لدي تصور للجحيم،
مكتب شهر عقاري به باب للدخول فقط،
حوائطه من القيشاني،
واللمبة الوحيدة في المكان غير مستقرة اضاءتها،
لكنها تتدلّى من السقف على كل حال وتنشر نورها الأبيض علينا.
نحن واقفون فيما يشبه الطابور،
مضطرين لسماع إحباطات ومخاوف بعضنا حتى نصل للموظف،
لكننا لا نصل.
وهناك امرأة تصرخ لأن ملفاً كان به كل ذكرياتها
سُرق،
والآن هي بلا ذكريات،
مضطرة لتكرار صراخها إلى الأبد،
وعلينا سماعها.
قرأت عن مرضى يستيقظون في أماكن لا يعرفون كيف أتوا إليها،
لكنني أحلم
أنني داخل بيوت ناس لا أعرفهم.
آخر مرة حلمت بشاب يعمل سباكاً؛
أسمر، طويل، ويرتدي تيشرتاً أحمر.
لم أره سوى في أحلامي، لكني ذهبت معه إلى عمله،
كان يسلّك بلاعة.
استيقظت ويدي مبتلّة.
كنت أنام فأجد نفسي في بيته،
أشاهده وهو يلعب مع عياله،
وأذهب معه للعمل،
حتى قابلته في يوم.
لم تكن مصادفة،
ذهبت للشارع الذي أحلم به كل يوم تقريباً.
ناديته حينما مرّ من أمامي
لكنه لم يلتفت.
لا أعرف ما أهمية هذا الحلم
لكني تعلمت السباكة خلال نومي.
أذهب لكوافير أخرس،
لأني لم أعد أستطيع تحمّل تسليم دماغي لأحد
يحاول إقناعي بشراء كريم للشعر.
أريد الصمت
لأني عند الكوافير أعمل،
أنظر في المرآة
وأحاول حفظ شكل وجهي.
أعمل ككلب طوال الشهر
لأقف أمام ماكينة الـ ATM
منتظرة أن تخرج ملاليمي التي اجتهدت من أجلها
حتى أشتري طوقاً جديداً
يليق بكلب يكتب.
أنام حتى آذان العصر.
أفتح كتباً كثيرة، أقرأ سطراً وأرمي الكتاب.
أفكّر في مقالتي القادمة، فأكتب كلمة وأغلق اللابتوب.
أنكمش على الكنبة، وأشرب قهوة
وأدخّن، وآكل نفسي.
أحسّ تحت جلدي بشخص يهمس بأشياء
لا أسمعها،
لكني أعرف أن هذا هو الاحتراق النفسي.
لدي عادة لا أستطيع التخلص منها؛
مراقبة شخص وهو يعمل.
كأن عليه العمل من أجل لقمة العيش،
والعمل من أجل رغباتي.
أحياناً أحسّ أنني أعذّبهم بشكل خفي،
وأن هذه الرغبة خارجة من مكان مقهور بداخلي
لا يستطيع أن يؤذي نملة لكنه يستطيع مضاعفة متاعب الآخرين.
أحياناً أقف في الشباك وأفتقد رؤية موظفين
يائسين من حياتهم،
يشعرون بتدني القيمة، عائدين لبيوتهم.
لكن كل ما أراه
أناس يائسون من حياتهم يشعرون
بتدني القيمة،
يفعلون أشياء لا أفهمها.
أحيانًا أفتقد هذا النوع من الحياة،
المسلسلات الأخلاقية
والجمل الحوارية المباشرة.
لكني أعرف أن هذه الرغبة هرب من التيه العملي،
من عدم معرفتي لما عليّ فعله لأحصل على مال في الشهر القادم.
كلما نُشِر لي شيء، شعرت بعدم الإنجاز.
كلما ظهر لي حساب المحرر
أو ذهبت للسوق أو تصفّحت اليوتيوب،
شعرت بعدم الإنجاز.
لا أفعل الكثير لتفادي هذا الألم النفسي،
لكني أنتف شعري كل يوم من جذوره،
لعلي أخلع هذا الشعور من دماغي.
أهوى الجلوس على الكنبة،
والغرق
في أحلام اليقظة، والكتابة.
هذا ما قلته في مقابلة عمل منذ ست سنوات.
لم يتغيّر شيء بعدما رُفِضت، سوى أنني بدأت بالتدخين،
تعلُّم الطبخ
ومعرفة ذاتي.
أمي كانت تمسح الأرض كلما شعرَت بالضغط أو الغضب؛
هكذا أفهم الأعمال المنزلية،
ولهذا غرفتي عبارة عن مزبلة.
لا أحبّ رائحة المشاكل التي تفوح من السيراميك.
أمامي رجل تحدّث في الهاتف لمدة تسع وثلاثين دقيقة مع رجل آخر.
تخيّل، هناك رجلان على هذه الأرض يتحدثان لمدة نصف ساعة عن العمل وعن القبض في الهاتف.
قلة الكلام مألوفة عندي،
أبي كان صامتاً،
لا يتحدّث عن شيء أمامنا.
بعدما مات كنت أهتزّ كلما سألني أحد عن عمل أبي،
أقول: كان صامتاً.
لكني أتذكّر عمله وأخبر السائل.
لا أعرف شيئاً عن أبي.
هل هناك أعمال تجعلنا نتحدّث في الهاتف
وأعمال أخرى تجرّدنا من هويتنا وتسلب صوتنا؟
مي المغربي
كاتبة وصحافية من مصر. تخرّجت من كلية الآداب من جامعة الاسكندرية - قسم علم نفس عام 2019 وتفرّغت للكتابة بعد أن عملت عامين كأخصائية نفسية. لديها عدد من المقالات والنصوص والحوارات والقصص في صحف متعددة في مجال علم النفس والجندر والإثنوغرافيا والتاريخ والأدب والشعر والفنون البصرية والتراث غير المادي. كما حصلت على منحة المورد الثقافي لإصدار روايتها الأولى «الخروج من غيط العنب» (2023).