
كيف لموسيقي كاتب لبناني ثوري ألا يكون وارثاً لزياد؟ معضلة. جوابها في زياد نفسه، إذ كيف لي أن أكون زياديّاً دون أن أتمرّد عليه؟ مستحيل. لا بدّ للذي يشرب من نبع المشاكسة أن يشاكس مصدرها. كما كان زياد رحبانياً متمرداً على رحبانيته، كنت على زياديتي.
وفي هذه المساحة بين الوفاء والعصيان، بين الإجلال والعتب لم يخذلني زياد، بل أمدّني بأسباب المفارقة بقدر ما أمدّني بأسباب الإلهام. لو وجدت نفسي متفقاً معه في 2011، و2015 و2019 لكانت خيبة كبيرة، لكان سدّ عليّ منافذ التمرّد. وهذه ليست من صفاته. لو لم ينتقد زياد الراب الذي كان هو أحد أبوابنا الكبرى إليه، لما كان ترك لنا الفسحة لأن نستقل بذواتنا الفنية.
لا شكّ في أن لزياد يداً طولى في مجيئي إلى الراب. هو الذي جعل جماليات موسيقى السود في أميركا جزءاً متأصلاً في الجمالية اللبنانية الخاصة، ومن الجاز والسول والبلوز في «هدوء نسبي» و«مونودوز» و«كيفك إنت» إلى الراب نصف خطوة أو أقل. هو الذي علّمنا أن الممارسة الموسيقية الصادقة متفلتة من الذي يتوقعه المستمع، فكان جذراً صلباً من جذور مغامرتنا الموسيقية منذ أواخر التسعينيات.
هو الذي علّمنا أن الالتزام السياسي والاجتماعي في الموسيقى لا يمحو مساحة الحب فيها، ولا الفرح ولا اللعب. لعب زياد باللغة بلا هوادة، فأزهرت بين يديه العاميّة اللبنانية إمكانيات لم يستكشفها أحد من قبله. صانتنا تعاليم زياد المضمّنة من أن «نقبض حالنا جدّ» زيادةً عن اللزوم. وجد طريقه إلى أعمالنا بطرق عديدة، فاستعدناه بالسمبلة في اللحن كما في ألبوم علي عبود الأخير «يا الله»، واقتبسناه في الكلمة، اقتبسنا سخريته وسخرنا منها في آن. حيثما ابتعدنا عنه وجدناه أصلاً من أصول إنتاجنا.
احتميت من السائد بزياد، لأنه كان دليلي الحيّ وشاهدي على إمكانية المشاكسة. واحتميت به أيضاً من الإنسلاخ لأنه لم يتخلّ عن قربه من الحياة اليومية للمجتمع حتى وهو يردّ اتهاماً: «أنا مش كافر». وعندما رحل زياد رأيت في موته أيضاً صورة عن مصيري، على الرغم من تبايني معه في بعض المواقف والإنسياقات الأيديولوجية. في هزائمه الواضحة الآثار، رأيت هزائمنا المتتالية. في انكفائه التدريجي رأيتُ ما يخيفنا أشرس خوف، أن تكون المرارة مصيراً حتمياً لسالكي هذا الدرب.
أو ربما ليست مرارة كما يظهر، بل قناعة أو اكتفاء. فالمهمة لم تكن يوماً أن نسود فوق السائد، أن نلغي السوق والتسليع الموسيقي. قد تكون المهمة أن نبقي على ما يكفي من مساحة الإزعاج، إزعاج الأمر الواقع في السياسي كما في الموسيقي، في المجتمعي كما في الفردي. وفي هذه نجح زياد بشكل لافت، ليتنا نستطيع بلوغه من بعده.
في معجم الصوفيّة، يشير مصطلح «الإزعاج» إلى تحرّك القلب إلى الله بتأثير الوعظ أو السماع. وهكذا كانت كل أعمال زياد ترفع العاديّ إلى معانيه العليا الخفيّة. بل كانت موسيقاه بالذات سلّماً للذواقين إلى الأعلى، تأخذك من البديهي إلى شوق سارح في آفاق لا حدود لها. وهل من تعابير الشوق ما يضاهي صرخة «يا أبو علي» مثلاً؟ لم ترفع موسيقاه المستمع فحسب، بل رفعت كل محسوس أنيط بهذه الموسيقى، فجعل من بيروت روحاً تنمو من تفاصيلها الدقيقة، من أحداثها المخبأة.
اخترق الفولكلور ولم يفقد نفسه. اخترق البوب ولم يفقد نفسه. اقتحم هندسة الاصطفاف السياسي ولم يفقد نفسه. كان بقعة إزعاج لا تتوقف عن التوسع، عن الدخول إلى مساحات جديدة تبدو عصية على روح الإزعاج. وهي روح تجتمع فيها فرادة الإبداع بقوة الهوية الجماعية عند أعلى مراتب الفنون.
كان زياد يوظف ذاتيته الإبداعية كجزء من شعوره بالمسؤولية تجاه الناس، فلا اكتفى بمضمون الرسالة ولا بشكلها بل ظلّ مصراً على كليّة العمل الفني. ارتكز على حرفيّة الصناعة قبل كل شيء، على العمل نفسه، لينزع عن الفنان اشتهاءه الإبهار ويعيده إلى صفوف الكادحين المخلصين الذين يحملون المجتمع على أكتافهم المنهكة. عاش زياد منهكاً بامتياز.
في يوم الجنازة وعلى بعد مئات الأمتار من حيث تجمّع المودّعون، كانت أكثر أنواع الموسيقى ابتذالاً تصدح لافتتاح محل معجنات في أحد الشوارع المتفرعة من شارع الحمرا. لم أرَ المشهد غريباً ولا متناقضاً ولا حتى محبطاً، فزياد كان يبدع أيضاً بلسان الذين لا يستذوقونه.
لكل هذا وأكثر، كان زياد حالةً قابلة للتمرد عليها من تحت جناحها. فهو المنهج ولو خالفنا التجلّي في لحظة، وهو الجوهر ولو خالفنا العارض في آن. وحين تتبدل الأزمنة، وتتقلب الأمزجة، تبقى الثوابت الزيادية بوابتنا إلى لبنان الذي نشتهي، ويبقى أستاذنا في الإزعاج الفنّي إلى ارتفاع الروح، لا تكلفاً بل فطرةً وبداهة، نحتار ولكن… بنمشي وبنكفي الطريق.
الراس (مازن السيّد) رابر ومنتج وموسيقي وكاتب لبناني مولود في طرابلس ومقيم في بيروت. صدرت له من العام 2011 إلى اليوم عشرة ألبومات ومئات الأغاني المنفردة بالتعاون مع عدد كبير من رابرز وموسيقيي بلاد الشام. عمل أيضاً لسنوات في مجال الصحافة في جريدتي «السفير» و«المدن»، كما عرف بمقاربته الخاصة للنص في موسيقى الراب، مقاربةً تسكن التقاطع بين السياسي الإجتماعي والروحي واليومي، وتحتفي باللغة العربية وإمكانياتها بين الفصيح والعاميّ.
