيارات هدأت فجأة، ثم اصطفاق أبوابها؛ فرقعة الفلينة المنتزَعة من زجاجة شمبانيا على أحد الأسطحة، تلاها صوت سامي كلارك مغنياً "غراندايزر"، تحت نافورة صغيرة من الألعاب النارية؛ أبواب محلات أسدِلتْ، فذكّرك الصدى المعدني بخواء برّادك، الصغير كصندوق البويا. لم تتسوّق شيئاً للعشاء. لم تكن تنوي الرجوع إلى وحدتك، مهما كلّف الثمن، حتى لو نمتَ جائعاً.

بغتة، توقّفت عن الصعود، واستمعتَ بانتباه أكبر. كادت موسيقى أكورديون تحرفك عن هدفك، لولا أنها توقفت، ليعقبها لغط التوّاقين إلى الثرثرة والضحك، الكثير من ضحكات المساء الطويلة، العذبة؛ تلا اللغط تصفيق ناعم حول تمثال نصفي لأحد الوجهاء (تاريخا الميلاد والوفاة منقوشان في قاعدته المرمرية، المنتقاة من مقالع كرارا)، ثم أُزيح عنه الستار كما يُرفع الغطاء الذهبي عن الطبق الرئيسي في سهرة "غالا دينر"، ليظهر الرأس المقطوع لحيوان من سلالة نادرة؛ "وااااو" صاحها معاً بضع عشرات (استغنوا عن مكبرات الصوت، لأن التعليمات المبثوثة من خلالها غير مفهومة غالباً)، ثم ران صمت عميق، سمع فيه الحضور ارتطامَ الحبال بالسواري بعد رفع رايات منوّعة عالياً، فتخيّلت اللحظة مواتية لوقوع معجزة: سوف ينطق تمثال الجد، كبير العائلة ومدبّر عزّها. الإنسان رأس ناطق، والسياسي الجَسور، المحنك، منحوت بفم مفتوح ويد في الهواء كمغني أوبرا، أي بوضعية الجدل التي عشقها، ودافع عنها دوماً: "الديمقراطية هي الحل"، وها هو يستأنف مجادلاته نفسها، غير مبدِّل قناعاته حتى بعد موته (أو ربما اغتياله؟)، ملتزماً آداب الضيافة، مودّعاً المدعوين، واحداً واحداً وبالاسم، قبل أن يعود وحيداً كمعظم التماثيل في الساحات والحدائق، لا يستوحش ولا تُشقيه وحدته.

The Lives of Others 37 | 2021 | acrylic on canvas | 45 x 45 cm
The Lives of Others 37 | 2021 | acrylic on canvas | 45 x 45 cm

ضاعف بنطلونك الجينز من إحساسك بالهزال، إذ بدت مؤخرتك ذائبة فيه، وفخذاك ذائبتين، تتماديان مع ساقيك كعيدان القطن. كان حمل الروزنامات رياضتك الوحيدة منذ أيام طويلة. حزّ شريط الكيس لحمك، برغم انزلاقه المتكرر كحمالة صدر فضفاضة. مشيت حتى بلّلك العرق، وتشنّجت رمانة كتفك. بغتة، صار كيسك خلاصة بؤسك، وأنت تلصقه بضلوعك، كما تحمل الفتيات كتبهن على الطريق إلى ثانويات الأرياف. رميته بكل ما فيه إلى حاوية ورق ضخمة مكتوب على غطائها Merci. استعجلتَ الرمي، قبل أن تفتح عينيها سيدةٌ كانت تصلي هناك، واقفة بلباسها الأسود، تحت صورة عملاقة تتوسّط مبنى "النهار":

                   "جبران تويني في يومه الأبدي، القيامة آتية".

The Lives of Others 3 | 2021 | acrylic on canvas | 100 x 120 cm
The Lives of Others 3 | 2021 | acrylic on canvas | 100 x 120 cm

وصلت إلى حديقة مقفلة (علمتَ فيما بعد أنها "السيوفي"). حللت أزرار قميصك قدام مساكب الأزهار العمومية، تحت الإنارة العمومية. نفختَ وجنتيك، حابساً الهواء فيهما. تنهّدتَ. ابتسمت. التقطت بضع حصيات، صغيرة كحصيات الرجم، وحاولت أن تحرّر بالوناً وردياً على شكل دلفين، عالقاً بين فروع شجرة (لم تكن متأكداً من أنها السماق). لم تستطع الوصول إلى خيط البالون بغصن طويل ميت. كنت فقط تريد أن تتأكّد هل هو منفوخ بالهليوم، وهل سيطير من هناك، فتتابعه يطفو عالياً حتى ينفجر بين الغيوم. أسقطتَ بضع أزهار من أشجار التفاح في الماء. أصبتَ بالوناً آخر لم تره، فصعد صوب القمر، مسرعاً ومرتجفاً كالنطفة. أطفال كثيرون مرّوا من هناك قبلك. شممتَ رائحة راوحت بين ماء جافيل والمني ومهروس الكمثرى، لعل باثَّتَها شجرةُ بيلسان، أو شجرة كستناء ضخمة، عناقيد زهورها كالشموع البيضاء في آخر المساء. هدّأك النقيق، وأنت ترى، من بين قضبان السياج، نطاف الأشجار طافية على ماء البركة كالصوف الأبيض المندوف.

صباحاً، الشمس الساخنة ألبسَت الناس قمصان الصيف. شمس بمثل هذا المفعول السحري تفتح كل الشبابيك، وتجعل البيوت سجوناً. نقّبتَ أنحاء غرفتك. أين اختفى كيس التبغ؟ وجدتَ ورق اللف، ولصقات النيكوتين التي اشتريتها ولم تستخدمها، ولم تجده. فتشت جيوبك، وتحت أغراضك المبعثرة على الأرض، ولم تجده. كنت أفرغتَ فيه سجائر "ونستون أزرق"، بعدما حطّمتها بالجلوس فوق علبتها. "لا تخرج بمعدة فارغة. كُلْ شيئاً أولاً"، قلتَ لنفسك كأنك جدتك. "كُلْ لقمة خبز"، كانت كنايتها للوجبات كلها. ما عاد يضحكك، ولا يؤسيك، المكتوب على علبة اللبنة: "بكل فخر صُنع في لبنان". لم تغتسل. بدا لك مشطك الأسطواني مثل عرنوس ذرة، فاحم ومأكول، ففكرت أن أسنان الفقراء كحبات الذرة، شكلاً ولوناً. مسحت بمنديل معطر لمعان وجهك. تناولت فطورك على عجل- خبزاً بائتاً بالفستق، مع مخلل القثاء وطحينة بالدبس وكوب شاي. أحياناً، حسبت على ساعة هاتفك كم دقيقة تطول وجبتك، إذ لطالما استعجلت تناولها، واقفاً ووحيداً، ناسياً أنْ تأكل ثلاث مرات في اليوم- قشّرت حبة اليوسفي فوق المغسلة لتلتهمها وقوفاً، بل حتى التهمت الموز وأنت تتمشّى في غرفتك، وشربت النبيذ من القنينة كأنه بيرة. توجّست دوماً ممن ستجحظ عيناه لهمجية تصرفاتك، مثل جارٍ يتابعك من وراء ظهرك ليتيقّن من صحة ظنونه. تصرّفت في وحدتك كأنك لست موجوداً، كارهاً أن تترك أي أثر وراءك، كالواصل تواً إلى خيمة في العراء- لا تآخياً مع المعذَّبين، ولا دفاعاً عن "أمّنا الأرض"، ولا لتقتطع مبلغاً رمزياً من مصاريفك لمساعدة أحد، ولا لتحسّن بالزهد في النفقات مظهرَك وسويةَ ملابسك، وإنما هذه هي طباعك: تملأ قنينة "بادوا" الحمراء بأي ماء جارٍ صالح للشرب، لا تنفكّ تستخدمها حتى يخالطها طعم التراب (وفي العلن، وسط غرباء لا تعرفهم البتة، تتأنّى عند فتح غطائها لتُوهم مَن ينظر إليك بأنك تتجنّب فورانها لكيلا يزعجه الصوت، كأنّ محتواها مياه غازية حقاً)؛ أشعلتَ بعود ثقاب واحد سيجارتك وثلاث شموع والغاز؛ اقتصدتَ إلى أبعد حد في استخدام أواني المطبخ، ونظّفتها بأقل ما يمكن من الماء؛ لم تشعل التدفئة إلا نادراً؛ آلمت عينيك بتقنين الإنارة.

أسرعتَ إلى مقابلة عمل جديد في البسطة. تساءلتَ: هل سُميَت من بعد سكانها الأكراد، لأنهم أصحاب بسطات؟ أبطأت مشيك، ولم يبطئ قلبك، هذا الأصم، الأعمى، الخارج عن طوعك. كان الخفقان نفسه ينتابك حين تترقّب أن يُصرخ اسم عائلتك في صالات المشافي، ملفوظاً بلكنة لم تعهدها، وأنت واقف بين المتأففين، تقاوم رغبتك المخجلة في الذهاب إلى الحمام، أو جالس وركبتاك تهتزّان وفمك فاغر، جاف، حتى يجفلك اسمك فتقفز عن مقعدك. انتابك الخفقان نفسه، فسبَبْتَ مثانتك (شبه الفارغة، ولكن الملحاحة في اللحظات الحاسمة)، قبل أن يرنّ رقمك القرمزي على شاشة الانتظار (كنت تقارن الرقم الظاهر، عند كل رنّة، مع بطاقة الدور في يدك)، أثناء تقديمك طلباً لتأشيرة "شنغن" لم تحصل عليها، وتساقطت بين الأقدام وثائق الملف والكفالات وبطاقات الدعوة والحجز الفندقي- كلها مطبوعة بالألوان، كأنك هكذا ستغرّر سعادة القنصل بأكابريتك، فتضمن الموافقة. حدّقت بالأوراق المبعثرة، وأضفتَ إلى أختامها بضع بصمات من نعل حذائك.

صبرتَ، راغباً عن السفر، مدركاً أن الاحتقار بالمرصاد أينما يمّمت وجهك. راقك غياب التناظر في هندسة عمائر بيروت- إيقاع مكسور، مفاجأة مستمرة لتوقعات عينك. كان المكتب مفتوح الباب، معتماً في وضح النهار، مُناراً بشموع متفاوتة الأطوال، مبعثرة في أرجائه على ارتفاعات مختلفة: على مسند الكنبة ترابية اللون، على طرف الطاولة البنية الواسعة، على رفوف التذكارات... نوافذه صغيرة ملاصقة للسقف. نهضتْ شابة عن كرسيها الدوار، ترحيباً بك:

- أنا مديرة الحملة. لو سمحت، هلّا غيّرت لي اللمبة؟ اعذرني. منذ دقائق، تراقص التيار فاحترقت. كل ما يتصل بالكهرباء يرعبني. اعتبرْ هذه الخدمة واحداً من اختبارات التوظيف.

كنتَ تحرّف كلامها حين تستعيده وأنت وحدك، فتقوّلها ما لم تقُلْ: "يا مرحبا، يا مرحبا، نورك غطّى الكهربا!" نظرتما إلى السقف. كان حاجباها مزجَّجين بدقة قاطعة. أومأتْ إلى عمود من الأدراج البلاستيك:

- اللمبات هنا، بعضها مخلوط ببعض. أنا جديدة في هذا المكتب. البارحة، جرحت إصبعي بلمبة مكسورة.

أحببتَ المصابيح. رقيقة ومعطاءة. كانت أول ما تتقصّى حين تدخل أي مكان. كنت تديرها بين أصابعك وأنت صغير، منصتاً تهزّها برفق، لتفرز المعطوب من السليم، وفق درجات الخشخشة كأنها زهور ميتة مليئة بالبذور، بين المفكات والبراغي، في صمت مستودع بيتكم. مرة، كمراهق يطبق فمه على جمرة سيجارة ليدخّنها بالمقلوب، أطبقت شفتيك على رأس مصباح، مفكراً بأن هذه الفقاعة البلورية عقيمة من الداخل، بخلاف فمك، وقد فُرّغت من الهواء (بخلاف الدواليب، المطاطية، الكتيمة)، لأن الضوء لا يحتاج هواء في الانتقال. كانت كتب "الفيزياء المسلية" رفيقة مراهقتك.

- ما شاء الله، عندكم احتياطي هائل.

لطالما أفلتت من لسانك تلك التعابير الدينية. ظللت تحاول أن تتجنّبها تماماً في حديثك، رغم ارتياحك بسماعها من غيرك. حذِراً، نبشتَ الأدراج، دُرجاً فدرجاً، على ضوء هاتف المديرة: نوّاصات ألوانها مشرقة كالسكاكر (بينها نيون قصير حلزوني الشكل)؛ أنابيب بلاستيكية كأنابيب الأمصال، ولكنها أطول بكثير ومحشوة بأزرار قرمزية (تكوّمت ككتلة من الأوبار والغبار تحت سرير مهمَل، أو بالأحرى كقلائد الأطفال المزيفة حين تتشابك وتنعقد، فلا يبقى حل لفكها سوى المقص)؛ مصابيح "لِدْ" لتوفير الطاقة، حليبية اللون لا تشفّ عن وشائع التنغستين التي كنتَ تحدّق بها، مرفوعة بين سلكين رفيعين كلافتة بعيدة تغضّنها الريح، معلقة إلى سقوف شتى نمتَ تحتها، شارداً تبحلق حتى ترفّ جفونك، وتنطبع الوشيعة متعرجة، وامضة داخل عينيك. بان الدرج السفلي عن أسلاك أخرى، متشابكة أيضاً، كالأحشاء المبقورة لعمود كهرباء. كانت مرصعة بمصابيح صغيرة كالبراعم بين الشوك. سألته

- أهذه لعيد الميلاد، أم للمولد النبوي؟

- حسب. لكل مناسبة شروطها.

لم تقل لها، في تلك العتمة الخفيفة، إنّ النواصة نفسها قد تنير غرفة نوم، وقد تنير مرحاضاً. أوشكتَ تقول لها نكتة قديمة عن الأمل والانتظار: "لماذا وضع الآشيتي نواصة خضراء تحت التبن؟ لتحمرّ، مثل بندورة الخريف"، ثم تراجعْت.

The Lives of Others 28 | 2021 | acrylic on canvas | 40 x 50 cm
The Lives of Others 28 | 2021 | acrylic on canvas | 40 x 50 cm

تضايقتَ من دفشها الطربيزة البلاستيك بقدمها إلى منتصف المكتب. ابتعدتْ خطوتين، وقالت: "لا تخف. الطربيزة عازل جيد". صعدتَها حافياً. بدت الظلال، من ذاك الارتفاع البسيط، أخف وألطف، وبدا لك أن صندلك، وجواربك القصيرة، وكيسك، كلها نسائية الطراز. نتأ المسمار اللحمي من ظهر قدمك كالعقد الصفراء المتليّفة في راحات أيدي العمال. أحرجك سؤالها عن نوع المصباح: "كبس أو برم؟" تنحنحتَ وأجبت: "برم". ركّبتَهُ بعدما حركته مرّتين حذاء أذنك، دون أن تجزم هل تلك الخشخشة تدلّ على سلامته أم عطبه. خطرت لك طرفة أخرى، بائخة من تأليفك: "حشاش في آخر الليل، هزّ رأسه بقوة ليصحو. سأل صاحبه: هل تسمع ما أسمع؟ غريبة هذه الخشخشة!" فأجابه الحشاش الثاني: "نعم. كل لمبات أفكارنا احترقت!"" غير أنك قلتَ، مومئاً إلى القابس، المشع كسترات الأمان: "على بركة الله. اضغطي الزر"، فلفح الوهج وجهك. ترنّحت. تداركت توازنك في اللحظة الأخيرة قبل الوقوع. شكرتْك: "الله ينوّر عليك".

لعلّ تذبذبك حالَ دون أن تفهم شيئاً واضحاً من كل ما يقال عما تريده المرأة من الرجل، وما يريده الرجل من المرأة. كان كلاهما، بالنسبة إليك، سراً مكنوناً، أشد غموضاً من "الإرادة". ماذا يتبقّى لمن فقد إرادته إلا الطاعة؟ كنت مثل ولد يحمرّ إذ عيّروه بأنه قد تربّى على أيدي النساء، لم يلعب إلا مع الفتيات اللواتي سرّحن له بأصابعهن مفرق شعره في منتصف رأسه. لعل هذا ما أفقدك الطبعَ المحارب الذي كفرتَ بربه مهما اقتضته الحياة.

كانت مديرة الحملة سريعة الكلام. ربما لضيق منخريها، الأوسع بقليل من الثقبين في القابس. لما جلستما انتقلتما بالحديث إلى العربية، لأنك تكاد لا تفهم لهجة كوباني:

- الوقت يداهمنا. لنعد إلى المهم. تزكيتك مضمونة. تستطيع مباشرة العمل فوراً. تأخّرنا قليلاً في التوزيع. أولاً، المدائح مرفوضة، فهذه ليست سياستنا. كما ليس مبدأ الاستعراض الكاسح من شيمنا. قد نجرّب crowdfunding في المستقبل القريب. حالياً، هدفنا هو الأرخص والأجود سوياً. انظر، هنا. تمزيق أوراق الروزنامة سهل على العجائز. إرضاؤهم أسهل من الشبان. هم زبائننا، سواء في المناسبات، أو حين يدور مندوبنا على البيوت. المبيعات شحيحة. الوضع زفت. يجب أن نصبر. ولكن هناك دوماً مفاجآت، على مبدأ البخشيش. في حفلنا القادم، سنحاول أن نأتي بزورو سعيد يوسف للعزف على البزق. اللبنانيون يحبّونه.

ناولتك نموذجاً: كرتونة مخروز إليها دفتر تقويم. على جهتها اليمنى، حصان أبيض يعلوه علم لبنان، 2016 بالتقويم الغريغوري؛ يساراً زوج من الحجل يشدّان بمنقاريهما علم كردستان، 2628 بالتقويم الزرادشتي. سألتها:

- كيف تُقْرأ؟ من اليسار إلى اليمين، أم عمودياً؟

- سأشرح لك التفاصيل. هذه الفتاة الصغيرة، الضائعة في العاصفة الثلجية، من فيلم "الطريق" ليلماز غوناي. هل شاهدته؟

اعتصرتَ عينيك قليلاً، فأكملتْ، وسبّابتها الجريحة تضرب صدرها كالمنقار:

- الفكرة فكرتي أنا، والتصميم من اقتراحي أنا. كما يعرف الجميع، كمال بك نفسه قال إن "آل جنبلاط" أكراد. كتبت اسمهم الأصلي، "جان پُولات"، بالعربية "الروح الفولاذية"، تجنباً لأي سوء فهم. طبعاً، لم أنسَ تصحيح "الروزنامة" إلى "روچ نامَهْ"، ومقابلها بالعربية. لكني لم أجد على الإنترنت إلا هذه الرسمة بالأبيض والأسود.

وسط الكرتونة رسم بالفحم لحدادين في مصنع، من رواية "كيف سقينا الفولاذ".

- معك حق. الأكراد والدروز صناديد، جبليون.

قاطعَتْك:

- ومنحوسون. الفقر استولى عليهم وما فارقهم، لكنهم يحسنون إخفاءه. الدروز معلمون في التقتير. مبذرون، نحن الأكراد. جيوبنا مثقوبة. أيدينا في الهدر بلوى...

فقاطعْتَها، بطلاقة غريبة عنك، ما واتتك بهذا الطول والتناغم إلا نادراً:

- لا أتفق معك. إنهم محظوظون أكثر منا. اسمحي لي بتوضيح: نحن ننفق كل ما في جيوبنا كالمجانين، ومع هذا، حتى في قمة البطر، لا تفارق التعاسة حركاتنا وملامحنا.

- صحيح. شخصياً، لم أشعر بوجود أي سعادة في ضحكاتنا، مع أننا بأمسّ الحاجة إليها.

ضحكتْ فعقّبتَ على ضحكها، متوجساً من طيف مغازلة ما:

- هل لاحظتِ أن إضاءة المكان تشتدّ عندما نضحك؟

- الإنسان السعيد ضوء من الله. للأسف، مجتمعنا مدمن على الأفكار السوداء.

- مصنع سعادتنا مغلق للصيانة. أستغفر الله، ربما بالغنا.

أفلتت منك هذه العبارة، فعنّفت نفسك فوراً على استخدامها: "حيوان!". أدرتَ الروزنامة باتجاهها، وسألت:

- ألا تظنّين أنكم تعقّدون المسألة زيادة عن اللزوم؟

- يا شيخ، مَن يقرأ مثل هذه الأشياء؟ هذه هي ثقافة أحزابنا الكردية. تعقّد الأشياء البسيطة، وتتجاهل الأشياء المعقّدة.

لم تستوعب جملتها الأخيرة. أقنعتْك برغم غموضها، وبرغم أنك لم تتحزّب يوماً.

  غمغمتَ: "أحزابنا الكردية... أحزاننا الكردية..."، ثم نظرتَ إلى التصميم مرة أخرى. سألتَها:

- هل تقصدين بـ "آل" "الراية" بالكردية، أم "السراب" بالعربية؟

فأنهت الحديث بينكما:

- على كل حال، طباعة الصور الملونة على الكرتون مكلفة. لا يمكننا تغطية مثل هذه النفقات في غلاء لبنان.

 

غمامة عطر في مصعد معطَّل

حملتَ كيسك القماشي الذي جاريتَ به الموضة. من دون دمغة. سميك ومتين ككيس طحين. انطلقت من البسطة، محمَّلاً بسبع نسخ من الروزنامة التي يرعاها مجلس الأعيان الكردي. ربما الحياة، هنا، قد أعْدَتْهم بلفظ "الأعيان".

بدأت نهاراً آخر من المشي. قرب ساحة النجمة، صادفك مسافرون لأداء العمرة، عالقون في الزحمة، قلقون من حول القبّان الإلكتروني قدّام صيدلية. كانوا قد أوقفوا باصهم ليتأكدوا من الزيادات في أوزان حقائبهم، المثقلة بمونة المغتربين في الخليج. تأفّف أحدهم: "بماذا سنضحّي الآن؟ بالشمندور، أم بالفريكة؟" مرّت سيارة كالبرق، في الثانية الأخيرة قبل أن تحمرّ إشارة المرور، وتبدأ التكتكة التي تدلّ المارة المكفوفين. ربما هذا هو الإيثار، إذ أسعدك نجاح السائق، مثل سعادتك عند إنهاء المكالمة مسبقة الدفع في الثانية 59.

قصدت شارع ڤاروچ في برج حمود. للوهلة الأولى، حسبت الاسم كردياً. دخلت بناية قديمة. فتحت باب المصعد فأضاء لك. لم يتزحزح. ماركته منقوشة على عتبته: "شنايدر". شممت عطراً. مثل الفوح الثقيل لجوز الهند، أو شامبو هامول للأطفال. ذاب في لعابك فذقتَ حلاوته. الرائحة والطعم اعتصرا عينيك، ثم أحشاءك، بمزيج من الانتشاء والتقزز.

صعدت إلى الطابق الأول. اعتزمتَ أن تقرع الباب الأول على اليمين، متحسباً من فتحه وصفقه في وجهك على الفور. كان زر الجرس يكاد يضيء، ولو لم تمسسه كهرباء، وفيه اسم استعذبتَ إيقاعه: "كيليكيان". سمعت قدمين بطيئتين تقتربان من الباب. حسبت المشية عرجاء. فتحته لك سيدة، وجهها مرهَق، يُعتِمه الضياء وراءها. مددتَ الروزنامة:

- صباح الخير. نحن نجمع التبرعات من أجل...

فَصَدّتك قبل أن تكمل عبارتك. فاجأتك السرعة التي سحبتْ بها يدها حين لمستْ يدك. مثل قرن الحلزون، انكماشه عند مَس طرفه أسرع من خطوات صاحبه بأضعاف مضاعفة. ربما استثقلَتك لأنك قرعت الباب أيضاً بعد رن الجرس، ولأنّك ظننتها ضعيفة السمع فرفعتَ صوتك أكثر من اللازم، أو ربما لأن الصدى أقوى وأقبح في ممرّ معتم. ارتجفتْ عضلات فخذيك وظهرك، بعد طول مشي في الزحام. التذذت بذاك الارتجاف الخفيف حول الركبتين، مصحوباً بوخزات في بطتي ساقيك. كانت تلك اللذة هي غايتك المرجوة من المشي الطويل.

The Lives of Others 41 | 2021 | acrylic on canvas | 45 x 45 cm
The Lives of Others 41 | 2021 | acrylic on canvas | 45 x 45 cm

لم تدرِ أن السيدة تنتعل فردة شبشب واحدة، بعدما اختفت الفردة الأخرى تحت الكنبة، واختفى معها عكازها (المفيد، في مثل هذه الحالات، لجر الأشياء الضائعة)، وقدمها اليسرى في جورب الدوالي خانق الضيق. ربما أقلقها الوقوف الطويل، فمسّدت قصّها. قالت: "عندي هجمات صغيرة. أختنق في المصاعد، مثل محبوسة بتابوت". أراحك أنّ كليكما تلحنان بالعربية. امتطّ، في الشق المضيء للباب، رأس صغير أصلع كإصبع من معجون. سرَتْ شرارة من صَفَنك إلى حشفتك، وخمدت. كانت سلحفاةً بحجم كف الطفل، أرجعتها المدام بشبشبها إلى الداخل. حاول الحيوان أن يزحف إلى العتمة التي كنتَ واقفاً فيها. ربما اشتاق إلى ظلام أعماق البحر. مسحتَ بلسانك الجاف جفاف شفتيك. اتكأت براحتك إلى الجدار، فلمست أنبوباً للماء هدّأتك برودته.

سمعتما خطوات على الدرج، تقوى درجة فدرجة. توقّفتْ قليلاً، ثم تابعت الصعود. أضاء مصباح الممر. ظهر رأس أبو زاڤين، الجالب معه طقماً جرذوني اللون، مكوياً مغلّفاً بالنايلون في المغسلة، وعلبة سيجار "روميو وجولييت" (اقترانها لديك بالرشاوى فاقَم نفورك من رائحة دخانها)، ومجلة يصدرها حزب "طاشناق" باللغة الأرمنية، على غلافها صورة محتشمة لكيم كرداشيان، راحتاها تحضنان فكها العريض مثل زهرة لوتس (متى ارتبطَت لديك الفكوك العريضة بالشهوانية؟ تحسستَ ذقنك لتقدّر اتّساعه). رمق روزنامتك بغير اكتراث، وأعادها إليك. قال:

- صدّقني يا شاب، الإنسان كائن حقير لا ينسى مَن يؤذيه. هناك أمور لن تلقى لها سبباً واضحاً، ولو أفنيتَ عمرك تتساءل وتفكرّ.

نظر إلى زوجته، ثم أكمل:

- زميلي في المدرسة الابتدائية، شابَ رأسه قبل رأسي، ولم يسامحني حتى الآن، لأني أضحكتُ الصف عليه. أبداً لم أرَ هذا البوم يشارك الآخرين في ضحكة جماعية- كانت وجوه الجميع تحمرّ، إلا وجهه كقناع الشمع.

لوّح بسبابته نحو الدرج:

- رأيته منذ قليل على الطريق، ولم يسلّم عليّ. لن يردّ السلام، حتى لو بادرتُ لأزوره وهو على حافة قبره. أنا واثق مما أقول. علّمتني الحياة ألا أستهين بالتفاهات.

 صمتُّم حتى عطف الحديث إلى مخاوف زوجته. كانت شاحبة خلف الباب الموارب، تتابعكما على العتبة:

- كان مارون بغدادي في قمة السعادة حين فتح باب المصعد، وهُوبْ! خطوة واحدة، ثم الوداع.

 عقّبت المدام:

- وأيضاً پُول.

نظر أبو زاڤين إليك، وأكمل عنها:

- كان گيراگوسيان يرسم الحمّالين بأقدام كبيرة، في هذه الحارة، في تلك الأيام الجميلة، قبل أن يفقد قدمه خلال الحرب.

لم يفقد الرسام قدمه لأنه داس لغماً. كان يمقت أدراج الأقبية- ضيقة، رطبة، معتمة مهما أضيئت. كان بداخل المصعد حين انقطعت الكهرباء، أثناء هدنة نسي مواعيد التقنين فيها. تلك المرة، لم يميّز بين هدوءين قلقين: الهدنة وحظر التجوال. قعقعت سلاسل المصعد ثم همدت، كأنه معلّق داخل دلو في بئر قديمة. لم يضغط زر الأعطال، فربما حسبوه صفارة إنذار، وتراكض مَن تبقّى في المبنى إلى الملجأ. ظلّ واقفاً، ومعه كومة حطب حملها من القبو، حتى نفد صبره. استند بيديه جانبياً، كما يفعل الأطفال حين يتسلقون إطارات الأبواب بأيديهم وأقدامهم، ثم، على قدر ما أعطاه ربه من قوة، سدّد ركلة إلى المستطيل الزجاجي للباب. استعصت قدمه بين الباب وجدار الحفرة. كان يحاول جاهداً تخليصها حين عادت الكهرباء.

 لم تطرق أكثر من باب واحد. زوّدتَ مديرة الحملة بالمستجدات في رسالة قصيرة:

- بدأت من برج حمود. حتى الآن، لم يشترِ أحد شيئاً. نهارك سعيد.

 فوبّختك برسالة صوتية على الواتساب، في صياح كالنباح:

- لماذا لم تذهب إلى زقاق البلاط، أو عين المريسة؟ غير المعاتيه، مَن سيشتري روزنامة كردية في حي الأرمن؟

Contributor
جولان حاجي

شاعر وكاتب سوري كردي، مقيم في فرنسا. نشر العديد من المقالات والدراسات والترجمات، الأدبية والفنية، في صحف ومجلات عربية وأجنبية.

Post Tags
Share Post
Written by

<p dir="rtl"><span style="font-size: 14pt;">شاعر وكاتب سوري كردي، مقيم في فرنسا. نشر العديد من المقالات والدراسات والترجمات، الأدبية والفنية، في صحف ومجلات عربية وأجنبية.</span></p>

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.