
أُنجِز هذا النصّ ضمن برنامج «الصحافة الثقافية النقدية» (2023-2024)، الذي تديره مؤسسة الصندوق العربي للثقافة والفنون-آفاق بالشراكة مع الأكاديمية البديلة ممثلةً بشبكة فبراير. حرّرت النصّ هدى عمران لمجلة فَمْ.
في صيف عام 2022، وعلى هامش مهرجان أنيما للرسوم المتحركة في مدينة بروكسل البلجيكية، وجدتُ نفسي، من خلال نظارة تقنية الواقع الافتراضي VR، أقف على أحد شواطئ اليونان، أراقب طيف لاجئ، يحبو نحو اليابسة بعد نجاته من رحلة هجرة خطيرة في القارب المطاطي. طيفٌ لشاب في مقتبل العمر، يبدو متعباً، ما يلبث أن يقف ويبدأ بالمشي بين الأشجار حتى يظهر له طيف أسود يسدُّ طريقه.
أدرك لاحقا أن الطيف الأسود هو خفر السواحل أو العسكر المكلفون بإلقاء القبض على المهاجرين. تتحول التجربة الى رقصة، يحاول من خلالها الشاب النجاة والهروب من العسكريّ الذي يحاصره كلما حاول الفرار. ورغم إدراكي أنني في عالم افتراضي، فإني لا أستطيع منع نفسي من الانغماس الحسيّ العاطفيّ في القصة. أريد النجاة للشاب، أريد له فرصة حياة أفضل، لكني لا أستطيع فعل شيء سوى المراقبة.
خرجتُ من التجربة متعبة محبطة، وقد شهدت منذ خمس دقائق مضت تجربة اللجوء والخوف، وكذلك تجربة العجز عن التفاعل أو المساعدة.
*
تعرفت إلى عالم التكنولوجيا الغامرة Immersive technology من خلال عالم السينما، حيث بدأتْ بعض مهرجانات السينما، بدءا من عام 2012 وبشكل خاص في العالم الغربيّ، بتوفير برنامج صغير على هامش المهرجان، تعرض من خلاله أعمالا تفاعلية، إذ يمكن للجمهور الدخول إلى غرف مجهزة بعدد من أجهزة الرأس السمعبصرية VR Headsets، التي تعتمد تقنية الواقع الافتراضيّ، وتنقل المشاهد إلى عالم آخر، ليجد نفسه جزءا من مسرح أحداث قصة ما. صارتْ هذه المهرجاناتُ توفّر كذلك مساحاتٍ تعتمد تقنيات أخرى، كتقنية الواقع المعزز AR، التي تدمج الفضاء الواقعيّ بالعناصر الافتراضية، وتعتمد النظارات المخصصة أو كاميرات الهواتف الذكية، التقنية التي أخذت بالانتشار في عالم الفنون السمعبصرية بعد تسربّها من عالم الألعاب وخاصة اللعبة الشهيرة Pokémon Go. ركزت هذه التجارب الفنية على استكشاف الاحتمالات التي قد تتيحها هذه التكنولوجيا، كالمشاركة في إنتاج المعرفة من خلال إعادة امتلاك السرد وتوظيفه في رواية القصة من وجهات نظر قد لا تمثل أو تدعم الرواية السائدة لأجهزة السلطة أو القوى المسيطرة سياسياً أو اجتماعياً في مساحة جغرافية ما.
في هذا الوقت، قادني فضولي تجاه إمكانيات هذه التكنولوجيا إلى الانخراط ضمن برنامج تعليمي في جامعة لوكا للفنون في مدينة أنتويرب البلجيكية. وكمطلب أساسيّ للتخرّج من البرنامج، كان علي العمل مع فريق من المشاركين على بناء نموذج أوليّ Prototype للعبة فيديو من خلال استخدام تقنية الواقع الافتراضيّ. كانت فِكرَتنا بسيطة، تتمحور حول قصة فأر صغير يحاول النجاة بطعامه المسروق من مطبخ أحد الفنادق. لم تكن مهمتي مساعدة الفأر على الفرار بطعامه عبر بهو الفندق، لكني وجدت نفسي، من خلال استخدام النظّارة وأجهزة التحكم اليدوية، في جسم هذا الفأر، ومحاولتي الفرارَ بقطعة جبن كانت مسألة حياة أو موت. لم يستطع النظام العصبي لجسدي أن يتأقلم فورا مع الإدراك الجديد؛ فأنا الآن مجرد فأر يركض في عالم بُنيَ وصُمّم وفقا لأبعاد كائنات تفوقني حجما بعشرات المرات، كالبشر.
أصابني الدوار والغثيان، خرجت من اللعبة على خير، لكنها أثرّت بي بشكل عميق. فعليّا، بدأت بالتفكير بالكائنات الصغيرة بشكل مختلف، لا لأسباب تتعلق بالرأفة والرحمة والإنسانية، المشاعر التي قد لا تخلو من إحساس ضمني بالتفوّق على الكائنات الأخرى، بل لأسباب تتعلق باكتساب معرفة جديدة نُحقّقها من خلال النظر إلى العالم بعدسة لم يسبق لنا النظر من خلالها.
وعليه، قد تصبح التكنولوجيا الغامرة قريباً وسيلة حديثة من وسائل المعرفة. اعتمادا على التجربة الشخصية، أعتقد أنها تحاول التواصل مع الإنسان لتعزيز معرفته عن طريق التأثير في ذكائه العاطفيّ، من خلال إيهامه بالسفر عبر الزمان والمكان، وربما الحلولِ في جسد كائن آخر ليواجه تحديات عالم مختلف ولو لبضع دقائق، حيث يختبر معرفة جديدة من خلال مشاعره وأحاسيسه أيضا لا من خلال عقله فقط كما درجتْ وسائلُ المعرفة الكلاسيكية.
*
تتفق روشاك أحمد، وهي صانعة أفلام ومنتجة سورية متخصصة في الإعلام الرقمي تقيم في برلين، مع فكرة التعاطف، حيث إن التفاعل العميق الناتج عن تجارب السرد الغامر، دفع بعض صناع الأفلام إلى إطلاق مصطلح «آلة التعاطف Empathy Machine» على وسيط الواقع الافتراضيّ. وهو ما دفع روشاك إلى اختبار فرضيّتها حول هذه الفكرة، من خلال بحث رسالة الماجستير، إذ ركّزت على دراسة تفاعل مستخدمين تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والثلاثين، مع فنّ الواقع الافتراضيّ. دعت روشاك عدداً منهم، خاصة ممّنْ لم يسبق لهم خوض تجربة الـ VR، لاختبار «عمل غامر»، يسمى سفيرز Spheres، لا يعتمد العمل على قصة إنسانية ولا يحتوي على أيّة شخصيات رئيسية من الممكن التعاطف معها، بل ينقل المستخدمين إلى عالم النجوم الكونية ويتيح لهم فرصة مراقبةِ أصوات الظواهر الكونية وسماعها، بينما تتشكل أمام عيونهم أشياء مثل الثقوب السوداء، والأمواج الجاذبية والانفجارات النجمية. تقول روشاك إن معظم المستخدمين كانوا يشيحون بوجوههم من الخوف بينما كانوا يشاهدون الشمس وهي تقترب افتراضيا منهم. بدأ البعض منهم بالبكاء، بينما شعر بعضهم بحرارة تسري في أجسادهم.
السلطة والذاكرة
تشيرُ روشاك أحمد إلى أهمية فكرة التفاعل والتعاطف الناتج عن التصديق، حيث علينا — قياساً بمقولة أرسطو حول رواية الحكاية — أن ننتبه إلى أن الحكاية ليست نسخة مطابقة تماما للواقع وإنما هي نسخة قابلة للتصديق. وكذلك كانت تجربتي بالتفاعل مع الأعمال الغامرة، ومنها عمل «استعادة دمشق Win Back Damascus»، لمصمم الديكور المسرحي والسينوغراف السوري عامر العقدة، الذي أخرجه عام 2022 في برلين، بالتعاون مع المخرجة نينا دي لاشيفاليري.
يتمحور العمل في شِقَّه الأول حول استعادة بعض ملامح شوارع مدينة دمشق في حقبة الثمانينيّات والتسعينيّات، من خلال تقنية الواقع المعزز AR. وحول دافعه، يقول عامر إن الكثير من أهالي مدينة دمشق لم يكن لهم الحق بتصوير شوارع مدينتهم ومعالمها بالشكل العاديّ اليوميّ، خاصة تلك البعيدة عن المعالم السياحية لأيّة مدينة، وبالتالي فإننا لا نملك كسوريين أرشيفاً كافياً عن المدينة خلال هذه المدّة، وإن وُجِد فهو مجرد صور طافحة بالرموز الأمنية لنظام الحكم الأسديّ. وعليه، أراد العقدة استعادة بعض أبنية ومعالم مدينته بشكل مدنيّ بسيط، مجردة من أيّ أثر بوليسي، كما لم يرها في حياته قطّ. امتدت، نتيجة لذلك، عملية التحضير ومراكمة البيانات والصور التي ساعدته على تنفيذ مشروعه إلى حوالي أربع سنوات، عمل خلالها على التواصل بشكل أساسيّ مع مواطنين أوروبيين زاروا دمشق خلال تلك المدّة، واحتفظوا بصور كانوا قد التقطوها خلال زيارتهم، ما ساعده على استعادة بعض ملامح المدينة، ثم دعوة الناس إلى زيارتها والمشي الافتراضيّ بين أبنيتها.

غيرَ أن دمشق التي رسمها عامر ليست تماما دمشق التي أعرف، بل نسخة غريبة لم تثر لدي الكثير من المشاعر. هي نسخة قابلة للتصديق بدافع من التعاطف مع فكرة التحرّر التي تمنيتها دائماً لمدينتي.
يرافقنا صوت العقدة في أثناء المشي يقودنا ويحكي لنا عن المعالم التي تطالعنا. يقدم لنا تجربة مشي خفيفة في مدينة يقول إنها دمشق المدنية. لا شرطة عسكرية ولا أبنية مسورة توحي بالسرية. لكنّ تمثالاً أبيضَ ضخم الرأس لحافظ الأسد يطالعنا، قبل الخروج من الزيارة ببضع دقائق، مع يَدَين تحمل كلّ منهما مسدساً مصوّباً إلى وجوهنا، ما يخلّف شعورا بالمفاجأة والارتباك، خاصة بالنسبة إلى الأجنبي.
يقول العقدة إن العديد من الألمان الذين خاضوا التجربة، لم يتعرفوا على التمثال، فهم لا يعرفون من يكون حافظ الأسد أو كيف يبدو. أما بالنسبة إليّ أنا كسورية، فقد خلّف المشهد لديّ شعورا بالألفة، وكذلك ابتسامة ساخرة، وكأني تلقفت من العقدة غمزة عين، أفهم كسورية إلى أين ترمي تماماً. رؤية تمثال الأسد، نبهتني إلى العين الرقيبة، التي لازمتني حتى بعد سفري إلى أوروبا. هذا الانضباط السلوكيّ كما يوضح عامر، لن يتغير بسرعة مع تغير الظروف، فمنشؤهُ ليس التربية المنزلية، بل الرقابة التي عشنا معها في ظل النظام الأمنيّ، وتحولت مع الزمن إلى نوع من الرقابة الذاتية.
الأرشيف والحَفَظَة
وهكذا، فإن للشعب ولغير الشعب، ذاكرة مختلفة عن المكان نفسه. كما أن أفراد الشعب الواحد، أنفسهم، على مستوى الذاكرة الجمعية والفردية، لديهم سرديات مختلفة عن بلدانهم ومدنهم. وتحرير هذه القصص ثم الوعي بمحاولة ترميمها هو جزء أساسيّ من إعادة جزء من السلطة الى الشعب، وقد تكون إعادة السيطرة على الأرشيف الجماعي لمدينة ما وتحريرها من احتكار السلطة إحدى هذه المحاولات. في كتابه «حمّى الأرشيف Archive Fever»، تناول جاك دريدا مفهوم «الأرخونات (Archons)». إن الأرخونات هم الشخصيات التي تتمتّع بسلطة سياسية ودينية في المجتمعات القديمة، فهم لم يكونوا فقط حراساً للأرشيف، بل أيضًا حراساً للمعرفة والسلطة المرتبطة بها. من خلال التحكّم في الأرشيف، يتحكّم الأرخونات في السرديات، في ما يجري تذكره، وما يُنسى، فالأرشيف ليس مساحة محايدة، بل هو موقع للصراع حول المعنى والسلطة، ومن يمتلك حق الوصول إلى الأرشيف أو حق ترتيبه يمتلك القدرة على تشكيل التاريخ والمستقبل.
يعتمدُ العقدة في الشق الثاني من مشروعه «استعادة دمشق» فكرة ترميم الأرشيف هذه، وذلك من خلال إخراجه عرض
مسرحيّاً بالتعاون مع الفنانة لينا مراد. اعتمد العرض تفاعلَ الممثلة مع الذكاء الاصطناعي AI. جرى تدريبُالذكاء الاصطناعيّ على لعب دور المخبر أو المرافق الذي يقوم من خلال شاشة كبيرة بالتحدث إلى الممثلة المبعدة عن مدينتها منذ زمن ومساعدتها على استعادة ذاكرة عاشتها وتوشك على نسيانها في حقبة الثمانينيّات والتسعينيّات في دمشق. لكنّ عامر والمبرمجين لم يلقّنوا أيّ نصّ مكتوب للذكاء الاصطناعيّ، بل طلبوا إليه جمع الصور المتوافرة على شبكة الإنترنت والتعلم الآليّ منها عن وضع مدينة دمشق في تلك الحقبة.
عندما أحاول استحضار صورة لحافظ الأسد من الذاكرة الطافحة بوجوده، لا أرى صورة حية لرجل يتكلم، يمشي، يحكي، يتنفس. بل يبدو كما رأيته أوّلَ مرة في المدرسة الابتدائية، حين رأيت وجهه على دفتري، ورأيته مرة أخرى مثبتاً فوق اللوح المدرسيّ الذي كنت أيمم وجهي نحوه ستّ ساعات يوميّاً. صورة جامدة، تشبه في الانطباع الذي تخلفه في الذاكرة، صور الملوك القدماء وتصاوير الآلهة والفراعنة، الذين عُدّ نقش وجوههم في الحجر أو تحنيط أجسادهم، جزءا مهما من تخليد أرواحهم الرقيبة حتى بعد الموت.
زيارتها والمشي الافتراضيّ بين أبنيتها.

تعَدُّ الصورة بنية ذات معانٍ متعددة من وجهة نظر رولان بارت، وهي وسيلة لتأكيد الذات، لكنها أيضا وسيلة لإعادة تشكيلها. وكذلك علاقتنا مع صور حافظ الأسد التي غصّتْ بها كل تفاصيل حياتنا، التكرار الذي انتزع رمزية الصورة من الحيز البشري وجرّها إلى الأزلية، في مساواة مع رمز الإله الكليّ القادر الذي يحضر في كلّ مكان، يراقب ويسجل في الأرشيف «الأمني»، من خلال أقلام مخبريه. يسجّلُ كلّ شيء عنا وفقاً لما يشاء أرخوناته وما يلفّقون ضمن قصصهم. وكذلك هم يشكلون أماكننا وشوارعنا من خلال التحكم بعين الكاميرا والتحكم حتى بزوايا التصوير، ولم يمتلك هذا السماح غالباً إلا العين الأجنبية.
وهكذا، تحاول الممثلة في أثناء العرض التخلص من الرموز وتصاوير الأسد من خلال قصّها من صور عائلتها وطفولتها، إلا أنّ الذكاء الاصطناعيّ/المُخبر الذي يتفاعل معها عبر الشاشة، لا يلبث أن يعيد الى الواجهة كل ما تحاول هي محوه، فهو يعتمد في معلوماته الأرشيفَ الذي احتكره الأسد عن سوريا في تلك الحقبة.
الأرشيف وعين الغريب
فكرة عمل «استعادة دمشق Win Back Damascus» دفعتني للعودة إلى أرشيفي الشخصي، صوري العائلية، الذي لم أنظر إليه منذ زمن، فأنا لم أحمله معي إلى بلاد المهجر. أحاول العودة إليه اليوم بعين جديدة، لكني أنظر إليه كما ينظر الغريب، بعين أقل تعاطفاً وأكثر تحليلاً ومساءلة. أنظر بشكل خاص إلى صور الطفولة المبكرة التي قضيتها مع عائلتي في المملكة العربية السعودية حتى عام 1991، عندما قررت عائلتي العودة والاستقرار في دمشق، وأقارنها بتلك الملتقطة في دمشق في التسعينيّات وبداية الألفية الثانية. لا أجدني أملك الكثير من الصور في شوارع دمشق ومقاهيها أو مرافقها العامة، ما عدا القليل جدّاً من الصور الملتقطة حول بعض المعالم السياحية، هي غالبا صور وَثقتْ لحظاتنا العائلية ضمن جدران المنزل فقط، وهو ما يفسر إحساسي الغالب بالاحتجاز بينما كنت أكبر في تلك المدينة. بالمقارنة، التُقطتْ معظم الصور في السعودية، في الأماكن العامة والخارجية، فعلى الرغم من الملامح الاجتماعية المحافظة والمغلقة التي اتسمت بها المدن السعودية في تلك الحقبة، فإنّ لديّ عددا كبيرا من الصور التي وثقت ذاكرة طفولتي بينما أركض على الأوتوستراد الصحراويّ، أو ألعب حول عائلتي في الحدائق العامة ومجمعات التسوق.
يتناول العقدة منظورا آخر للفكرةِ نفسها، فحتى ذلك الأرشيف المحايد الذي من الممكن العثور على بعض وثائقه في الفضاء الخاص أو العام، لم يكن باعتقاده أرشيفَنا التّام، نحن سكان المدينة، بل هو، بشكل مباشر أو غير مباشر، أرشيف متأثر بما وثّقه السياح الأجانب الذين سُمح لهم بأن يلتقطوا الصور والكتابة عن مدينتنا وفقا لما سمحت به حدود التوثيق تحت رعاية النظام الأمني، الحقّ الذي لم نمتلكه نحن أبناء هذا البلد وبناته خلال تلك الحقبة. هنا تكمن مشكلة هذا الأرشيف، أنه غالبا أرشيف غربيّ ذو نظرة بيضاء غريبة استشراقية، قامت برصد الأماكن القديمة والمعالم المشهورة، وتصويرها، دونَ شوارعنا وحاراتنا وتفاصيل حياتنا العادية التي قد تعدُّ دون المستوى بالنسبة إلى المواطن الغربي. وحتى نحن السوريّين في مرحلة لاحقة، عندما مكّنتنا التكنولوجيا بفعل الأجهزة الذكية من التقاط صور لحياتنا ومدينتنا، بتنا نقيّم جماليات هذه المدينة بالاعتماد على النظرة الغربية التي شكلت وعينا بهذه الجماليات، وكذلك وعينا بمن نكون، وهذا بالطبع لأننا لم نعتد النظر إلى مدننا ومجتمعاتنا من عدسة حرة، وبالتالي لم يؤسس أو ينشر جيل آبائنا أرشيفاً كافياً مكتوباً أو مصوراً من وجهة نظره الخاصة، حدث كل ذلك بمساعدة النظام الأسديّ البائد بسبب استبداده بأرشيف الماضي، ومنعه المستقبلَ من التشكل.

*
في 8 كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي 2024، سقط الأرشيف السوري الأمني مع سقوط نظام الأبد. وخلال الأسبوع الأول بعد سقوطه، غصّت شاشات مواقع التواصل الاجتماعي بصور لعدد كبير من الوثائق، في ذلك التاريخ هرب الأرخونات، حَفَظَة ذاكرة النظام الأسدي، وفُتحت أبواب الأرشيف أمام الناس، البعض منها كان قد احترق عن بكرة أبيه، في محاولة من هؤلاء الحَفَظَة لمحو أجزاء ومعلومات مهمة، كانت لتساعد الشعب السوري على فهم ماضيه وترميم حاضره، وكذلك مساعدته على محاسبة المسؤولين عن كل الجرائم المرتكبة التي لا تعد ولا تحصى. لكن أيضا، نجا الكثير من الوثائق، لا يزال البعض منها مبعثرا على أرضيات السجون والمؤسسات، تُرى ما مصيرها؟ ومن حَفَظَتُها الجدد؟ هل ستمكّننا الفنون والتكنولوجيا الغامرة من ترميم ما فقدنا من وثائق وأرواح؟ أحبّ أن أذهب في الخيال بعيدا حيث سأحصل على فرصة أخيرة للقاء بعض الأصدقاء والأقارب ممن غُيّب أو قُتل تحت التعذيب، لأُنصت إليهم، وأودّعهم كما يليق بالوداع.
فيديو مسجل لعمل «استعادة دمشق» اخراج وتصميم عامر العقدة، بالتعاون مع المخرجة نينا دي لاشيفاليري. (2022)
مخرجة أفلام وثائقية سورية. درست الأدب والسينما. أنجزت رسالة الماجستير في الفنون السمعبصرية الوثائقية في بلجيكا حيث تقيم. أخرجت وأنتجت فيلمها الطويل الأول "قفص السكر" عام 2019. لها عدد من التجارب في الكتابة في مواقع مثل الجمهورية تحت أسماء مستعارة منها نيرمين السيد. تعدُّ اليومَ الماجستير في علوم الإدارة، وتهتم برصد قصص الانتماءوالهويات المنقولة في المهجر في كلّ من السينما التسجيلية والشعر والأدب.