تعرفينها جيداً، بهلوانة العار. هي صديقة قريبة أو معرفة قديمة تقف أمامك وعارها على كفّها. تجعلُ آراءها وجنوستها وعلاقاتها وزلاّتها، شعلَة نارٍ ترميها في الهواء، قبل أن تعود وتلتقطها برشاقة، أمام جموع ترمقها بنظرات فيها من الهول بقدر ما فيها من الإعجاب. تقف بـ«وش مكشوف»، بتلك العين الوقحة التي تنظر بعينك، تُجاهر بعارها وتبتسم.
تستعرض أمامكِ- وقد يتهيّأ لكِ أنها لا تستعرض إلا لكِ- عوالمَ تقبضين أنت على مفتاح كل باب منها بحرص من تريد إبقاءها في العتمة بمنأى عن عين الآخر الشاجبة. تشيحين بنظرك استحياءً منها، واستحياءً عنها، وقد تخجلين أنك، بعد كل ما رأيتِ وكل ما كتبتِ، ما زلتِ تستحين أصلاً.
تتساءلين أين ذهبت بحيائها وهي تتفاخر بتلك العوالم المكشوفة والكاشفة بكل تلك الرشاقة، بكل تلك السكينة، دون أن يجتاحها ذاك الخوف البدائي الذي تعرفينه جيداً، خوف من أن تنكشفي فيما تتكشّفين أمام عين الآخر.
وإذا كان المشهد يخدش حياءك فعلاً، فلماذا ما زلتِ تقفين أمامها هكذا؟
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
تنظر أعمال المصوّرة الفوتوغرافية ميريام بولس، ولا سيما مشروعها الأخير، إلى الحياء بعينه. بدأ مشروع بولس بمنشور على انستاجرام تدعو فيه من تعتبر نفسها امرأة، أن تشاركها تخيّلاتها الجنسية، من أجل مشروع عن الموضة تعمل عليه بولس. بدأت تصل بولس إيميلات من نساء يسردن رغبتهن الجنسية في نصوص قصيرة، غالبيتها بالانجليزية، وعادت بولس وصوّرتهن بالتنسيق معهن. نشرت بولس عدداً من البورتريهات على حسابها على انستجرام، إلى جانب النصوص الأصلية، فيما احتفظت ببقية الصور لمشروع عنوانه: بين الخجل والعار/Sexual Fantasies Project/Le Ratage Du Réel.
الوجوه المكشوفة
النساء اللواتي يبحن لميريام بولس عن تخيلاتهن الجنسية كاتباتٌ غير مكرّسات. لم يصلن إليكِ من باب الأكاديميا أو التنظيم النسوي اللذين ترين فيهما منتهى القول النسوي، بل من باب الموضة والصورة. يشرحن لها عن رغباتهن أحياناً في نصوص سردية طويلة وغالباً في جمل سريعة، متقطعة تتّضح معانيها لاحقاً. تبدأ كثيرات منهن بتقديم أنفسهن دون الإشارة إلى منطلق نظري أو التزام سياسي يبرّر مشاركتهن في المشروع ودون تصور جامد للهوية. فلا يقلن، مثلاً، إن كانت توجهاتهن الجنسية مثلية أم غيرية، أو إن كنّ متزوجات أم عازبات، ولا يتحدّثن عن طبيعة عملهن أو اهتماماتهن، بل تبدأ غالبيتهن بالاشارة إلى ذاكرة أجسادهن التي عرفت العنف، نتيجة تعدٍّ جنسي أو حادث أليم أو إعاقة قديمة أو نظرة شاجبة. يعرّفن عن أنفسهن إذن، انطلاقاً من ذاكرة أجسادهن ليسردن بعدها تخيّلاتهن الجنسية.
تدور مشاهد تخيّلات تلك النساء في أماكن عامة يزرنها في مخيلاتهن فقط. هي مدن وبلاد بعيدة يصعب الوصول إليها لأن الجسد محدود الحركة بحكم الجنسية والجائحة والإمكانات المادية. هي أيضاً مساحات عامة مكشوفة أمام عين الآخر، كموقف للسيارات، مصعد صغير، مسرح مهترئ مهجور، وغيرها من الأماكن التي تعلّمت النساء كيف يخفين أجسادهن فيها. غالباً ما تتوقّف النساء في نصوصهنّ عند خطر تلك الأماكن، ويطلن في الكلام عن رغبتهن في الجنس فيها تحديداً لأنها أمكنة ممنوعة، قذرة، عابقة بالموت. فالموت هناك ليس كابحاً للرغبة، بل مفعّل لها. كما أن الجنس في تلك التخيلات ليس آمناً، تتخيّله تلك النساء دون الشعور بالعار من الخروج عن الشهوة الجنسية المعيارية.
يرتبط العار بشكل وثيق، يكاد يكون شرطياً، بنظرة الآخر. تتلاعب البائحات بالعين التي تحاكمهن وتكبحهن وتعيّرهن، فيتحدّثن مراراً عن رغبتهن في أن ينظرن إلى متعة الآخر وأن ينظر الآخر إلى متعتهن. فالعين في تلك التخيلات الجنسية هي في أن تجد تلك النساء اللذة في عمق نظرة الآخر، أن يشهدن على اللذّة وأن يكون هناك شاهد على لذّتهن، وأن تكون لذّتهن غير مطمورة بخطابات ذكورية ومعيارية.
تتحدّث النساء أيضاً عن رغبتهن في تملّك جسد الآخر والتمتّع في أداء السلطة عليه. تبرز الشهوة في الألعاب الجنسية التي يحملها بعضهن. تتحدّث أخريات عن ربط يدَي شريكاتهن بوثاق حتى ولو كان زهرياً أو مخملياً، إلا أنه يبقى مثيراً في جعله الجسد يجاهر بقوته بالرغم من ذاكرته مع العنف.
تشي صور بولس بأن الإثارة الجنسية تكمن أيضاً في إمكانية أن تُغمض المرأة عينها الصائبة سياسياً في لحظة تحقيق متعتها. تبوح النساء بتخيلات جنسية لا تقلب المواقع فحسب (الاستيلاء على السلطة، على النظرة)، بل تعبّر أيضاً عن رغبتهن في أن يكون الجنس قاسياً، أن يكون فيه قدر من التعنيف الذي يتعرّضن له أو الذي يمارسنه على شركائهن. يحكين عن تخيلات جنسية تحاكي الأداء الجنسي الذكوري، فتبدو مناقضة للمعياري في جنوسة النساء، خصوصاً حين يواجهن ذلك العنف الذكوري في حياتهن اليومية وبالطريقة التي يسكنّ فيها المساحات العامة. يكشفن وجوههن فيصدمن من يتوقّع منهن صوابية سياسية في أكثر الممارسات حميمية.
تشاهدين الصور و تتساءلين: من هنّ أولئك اللواتي يتكشّفن في المدينة ذاتها التي تمشين فيها أنت بحذر، آملةً بألا ينظر إليك أحد؟ كيف ينشرن صوراً كهذه على السوشيال ميديا ذاتها التي تحرصين أنت على بقائها معقّمة؟
وإن كنّ راغبات بالتكشّف، لماذا اخترن التكشّف أمام ميريام بولس تحديداً؟
عين ميريام
العين شَرطيّة في مشروع بولس. فكما تستحين من عين الآخر ويحمرّ وجهك، فتشيحين بعينك أو تخبّئينها، فإنّ العار الذي تبوح به النساء ومن ثم تلتقطه بولس في صورها غالباً ما يتّخذ من الوجه، والعين تحديداً، مسرحاً له في مساحات عامة وأخرى خاصة.
تصوّر بولس رغبة شخصياتها في أمكنة عامة في المدينة. بدأ اهتمام بولس بتقاطع الرغبة مع الأمكنة العامة يتّضح في مشروع (Nightshift (2015 الذي رصدت فيه ساهرات تلتحم أجسادهن ببعضها بعضاً ويجاهرن في رغبتهن، ليس في النوادي الليلية المغلقة والمحصّنة بجيش من الباونسرز، بل في مواقف سيارات وشوارع معتمة وأحراش مفتوحة على العين والعنف معاً. كما في ذلك المشروع، تأخذك بولس إلى مساحات عقيمة ومتداعية قائمة على شرط إقصاء النساء منها. يبدو وكأن بولس تستخدم تلك الأمكنة لأنها خطرة، ولأنها قذرة ولأنها مكشوفة أمام عين الآخر.
تصوّر بولس شخصياتها في مساحات عامة يجب ألا تكون النساء فيها عاريات، وأخرى خاصة يجب ألا يكون فيها كاميرات. تنظر النساء إلى عدسة ميريام وهن شبه عاريات، لابسات ثياباً داخلية كاشفة، حاملات ألعاباً جنسية، بائحات بأكثر التخيلات حميمية. ورغم حدة الكشف، فإنهن يقفن أو يجلسن مستقيمات، ثابتات، وغالباً ما تكون وجوههن وأجسادهن واضحة ونقية. يساهم في هذا الوضوح أسلوب بولس التي لا تعتمد في صورها على ثنائية الظل والضوء الحاضرة في التنميط الإيروتيكي الكلاسيكي، بل على تقنية الفلاش الذي يكثّف الإضاءة، فتقف النساء تحت ضوء بروجيكتور، في مشهد شديد الكشف، دون أن ينتهي بالإيروتيكية.
تضعك بولس أمام سؤال لا تهمّ الإجابة عليه فعلاً: هل أُخذت الصور بعد دراسة متأنية للمكان وإعداد مسبق للألوان والأكسسوارات؟ لأن المشهد يبدو مستعجلاً وخاطفاً في حين أن الخلفية تبدو شديدة القدرة على الإفصاح عن مروحة من التفاصيل تكمّل مضمون التخيلات أو تغنيه بتناقضها معه. هناك، مثلاً، إمرأة تتحدّث عن ذاكرتها مع الإستغلال الجنسي وهي ترتدي فستاناً أحمر مقلماً يكاد يمحوها أمام حائط كبير هو أيضاً أحمر؛ هناك امرأة مكشوفة الصدر تتحدّث عن رغبتها في جنس جماعي، وهي تلبس كيلوتاً ولادياً نُقِشت عليه دلافين باللونين الزهري والأزرق؛ هناك من تتحدّث عن القسوة في الجنس بينما تبدو عيناها تعبتين بعض الشيء، وعلى جسدها آثار كدمات تكاد لا تُرى (أم هي عقصة برغش؟)؛ هناك أيضاً هدوء في نظرة إحداهنّ فيما تظهر جوانح فوطتها الصحية من تحت كيلوتها الأسود. تتساءلين إن كانت صور ميريام بولس إذن ممسرحة أم عفوية. ولكن ما هي التخيلات الجنسية إن لم تكن ممسرحة؟ ولماذا تقلقين أصلاً من المسرح والإضاءة والجمهور؟
تمسرح بولس فيما تبدو وكأنها تعيد اختراع دورها ودور شخصياتها. فشخصيات بولس ليست خاضعة لعدستها، بل هن شريكات في عملية إنتاج صورهن. تتجلّى تلك الشراكة في فرادة كل بورتريه وحدّة قوله فيبدو واضحاً أن النساء اخترن كيف يظهرن، سواء من خلال ملابس داخلية تبدو متناسقة من حيث الملمس أو الطراز أو اللون، أو من خلال ملابس تبرز أجسادهن، كفستان ضيق، بنطلون جلد، كيلوت دانتيل.
تبرز الشراكة أيضاً في أشكال الكشف التي تتغيّر حسب الشخصيات التي تلتقطها ميريام في صورها. قد تختار إحداهن أن تُظهر صدرها عارياً وهي تخبّئ وجهها، فيما تقف أخرى بفستان يستر جسدها، كاشفة عن ذاتها فقط من خلال يديها اللتين يبدو عليهما التوتر؛ قد تختار أخريات أن يناورنَ بين الوجه والجسد والكلام. تتبع عدسة بولس أجساد شخصياتها وهنّ يقمنَ بالإجهار بخيالاتهن وعارهن معاً، بالقدر الذي يُردنه. ينظرن إلى ميريام بكل تلك السكينة والفخر.
تنظر النساء إلى ميريام. ولكن ميريام، إلامَ تنظر؟
لا تتوقّف عدسة بولس عند أجساد تلك الشخصيات وعيونها، بل تفعل أكثر من ذلك. تلتقط عينها تفاصيل ثانوية شديدة الدقة، تكاد تكون غير مرئية. هي ندوب أو تاتوهات، أو نقط عرق متجمّعة على جبين إحداهنّ، جلد ملسوع من شمس الصيف، وشم صغير يدلّ على ذائقة معينة، شعيرات صغيرة متفلّتة من تحت الكيلوت، علبة محارم مبللة ومعطرة وزهرية بجانب كلاشنكوف. ترصد بولس تفاصيل ما يفترض أن يكون في الخلفية، فتكثّف الرؤية على تلك المشاهد التي، وإن بدت باردة وجامدة للوهلة الأولى، فإنها لا تلبث أن تكتسب روحاً وخفّة.
تبدو ميريام وكأنها مدركة لخصوصية كل من شخصياتها وذائقتها. لا تصوّر بولس النساء من خلال ما يبحن به لها أو ما يكشفنَه أمامها وحسب، بل أيضاً من خلال ما قد يخبرنه لها قبل التصوير. غالبية شخصيات مريم بولس نساء معروفات على السوشال ميديا. يعملن في مجال الموضة أو التصميم أو التصوير، لهن حسابات على انستجرام فيها آلاف المتابعين، ولديهنّ اهتمام- كما مريم- بالصورة وجمالياتها. تُبرز ميريام ملابس تلك العاملة في مجال الموضة بطريقة ما، أو تركّز على ألوان بورتريه تلك العاملة في مجال التصوير الفني بطريقة أخرى. الصور التي تلتقطها بولس تفصح عن خصوصية تلك النساء، كما تكشف أيضاً عن المصوّرة نفسها التي تحمل الكاميرا.
تُبرز بولس صوت النساء في صورها، وفي الوقت عينه يبرز صوتها هي من خلال نظرتها إلى شخصياتها. يخيّل للمشاهدة أن بولس تقف أمام المرأة الأخرى دون تصوّر مسبق لما ستنتهي إليه الصورة، تؤوّل ما تبوح به المرأة وتصوّر. أحياناً تقف بوجه شخصياتها تماماً، العين في العين، وأحياناً تصورهن من موقع مرتفع فتبدو شخصياتها بعيدة ويصعب التعرف عليها (هل يفضّلن ذلك؟)، وأحياناً يبدو أنها تجلس مع شخصياتها على الفراش نفسه. تبدو بولس واعية لسلطة عدستها فتحاول مقاومتها بطرق عدة: تضع كلام شخصياتها بموازاة صورها، تجعل نفسها شريكة لشخصياتها، تتواطأ معهن في عملية الكشف والبوح.
في تواطئها مع النساء اللواتي تصوّرهن، تظهر ميريام أن النساء لسن محكومات بتراث التصوير الفوتوغرافي الذي لا يرى في جسد المرأة إلا امتداداً للفانتازيا الذكورية. فالبورتريه الكلاسيكي للنساء يشترط أن تكون المرأة موضوع رغبة المصّور الذكر: تتعرّى أمامه كي تتعرّى له. هو البورتريه إياه الذي، وإن استُبدلت إمرأة بأخرى، لن يبقى ثابتاً في الكادر سوى رغبة المصوّر الإيروتيكية. تلك هي السلالة الفنية التي لا يبدو أن بولس تنحدر منها.
من أين جاءت ميريام بولس إذن؟
تتحرّك بولس في المدينة وكأنها مجهولة السلالة. بل تتحرّك في هذه المدينة، بكل تلك الخفة واللعب، لأنها مجهولة السلالة. تنبذ الجماليات البصرية الذكورية فتبدو وكأنها تنتمي إلى جماعة فنية يصعب تأريخها وتحديد معالمها (تنتمي إليها أم تؤسسها من الصفر؟). تجترح بولس طريقاً جديداً في التصوير تعي فيه دورها وسلطتها وموقعها، فتتواطأ مع شخصياتها في عملية الكشف عن مخيلاتهن وأجسداهن.
تتواطأ ميريام مع شخصياتها إلى حدّ التماهي. فبعض التخيلات الجنسية خالية من الوجوه. قد يكون هناك تفصيل من جسد، إلا أن الجسد يستبدل أحياناً بغرض ما عاكس له ومعبّر عنه. فتتساءلين لمن يُنسب هذا التخيّل؟ هل هي إمرأة لم ترد أن تصوّر وجهها، أم إنّها ميريام في لحظة تسلّلها إلى مشروعها هي؟ ليست بولس إذن مجرد وسيطة، تنقل صورة تلك النساء إليك فحسب، بل قد تكون إمرأة لها تخيلات وجسد تسترق لحظات كي تتحدّث عنه.
لكن أين العار، حقاً؟
نشرت بولس الدعوة للمساهمة في مشروع «بين الخجل والعار» في شباط/ فبراير 2021، أي الفترة التي تلت انتفاضة تشرين وانفجار المرفأ. كانت بولس قد وثّقت انتفاضة تشرين بأسلوبها الخاص الذي ينظر إلى الجسد وهو يتأرجح بين ثنائية العنف والمتعة. تخلو صور الاحتجاجات من الرومانسية، وتتعدّد فيها أصوات المحتجّين وأحياناً التناقضات البصرية والخطابية التي تنضح منهم وتحيط بهم بتقنية الفلاش التي تلازم أسلوبها. تبحث الأجساد في صور بولس عن مكانها السياسي والجسدي في ساحات الانتفاضة، وكأن الرغبة الجنسية تتفعّل على إيقاع العنف والحركة الجماعية.
جاء انفجار المرفأ كي يدفع برؤية بولس التوثيقية قدماً، فالتقطت عدستها ركام البيوت كما ركام أشخاص فقدوا كل شيء، بما فيه الرغبة، بأسلوب بصري سيزداد وضوحاً: شخصيات تقف أمام بولس، تنظر إلى الكاميرا بثبات وثقة، تخبر قصّتها، فيما العنف يحيط بها ويجتاحها. ثمّ جاء الانهيار المالي التام والجائحة، فأكملا سردية الذل الجماعي أمام حطام حياة سابقة وبوادر حياة قادمة تُنبئ بشلل فردي وعجز جماعي.
عندما يُقرأ مشروع ميريام بولس على إيقاع تلك الأحداث، يبدو وكأنه منفصل عن حياة المدينة، التي كانت قد انفصلت هي أيضاً، عن الحياة. إلا أن التدقيق في الصور سيكشف عما هو معاصر جداً.
التقطت غالبية الصور في بيروت، اليوم، في لحظة التداعي والعنف والخيبات الحالية. في مشروع سابق لها، «يوم الأحد» (2015)، عملت بولس على توثيق طقس من طقوس المدينة غير المرئية: عاملات منازل إفريقيات وآسيويات يقضين يوم عطلتهن في شوارع المدينة الممنوعة عليهن بقية أيام الأسبوع. تلتقط بولس أجساداً مهاجرة، شابة وقلقة، غريبة ومألوفة، تبحث عن التواصل الحميمي في معابد المدينة وحفلاتها النهارية وأزقتها، أمام عيون ترغبها وأخرى تراقبها. يعود القلق والمتعة في مشروع بولس الحالي، بالرغم من اختلاف موقع الشخصيات في الهرم الاجتماعي وامتيازاتها.
فالمسرح المهدَّم الذي تصوّر فيه بولس إحدى شخصياتها يدلّ على أنه في بيروت من خلال الغبار الذي أطفأ مسارح المدينة. كما أنّ هناك مزيج لا بد أنه بيروتي في كلاشنكوف مرمي على عجل في سيارة وكنبات مخملية ستيناتية، ورماد الاسمنت، كثير من الاسمنت الذي يشي بهوية المدينة وبعنف عمارتها والقلق من استحالة الحياة فيها. والبيروتي أيضاً، هو لغة المشاركات اللواتي يكتبن بالانجليزية، لغة السوشال ميديا، ويتأرجحن بين الإنجليزية والفرنسية والعربية، دون حرج من عدم القدرة على التعبير بلغة دون أخرى.
تشاهدين الصور بدهشة، دهشة أن في مدينتك جماعة من الكاشفات، وأنهن يسرحن ويمرحن في الشوارع الكئيبة ذاتها التي مررت فيها أنت آلاف المرات ملفلفة بما يقيك من نظرة الغريب (لكن هل تعلمين أن اللفلفة تمنع عنك أيضاً العين التي ترغبين بنظرتها؟).
المكان العامّ هو أيضاً السوشال ميديا. فكما في الشارع، تعيش شريكات ميريام بولس حياتهن على السوشال ميديا وعليها يجاهرن بعارهن. فإن كان الشارع الافتراضي، كما الشارع المادي، مكان العار، فإنه هنا أداة في يد ميريام بولس وشريكاتها، مسرح للأداء والمناورة. تضع بولس وشريكاتها صورهن على انستجرام، فيتلقّفن العار من الفضح الاجتماعي والابتزاز الجنسي بحركة استباقية. فالصور الفاضحة تفقد من قدرتها على الفضح إذا ما وضعتها النساء على السوشال ميديا بنفسها.
هن يصدمنك بكشفهن عن عارهن، ولعلك تصدمينهن أنت أيضاً بتعايشك مع العار الذي يلفّ جسدك وصورتك الافتراضية. وحتى لو برّرت عارك جيلياً أو طبقياً، سيظلّ يصدم من اعتدن على المقامرة بأجسادهن في الأماكن العامة.
هن يواجهن عارهن في البوح والصورة، وانتِ، كيف تواجهينه؟
قد تلجأين إلى التخفي في قراءة ترين فيها التخيلات الجنسية ترداداً للعنف الجنسي الذي تعيشه النساء. قد تكتبين مثلاً:
"تقدّم صور بولس قراءات مغايرة للرغبة عند النساء. تظهر كيف أن الرغبة ليست معيارية حصراً، وأنها قد لا تكون انعكاساً مباشراً لقيم النساء ومواقفهن من العنف الجنسي وأثره على الجسد. على عكس ذلك، تُظهر شخصيات بولس كيف يمكن للرغبة أن تكون متعدّدة، ومتناقضة، وكيف يمكنها أن تكون متناسقة، ليس بالضرورة مع قيم تلك النساء، بل مع تجاربهنّ مع العنف الجنسي والجسدي. ليس في التخيلات التي تمسرح العنف الجنسي تناقض قيمي إذاً، بل محاكاة ساخرة ولعوبة مع واقع العنف الذي تعرفه النساء كل يوم. لا يخجلن من أن يكون عنف الواقع إيروتيكياً وليس في ذلك ما يقلّ عن السياسة."
وقد ترتاحين إلى قراءة سياسية-اقتصادية للتخيلات الجنسية تنظرين فيها إلى موقع تلك النساء في النظام اللبناني. تبدأين باستباق نقد مفاده أن مشروع ميريام فعل بوح وفضح مجاني. فالنساء الكاشفات عن أجسادهن وتخيلاتهن الجنسية يقمن بذلك لأنهن قادرات على الكشف عن أنفسهن بفضل امتيازاتهن التي تؤمّن لهن موقعاً آمناً داخل النظام اللبناني، غطاء قد لا تعرفه نساء أخريات يعانين من الفصل العنصري أو نظام الكفالة. وقد تستبقين سؤالاً آخر عن جدوى مشروع التخيلات الجنسية، عن ترفه، خصوصاً وأن النساء في لبنان يواجهن العار في حياتهن اليومية في طوابير الاستشفاء والمصارف والصيدليات والمحروقات. فالعار الذي يسبّبه الانهيار السياسي والاقتصادي قد يُعتبر أكثر نبلاً لأنه أكثر وجعاً من العار الجنسي الذي لا يبدو آنياً أو ملحّاً أو جامعاً لتجارب النساء. تستبقين تلك الملاحظات على المشروع بردّ يؤكّد على تقاطعية مشروع بولس كما قراءتك، فتحاججين أن الوجه المكشوف هو وجه آخر للعار:
"قد يكون صحيحاً أن لتلك النساء امتيازات أكثر من غيرهن، إنما هل صحيح أن المجاهرة بالكشف عن الجسد والشهوة هي رديفة للتحرّر؟ يشير النقد النسوي والكويري إلى أن الوجه المكشوف ليس تحرّراً من العار أو نقيضه، بل فعل موازٍ له. يبدو الوجه المكشوف وكأنه تجلٍّ لعار آخر، أو تجلٍّ آخر لعار أجساد تتنقّل في مدينة تعرّضها للعنف الجنسي والسياسي، يومياً، في البيت كما في الشارع. تقف إحدى النساء على مسرح مهجور (هل تكشف عن صدرها على مسرح البيكاديلي الأسطوري، في عمق شارع الحمرا؟). تقف بصدر مكشوف وكيلوت أحمر وتبدأ بسلسلة المدن العالمية والأمكنة البعيدة، أي المساحات المستحيلة، التي ترغب في أن تمارس الجنس فيها. تطول السلسلة لتنتهي بجملة قصيرة في فقرة مستقلّة: "ببيت رح إملكه شي يوم ببيروت". الفانتازيا الأجرأ إذن، هي تحقيق رغبة بدائية: أن تملك المرأة بيتاً في المدينة التي تعيش فيها. وكأن امتلاك بيت في بيروت رغبةٌ في قمة العجز، عجز صار عاراً تمسرحه بولس وشريكتها على خشبة البيكاديلي واضعتَيْن أحلام المدينة السابقة بوجه كوابيسها المعاصرة."
صحيح أن لتلك المقاربات السياسية مكاناً في مشروع ميريام بولس، إلا أنك تشعرين أن لا بدّ أن يكون هناك قراءة موازية لتلك الأشياء التي لا تقول، بل تحدّق في عينيكِ: التنكّر، والأداء، والكثير من اللعب.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
في مشروع بولس مثلّث من العيون يبدأ بعين النساء البائحات اللواتي يحدّقن بالكاميرا بنظرة واثقة وهادئة، وهناك عين ميريام التي تلتقطهنّ وتلعب معهن فيما تتلاعب بحدود الكادر. ثم هناك عين المشاهدة، عينكِ أنت، فيما تنظرين إلى المشهد الذي تصوّرته بولس ولا تعرفين أين تخبّئين عينك منه. تدركين أن في مثلث الشخصية/المصوّرة/المشاهدة الذي أصبحتِ جزءاً منه لعبة عيون، لا تلبث كل عين أن تعثر في المشهد أمامها على ما يحاكي لذتها ومخاوفها معاً. تستحين من أنك قد قرأت التخيلات ونظرت إلى الصور، ثم تستحين من أنك استحيت، ثم تقرّرين أن تكتبي مقالة عن الاستحياء، فتكتبين بلغة رصينة ومنسحبة، لعلّك تبقين في الظلّ.
لكنّ صور ميريام بولس، كما نصوص شريكاتها، تعود لتلاعبك، ليس من خلال إباحيتها وقولها السياسي، بل من خلال قدرتها على تمثيل العار أمامك بين حدود الجنسي والسياسي. ابحثي عن الإيروتيكية في المشروع، تجدي سرديات عن العنف الجنسي. ابحثي عن سرديات تلزم النساء بقالب الضحية، تجدي فانتازمات جنسية تخدش حياءك. تجرّأي على التخلّي عن القراءات الصائبة سياسياً، تجدي أن العار الذي تنضح فيه الصور هو في قوالب الرغبة التي تتحركين فيها أنت، في مفهومك أنت عمّا هو عام وما هو خاص، وممارستك أنتِ في الكشف والحجب.
تقفين أمام ميريام بولس وشخصياتها منبهرةً بطابات نار يرمينها وهنّ يتحرّكن برشاقة بهلوانات تعرف الوجع كما تعرف اللهو. تقفين وتشهقين هولاً، فتلجأين إلى الموقع الذي ترتاحين فيه: الملاحظة، التدوين، ثم الشرح التقاطعي المدرك لحساسية مشروعها في اللحظة الدقيقة التي تمرّ بها البلاد. تكتبين عنها بلغة المراقب البارد لأنك ترفضين أن تصدّقي أن أمامك نساء مكشوفات الوجه يستعرضن ذاتهن من أجل قضايا كبرى، أو ربما، وربما فقط، استمتاعاً بالاستعراض، هكذا، دون عار أو حياء.
في الحالتين، يستعرضن ذاتهن وهن يحدّقن فيك أنتِ، أنت التي تشيحين بعينك عنهن. يرمين بالطابات أمامك لعلّك تأخذين على اللعب قليلاً، فتكتبين المقالة من جديد.
ميريام بولس
ميريام بولس من مواليد بيروت عام 1992. منذ بداية مسيرتها في التصوير في سن السادسة عشرة، استخدمت الكاميرا لاستكشاف المجتمع ومساءلة بيروت وناسها ومكانها بينهم. حصلت على الماجيستير في التصوير من الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة عام 2015 وشاركت في معارض محلية وعالمية. تعمل محرّرة فوتوغرافية في مجلة الحية التي شاركت في تأسيسها عام 2020، والتي تنشر موادّ أدبية وبصرية في اللغتين الإنجليزية والعربية حول النساء في منطقتها، كما اهتماماتهن ونضالاتهن. حازت عام 2021 على جائزة ISEM الكبرى للصورة التوثيقية، كما الجائزة الثانية من متحف فيلاديلفيا والمخصّصة لمنح الفنانات. بولس حائزة على لقب «موهبة فوم»، كما انضمّت إلى ماجنوم، الوكالة العالمية للتصوير الفوتوغرافي.
العار كثير الحضور في حياتنا. هو حالة شعورية تسيطر علينا في أكثر اللحظات حميميّةً، لكنّه أيضاً مصطلح فكري نعود إليه عقب التحوّلات التاريخية الكبرى. هو حاضر أيضاً في اللغة التي تكثر فيها عبارات مشتقّة عن الخجل والحياء، والتي تتناول العين والوجه مسرحاً للعار الفردي والجماعي.
يطرح ملفّ «العار والحياء» أسئلةً حول كيف نتلقّى نظرة الآخر الرافضة؛ كيف نستدخلها فتتغيّر نظرتنا إلى ذاتنا؛ كيف نعيش العار فردياً وجماعياً في لحظات شديدة الخصوصية وأخرى تاريخية؛ كيف نجاهر بالعار أو نستخدمه أداةً لضبط الذات أو لتأديب الآخر. يقرأ كلٌّ من أحمد ناجي، وزينة الحلبي، وأنجيلا بروسيل، وعمر مسمار، وريما رنتيسي وفريق الإعداد في ميغافون العار في مقاربات نثريّة وبصريّة مختلفة، إضافةً إلى أوّل ترجمة عربية لنص سيلفان تومكينز التأسيسي الذي وصف العار بـ«مرض الروح» وصور غير منشورة من مشروع «التخيلات الجنسية» لميريام بولس.
حرّرت الملف زينة الحلبي لميغافون وفَمْ-مجلة بيروت الأدبية والفنية، بدعم من مؤسّسة آفاق.
زينة الحلبي
زينة الحلبي كاتبة وأكاديمية ومحررة مختصّة بالأدب والثقافة المعاصرة. صدر لها كتاب عن تمثيل المثقّف في الأدب والسينما منذ تسعينيات القرن الماضي، إضافةً إلى نصوص وملفات وترجمات عن الأدب والموسيقى والفنون البصرية. تعمل حالياً باحثة في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت ومحررة القسم العربي في «فَمْ: مجلة بيروت الأدبية والفنية». لا تهوى الترجمة، ولكن هناك نصوص تعترضها دون خجل أو سابق إنذار.