RR

سيرة

متى يحطّ السنونو؟

أسماء عزايزة

يتعاون المحرران، أحمد وائل من «مدى مصر»، وزينة الحلبي من «مجلة فَمْ» على تحرير أجزاء من نص طويل للفلسطينية أسماء عزايزة عن الموت والأبوة المنقوصة، تستعيد فيه عزايزة حدادها على أبيها من خلال أدوات جمعتها من عوالم الأحلام والأساطير والطيور والحكايات.

في ثاني حلقات «حذف وإضافة»، السلسلة التي تشتبك مع التحرير الأدبي وتكشف أسراره، يتحدّث المحرران مع الشاعرة عن أولى تجاربها السردية ومراحل تحرير النص منذ بداية العمل عليه، في مارس 2024، حتى هبط عنوان «متى يحُط السنونو؟» على نسخته الأخيرة المنشورة هنا.

كما يعرضان النسخة الأخيرة من النص، إضافةً إلى المسودة الثانية والمسودة الثالثة من مسوداته الخمس، وجداها الأكثر تعبيرًا عن منعطفات تطوير النص الذي ينتمي الآن لسياق أكبر من «حذف وإضافة» وهو كتاب «عام المتاحف الصغيرة: مذكرات ابنة». 

 


الجوّ ربيعيٌّ وبديع. الحديقة مُزهرة والمرج لا يزال يستمتع بآخر لحظاته الخضراء قبل موسم الحصاد. وأشجار اللوز تقف فيه وحيدةً تنتظر زيارتنا التي لم تحصل هذا العام بسبب الأمطار والوحل الذي لم يجفّ. أمامنا ثلاثة أيّام متتالية، يتوافد فيها أناس لا يمكن حصرُهم. المعزّون يدلقون حبّهم لأبي وصدمتهم من موته في كلّ الأرجاء، سيّما النساء اللاتي اعتبر أبي زيارتهنّ وصلته بهنّ تصوّرًا من تصوّراته عن قيمة الحياة. وفي فقدانهنّ أخًا عزيزًا وحالّا ورابطًا لزمام الأمور وجارًا وقريبًا، قريبًا من القلب والعقل، وجدن فاجعةً كبيرة.

وفي حين لم تكن لنا أنا وأختَيّ وأمّي حيلةً سوى الجلوس، نسلمّ ونقبّل ونصمت، ثمّ نردّد تعابير الشّكر على العزاء، ثمّ نصمت، كانت لدى النسوة حِكم لا تنتهي. بعضها من حكم الحياة الممضوغة والمُعادة كقولهنّ: «الموت حقّ»، «هاي ساعته»، «الله يطعمنا موتة زي موتته»، «هو في حدا متخلّد على هالدنيا؟» ثمّ يجبن أنفسهنّ: «فش يمّا»، وأخرى شرحات من قصصهنّ معه؛ فتبيّن أنّه زار هذه قبل أيّام، وحادث تلك عبر الهاتف معبّرًا عن شوقه، وهناك من ناداها من ناصية الشارع ليسلّم عليها ويلقي بنكتةٍ على مسمعها. 

كسرتُ صمتي مرّاتٍ لا أتيقّنها وأنا أسرد للآتي والغادي قصّة ارتطام أبي: «مكنش ماله إشي. كان يحكي لإمّي قديش انبسط معنا بحيفا. والساعة عشرة، قاموا يناموا. بس وقف ع إجريه قلّها متت يا إلهام. ووقع ع وجهه». تبدأ القصّة هنا وتنتهي هنا، في صالون البيت. ثمّ أعود لصمتي وسط النسوة اللاتي تحلّقن في ساحة البيت وتحت أصوات الخطاطيف التي ملأت الأرجاء. أنا لم أر الخطّاف؛ السنونو، منذ نحو عشرين سنة. رأيته آخر مرّة حين كان يصول في عقدنا بذيله المقصوص. يبني أعشاشه على الجدار الغربيّ من العقد. يدخل في ساعات العصريّة، يقوم بجولة استعراضيّة بحركاته المُشاكسة وصوته الذي يشبه الزعيق ويخرج. كان ذلك في زمن يبدو من هنا غابرًا. حتّى أنّي نسيت وجود هذا الطائر. 

لكنّ حضوره في السّاحة فوق النسوة كان قويًّا جدًّا ويصعب تجاهله. كما كان يصعب تجاهل رغبتي اللامتناهية في سرد قصّة ارتطام أبي. وفي التشديد على فجائيّة اللحظة المتأتّية من كونه لم يعان من ألم أو شكوى أو إشارات تُذكر، «مكنش ماله إشي. كان يحكي لإمّي قديش انبسط معنا بحيفا. والساعة عشرة، قاموا يناموا. بس وقف ع إجريه قلّها متت يا إلهام ووقع على وجهه». صوتي يصدح مثل هذه الخطاطيف وأنا أسرد القصّة في آذان النسوة كأنّي كنتُ شاهدةً عليها. والخطاطيف تتنقّل بين أسلاك الإنارة وبين مطلع السلالم عند عتبة البيت، مصدرةً أصواتًا عالية لا يمكن معها ألا ننظر جميعنا إلى السّماء. تطير بالعشرات، ربّما كان خمسون منها أو ستّون أو سبعون. تزعق. كلّها تزعق. بأنصاف ذيولها وبطونها المنفوخة تخطف الأنظار والأنفاس وحصصًا متتابعة من الهواء. ثمّ تطير وتغيب فجأةً. هكذا فعل أبي. طار فجأةً. قام وقال متت يا إلهام ووقع على وجهه. عشرون عامًا، جاء فيها عشرون ربيعًا لم يظهر فيها خطّافٌ واحد سوى في منام سوسن قبل أشهر قليلة. 

جلست سوسن إلى يساري وفزعت لمرأى أربعة خطاطيف تقف متراصّةً فوق السّلك. فتذكّرتْ حلمها: أربعة خطاطيف تقف فوق سلك. أمامها حفنة من اللوز الأخضر. يموت أحدها. ويكون له وجه رجل عجوز. توقّعت سوسن آنذاك موت إحدى نساء العائلة، امرأة مريضة جدًا وتقف عند عتبة بيتها شجرة لوز. لكنّها سرعان ما فهمت حلمها وهو يتراءى أمام ناظريها. وأنا، لا يمكنني أن أتعاطى مع أحلامها كما أتعاطى مع أحلام الآخرين. بل أراها رؤى وتنبؤات. إنّه موسم اللوز الآن. أرضنا في مرج بن عامر مزروعة باللوز نستطيع تبيّنها من هذه النقطة. وصورة حفنة اللوز، هذا اللوز، التي أضعها خلفيّة لهاتفي النّقال منذ سنين. ميلاد أبي الكاذب يجيء مع موسم اللوز. وموته جاء فيه كذلك. كان ذلك أبي، الخطّاف الرابع الذي نهض، بعد موت النسوة الثلاث، قال متت يا إلهام ووقع على وجهه.

الطاولة بجانب سرير أبي كما تركها (أسماء عزايزة، 2020)
الطاولة بجانب سرير أبي كما تركها (أسماء عزايزة، 2020)

الجوّ ربيعيٌّ وبديع. الحديقة مُزهرة والمرج لا يزال يستمتع بآخر لحظاته الخضراء قبل موسم الحصاد. وأشجار اللوز تقف فيه وحيدةً تنتظر زيارتنا التي لم تحصل هذا العام بسبب الأمطار والوحل الذي لم يجفّ. أمامنا ثلاثة أيّام متتالية، يتوافد فيها أناس لا يمكن حصرُهم. المعزّون يدلقون حبّهم لأبي وصدمتهم من موته في كلّ الأرجاء، سيّما النساء اللاتي اعتبر أبي زيارتهنّ وصلته بهنّ تصوّرًا من تصوّراته عن قيمة الحياة. وفي فقدانهنّ أخًا عزيزًا وحالّا ورابطًا لزمام الأمور وجارًا وقريبًا، قريبًا من القلب والعقل، وجدن فاجعةً كبيرة.

أشارت أمّي إلى النقطة التي ارتطم فيها عند ذيل السّجادة. فصارت هذه النقطة بوصلتي. أروح وأجيء، بوجهي المتهدّم، أتحدّث إلى النسوة وأصمت، وبين هذا وذاك أشزر النقطة بعداوة وحيرة وحزن ومشاعر أخرى لا أفهمها. حتّى لأخالها تنظر هي إليّ وتمنحني دافعًا لأسرد، فأجدني، وسط خوري الشديد، أنهض بحيويّة وأقصّ قصّة الارتطام لصديقاتي وأصدقائي الآتين من حيفا: «مكنش ماله إشي. كان يحكي لإمّي قديش انبسط معنا بحيفا. والساعة عشرة، قاموا يناموا. بس وقف ع إجريه قلّها متت يا إلهام. ووقع ع وجهه». وأقوم بمحاكاتها في رأسي خير محاكاة. ثم أضيف رأيي دون أن يسألني أحدٌ عنه فأقول إنّها ميتة جميلة. وأروّج لهذا الجمال على النواحي وعلى نفسي.

هذه هي الميتة التي تمنّاها والتي تليق بفزعه من المرض والوهن والعجز وبحبّه للحياة.

ثمّة كثافة في أجساد النسوة وأصواتهنّ تدفعني إلى التفرّج على ما هو خارج صدري. فُرجةٌ بطلها الاتفاق اللاتي جهرن به بأنّه مات ميتة يتمنّاها أيّ إنسان. وبأنّه «لا تغلّب ولا غلّب». إنّ الاحتفال الفوريّ بشكل الموت هذا لإن يدلّ على حجم توجّسنا من ميتة بطيئة ينهش فيها الموت أطرافنا نهشًا ونمشي معها مشيةً قاتلةً وواعية إلى قبورنا المحفورة سلفًا. وكان ذلك الاحتفال دلاءٌ من الماء البارد تُدلَقُ فوق صدري المُلتهب.

تستكمل النسوة الفُرجة بالتعبير عن حبّهنّ الذي لا يولّده فكرٌ سياسيٌّ أو ثقافيٌّ أو ميلٌ أو حاجة، بل الماضي الذي يبدو مثل جنّةٍ مفقودة. الماضي الذي يبدو، دائمًا، وبكلّ جوانبه، أكثر عدلاً وأكثر نقاءً، لكنّه فُقد. فُقد مثل جنّة. الجنّة التي أكاد أصدّقها، فأرى أبي فيها يمشي قفزًا مثل غزال ويحمل سحاحير الخضار في المرج بعضلاته الغضّة التي لم أمسها ويتكلّم بصوت فتيّ لم أسمعه. ولهذا الماضي، علائقُ بشريّة أقوى من الدمّ، فأبي بالنسبة لهنّ قريبٌ وصديقٌ وكبير العائلة وابن البلد والزّميل في العمل في المرج والسائق اللاتي وضعت نصف نساء القرية أطفالهنّ غير الصّبورين في سيّارته. فاعتبر نفسه، بشكل ما، دمجًا عجيبًا بين ولّادةٍ وخيّال. واعتبرنه، بدورهنّ، الرّجل المُنصف لهنّ دون أن يدري أو يدرين. بفطرةٍ جعلته ينحاز لهنّ ويقف في وجه الرجال إن هم أكلوا ميراثهنّ.

وفي الفُرجة التي تُظهرها النسوةُ مواساةٌ لا يمكن أن ترى في محفل الرّجال. فقنوات التواصل هنا مفتوحة والتعاطف باللمس مُتاح وطبيعيّ. كأنّهنّ بفساتينهنّ الفضفاضة وكروشهنّ الطريّة وصدورهنّ المكتنزة يبنين حضنًا أموميًّا كبيرًا للحزن والبكاء. موت أبي الصادم يجثم في المركز، لكن لكلّ منهن حزنها الشخصيّ أيضًا. تستعيد فيه أحبّتها الذين رحلوا وأشياءها التي رحلت في عزّ حياتها ونفسها التي سترحل عاجلًا أم آجلًا. وفي هذا الرثاء المفتوح على النفس وعلى الآخرين مساحة لا تتكرّر. لا يمكن لنا أن نختبرها في محفل الرّجال ولا يمكن للرجال أن يختبروها ما داموا رجالًا، كاظمين للحزن، صموتين، أشدّاء، صلبين، متوكّلين على الله، متفرّجين بحياد على القضاء والقدر وهو ينهش أحبّتهم نهشًا.

أحاطني من كلّ جانب خوفٌ من فقدان ذكرياتي معه، من فقدان وجهه وصوته وصُورته. وراح الخوف يسري في أطرافي مثل مخدّر ثقيل. أنفصل عن محفل النساء وأذوي بذاكرتي الضاوية حتّى أسترجع ذكريات أخرى؛ أبعد من الذكريات القريبة المرتبطةً بأشكال الوعي المُسبق بالموت الذي يريد الجميع أن يلصقه بأبي بالقوّة «كنّه كان حاسس» أو «كان يودّع». وعلى الرّغم من اعتقادي بأنّ في هذا الكلام صحّةً عالية إذا ما تطرّقنا إلى قدومه إلى حيفا وقضائه هذا الوقت السّعيد معنا وخطو قدمه الزّاحفة، إلا أنّ هذه التعابير أغاظتني كما لو أنّها شهاداتُ زور. فتلك التلويحة وهذه المحادثة وتلك الزيارات لم تكن سوى روتينًا يوميًّا خلقه أبي الاجتماعيّ، كثير السّؤال عن الآخرين، الذي لا يجفى صديقًا أو قريبةً. لُذت بالغرف الداخليّة عشرات المرّات، وبقلم الرّصاص ذاته رحت أدوّن هذه الأفكار كأنّها ستفرّ منّي. الذكريات التي تتكاثف أو تلك البعيدة التي تتبدّد فجأةً، لا تسعف الفراغ الفيزيائيّ الذي يأخذ بالتوسّع، ولا السؤال الذي يأخذ بالتمدد: وين راح؟ 

المعركة الأساس هي على الوجود. هو المبتغى الذي لن يتحقق إلى الأبد. هو الذي على وجودي أنا أن يقتنع بغيابه، غيابه الذي سيتحوّل شيئًا فشيئًا إلى أمر طبيعيّ أو ربّما شديد الطبيعيّة. أجوب البيت والساحة والحديقة، ألمس الدرابزين الذي يصعد وينزل السلالم، فارة الكومبيوتر، علبة الدواء، القميص الأخير المعلّق وراء الباب، الهاتف النقّال، ألمسها وأنتظر، كأنّ شيئًا سيحدث، كأنّ شيئًا منه سيُلمس، شيئًا سيعود، لكن لا شيء يحدث من هذا ولا ذاك. يتّضح أنّ هذا اللمس يشبه لمس أيّ شيء آخر. وهمٌ عملاق يحاول أن يتشبّث بقطعة جماد صغيرة.

عكّازه ذات العيون الثلاث تقف خلف باب الغرفة. عند كلّ نوبةٍ أدخل فيها من أجل القبض على ذكرياتي الهاربة أرمقها فأقف فوقها لدقائق. ألمسها فلا ألمس أبي. أُبقي يدي فلا تجيء يده. أغرق وجودي في بدنها فلا يطلّ بدنه. لقد فشلنا أيّتها العكّاز الرؤوم. ماذا فعلنا بأبي الذي كان يتوكّأ علينا. هل مددتِ له يدًا أو عينًا في غيابي قبل أن يطير ويرتطم بالأرض؟ سلّمتك أمره وقدمه وقامته. ظننتني أنت. ظننتك أنا. ماذا ترقب إذن عيونك الثلاث؟ هل ترقب الحياة أم الموت يا دجّالة؟ النيابةُ لا تمنع الموت. ها هو الأمر ينتهي وها هي القدم التي نُبتِ عنها تروح وتزحف عند ربّها. والآن يتوكّأ عليك العدم. تتوكّأ عليك أيدي الماضي الذي مرّ من أمامنا مديرًا قفاه دون رجعة. وأنا كذلك. مثلك أقف دون جذعٍ أو أغصان. مقطوعةً من أصلي ومن فصلي. وراء أبواب الحياة سأصفن إلى الأبد. وبعيوني الثلاث سأتأمّل فراغًا وأشياء لا تحدث سوى في مخيّلتي المسفوعة بالموت.

توقّف عبد الباسط عن الترتيل. وتوقّفت النسوة عن ذكر محاسن أبانا وطيبته وضحكته المجّانيّة. وتوقّفت أنا عن قول: «تعيشي» و«الله يسلّمِكْ». حان الوقت الآن لفهمها لا لقولها. فهمت أمّي من خطبة المواعظ أنّ عليها أن تقضي «العدّة»؛ عليها بأربعة شهور وعشرة أيّام دون أن تخرج من البيت. لم أفهم أنا. ولم تفهم أختاي أو أخي. 

شكرت أبناء العمّ وأبنائهم الذين استقبلوا المشيّعين وقاموا بالواجب. ناداني عند الليل خالد ابن عمّي، الأقرب إلى أبي -الذي تولّى ترتيب الأمور التي ظهرت على أكمل وجه- لأشكرهم، ففعلت. بانت عندها حفرة غيابه. كان عليه هو أن يشكرهم بنفسه. أكاد ألمسه وهو يقول ما يقول. أكاد أسمعه. رحلوا هم. وجلست أنا في ساحة البيت مع من تبقّى من أفراد العائلة المصغّرة. الخطاطيف ما زالت في الأرجاء. حركتها أكثر نعومةً وصوتها خفيض هذه المرّة. عساها أُنهكت من الدوران والغداة والمجيء والزّعيق في النّهار.

منامات سوسن لا يمكن الخطو فوقها، هي أشبه بأمكنة موازية تبدو أكثر حقيقيّة من العالم المشوّش المرئيّ، تبدو أكثر أمانًا من أحناك الوقت المفتوحة على الموت والأسى. أفكّر في منامها عن أبي وأنظر إلى مجموعة خطاطيف تقف فوق السلك فوق رأسي. أحدها كان هادئًا. يقف ببطنه المكوّرة ويصفن مثلي. قلت له: إن كان أبي فيك فعلًا، أعطني إشارةً. طار رفاقه وظلّ واقفًا. مرّت نصف ساعة ولم يحدُ عن مكانه. غادرت الساحة وعدت. كان لا يزال في مكانه.

ثمّ مرّت ساعةٌ إضافيّة ولم يتزحزح قيد أنملة. ذهبت إلى النوم وتركت الخطّاف واقفًا في مكانه. 

تذكّرت صديقًا نادى حمامة وقفت في حديقته، أخذت تدير رأسها باتجاهه، فاعتقد بأنّها أمّه. وصديقةٌ أخرى ماتت أمّها فحامت بعد موتها فراشةٌ لأيّام في غرفتها. وأخرى ماتت أمّها أيضًا، فظلّ خطّاف يطير عند حوضٍ من الزرع ولم يبرح البيت لأيّام بعد الدفن. حتى أنّ سوسن، أخبرتني مؤخّرًا، بحومان فراشة تحت شبّاكها بعد أن ماتت ابنتها شيران في الرابعة من عمرها. الإيمان بالفراش كإشارة من الأموات بعد الموت هو إيمان واسع الانتشار. دراسات كثيرة وثّقت اختبار أناس لهذه الإشارات بعد وقت قصير من موت أحبّتهم. ويقال في الفراش بأنّه يرمز إلى إعادة الولادة والانبعاث بسبب تحوّله من يرقة إلى فراشة.

رحت أتقلّب وأنا أفكّر بأنّ هذا الخطّاف رأى كلّ شيء؛ من لحظة وصول الكيس المحشوّ بأبي حتّى لحظة سحوله في القبر. أنا أكيدة، سواءً كان أبي طائرًا أم روحًا هائمة، بأنّه شهد جنازته المهيبة وتفرّج على الحبّ المكنون له. ربّما تطير إلينا هذه الكائنات، ذوات الأجنحة، لتسلّم لنا رسائلهم الأخيرة؛ بأنّهم موجودون. مقنع. لكنّ إيماني المطلق بالتقمّص سيجعل معنى ظهور الخطّاف -الذي يُدعى خطّاف المخازن- مخزنًا عظيمًا لطقم أفكاري الآتية عن موت أبي.

وفي صباي وقعت دفعةً واحدة في الإيمان بالتقمّص لمّا بدأت أسمع قصصًا من أصدقائي الدروز في فلسطين وفي الجولان السوريّ المحتلّ. وكنت، منذ أن سمعت القصّة الأولى، أتقهقر، فأصدق ما يقال لي، فاصلةً بين الدين والمعتقدات الماورائيّة، فالأول لم يصنع هذه، إنّما شحذ منها ما يمكن شحذه لإغواء الناس بحياة رغيدة أو بعدل إلهي بعد هذا الشّقاء على الأرض. سمعت القصص من علمانيّين مثلي، ومن أصدقاء أثق بهم، كانوا شاهدين على مرويّات نُطق بها، منها مرويّات عن حيوات سابقة تمّ التحقّق منها؛ أيّ تسنّى للناطق بحياته السابقة أن يتعرّف إلى عائلته الأولى. مرعب.

مع أبي على شاطئ حيفا (2018)
مع أبي على شاطئ حيفا (2018)

كان السنونو الإغواء الوحيد الذي يجعل من الغياب فكرةً ملموسة. وإن لم أرتق بعدُ، بانفتاحي الرّوحانيّ، إلى الإيمان بالفسخ. إلا أنّي مستعدّة لذلك. كلّ ما في الأمر أنّنا لم نلتق هو وأنا وجهًا لوجه. أنا جاهزةٌ لأيّ معتقد يجعل ارتفاع السّقوط أرحم. 

وربما يكون التطبيع النهائي مع الموت هو الحل. لكني بعيدة الآن عن هذه النقطة الزمنية التي يتحدث فيها من فقدوا أحبتهم قبل سنين بنبرة الخبراء. كما أن التقمص، القشة التي أتعلق بها من الغرق، لا يلغي الحسرة المتأتّية من مجهوليّة المصير. ولا تنحسر معه الاحتمالات اللانهائيّة التي ذهب أبي صوبها. ولا تُغلَق، بعد الإيمان به، الحسابات المفتوحة مع الموت. في زيارة السنونو الموسميّة غياب يُضاف إلى غياب الجسد وانتظارٌ يُطيل الانتظار. نحن نريد ما يُميت حيويّة هذا الانتظار القاتل. نريد ما يجعل الموت لطيفًا. لا زلتُ أشعر بأنّ كلّ ما حصل هو حادثٌ عرضيّ؛ محطّة مؤقّتة، سرعان ما ستعود الحياة إلى ما كانت عليه. وأنّ هذه الدوخة التي أحدثها ارتطام وجه أبي في رأسي ستستكين عاجلًا أم آجلًا. ويعود أبي واقفًا، بقدم زاحفة أو مشّاءة، لا يهمّ، لكن واقفًا أمام ناظريّ.

 

*


يمضي الوقت ببطء وتستكين الدوخة ببطء أشد، استكانة صنعها الحديث العادي مع العائلة، والحديث المعمق عن الموت مع آدم ورسّختها رحلة قصيرة إلى مهرجان شعري في المكسيك. لم أخرج من هناك بعلاقات بشريّة أو شعريّة تُذكر، بل بدمية. اسمها «الجمجمة الأنيقة كاترينا» ولقبها «سيّدة الموت». تقف سيدة الموت بصدرها المرفوع وقاماتها الممشوقة وثقتها بحياتها النابضة بالألوان بعد موتها أيقونةَ «يوم الموتى» الذي يحتفي فيه المكسيكيّون بموتاهم. المهمّة مهمّتها الرئيسيّة هي الحفاظ على عظام الأموات.

ها هي تقف قبالة وجهي فوق مكتبي، تلبس فستان سواريه أسود وتضع قبّعة أرجوانيّة كبيرة مزيّنة بوردة خضراء، وأقراطًا ورديّة، ولا تنظر إليّ. لا يهمّ. فأنا أستطيع أن أتحكّم بجمجمتها وأن أديرها في  كلّ الاتجاهات. لكنّي لا أستطيع التحكّم بجمجمتي، لا أستطيع أن أقنع نفسي بأنّ موت أبي هو جزءٌ طبيعيٌّ من حياته، أو حياتي. فتعود هي وترمي في وجهي مونولوجاتٍ لا تنتهي عن عاديّة الموت، وعن أنّ المشكلة ليست كامنة فيه، بل في الحياة التي تسبقه. الحياة هي التي تصنع الفرق الأعظم. هي التي تجعل الموت يبدو عجوزًا يثير الشّفقة أو شابًّا فتيًّا يُسدل ستارة الحياة من ورائه ويبتسم. 

شكل الموت حياديٌّ وتفاصيله ثانويّة. كان يمكن أن تقتل أبي قدمه الزّاحفة، ترميه في الفراش، ثمّ تقتله بالعجز، فلا تتنافس قدمه مع قلبه الذي قتله بنفس الإصرار والعزيمة. تخرج من فم كاترينا حِكمٌ أكبر من أبواب حزني التي تضيق وتجعل دخول الفهم مستعصيًا. ثمّ إنّها تبدو مبتهجة فعلاً. ومرحّبة بهذا الاحتفال الوشيك. يمكنني أن أشعل احتفالًا كبيرًا في حديقة البيت غدًا وأدعو أبي إليه. 

لكنّ أبي لا يرقص. وُلد كهلًا. لا أذكره إلا كذلك. وفي المرّة الوحيدة التي لعبت فيها معه في طفولتي المبكرة ضربته بعجل بلاستيكيّ صلب على رأسه فداخ. ولم يتساير الغضب عن وجهه حتّى مات. كان ضحوكًا بمستويات هستيريّة لكنّ عقدة الحاجبين هناك منذ تلك اللحظة. ثمّ انحسرت طقوس اللعب بطقس واحد متكرّر؛ يمسك هو يديّ وأنا أخطو فوق رجليه حتّى خاصرته كأنّه شجرة. يقف ويثبّت جذعه ويمدّ أغصانه كي أتسلّقه وأقطف من أبوّته ما تيسّر. أبي لا يرقص. ولد شجرةً صلبة الجذع ويتيمة. 

«الجمجمة الأنيقة كاترينا»، مثله، لا تتعب من الوقوف على الرّف. ولا من محاولة إقناعي. أبي سيرقص في حفلة موته، لأوّل مرّة في حياته، سيرقص.

أبي يطل على بحيرة طبريا (آدم زعبي، 2017)
أبي يطل على بحيرة طبريا (آدم زعبي، 2017)

*


كان لا بدّ لبداية قناعتي بالموت كضرورة، أن تقابلها محاولات نبش أخيرة في ظروف موته. هي أقرب إلى الهذيان منها إلى التفكير. أجلس فوق الكنبة في صالون البيت. مخيالي يتوجّه نحو جسده، الآن، ويتفوّق على أسئلتي التي استفهمت أحوال النوبة القلبيّة والارتطام. أين هو الآن؟ أين لحمه ودمه؟ فوق هذه الكنبة بالضّبط، جلستُ ليلة موته مثل حيّة محنّطة، بعد أن وصلنا إلى البيت وتركنا أبي مرميًّا مثل جهاز لا يعمل فوق سرير المستشفى. ربّما في ذلك الوقت كان قد صار موضوعًا في الثلاجة. الثلاجة. كيف لم أفكّر في الأمر قطّ؟ الثلاجة! المكان الفيزيائيّ البسيط الذي كان من الممكن التفكير به بمعزل عن حسابات الفهم والصدمة والاستيعاب؛ التفكير به على أنه الدليل على الموت. لكن كيف يمكن التفكير، خلال السقوط في الحفرة التي بلا قاع، بالثلاجة، بالحرارة المنخفضة وهي تزيده موتًا. وهي تنجز على أوردته وجبينه الدافئ ودماغه. دفعني التفكير بالثلاجة إلى التفكير بالقبر. فأنا لم أفكّر بجسده البتّة. ليست عندي أدنى معرفة بالأشياء التي تمرّ على الجثّة تحت التراب.  

من الأسهل إحالة الخيال إلى مرحلة العظام، إلى المرحلة الناشفة تلك، عديمة الحياة والشكل والرائحة. حيث كلّنا نتشابه. كلنا نصير شيئًا واحدًا في متحف الأنتربولوجيا الكبير بعد آلاف السنين. نسخة منقّحة قليلاً عن الهومو سيبيان. أبي سوف يشبه جارنا أبو مدين وجدّي وصديقه الحميم أبو عاطف، حتّى أنّه سيشبه عمّته نجمة. إحالة الإدراك إلى العظام تجعل من الموت أمرًا لا يُختلف على عاديّته، وعلى كونه حقًّا، كما تردّد النساء المشيّعات.

لو أنّ أبي مات في المكسيك، كانت ميكتيكاسيواتل، أو نسختها الحديثة «الجمجمة الأنيقة كاترينا»، ستحافظ على عظامه. لكنّي لست في مرحلة العظام بعد. هناك طبيب يُدعى ميز حصل على جائزة لإثباته بأنّ علامة الموت الوحيدة هي التعفّن. هناك معلومات دقيقة وسهلة المنال في جوجل عن تعفّن الجثّة قبل الوصول إلى مرحلة العظام. وهي معلومات مجزّأة على شكل مراحل، تقنيّة وجافّة ولا تخرج منها أيّة مشاعر. لكن قراءتها بعثت فيّ رعبًا فاق كلّ رعب محتمل. فحتّى تلك اللحظة عملت منظومات الدفاع على تفكيك أيّ رابط بين فكرة الموت والجسد الذي كان حيًّا. تصبح فكرة الموت أمام الجسد مجرّدة وليست مشروطة بتحلّله. من الممكن التفكير بغيابه فحسب. لكن الغياب كلمة فضفاضة ولا تعني لكائناتٍ فيزيائيّة شيئًا. إنّها تبدأ عند نفسها وتنتهي عندها، فلا تستدعي أيّ تخييل ماديّ عن التمزّق الجسدي. التمزّق هي الكلمة غير العلميّة التي تختصر جميع المراحل التي ستجدونها في جوجل. القراءة عنه تصوّر أشكالاً أخرى للأعضاء والوجه، أشكالًا شديدة القابليّة على التمثيل البصريّ. والخيال يصبح شعيرات دقيقة في حقل مغناطيسيّ عظيم. هربت من عينيّ أمّي إلى المطبخ، ورحت أنشج في الزّاوية وأقرأ المزيد. وأتخيّل أبي وقد صار مِزقًا، أفكّر بجلده المنسحب، بقدمه الزّاحفة وهي تتحلّل، بيده اليُمنى التي كانت تُشير وتشرح، كيف شكلها الآن يا ربّي؟ أنا دلو مثقوبٌ هوى في بئر الأسى. كيف سأنتشلني من هذا القاع الذي ارتطمتُ به، بعد السقوط في أرض المشفى التي صارت ثقبًا أسود في الزّمن، منذ أن ابتلعتني فأصبحت كائنًا وضيعًا في جوفها. 

اتصلت بآدم: «قل لي شيئًا. أي شيء.أيّ شيء يُنسيني أبي». أخذت نفسًا عميقًا. أغمضت عينيّ. تخيّلتني أقود سيارتي الباردة في أحد أيّام كانون الأوّل، أبي بجانبي، يلفّ كفّيه على بعضهما، أقبض على يده المتحلّلة لأدفئها. فتغوص أصابعي بأنسجتها المتفسّخة وقنواتها الدمويّة المفتوحة التي تهدر. «ليش هالقد إيديك باردات يابا؟»

فهمت أنّ لا فائدة تُرجى من مفاوضات السلام هذه. أنا بنتُ ثقافة لا ترى في الموت شيئًا جميلًا. لا ترى فيه محطّةً ولا انتقالًا لحياةٍ جديدةً ولا احتفالًا بالحياة. عبثًا أفتّش في تواريخ الحضارات عن فُسحةً للإيمان والمعتقد المختلف، حتّى يصغر ذاك الثقب الأسود شيئًا فشيئًا، وحتى تصغر كتلة الدم المتخثّرة التي قتلت أبي. كنّا سنحتفظ به محنّطًا في البيت. قد يعيش معنا ثلاثين سنةً إضافيّة، يشاركنا فطوره المحبّب؛ بيضتان مقليّتان مقلوبتان على وجهيهما، خيارة، حبّة بندورة، والكثير من زيت الزيتون الذي عصرته أرضه القديمة، والذي كلّما وضعت منه في صحنه، يعترض على كمّيته القليلة قائلًا: «هو إنت جايبتيه من دار أبوكِ؟» نغسل وجهه ونمسح نظّارتيه الجديدتين وننظّف سحنته ومنخاريه من غبار الشرق وعجاج المرج المفتوح. ثمّ سندفنه بعد ثلاثين سنة. بقرار جماعيّ. حين في أحد الأيّام سيصحو مالًّا من فطوره ومن الحياة الترابيّة. حتّى تلك اللحظة، لحظة الملل، سنعتبر أبي، مثل أهل التوراجا، مجرّد مريض ليس أكثر. تخيّلوا، هؤلاء فعلاً يعيشون مع موتاهم المحنّطين. 

إلى التراب يعود؟ لكنّ أبي ليس من تراب. وإن بدأ جسده بالتحلّل. فإنّه من لحمٍ ويُتم وقلب يحنو على الجهات.

أبي ليس اسمًا ماضيًا. دعوني أستمتع بهذه الأيّام التي سأقول فيها بأنّ أبي يفعل ولا يفعل وليس فعل ولم يفعل. لكنّ غوغل وأساطير التراب وأمّي وأهل القرية يصرّون على زجّه في الأفعال الماضية وفي كلمة «حياة» التي صارت فجأةً تسبق اسم أبي؛ «حياة أبو السّعيد». أغاظني الموت الكامن في كلمة حياة.

توغّمتُ من ذاك السّحر الملعون الذي تصنعه كلمة نابضة بالحياة على اسم أبي فتميته شرّ ميتة. أيعقل هذا يا لغتنا الجليلة؟ «إنتِ بنت حياة أبو السّعيد؟»، يسألني أحدهم في المقبرة. «حياة أبوكِ كان يقول وكان يفعل»، تقول أمّي. ما نفعها كلمة حياة هذه؟ ألا يكفي أنّه مات كي نفهم أنّه مات؟ ولمَ لا يكفي اسمه للإشارة إليه. 

تكرار كلمة «حياة»، وفي وقت القرية الممتدّ والبليد مثل أفعى ثقيلة، دفعني إلى الإيغال في التفكير في حياته. أنا ابنة حياته، ابنة حياته بتمامها، ببساطتها التي قد تبدو جاهلة، بفجاجتها ومباشرتها، وبانحيازها للعاطفة. أنا ابنة حياته التي شقّقتها شمس الحقول والفلاحة، ثمّ رمّمتها ظلال رمّانة في حاكورة «عقده». أنا ابنة هذه الحياة المديدة البسيطة، أكثرها مغامرةً مشوار فوق حمار عنيد إلى الناصرة، وأقساها موت أمّه من السلّ وهو في السادسة. أنا ابنة حياةٍ لم أر إلا ربعها، أما الباقي فصار طيّ التاريخ الذي يقرأه المعنيّون بعام 1948. أنا لست بينهم، الآن في الأقلّ، لست بنت تواريخ ولا حيوات شعب. أنا ابنة حياة واحدة، تعود لفلاح قاسي الرأس وحنون. دمعته سخيّة لكنّه يكره عاطفيّة العرب. ظلّ يقول للحياة «لن تلوي ذراعي». ولست أدري إن كان هو من لوى ذراعها أم هي من لوت ذراعه. 

*

 

قرّرنا أنا وآدم قضاء ليلة في الخلاء، قطعنا بحيرة طبريّا من شمالها باتجاه العمق السوريّ، ناحية الشمال الشرقيّ، وجدنا أنفسنا بعد مشوار عسير ومنحوس في قرية مهجرة اسمها «عين الفاخورة». حجارتها السوداء التي تبدو مثل قطع فحم كبت بعد لهيب وحياة عامرة، فتحت عندي شبابيك حزن جديد ومختلف عن الحجارة البيضاء التي بُنيت منها القرى الفلسطينيّة التي هُجّرت عام 1948. الطبيعة ناشفة وقاسية، كلّ شيء حولنا أصفر، نباتات ميتة لكنّها واقفة. على مدّ أنظارنا صفارٌ لا ينتهي، إلا من بقرتين وبعض شجرات الكينا الضخمة والمياه الضحلة التي لملمت حولها النحل والضفادع. أرض بور لم تحظ بشيء من ثلوج قمم الجبال الشماليّة التي تذوب فيخضرّ في طريقها كلّ شيء. وصلنا إلى هناك بعد أن أضنانا البحث عن مكان لطيف نبيت فيه. 

التفكير في الموت في هذا المكان القصيّ يتضخّم، كلّما ازداد السكون بقرب الليل، ازداد حجم الموت. جلسنا وأوقدنا النّار، فيما راحت الحلكة تغطّ علينا. شجرة الكينا المقابلة العملاقة التي بدت أكثر بروزًا وأكثر امتدادًا في الحلكة، صارت وجه أبي، الذي أخذ يتمدّد أكثر فأكثر كلّما أوغلتُ في الخوف من غيابه.

أبي في شارع من شوارع دبورية، أواخر الخمسينيات
أبي في شارع من شوارع دبورية، أواخر الخمسينيات

ليس بالإمكان إدراك التأثير الذي يُحدثه هذا التضخّم سوى على علاقة عاطفيّة تتطلّب منّي، الآن، بعض الانتباه وبعض الطّعام. فهي التي بطبيعتها تحتاج إلى أن تتغذى على الكلام واللمس والابتسام والقرب، ستجد نفسها أمام قلب بور مثل هذه الأرض، جافّ وقاس وبعيد. يذهب نحو لحظة الفزع في المستشفى ثمّ يهرب منها، إلى الغياب الذي دون رجعة فيهرب منه كذلك، إلى الشوق، ثمّ إلى الحكايات التي غافلته الحياة قبل أن يسردها عليّ، فأهرب، ثمّ إلى الحكايات التي سردها ونسيتها، هذا أسخف، فأهرب. هذا الهروب المتكرّر من الأشياء الضخمة التي تركض خلفي سيتركني دون أرض تحملني. وفي هذه الأرض المهجّرة الوحيدة الغاضبة، سيكون حالي أكثر بؤسًا. لا كاترينا ليست هنا، لا تجلس عند جذع الكينا لتقول لي إنّ أبي لم يمت، وإنّه مجرّد مدعو لحفلة الحياة الكبيرة، ليست هنا ببرنيطتها الورديّة لنحتفل معًا بالموت ونقزّمه ونحجّمه ونمنع تمدّده الأشوس هذا. بدت حالي على هذا البؤس إلى أن بدأت حفلة الضفادع النقوقة الصاخبة التي كانت كفيلةً بإضافة بعض الفكاهة والتسلية وكسر جمود الليل وملل الحشائش الصفراء الميتة. 

ظهر اليوم التالي، سافرنا في الطريق الذي يحيط بحيرة طبريّا، من شمالها نحو جنوبها ثمّ شرقها، إلى يسارنا ترقد البحيرة العذبة وتتبيّن أكثر فأكثر بصعود الطرق الملتوية التي تحيطها أشجار النخيل الوارفة والنحيلة. حرارة الغور تجعل المشهد أكثر سينمائيّةً، فبالإمكان تحسّس درجة الحرارة من خلف زجاج النافذة، والشعور بالحاجز الوهميّ الذي تصنعه الدرجات الملتهبة والذي يمنعك من أن تعرج بنقطة ما في الطريق. هذا الطريق الذي سيفضي بنا إلى مطعم 1910 الذي أحضر آدم أبي إليه ليعترف له بحبّه لي. هذا الطريق الذي صار فجأةً تمهيدًا للقائه، سأراه هناك، جالسًا أمام صحن الريزوتّو وفيليه اللفراك، حائرًا، متسائلاً عن عجائب الإنسان المعاصر، من أين يبدأون بأكل هذا الشيء؟ وما العيب في صحن الحمّص والفول؟ 

السيارة تصعد الطرق، وجوفي يصعد للقائه، للتسليم عليه، للزمن الذي سيُصبحُ غائرًا في قِدمه. أشار آدم بيده نحو مرتفعات إلى يميننا. من إحداها طلّ الاثنان إلى المشهد السفليّ، غرزت عينيّ في تطبيق waze لأتبيّن اسم التلّة تلك، ظهرت تلّتان، فحصت إيّهما كانت. أعرف الآن أنّ معرفة التلّة لم يكن ليصنع أيّ فارق، لكنّي بقيت مصرّةً حتّى ضيّقت الإمكانيّات وقلت: هذه! هذه التلّة التي أطلّا منها، التقط آدم عندها صورة لأبي وهو يتفرّج على البحيرة، وخرج أبي بهديّة لآدم هي نبتة شوك كبيرة ميتة لا تزال محفوظة في بيتنا في مزهرية. كأنها ستتفتّح بعد يوم أو يومين، ستمتصّ المياه الوهميّة في المزهريّة على مهلها وتورق وتخضرّ. وأنا كذلك، سأورقّ بعد قليل، سأصل إلى المطعم وأقبّله ثمّ يقبض على يديّ كعادته بعد السلام ويتكلّم وهو يحتجزني قريبةً من وجهه. وصلنا إلى المطعم وطلبت، دون معرفة مسبقة بأنّه طلبها، وجبة الريزوتّو وفيليه اللفراك. 

ذكرياتي القليلة من مشاوير ترفيهيّة مع أبي كانت في بحيرة طبريّا. كانت يومًا، أو ربّما لم تزل، ملاذ الفلسطينيين أهل الشّمال شبه الوحيد، أفقهم المفتوح شبه الوحيد، بعد ساحل حيفا. على نحو ما، تذكّرني المدينة بأبي. أنا لا أعرفها حقّ المعرفة. لكن مجرّد ذكر اسمها، طبريّا، تتراءى لي أشياء من عالم أبي القديم وأرى هوّة سحقية تفصل بين عالم شبابه وعالمه الحاضر. فعينا هذا الرّجل فُتحتا على حياةٍ بدائيّة تجرّها الحمير في ظلمة القرية الحالكة نحو مروج الحنطة، تتفرّجان اليوم على جهاز عجيب إن ضغطت على زرّه تدخل شيئًا اسمه الانترنت، هناك تجد العالم كلّه. أبي لم يكن يفرّق بين الإنترنت والجهاز. لكن هذا شأنٌ آخر. 

نفس هذه الهوّة مرّت بالزّمن الخاصّ بطبريا. هوّة من انحطاط حضاريّ شامل. فالمدينة العريقة التي تأسست قبل ألفي عام أصبحت واحدة من أرخص بؤر السياحة الداخليّة الإسرائيليّة. والبحيرة المقدّسة التي مشى المسيح فوقها أصبحت المكان الذي يغرق العرب فيه خلال رحلاتهم الاستجماميّة في الأعياد. لكنّها عند أبي، وإن فقدت رونقها في الواقع، تظلّ مكانًا جديرًا بالزيارة. 

تركنا طبريّا وسافرنا غربًا نحو دبورية. قلت لآدم إني أرغب في زيارة المقبرة، أقصد في سقاية القبر. أزور القبر لأهتمّ باللافندر والعطرة والخبيزة. لا أقرأ الفاتحة. لا أنادي أبي أو أكلّمه. كلّ ما يربطني بهذه الحفرة الترابيّة مظهري ومادي، أن تتأنق النباتات وتُزهر، وأن يكون القبر نظيفاً، فيليق بمكانته الاجتماعية وحبّ الناس له. 

صحيح أنّي تأثّرت حين قرأت اسم أبي منقوشًا على الشّاهد، وحرصت على أن يكون القبر مُتقنًا، لكنّ ذلك كان أقرب إلى مجاراة العادة وإنشاء قبر يليق بمكانته الاجتماعيّة وحبّ الناس له. فجعلت اسمه بخطّ صديقي الخطّاط أحمد زعبي وجعلت النّقش يدويًّا بالإزميل. أمّا الحجارة قديمة كان نقلها أبو آدم من جبال القدس إلى أرضه في جبل القفزة في الناصرة قبل سنوات، فجئنا بها إلى هنا وبنينا القبر.

وكان لجلب هذه الحجارة إلى دبورية قصّة تاريخيّة، فقد حمّلنا سيارة تندر قديمة وزرًا فاق قدرتها، وتسبّبنا بأزمات سير جديّة في مدينة الناصرة بعد أن قرّرنا الدخول بالتندر المحمّل إلى قلبها لنأكل الكنافة المحبّبة على قلوبنا. فكان ذلك احتفاءً خاصًّا بالنصر بالحجارة وبالأب الذي ينتظر أن يُبنى قبره بما يليق بالنّهار والنّاس.

جميع هذه التفاصيل لم تُشعرني يومًا بأنّ أبي هنا، تحت هذه البقعة من التراب. وقفت فوق القبر بعد أن سقيت الزرع. أفكّر بالماء التي تغلغلت فيه وسحلت إلى داخله. وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ. لكنّ أبي لن يحيى. الكفن الأبيض العجيب حيّ يُرزق. لكنّ الجسد مجهول الشكل والرائحة. 

لو أنّي رافقت أبي في نزوله في قبره، لكنت وفّرت على نفسي عبء البحث عنه في بيوت الناس وفي صدور الطيور. لو كنتُ رجلاً، كنت سأتذكّر في كلّ مرّة آتي إلى هنا كيف أنزلتُ أبي إلى قبره بيديّ وكيف هيّلت فوقه التراب بيديّ، وكيف صنعتُ ميتته الحقيقيّة. 

أتلمّس من مرافقة آدم لي إلى المقبرة بأنّه يُشفق عليّ. ينظر إليّ بأسى كأنّي بإطلالتي على النباتات أطلّ على وجه أبي. لكنّي لا أكترث البتّة لكومة التراب هذه. ولا أستطيع أن أتصوّر أنّ مجموعةً من الرجال وقفوا فوق هذه البقعة في يوم ربيعيّ نضر وهيّلوا التراب فوق أبي. ليست عندي معطيّات كافية لأنجز هذا التصوّر. ثمّ إني لا أعرف من حمل ومن أنزل ومن هيّل. 

ليس بعيدًا الزمن الذي نزلت فيه النسوة في دبورية إلى المقبرة مع الرّجال. لا يهمّ إن كنّ يقفن إلى الوراء قليلاً. أعني أنّ الوقوف إلى الوراء لم يكن ليحجب عنهنّ الرؤية، أو التصوّر في الأقلّ؛ تصوّر أحبتهنّ وهم يسحلون في التربة. 

تقول النسوة في دبورية إنّهن مُنعن في يوم وليلة من النزول إلى المقبرة. قتل حادثُ سير فضل إبراهيم؛ صديق أبي وأخ ماما ديانا، وأربعة من أصدقائه في ستينيّات القرن الماضي. تقول أنيسة الكردي، جارة أخت ماما ديانا: «تنزل البلد ورا أربع ميتين بزفّة؟ لأ. كل مَرَة تضلّ بدارها». وربما نطق هذه الكلمات رجل وظلت تتردد على ألسن الرجال، ثم النساء، حتى توقفن عن مرافقة الموتى إلى التراب.

الفناء الخلفي للبيت العائلة في دبورية (أسماء عزايزة، 2020)
الفناء الخلفي للبيت العائلة في دبورية (أسماء عزايزة، 2020)

أما أنا فسوف يعصى عليّ التصوّر حتّى وإن مشيت وراء النّعش في ذلك اليوم الرّبيعيّ إلى المقبرة. كُنتُ سأبحلق في السّماء، في بدن السنونو الذي رأيته في الساحة ولحق بي بذيله المقصوص إلى المرج. كنت سأشعر بفتور حيال أبي الفارغ ومحاجره التي لا ترى. فأراه وهو يتفرّج علينا ويقول: يا حوينتك يا أبو السّعيد. ويبتسم. تلمع نظّارته ويلمع قلبه وتنتابه راحة أبديّة، فيما تنقطع خيوطه الغليظة مع الحياة الفانية. لكنّ الجسد، برغم هذه القناعة، يشدّ البصر ويظلّ في مركز الإدراك والسّؤال. أليست تُقرأ أرواحنا عبر أجسادنا.

يظلّ السؤال الذي يثيرني مرهونًا بإمكانيّة أن يعود هذا المرء الميّت من الموت ليخبرنا عن مشاهداته. تتحقّق هذه الإمكانيّة في حالتين؛ الأولى إذا نطق المرء بحياته السّابقة، فيتذكّر شيئًا من مشاهد لحقت موته أو مشاهد من جنازته -كما حصل مع روف سيمونز. والثانية أن يختبر الموت الوشيك، ثمّ يعود إلى الحياة بطريقة طبيعيّة أو جهود طبّيّة كعمليّات الإحياء والإسعاف فور توقّف القلب. هذا ما حاول الأطبّاء فعله مع أبي. أعطوه حقنة أدرينالين حتّى ينبض قلبه، فنبض. لكنّ الرّئة والقلب رفضا في ما يبدو الانصياع لهذه المواد الكيميائيّة. ربّما سأعرف في القريب معلوماتٍ أكثر دقّة حين أحصل على التقرير الطبيّ من مشفى العفولة. 

لا شكّ بأنّ قناعتي بوجود إمكانيّة مشاهدة الجنازة بعد الموت تنبع من قصص شخصيّة قرأتها عن أشخاص اختبروا التقمّص، وقصّة واحدة في الأقلّ سمعتها بأمّ أذني من أحد أصدقائي الدروز الذي يذكر تحلّق عائلته حول جثّته بعد موته. بل قال ما هو أشدّ إثارةً من ذلك؛ قال إنّه تذكر زوّار قبره بعد أن دُفن. لكنّه لم يذكر إن كان الأمر دعاه إلى الفزع أو الحزن. ربّما نسي كيف كان شعوره في تلك اللحظة. 

إنّ تخيّل الجنازة أو الموت هو أمرٌ طبيعيّ نفعله كثيرًا في يقظتنا. في محاولة لإثبات محبّة من حولنا، من خلال تصوّر خوفهم من فقداننا ونحيبهم على فراقنا. أدّعي بأنّ معظم الناس تخيّلوا أنفسهم ميّتين، أو تهيأت لهم الطريقة التي سيموتون فيها، وتلك التي سيكتشفُ فيها المحبوب موتهم الفجائيّ فيغيب صوابه ووجوده. أنا مثلاً تغريني نصوص النعي كثيرًا. فأجتهد في يقظتي وأنا أكتب نصوصًا تنعيني، بعضها جميلة وأخرى ركيكة يكتبها الأصدقاء والأحباب. كما أنّني كثيرًا ما ألبست نفسي كفنًا وتصوّرت شكل وجهي مع الكفن وهو يغطّي شعري المتموّج الطويل. منذ أوّل مرّة رأيت فيها رأسًا مغطى بالكفن، أصبحت قدرة التخييل عالية جدًا، ذلك لأنّي أرى جميع من يلبسون الأكفان شخصًا واحدًا. يقلّ لحظتها منسوب بشريّته ويزداد منسوب فقدانه.


 

* * * 

«حذف وإضافة» سلسلة عن الأدب وتحريره، نصوص ومسوداتها، وتعليقات تحريرية عليها وحلقات بودكاست عن معمعة الكتابة وتطويرها، يتعاون فيها المحرران، أحمد وائل من «مدى مصر»، وزينة الحلبي من «مجلة فَمْ»، في الإضاءة على ما يُسمّى بالتحرير الأدبي، ذلك «السر» الذي ليس بسر، لكنه أمر مُنكر ومسكوت عنه ومغضوب عليه في الكتابة العربية لكنهما خاضاه بحب وإقدام، ولم يكونا وحدهما، بل دعيا كاتبات وكتاباً للّعب معهما. يلقي هذا المشروع الضوء على تقنيات الكتابة والهواجس المرافقة لها، وعما يدركه المحرران عن كتابتهما خلال عملهما على نص ثالثهما، وعن الكتابة ليست بوصفها إلهامًا، بل عملية مستمرة قوامها المجادلة في الرؤى الدرامية التي يتخللها الحذف والإضافة.

Contributor
أسماء عزايزة

شاعرة وكاتبة ومحررة. صدرت لها أربع مجموعات شعريّة أحدثها «الجسد الّذي تسلّقتُه يومًا» (الدار الأهليّة). حصلت مجموعتها الشعريّة الأوّلى «ليوا» على جائزة الكاتب الشاب في حقل الشعر من مؤسسة عبد المحسن القطان عام 2010. صدرت مجموعتها «لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب» (المتوسط، 2019) باللغتين الهولنديّة والسويديّة، وستصدر هذا العام بالفرنسية عن دار زيم في مارسيليا. كتبت تجربتها النثرية الأولى في كتاب مذكرات بعنوان «عام المتحاف الصغيرة: مذكرات ابنة» (2024).

Share Post
Written by

<p dir="rtl" style="text-align: right important!;"><span style="font-size: 14pt;"><span style="font-size: 20pt; font-family: Tajawal, arial, helvetica, sans-serif;"><span style="font-size: 14pt;">شاعرة وكاتبة ومحررة. صدرت لها أربع مجموعات شعريّة أحدثها «الجسد الّذي تسلّقتُه يومًا» (الدار الأهليّة). حصلت مجموعتها الشعريّة الأوّلى «ليوا» على جائزة الكاتب الشاب في حقل الشعر من مؤسسة عبد المحسن القطان عام 2010. صدرت مجموعتها «لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب» (المتوسط، 2019) باللغتين الهولنديّة والسويديّة، وستصدر هذا العام بالفرنسية عن دار زيم في مارسيليا. كتبت تجربتها النثرية الأولى في كتاب مذكرات بعنوان «عام المتحاف الصغيرة: مذكرات ابنة» (2024).</span></span></span></p>

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.