
مقتطفات من نوفيلا يعمل عليها الكاتب في أوقات فراغه من العمل.
أيام الجامعة، أخذت ورشة كتابة والرجل هناك ظلّ يحذرنا من أمرين، قال أبداً لا تحاول أن تكتب أحلامك، وأبداً أبداً أبداً لا تبدأ قصة بوصف حالة الجو. أختلف معه. أحياناً، على الأقل في هذه القصة، يكون الجو كل ما برأسي. حتى ولو نسيت البحر المتوسط بزرقته الكئيبة، يمحيه من الوجود ضجيج خط الإنتاج وسور عالٍ بسلك شائك. حتى ولو نسيت أحضان الأصحاب في البلد، خلف أميال وأميال من الغربة شمالا، حتى ولو نسيت كيف خلق الله الأسبوع وكيف يعمل في العادة، لفاجأتني نهايته مسروقة من العمر، وكيف كانت عينا القط المغمضتان تبتلعان المدن قبل أن تتحول إلى بدروم كوميونيتيز غير مريحة وبلا أحلام، حتى ولو نسي الواحد كل هذا، أبدا لن ينسى الجو.
بص مفيش مكان لفردة رجل، أشار كارلو إلى فتّة الأجساد التي احتمت من سفع شمس الصيف اللافح في ظلال السقالات وهدي الراكات. نيام كالقتلى في الوقت الضائع قبل العودة إلى العمل. وعلى كل جثة، ربما للتفريق بين بداية ونهاية، وبين نهاية وبداية، بين الأجساد في العمل، والعمل في الأجساد، علم لا يُرفع في آخر اللعبة: وجبة الغداء. تارا تارا تا تا: علبة تونة ماريو مفتتة (بثلاثين جنيها في السوق السوداء)، وعدد أربع زيتونات تخضع للابتكار. تفتكر دي الجنة الموعودة؟ سأل كارلو، إز-إزاي ممكن تبيعها لحد ويشتريها؟
هناك، قبل اختراع الرياح وأطقم الملابس متعددة القطع، قبل تفعيل البصمة ومنع ممارسة التوقيع على استمارة ستة مع التعاقد، قبل أن تجد كلمة مقاول طريقها إلى باطن معجم الكلمات الماسخة وقبل أن يكتب المغفور له بكاوسكي خطابه المشهور، ربما قبل استحسان حيوانات الغيط للمعلبات وقبل أن يسمحوا للنساء بالدخول إليها، جنة مثل هذه كان يمكن الإعلان عنها في الجرائد وطلبات التقديم تنهال، لكن دلوقتي؟ قلت لا يا كارلو ما ظنش، على أي حال إحنا مطرودين منها. مطرودين.
توغّلت يدي في الحصى الساخن وعرف كارلو ما أفكر فيه. ورقة الأسماء. الثلاثون اسما. لا تقل تخفيض عمالة، قل داون سايزنج. نصف فوق مكمل في الجنة. نصف تحت باي باي. هل تكتب مرفوت هكذا أم مرفود؟ وضعت رهاني الأخير، أنا هكون رقم تسعة وعشرين، وانت يا كارلو هتكون تلاتين. انبسط وجهه، وضع يده على كتفي، إز-إزاي تقول كده يا صاحبي؟ ما ينفعش أبدا تفكر بالطريقة دي، قال كارلو، دا -دايما بتكبر المواضيع، أنا هكون رقم تسعة وعشرين وانت هتكون تلاتين.
وكان مصيبا.
الصباح التالي وجدنا الورقة على بوابة الدخول. قرأناها، مثلما هي الحال مع كل شيء آخر في تلك الأراضي القاحلة، من المؤخرة إلى المقدمة، ولما أخيرا وصلنا إلى المحظوظ رقم واحد، قفزا فوق أسماء رباعية بحيوات صارت ضائعة، وجدنا أننا، في الأيام حيث طارت في الأنحاء شائعة الاستغناء عنّا، دون مقابل أو تعويض، وبدلا من الصلاة والدعاء ولحس الجزم والاتصال بإنت مش عارف مين، كنّا حصنّا نفسينا بالوسائل المناسبة لتخطّي صدمة متوقعة. خلاص فقدنا وحزننا، سئمنا وتخطينا، هُزمنا وزعقنا وتقبلنا، صنعنا صناديق صغيرة لحلوى المواساة ووضعنا فيها الإبر والخيوط التي طرزت نسيانا مستقبليا مهترئا لكن خادع، لدرجة أننا، حين كنّا في البوفيه، خلصنا افطارنا من مدة، وندخن بشراهة قرب نافذة بطريقة غير قانونية، ظهرنا كمعدومي الدم أمام بقية المطاريد الذين تبعثروا كأشباح عاجزة عن الاستيعاب. أزعجوا عمال البوفيه بصوت جرجرة كراسيهم واصطدموا بالحوائط أكثر من مرة، قبل العودة خائبين بسجائر وينستون غير المشتعلة تنتقل بين أصابعهم وشفاههم. لازمتهم المكررة: لازم نعمل حاجة، صح يا جماعة، مش لازم نعمل حاجة؟ أكلوها أكلا بينما صُدت أنفسهم عن سندوتشات الفول والطعمية والبيض والباذنجان تمطت على الترابيزات: إفطار الموظف المثالي، بسببه استيقظوا بدري نصف ساعة. سأل واحد من السادة الزملاء: كارلو، لازم كلنا نعمل حاجة، ما العمل؟ ورد كارلو عليه: في إيه؟

Nathalie Handal, “Eternity, and a Night”, Photography, 2017
لم يكن ما حدث سيئا تماما. يعني لو فكرنا في الموضوع، وربما هذه حيلتنا الجامدة للتخطي، لم أكن لأشتاق أن أصحى كل يوم في السادسة إلا ربع ولا للاثنتي عشرة ساعة وردية عمل (التي لا تكون أبدا اثنتي عشرة ساعة)، لا إلى تقويم مشفوف من نظام الجيش (ثلاثة أسابيع شغل وأسبوع مفرهد على الكنبة) وانسلاخ ساحلي تام عن مسرّات وأوجاع الأهل والأصحاب، لا إلى مغازلة التسمم بالزئبق وسرطان الجلد والانتقاص من دورة حياة بوكسراتي.
بالعكس، سأكون سعيدا لو أعطيت قبلة وداع، ولو كانت ناشفة وسيئة ومؤقتة، لساعات من مالنخوليا تجهيز وإفراغ حقائب السفر، والإنهاك السريري بعد صافرة النهاية، لحالات الإمساك المزمنة وهيروشيما الإسهال المفاجئ، للوعود الحامضة بتحقق معاق والاختناق المروري في بربخي العزيز، للوقوف على المسرح العابق برائحة الكبريت دون انتصاب، وتصنع الاهتمام بخطة الشهر بينما تفقد عصبوناتي شبكاتها المشتعلة، بلا عودة بلا عودة، بلا عودة ليهبط عقلي في حضيض انقطاع النور والغرابة الغامقة التي تنتابني كلما عدت إلى البلد والأصحاب. لا لن أشتاق إلى أي ابن قحبة من هذا.
فاكر أول ما جئنا إلى الشغل، وفي تثاؤبات الصباح الباكر، بينما كنت أحاول إيجاد طريقة للجلوس على كرسي جنب الشباك في الباص كي أرى البحر، كان كارلو يعيش لحظته الحميمية في العمل. أخبرني أنه بينما تتوالى علينا المشاهد من النوافذ، نحن الشغالين في ملابسنا الموحّدة الأقرب لمنامات لم تغادر الحلم بعد، نقول بنعاس جبّار صباح الخير يا ريّس، صباح الخير يا هندسة، ونفسح الأماكن لبعضنا دون إرادة. تتداخل حيواتنا التي تطوف فوق رؤوسنا بإدريسية بريئة، ضحكنا واحد وخازوقنا واحد، والطمأنينة غير المبررة؟ ما غيرها الذي يفتح باب النوم لنا جميعا، حتى لكارلو، الذي انتقل أرقه، لتشارُكنا السكن، إلى عينيّ. كارلو، الذي قلّبته الليالي كالشاورما على السيخ دون نوم، كان يلعب أغنية طلع الصباح في سماعاته أون ريبيت وعلى ضربات الشيخ إمام على العود، ينام ولا يصحو إلا عند البوابة. وأنا أيضا؛ فشلت محاولاتي الحثيثة في جوار البحر، ووخزتني المباني المهدمة ودمامل المدينة على الناحية الأخرى من الطريق، أنا أيضا كنت أنام.
هذه، هذه كانت لحظتنا الحميمة في العمل. ولم تستمر سوى أيام، مخلفةً وراءها ذكرى ساذجة. لم نعرف سبب رحيلها، وسيمر وقت لا بأس به قبل أن نصل إلى هذا السبب سوية: أنا عن طريق فقرة عن الأحلام قرأتها في كتاب بحجم راحة يدي، وكارلو عن طريق الحدس العفي. إنه الجوع يا صاحبي. بمجرد أن ندفس الطعام في أفواهنا ينتهي كل شيء، الجوووووع، قال كارلو، افتكر دايما الجسد يعرف أكتر منك، الجسد يقول لك اللي انت عاوز تعرفه. هكذا، حافظنا على ثلاجتنا الصغيرة ممتلئة ببسكويت الدقيق والشوفان، نزدرده كالسحالي في طريقنا إلى الباص، لأنه، مهما حدث، علينا ألا نقع في الفخ، علينا ألا ننضم إلى أخوية الضنك هذه، التي، مثلها مثل أي أخوية ضنك أخرى عدّينا منها، تحوّل أقذر حمامات المدينة إلى مجال للحنين الجاف والمنيكة الفارغة. كنّا منفصلين عنهم، في هذه اللحظة في الكافيتريا، قبل أي شيء، بحكم المعدة.
انتم ماكلتوش ليه؟ قال كارلو، ما تفطروا وتشربوا شايكم واستهدوا بالله؟ أمسك الزميل ياقة أوڨرول كارلو، قال: أنت عبيط؟ انت وهو اتنين عبط، مش مقدرين المصيبة إللي وقعنا فيها؟ هز كارلو رأسه وقال: طيب طيب، ما العمل؟
وبالحديث عن العمل يأتي العمل. صاحب دخلة المدير إلى البوفيه صمت مضاعف من السادة الزملاء. اعتقدت أنه قصد ترابيزتنا هذا لوضعنا الثلاثي الغريب، ناسيا بالتحديد أنه وكارلو قد تصادما أكثر من مرة خلال السنة الماضية، لأسباب تافهة كالصابون في الحمامات ومياه الشرب الملوثة، كالزيادة السنوية والوعود الكاذبة. كان رجلا طويلا، ابن المدينة الساحلية بأفضلية اللعب على أرضه، في منتصف أربعينياته بقفا تخين يلمع تحت أشعة الشمس. كان يقول لي، في الرايحة والجاية، كما كان يقول للقلة المختارين، إنه يحبني، وصدقته لحد ما رأيته مرة يأكل غداءه، واختفت من مخيلتي صورة الأرنب التي رسمتها له. ربما، فكرت، جاء وعلى لسانه مواساة التماسيح للمطاريد الذين نظروا إليه كالمخلص نزل أخيرا من الجبل في البدلة الإدارية. ربما في أسوأ الأحوال، يكح كحتين ويطلب منّا التدخين في الأماكن المخصصة لذلك. عارف صعوبة اللي بتمروا به، قال، والشق الذي شقه موسى بالخطأ بين سنتيه الأماميتين يتسع ببطء، لكن الساعة ماجتش تسعة واليوم يوم عمل عادي.
أكثر من مرة ذكرني كارلو بأفضل خصلة فيَّ: إنت عارف أسبابك دائما يا قطيطي. وفي تلك اللحظة بالتحديد، كنت أعرف أسبابي التي منعتني من ضرب ابن القحبة. قصر قامتي القامع لفرصة وصول لكماتي وجلوسي بزاوية تمنعني من الإمساك المباشر برقبته الكاوتش، وبالطبع، قبل كل ما سبق، بقية لم تزل من بلع وظيفي ساخط وتربية دكة أولى حاولت مراراً التخلص من آثارها دون نجاح. ببساطة، لم أكن من هذا النوع من الرجال المشهديين، لكن كارلو كان، وكارلو ماذا كانت أسبابه؟ يقف في وجهه مباشرة ويده مقبوضة أصلا؟ يوم عمل عادي بتقول يا مدير، قال كارلو، والمائة وإحدى عشر بين حاجبيه يمكن قراءتها من مذكرة مصننة على مكتب الموارد البشرية. أومأ المدير بالكاد محتميا وراء ورقة تعيينه وسلّمه الوظيفي، وراء بدلاته الكاملة وزياداته السنوية وأرباحه العالية، وراء مكتبه الغالي والشهادات التي تحتل الجدران، وراء الحصانة المفترضة من حيوان متحضر في الأدوار العليا أمام حيوان لم يجد أصلا عتبة باب الدخول، مزيج من الأمان والغرور والشفقة العرضية العالية: مش هيعض أبدا، الحيوان مايقدرش يعض، مش كده؟ صح صح يا مدير يوم عمل عادي، أنت راجل صح، قال كارلو بابتسامة أربعة في ستة على خلفية بيضاء، وفي أقل من دقيقة اختفى مع بقية السادة الزملاء.
جلست حيران في الكافيتريا. سألني النادل عن الساندوتشات التي لم تمس على الترابيزات، في ناس غلابة ممكن يحتاجوها. قلت ماشي. قال ربنا يخليك.
اتصل بي عبوهاب، انت فين يا ريّس؟ قلت له فين قال جايلك. خمس دقائق وكان أمامي. سألني عن كارلو، قلت راح مع الناس. قال أنه لم يقابله. حطّ يده على كتفي، ما تزعلش يا ريّس، هتتفتح لك سكة تانية، انت عارف قصتي. وكنت أعرف قصته، حكاها لي أول يوم نزلت معه على شغلانة تصليح. عبوهاب فني أجهزة لكنه بالأساس فني كهرباء، شرقاوي قديم بعيون خضراء تحترق، أخطأ طريقه إلى السينما ليصل إلى الشعبية للأسمنت وأشياء أخرى. أربعون ألف جنيه أرباح ومصيف في المعمورة، أيام كويسة يا ريس، يقول عبوهاب. تسع سنوات دون مغص، وفجأة يبدأ المصنع في ركوب سلم الخسارة مثل غيره. مرة يرفضوا يزودوا البدلات، ومرة يقللوا الأرباح، مرة يقطعوا الزيادة السنوية، بعد كده قالوا المصنع أفلس. وقف سيادة الزغلول وأمرنا نقعد في البيت، والقعدة في البيت معناها بس الأساسي، مفيش بدلات.
لم يكن في مقدور المسؤولين أن يمشوهم، كانوا مُعينين. قبضوا الأساسي وكل واحد أخذ شغلانة على جنب. عِمل عبوهاب في شركة صيانة للأجهزة المنزلية في كفر شكر، ثلاثة آلاف هنا وألفان هناك وبعض الرفائع والشهر يمر. قال عبوهاب، بس جابونا تاني وطلبوا من الناس تستقيل وتاخد اللي في النصيب، أو تسوّي معاش مبكر وتاخد مكافأة، قالوا إحنا طفيليات، عالة على البلد وركوبة التقدم، قاعدين في بيوتنا ومش بنعمل حاجة. سمع البعض الكلام بينما ضرب آخرون رؤوسهم في الحيط.
كنت آخر الناس اللي مشيت، يقول عبوهاب، كل شوية كانوا بيضيقوها علينا، لحد ما قالوا ننزل أفراد أمن تحرس المصنع المفلس والمكن الساكت. ونزل عبوهاب فرد أمن، صرفوا له بيادة وتيشيرت وبنطلون جينز خرّى رائحة نجسة بعد أول غسلة. جعلوهم وردية ليل تكديرا. تخيل كنت داخل الخمسة وتلاتين وادوني ورقة وقلم ووقفوني على كشك وقالوا اكتب الرايح والجاي. بعد أول أسبوع قدم نصف الرجال استقالاتهم، لم يستطيعوا تقبل الإهانة، وقبل نهاية الاسبوع الثاني لم يتبق سوى عبوهاب وبقية تعد على أصابع اليدين. أوقفوهم في طوابير، لاموهم على هفوات غريبة وأمطرهم الرؤساء بالسخريات. أكتر حد صعب عليّا كان فني ورش فاضل له سنة ويخرج، يقول عبوهاب، تسعة وخمسين سنة يا ريّس، سنة واحدة ويخرج، كل يوم يهزقوه زي العيل الصغير علشان وقع في النوم الفجر. صمد عبوهاب ليس لأنه لم يكن لديه ما يخسره، صمد عبوهاب لأنه أدرك أنه خسر بالفعل من زمن. لهذا صار يتسلى. كان يكتب في الورقة أن قطًا مر في الساعة كذا، وأن فأرا مر في الساعة كذا وأن عرسة مرت في الساعة كذا، وأن كلبا مر في الساعة كذا. كان تقريره اليومي مفصلا لدرجة خانقة، وكان دائما يذيّله بأهمية الأمن والأمان وحماية المكن من الحيوانات. لم يكن يكتف بالكتابة في الورقة، كان يخبّط على باب رؤسائه ويخبرهم أن قطا ينيك قطة في هذه اللحظة وأن المكن يتكلم مع بعضه في الليل ويخططون للهرب. ظنّوه مخبولا، وأخفوا تقاريره على من فوقهم. كنت عاوز أشوف آخرهم فين، امتى هيفيض بيهم الكيل، قالوا دماغي اتلحست وكنت بشوف في عيونهم الخوف، عرفت قد إيه البلد دي تخاف من المجانين. لو عاقل هتتناك، بس لو مجنون هيسيبوك في حالك. محدش بقى يكلمني على الاستقالة أو المعاش المبكر، محدش حتى بقى يقول لي سلام عليكم. بعد فترة كلمني زغلول متقاعد وقال مش لازم آجي تاني، قال أحسن تقعد في البيت. قدم عبوهاب في اليوم التالي طلب معاشه المبكر وأخذ المكافأة. انتهت رحلة الحاج الشرقاوي من التعيين إلى عمل اليومية. قعدت فترة على ما جيت هنا، ما تقلقش، هتلاقي سكّة تانية.
أمنت على كلامه بهزة رأس. وسمعت كارلو من ورائي وهو ينشّف يده في قطعة قماش، أكـ- أكيد كان بيحكي لك على الشعبية للأسمنت وأشياء أخرى؟ ضحك عبوهاب ضحكته المجلجلة، أعمل إيه يا ريس، ماتكلمش عنها؟ ناول كارلو سيجارة مارلبورو لعبوهاب وقال: تبقى غلطان، المفروض ماتوقفش كلام عن الشعبية للأسمنت وأشياء أخرى. هناك شيء غريب في مظهر كارلو، أصبحت حركته أكثر هدوءا وتجلّى على وجهه روقان، وحين جلس لم يشغّل هزاز رجله اليمنى. سألته كنت فين، لم يجاوبني. ناولني سيجارة وانحنى على الطاولة، إحنا هنمشي دلوقتي، مش هنقعد لبقية اليوم. قلت معنديش مشكلة، بس انت عارف الأمن والمتانة مش هيرضوا يخرجونا مش في معادنا غير بتصريح. خبط كارلو على ركبة عبوهاب مرتين، ما تقلقش من دي، صح يا عبوهاب؟ كانا مقربين وللواحد ود عند الآخر. تشاركا الشاي والقهوة والسجائر وساعات العمل الطويلة، وفي الليل وجدا دائما منفذا لفعل شيء ما، المشي، الصيد، اللهو والضرب العالي. كانا يدعواني لأنضم إليهما، كنت أقبل وأرفض، على حسب نصيبي من التعب. وبينما كان المدير يكره كارلو على بلاطة، فإنه كان يكره كارلو أكثر وهو في صحبة عبوهاب. كان ينظر إليهما بقرف ظاهر، ويفعل ما في وسعه من تبديل مواقع وتغيير ورديّات ليفصلهما عن بعض، ما ينفعش مهندس يصاحب فنّي، كان المدير يقول. كان ثمة ما يخيفه في اجتماعهما، وقد رأيت هذا بعيني. صح يا ريّس، أمّن عبوهاب.
خرجنا من البوفيه، اهتز هاتف كارلو، ألقى نظرة سريعة عليه وأغلقه. طلب منّي أن أغلق هاتفي كمان، مش عاوزين مواساة وكلام فارغ، إحنا مش في عزاء. سألته، كارلو انت كنت فين؟ أهداني نصف ابتسامة، هقول لك بعدين. لم يقل بعدين، لكنّي عرفت بأي حال.
كان مر على رفدنا شهر. وكنت أستحلب حياة اللاعمل بكل طاقتي: أصحو متأخرا وأتجوّل في بنها، أحاول استخلاص شيء من التجربة عن طريق الكتابة، بلا جدوى. كان رأسي يحتاج لأكثر بكثير من شهر ليتخلص من الصدأ. حافظت على الخروج من البيت كل يوم وضرب أحد الكافيهات الهادئة بمتتالية من فناجين الاسبرسو ربما تطلع حاجة. اتصل بي عبوهاب في يوم من تلك الأيام ويدي على خدي. كان قد رُفد من الشركة، في التاسعة صباحا اصطاده رجال الأمن وهو يضرب چوب محترم وراء ترانس كهرباء. المدير ما صدّق، كان مُصر إني أطلع في بوكس، لولا ولاد الحلال. رجع عبوهاب ليعمل في كفر شكر، ويقف في الليل في محل سيّارات يمتلكه قريب من بعيد. انت في بنها؟ سألني. كان في شغل قريب مني وعدّيت على باله. تساءل إن كان ينفع نتقابل. ابن حلال، قلت له ووصفت له مكان الكافيه. كان أكثر وسامة في غير ملابس العمل، هزرت معه، يعني عمرك ما فكرت في التمثيل يا عبوهاب؟ قال إنه طول عمره يمثل، لكن أحدا لا يبالي. الكلام جاب بعضه وسألني عن كارلو. قلت آخر مرة سمعت منه كان في إسكندرية، يعمل مؤقتا في فندق في المنشية، وردية ليل. قال عبوهاب ابن اللزين كارلو حطّه ورا وطلّعه من دماغه، وأمام عدم فهمي شرح لي عبوهاب بالتفصيل.
يوم سرحونا من الشركة، مشى كارلو مع الماشين خلف المدير. عاد إلى مكتبه، وعلى حسب كلام الحاضرين، عبث قليلا في الأدراج قبل أن يخرج. تحرّك في الممرات قليلا، دخل مكتب المدير، غاب خمس دقائق وعندما فتح الباب وجد في وجهه أحد المطاريد بيدين متشابكتين على صدره. أخبره كارلو أن المدير ليس بالداخل وانصرف. ظل الزميل واقفا أمام الباب، مهمهما بتوّسلات وصعبانيات لا معنى لها كي يرجعوه إلى مكانه ولا يسحبوا عنه فيشة العيش، أرجوكم لا تسحبوا عني فيشة العيش. قال عبوهاب، لما ظهر المدير في الممر جرى المطرود ناحيته، الفيشة يا مدير، الفيشة وحياتك، المدير نظر له باستعلاء وقال له إن مفيش حاجة يقدر يعملها، قفل الباب على وشه.
تحرك المطرود يائسا، مشى خطوة أو خطوتين ثم سمع الصرخة الهالعة.
المكتب كان كله خره يا قطيطي، خره بني آدمين. المدير كان دايما بيفتخر إن الباب هو المكان الوحيد إللي مفيهوش شهادات كفاءة، دلوقتي بقى الباب هو المكان الوحيد اللي مفيهوش خره. الظاهر إن كارلو كان معبّي كتير أوي، وطلّع اللي جوّاه كله في المكتب، ابن القحبة حاول يغري الناس إنهم يقولوا إنهم شافوا كارلو، لكن محدش قال. وبعدين انت عارف الراجل كان بيقفل مكتبه تكتين حتى لو رايح لآخر الممر، فاكرنا حرامية زي أهله. يوم ما رفدني كنت نص عالي، جابني المكتب وهاتك يا زعيق، كنت هموت من الضحك، المكان كان ريحته لسه خره.
كاتب وشاعر مصري، مواليد 1995. تخرج، رغماً عنه، من كلية الهندسة في مدينة بنها. يهوى المشي وإضاعة الفرص. رياضته المفضلة التي يمارسها في أوقات فراغه من العمل، هي الوصول المتأخر إلى اكتشافات صغيرة ينساها لاحقاً. بالإضافة إلى نشاطه على مدونته، نشرت خربشاته في مواقع منها «آخر قصة»، «الجمهورية»، «كتب مملة» و«ختم السلطان». صدرت له مؤخرا نوفيلا تحت عنوان «بيت الولد» (تنمية للنشر، 2025)