الصراع على الرداءة
يقدّم راوي نائل الطوخي في «ديوك وكتاكيت» (2024) صراعات شلة غير متراصّة، «ديوك» من مثقفي وفناني ومناضلي ما يُعرف بـ«جيل الستينيات» ومريديهم. يخطئ من يظنّ أن كل فرد من تلك الشلة مكتفٍ بموقعه ومكانته، فهم يدورون في دوامة من الحسد والنفاق والمكائد التي ينصبونها لبعضهم بعضاً دون خجل أو تردّد. يتأرجحون بين موقعين لا ثالث لهما: أما التلذّذ بالتسلّط أو التزلف للمتسلّطين. يتصدّر جلستهم في قهوة «الشبه دائرة» المفكّر الماركسي الكبير مخايل، والفنان التشكيلي الشهير حجازي، والمحرر الثقافي المحترم الشربيني، والمناضل اليساري القديم أبو وردة، ومريدهم العواد الصاعد متولّي. هو عالم من «الديوك» ذوي الإجوهات الفائضة، حيث «إن كان أجو حجازي معلقاً على إعلانات الكباري فقد تربّع إجو مخايل فوق القمر مدلياً ساقيه». لكنها، وكما ينصّ عنوان الجزء الأول من الرواية، «إجوهات مرهقة».
بالرغم من المكانة التي يتمتّع بها بعضهم، والسلطة التي يمارسونها، إلا أن حالة من العجز ألمّت بهم. هناك رواية لن تكتب، ومشروع فني ولد ميتاً، وطرح فكري لن يُنشر لأنه مسروق. لا فكر ولا خيال، إذاً، سوى تمسّك بالإبهار حفاظاً على المكانة: «هعوزك تنصحني يا صديقي، أنا نفسي من زمان أعمل شيء مدهش جداً، وحاولت كتير لكن ما عرفتش يتعمل ازاي». هو عالم الإجوهات الفائضة والخائرة معاً، والتي تتخبّط في وحدتها ومرارتها.
تجرّ الطموحات غير المحققة أجسادٌ متهالكة، كجسد المناضل أبو وردة الذي أخذ بالتفكّك منذ لحظات الهزيمة على يد اسرائيل ثمّ على يد قوى القمع المحلية: يفقد ساقاً بعد القصف الإسرائيلي في تونس عام 1985، وذراعاً بعد مشاركته في احتجاجات الأقصى، وسنّتين بعد تعرّضه للضرب في احتجاجات إبريل، حتى ينتهي دمه مسموماً باللوكيميا بعد 2019، أي السنة التي يقول الراوي إن السياسة في مصر قد انتهت فيها. هكذا يصبح جسد المناضل شاهداً تتراكم عليه خسارات جيله.
من أعضاء تلك الشلة من رجع من نضالاته ممروراً، مهزوماً، متنصلاً من مواقفه السابقة. فكما علّق المناضل أبو وردة على هامش نص كان قد كتبه ساخراً من «إذا الشمس غرقت» لأحمد فؤاد نجم: «"وغرقت بمصر شمس العروبة وأضاء ليلها قمر الدولار"...ما تغرق وتتنيّل، إحنا مالنا»، عاد آخرون من هزيمتهم بمواقف ظاهرها راديكالي — على يسارك دائماً — إلا أنها تكتم آراء محافظة، معادية لثورة يناير، لا بل مناصرة للعسكاريتاريا. بالرغم من افتراق طرقهم نحو الهزيمة، إلا أن الديوك يلتقون على ازدراء موجة الـ«مي تو» التي بدأت تتسيّد لغة النسويات العشرينيات وخطابهن، فراوحت علاقتهم مع المرأة في مساحة ليست الرغبة الجنسية فيها إلا امتداداً لذكورة مؤذية، على القدر ذاته من الانتفاخ والهشاشة.
يأتي إلينا أفراد تلك الشلة، بحسب الراوي، «من زمن قديم بمعارك قديمة». يتناقشون عن اليوتوبيا والديستوبيا، وهم الذين نهلوا من كليشيهات إيديولوجيات التحرر، ماركسية كانت أو ناصرية حدّ الذوبان فيها، حتى تماهت رغبتهم الجنسية مع تحجّرهم الفكري. فمخايل الذي يفاخر بأنه «ماركسي علمي»، يداعب قضيبه ويتساءل مشتهياً: «هل للروبوتة مهبل؟»، فيتداخل الاستمناء الجنسي بالاستمناء الفكري في أحد المشاهد الهزلية الكثيرة في الرواية، والتي تحاكي انسداد الأفق الفكري وانعدام الخيال الجنسي.
لا يقدّم الطوخي من خلال الرواية بورتريه لشلة أو جماعة أو جيل فحسب، بل مطالعة سردية عن ماهية الفكر والنضال والسلطة والذكورة حين تتمخّض رداءةً. يسرد لنا تلك الرداءة راوي نائل الطوخي في لعبة ذات مستويين: فإن كان يبدو وكأنه يساهم في إثراء الخطاب الفكري السائد عن «هزيمة مثقفي الستينيات» سارداً مآلاتهم وألوان خساراتهم، إلا إنه يعود في المستوى الثاني ليسخر من منطق الهزيمة نفسه، في ازدواجية سردية سيمارسها طوال السرد، وستتكثّف في تناوله لما يسميهم الراوي «الكتاكيت».
تمتدّ الرداءة إلى جيل «الكتاكيت»، أو الـ«جين زي» الذين ولدوا في التسعينيات وتشكّل وعيهم السياسي على ثورة يناير وتداعيها من جهة، كما على خطاب «الووك» العالمي الذي تتقاطع فيه حساسيات جندرية وعرقية وطبقية وبيئية ولغة مستقاة من السوشيال ميديا وأدبيات علم النفس «البوب» والتنمية البشرية. إلا أن هذا الوعي لا يعدو كونه أدائياً، فأصحابه من الكتاكيت تعلّموا كيف يفكّون شيفرة خطاب «الووك» ويقوّضونه كي يحققوا مبتغاهم من المال والمناصب.
تتجلّى هذه الأدائية في شلة هي أيضاً غير متراصة يقودها بهاء، الإنفلونسر البلطجي ذو الذكورة الفائضة والمؤذية، والذي يفاخر بآرائه المحافظة المثيرة للجدل، والذي يبيع قدرته على ليّ الكلام مقابل تمويل خليجي لمشروعه. يرافق بهاء بلطشو الذي سنعرف الكثير، ربما أكثر مما نرغب، عن هوسه بطول قضيبه وجماله، حتى نراه يتنقّل بين المحاماة ورواية الديستوبيا التي لن تُكتب هي أيضاً. يهاجر بالطشو إلى الشمال، لينتهي بورنستار في برلين، فيصبح شخصه باروديا لمصطفي سعيد في «موسم الهجرة إلى الشمال». لكنّ سعيد، في نسخته المعاصرة الرديئة، لن يحرّر أحداً بقضيبه، بل سيصبح هو وقضيبه سلعة، مرة أخرى، بيد الرجل الأبيض. ثالث شباب تلك الشلة هو مينا، القبطي الفقير الذي يبدأ مسيرته عامل جنس ليتمرّس لاحقاً في فن النصب الفكري محاكياً «بوذا الضواحي» (1990) لحنيف قريشي. في نهاية مسيرته في النصب، يخبرنا الراوي كيف أصبح مينا «جليس» مثقفي جيل الستينيات، «على غرار جليس الأطفال ولكن للمثقفين، يعرّص لهم ويبوس جروح ذواتهم حتى تلتئم فينتجون أعمالاً ألَصق بها». وفي كعب الهرم الذكوري تقبع نسمة التي تعبّر عن وعيها النسوي في لسان تتكثّف فيه مصطلحات انجليزية مستلهمة من لغة علم النفس. تعمل نسمة على تشخيص الممارسات الذكورية وفضحها على السوشيال ميديا، ملازمة موقع الضحية فتحقّق أهدافاً مهنية وترسّخ موقعها المتمايز ثقافياً.
لهذا الجيل من الكتاكيت حياة جنسية ناشطة ولكن بائسة، تتراوح بين الاستغلال والتشييء والتسليع والرغبات غير المحققة. يتجلّى ذلك في أسلوب سردي يحاكي فجاجة أفلام البورنو وهزل أدائيتها، وكأن الراوي يعلن أن الإيروتيكية انتهت، وأنه لم يتبقَّ سوى التمرمرغ بالجنس الأدائي والهزلي وسيلةً يُفرغ فيها الكتاكيت قلقهم وتخبّطاتهم. كلها شخصيات تكذب وتنصب، فتبدو وكأنها جاءت إلينا من رواية «العنف والسخرية» (1964) لألبير قصيري. إلا أن الكتاكيت في طورهم المعاصر، لا يمارسون النصب للهزء من السيستم، بل لإعادة إنتاج الرداءة فيه.
الرداءة قدراً
لا تتحرّك شخصيات الرواية في فراغ. فكما في «نساء الكرنتينا» (2013) و«الخروج من البلاعة» (2018) للطوخي، تتفاعل شخصيات «ديوك وكتاكيت» مع تحوّلات تاريخية في السياسة والثقافة المصرية بعد الثورة. تشهد تلك الشخصيات، كلٌّ من موقع امتيازاته الجيلية والطبقية والجندرية، على حالة الشلل السياسي الذي طال اليساريين والليبراليين وحتى الموالين للنظام، مع توسّع القمع على إيقاع السجن السياسي وأنقاض مجزرة رابعة. يراقب الديوك والكتاكيت معاً كيف اقتصر السجال على السوشيال ميديا على قضايا جندرية أو بيئية متمثلة بتلوث المدينة التي باتت، بحسب الراوي، «على وشك التحطم».
ليس حال الحقل الثقافي المصري أفضل بكثير. تتجلّى لنا في «ديوك وكتاكيت» الرداءة الفكرية من خلال المحتوى الثقافي. تقرأ الشخصيات روايات البيست سيليرز المتمثلة في يوسف زيدان، تلهمها موضة ورش الكتابة التي يديرها روائي صاعد يعمل أيضاً كديلر، وتسوّق لشلتها في مقابلات وتنشر محتوى ضحلاً في مواقع تمويلها مشروط بالتزلّف. الجميع ينشرون مقالاتهم في مجلة أدبية حكومية عريقة يديرها متحرّش متوارٍ، أم في موقع إلكتروني يديره بلطجي ذكوري مموّل من الخليج. وإن كان أديب جيل الستينيات ينشر روايات تلتقي فيها أركان الرواية القومية من شوفينية ونبوءة وأسئلة فكرية واستعداء للإسلاميين (رواية «ومضات» للشربيني مثالاً)، فإن أديب جيل الثورة يحاول كتابة رواية الديستوبيا، لا بل رواية الأبوكاليبس التي تترقّب ما يسميه «النيزك»، أو فانتازيا نهاية عالمه البائس.
أمامنا شخصيات تقرأ (أي كلام) وتكتب (أي كلام) وتحاول أن تنشر في مؤسسات ثقافية (أي كلام أيضاً). ولكن من يسهر على جودة المنتج الثقافي في ذلك الحقل الثقافي المتداعي؟ من يناقش المثقفين ويحرص على مراجعة مخطوطاتهم؟ بالأحرى، من يحرّرهم؟
تختزل ممارسة التحرير الأدبي رداءة الحقل الثقافي. فلا يبدو التحرير سعياً إلى تنقية الفكر من الشوائب واستخلاص القول، ولا ممارسةً في العناية بالآخر، كما صوره أحمد وائل في مجموعته القصصية الأخيرة «صواب (خاطئ)» (2024). فالتحرير يتجلّى في «ديوك وكتاكيت» أداةً إمّا في يد سلطويين يتصيّدون الأخطاء اللغوية في نصوص غيرهم، وإمّا في يد وصوليين فكّوا الشيفرة، تلك المعادلة التي يقوم عليها القول الفكري والتمايز الثقافي، وسلّعوها تجاه مقابل مادي. من أبهى تمثّلات التداعي الفكري هذا، هو الدكتور مخايل، المفكّر الماركسي الكبير الذي يعرض متردداً ساخراً مخطوط كتابه على خادمته دميانة التي ستشرع بالتدقيق به وتحذّره من هفواته في المنطق والفكر. رويداً رويداً، ستترك دميانة تنظيف المنازل، وستتفرّغ لتحرير فكر المفكر مقابل مبلغ يتمّ التفاوض عليه بصلافة: «لو لقيتي غلطة صغيرة هديكي مبلغ صغير، ولو غلطة كبيرة هديكي مبلغ كبير».
ليست دميانة الوحيدة التي تحرّر المفكّرين من رداءتهم، بل ابنها مينا أيضاً. لكن في طوره الـ«جين زي»، يتحوّل التحرير في يد مينا من وسيلة للتنفّع إلى أداة للنصب. فبعدما تخلّى الشاب عن طموحه بأن يصبح أديباً، وبعدما عدل عن امتهان الجنس، انتهى مينا محرّراً ثقافياً يطرح أسئلة أكثر مما يجيب عليها، ممسّداً إجوهات الديوك التعبة. تصل الباروديا إلى ذروتها حين يؤسس مينا مركز «جليس» المتخصّص في تقديم خدمة مجالسة للمثقفين المهزومين ذوي الإجوهات الهشة. فصار، على حد قول الراوي، «قارئاً مأجوراً أو ناقداً مأجوراً أو ثيرابيست مأجوراً، في كل الأحوال مأجوراً ويعمل بالفلوس».
قد يتهيأ للقارئة أنها أمام سردية عن صراع محتدم بين جيلين من المصريين، أي رواية كلاسيكية تعيد سرد ثنائيات أزلية كالأصالة/الحداثة، والثورة/الخضوع، والقديم/الجديد، والديوك/الكتاكيت. لكن سرعان ما يتّضح أن لا صراع أجيال في «ديوك وكتاكيت»، لأنه، ويبساطة، لم يتبقَّ شيء يتصارع عليه الجيلان: لا معنى يضفيه الآباء على العالم كي يجهد الأبناء لإعادة تشكيله؛ لا مكاسب سياسية عند الكبار كي يعمل الصغار على انتزاعها؛ لا فكر يورّث، ولا وَرثة يستحقّون أي إرث أصلاً.
لا صراع أجيال إذاً، بل علاقة قائمة على الاستغلال والتنفّع: الديوك يبحثون عن الجنس فيما يبحث الكتاكيت عن مقابل لتحقيق مكاسب مهنية؛ الديوك يتوقون إلى الاعتراف بنبوغهم الفكري والكتاكيت يتنفّعون من الأداء بالإعتراف؛ الديوك يودّون تأدية دور الآباء المورّثين إلا أنهم ينزلقون إلى نكوص يجعلهم يشحذون العاطفة حتى ولو دفعوا مقابل ذلك كرامتهم وفلوسهم.
بغياب الصراع الجيلي، تمّحي الفروقات بين الجيلين فينصهران، ومعاً يتماهيان بالرداءة. سيتّضح أن ما يجمع بين أعضاء الجيلين كثيرٌ، على الرغم من الاختلاف العمري بينهم: جميعهم يعيشون العلاقات العاطفية والجنسية من خلال التسلط والتبعية والرغبات غير المحققة؛ جميعهم تميّزهم ذكورة فائضة معطوفة على هشاشة مؤذية؛ كلهم يثمّنون الكتابة إلا أنهم عاجزون عن تحقيق المشروع الفكري الذي تتمخّض فيه تجربتهما الجيلية.
إن كان الجيل الأول يسعى إلى التحرّر اليوتوبي، فإن الجيل الثاني يترقّب النهاية الأبوكاليبتية، وكأنهم ينتظرون معاً ما سوف يحرّرهم من زمنهم، وكل ذلك أمام عين راوٍ لم تعد حيلهم تنطلي عليه، فيتهيأ لك أنه يتلوّى ضحكاً.
حكّاء ملحمة الرداءة
تصلنا سيرة الديوك والكتاكيت على لسان راوٍ لا يُجاهر بانحيازاته وأحكامه كما فعل في رواياتي الطوخي «نساء الكرنتينا» و«الخروج من البلاعة»، بل يأخذُ موقعاً أكثر استتاراً، أكثر مراوغة، فلا يُعلن عن نفسه إلا لماماً، وذلك من خلال تحكّمه في السرد واتجاهه. يكثّف الراوي من العناوين الفرعية معلقاً فيها على الأحداث، مفصحاً فيها عن نيّات الشخصيات، فيجعل منها ممارسةً في الترجمة الموازية التي تضيف مستوىً موازياً، أي خيالاً «ميتا» للقراءة يحول دون القراءات المسطحة، ويرسّخ إزدواجية سردية تحاكي بسخرية منطق القراءة الرمزية والهادفة نفسه.
حتى ولو أخذ راوي ملحمة الرداءة شخصياته على محمل الجد، فإنه لن يتخلّى عن السخرية، في مهمة يؤدّيها بمزيج من افتعال الحكمة والجدّ في التهريج. يتحصّن الراوي بالحكمة التي يطلقها أحياناً لتوجيه القراء، في حديثه مثلاً، عن مغبّة التصحّر، وعادات المثقفين، والتعريف بمصطلحات فكرية مثل «اليسار». إلا أن افتعال الجدية لا يلبث أن يزول لصالح الجدّ في الهزل، فيأخذ موقع المراقب الذي يتوجّه إلى قرائه مستعطفاً إياهم، طامعاً بوسع صدرهم: «كل ما هنالك أن صاحبنا وجد نفسه في فيديوهات البورن، من منكم لو رأى في نفسه موهبة هائلة لا تبقي ولا تذر لن يسلّم لها نفسه؟ من منكم لو انفتحت له حديقة الفن المورّفة لن يخطو فيها مسحوراً؟». من هو هذا الراوي السموح؟
تنسحب السخرية على لغة الراوي، والتي تبدو متحوّرة، متلوّنة، انسيابية في محاكاتها للشخصيات التي يتناولها. هو قادر على محاكاة لغة شخصياته وتأدية الجد والهزل والتحصّن في الاشتراكية والووك معاً، مفصحاً عن إدراكه مفاصل الحقل الثقافي بكل أطيافه. هو الذي يعرف طريقه إلى قهوة «النصف دائرة» التي يرتادها المثقفون، ويحتلّ مكانه بأريحية في قهوة «الألف مسكن»، مقرّ الشباب. عندما يتناول الراوي جيل المفكرين والمثقفين، يستخدم معجماً لغوياً تتكثّف فيه مصطلحات إيديولوجية أُفرِغَت من معناها؛ وعندما يتحدّث عن الـ«جين زي»، تتواتر على لسانه الإنجليزية ومصطلحات علم النفس كما التوجّهات السياسية المعاصرة لبعض أعضاء هذا الجيل، كما يبدو في تعريف الراوي لمهنة «الخرتي»، أو المصري الذي يبيع جسده للسائحات الأجنبيات: «قضيب فرعوني ممتاز يساعد الأجنبيات على فهم تاريخنا». لكن ماذا عن استخدام الراوي لنون الجماعة هنا؟ هل الراوي قومي مصري؟ لا بل هل هو… كيميتي؟
تغيب في لغة الراوي الزئبقي اللعوب علامات التنصيص، فتتداخل لغته ولغة الشخصيات في جمل تدمج بين السرد والحوار، فلا يعود واضحاً متى يتكلّم هو ومتى تتكلّم شخصياته. تبلغ الانسيابية بين الأصوات حد التماهي، لا سيما في الجمل التي يتحدّث فيها الراوي عن لحظات تاريخية مثقلة بالوجع: «يفكّر، بأثر بهاء، أن الثورة أصبحت موضة قديمة الآن ومن يؤمن بها يُتهم بشم الكلة، أما الشيء الكوول فقد أصبح التسيُّس نسبة للسيسي، آسف يا جماعة أنا لست معكم، إذا أصبح حبّ يناير دقة قديمة فأنا دقة قديمة». من يتكلّم هنا؟ هل في مزج الراوي بين لغته ولغة شخصيته إجهار في توجّهاته السياسية؟
يتمرّس راوي نائل الطوخي بالازدواجية السردية في عرضه لخصائص الجيلين وتناقضاتهما جيداً. لكن إن كان الراوي متمكناً من جيل الديوك وجيل الكتاكيت معاً، فإلى أي جيل ينتمي هو حقاً؟
يتنقّل الراوي في مساحة جيلية، لا بل تاريخية، غير معلنة بين الديوك والكتاكيت: لا سبيلَ لغوياً للإفصاح عن نفسه، إلا من خلال سخريته وتمرّسه في وصف رداءة تلك الشخصيات، فينظر إلى الديوك الخائبين مشفقاً، وإلى الكتاكيت المفلسين متململاً. يتهيأ للقارئة أن راوي الديوك والكتاكيت يجلس في المقهى قرب شخصياته، فيسرد قصة لا يستجدي فيها تعاطفاً ولا إدانة لشخصياته، فهي ليست شخصيات درامية ولا شخصيات كوميدية. ديوكاً كانوا أم كتاكيتَ، فإنهم جميعاً كائنات سجينة تتصارع في قفص الرداءة. هكذا يجعل الراوي السرد مسرحاً للرداءة ويدعونا للفرجة.
في «ديوك وكتاكتيت»، يرسّخ نائل الطوخي أسلوبه كحكّاء الناس الذين انتهوا عاديين جداً. يصوّر شخصياته بحرفة باتت تميّز أسلوبه القائم على مقاربة مواضيع أزلية كالهزيمة، والصراعات، والمستقبل، والتي عادة ما تؤطّرها الجدية والرصانة، من خلال تكثيف الطابع الهزلي للشخصيات دون أن يكون معنياً بالفضح أو الإدانة. يسرد قصتهم بمزيج من الجدّ والهزل في ثلاثة أجزاء تمتدّ على 740 صفحة، وكأن قصة الديوك والكتاكيت لا تستحقّ أن تروى بأقل من ذلك، وكأنها سردية عن القدر الإنساني، ملحمة للرداءة تمسرح التردّي البشري.
يراوغ نائل الطوخي في «ديوك وكتاكيت». للوهلة الأولى، يبدو وكأنه يتناول ثيمة الهزيمة، فنظنّ أننا أمام «رواية هزيمة» تضاف إلى مكرّس الأدب العربي عن تجليات حرب 1967 في الأدب. لكن إن قرأنا جيداً في سرد الطوخي المزدوج، سندرك أنه كما يقوّض رواية صراع الأجيال، يقوّض أيضاً راوية الهزيمة، وذلك في باروديا سردية تحاكي الشكل، فتمسخ المضمون. وإن كانت شخصيات الطوخي تعجز عن التمييز بين الأبوكاليبس والديستوبيا وتفشل في نشر رواية، فإن نائل الطوخي سيتمكّن من تحقيق ما فشل فيه الديوك والكتاكيت معاً: سيقدّم في روايته السادسة ملحمة عن انحلال الثقافة وتماسخ الأجيال، نوعاً روائياً ناشئاً يشخّص الرداءة ويهزأ بأنماطها التي تعيد إنتاج نفسها.
التاريخ يعيد نفسه، كما قيل. لكن في «ديوك وكتاكيت»، يبدو الطوخي وكأنه يسأل: ماذا لو كانت المرّة الأولى هي المهزلة؟
نائل الطوخي كاتب مصري من مواليد 1978 . تخرّج من قسم اللغة العبرية بجامعة عين شمس بالقاهرة عام 2000. صدرت له ستّ روايات منها «نساء الكرنتينا» و«الخروج من البلاعة»، ومن ترجماته رواية «تشحلة وحزقيل» لألموج بهار.
زينة الحلبي
زينة الحلبي كاتبة وأكاديمية ومحررة مختصّة بالأدب والثقافة المعاصرة. صدر لها كتاب عن تمثيل المثقّف في الأدب والسينما منذ تسعينيات القرن الماضي، إضافةً إلى نصوص وملفات وترجمات عن الأدب والموسيقى والفنون البصرية. تعمل حالياً باحثة في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت ومحررة القسم العربي في «فَمْ: مجلة بيروت الأدبية والفنية». لا تهوى الترجمة، ولكن هناك نصوص تعترضها دون خجل أو سابق إنذار.