في حين غادر إيران زملاء له، رفض هو مغادرتها بعد الثورة الإيرانية مفضّلًا البقاء في وطنه، حيث بيته وحارته وذكرياته. ظلّ في داره القديمة شمال طهران، داره المنزوية في ظل مبانٍ عالية وباردة، صامدة كصاحبها في وجه الهدم. ومن هناك، أنجز عباس كيارستمي، شاعر السينما وفيلسوفها، أجمل أفلامه.
في الرابع من شهر تمّوز، ستمرّ سنواتٌ أربع على غياب هذا الفنان المعلّم (1940-2016) الذي قدّم تعريفًا جديدًا للسينما، وتلمّس، بلغةٍ بصريةٍ متأملةٍ وحساسة، مستوياتٍ عاليةً من المشاعر الإنسانية، لغة سينمائية تقترب من الواقعية الإيطالية الجديدة وسينما المؤلف الفرنسية، وتجد مصادرها في قلب الواقع اليومي والشعر الفارسي، وفي علاقة الإنسان مع الطبيعة بدلالاتها الوجودية والشعرية.
وُلد عباس كيارستمي في طهران ودرس في كلية الفنون الجميلة، وفي نهاية الستينات عمل في "كانون" مركز التطوير للأطفال والناشئين الذي أسسته الإمبراطورة فرح ديبا. كانت "سينما الطفل" قد بدأت حينها في إيران، بغرض تجنّب الرقابة، من قِبَل مخرجين كانوا يسعون لسينما جديدة مغايرة للسينما التجارية السائدة في عهد الشاه. حقق صاحب "طعم الكرز" مع المركز عدة أفلام وثائقية قصيرة وطويلة قبل ظهور تحفته السينمائية الروائية "أين بيت الصديق" (1987) الذي قال عنه المخرج الياباني العظيم أكيرا كيروساوا: «كنت أودّ لو أخرجت فيلمًا كهذا».
الفيلم مستوحى من الشعر، الذي هو ركيزة أساسية في الثقافة الإيرانية، وتحديدًا من أبياتٍ للشاعر الإيراني سُهراب سِبِهري ( 1928-1981)،
ستسمعُ في صفاءِ الفضاء السيّال، هسيسا
سترى طفلا
تسلّقَ سروةً شامخة، ليُخرجَ فرخا
من عشّ النور
وتسأله:
"أين بيت الصديق؟"*[1]المسافر" منشورات وزارة الثقافة في سورية، ترجمة غسان حمدان
هناك صبيٌّ يبحث عن منزل صديقه ليعيدَ إليه دفتر الواجبات المدرسية الذي وضعه في حقيبته بالخطأ. لن يكون بوسع الصديق كتابة الفرض دون هذا الدفتر، وسيتعرض بلا شكٍ لعقوبة المعلم حين يصل إلى المدرسة في اليوم التالي. لذلك، سيحاول الصبي البحث بشتّى الطرق عن منزل الصديق الذي يقع في مكانٍ يجهله. حكاية جدّ بسيطة، لكنها عميقةٌ بمعانٍيها، حافلةٌ برموز رحلةٍ روحيةٍ لاكتشاف الذات واكتشاف المجهول، مشغولةٌ بأسلوبٍ متقشفٍ وحسٍّ شعريٍّ قلّ نظيره في السينما.
لفت الفيلم الانتباه إلى كيارستمي عالميًا، معه "أدركنا فورًا أن مخرجًا كبيرًا قد ولِد" كما قال الناقد الفرنسي آلان بيرغالا. كيارستمي الذي كان قد أنجز حينها أكثر من عشرين فيلمًا قصيرًا ووثائقيًا معظمها لمؤسسة كانون، يعود بعدها في وثائقي "الفرض المدرسي" (1990) إلى ما اعتبره العنف المتحول إلى روتين الواجب المدرسي، هذا الواجب أو الفرض الذي كان محرّكًا ودافعًا لبطله الصغير في "أين بيت الصديق؟". الوثائقي عبارة عن مجموعة مقابلات مع عدة تلاميذ لكشف الغطاء عن مفهوم العنف بأسلوبٍ قصصي، باعتباره متجسدًا كمعيارٍ في قضايا الأخلاق والمسؤولية. اعتُبر فيلمه "أقوى تفكيكٍ لبنية الديكتاتورية في مستواها الأولي، المستوى الذي يتعلم فيه الأولاد ثقافةً يُفهم فيها "العقاب" فهمًا تامًا، في حين أنّ "التشجيع" لا معنى له" [2]لقطة مقربة: السينما الإيرانية ماضيًا- حاضرًا- مستقبلًا"، الناقد الإيراني حميد دباشي، ترجمة ومنشورات سلسلة … Continue reading. في نفس السنة أنجز كيارستمي فيلمًا وَضَحَ فيه ذكاء هذا المخرج في استخدام مفاهيم نظرية عن الواقع والخيال والحقيقة والأكذوبة . كان هذا في "لقطة مقربة" (1990) وهو قصة متخيلة قائمة على واقعةٍ حقيقيةٍ بأبطالها الحقيقيين سمع بها كيارستمي. انتحل نّصاب شخصية المخرج الشهير محسن مخملباف لشدة إعجابه به، وحُكم عليه بالسجن حينها. عثر كيارستمي على المحتال وعلى الأسرة التي استغفلها، وصنع هذا الفيلم، حيث تتفاعل الحقيقة مع الوهم ويمتزج الوثائقي مع الروائي.
بعد ثلاث سنوات من تصوير فيلمه "أين بيت الصديق؟" وقع زلزالٌ مدمرٌ شمال إيران تضررت فيه قرية كوكر، موقع تصوير الفيلم. حمل كيارستمي العدة وتوجه مع فريقٍ للتصوير ليرى ما حلّ بالناس، فكان فيلمه "حياة ثمّ لاشيء" (1992) أو "وتستمر الحياة" في عناوين أخرى، حيث تتجاور الحياة مع الموت في لقطاتٍ تُظهر الفرح اليومي وسط الدمار، ويسود منطق الحياة وسحرها اللذان لا يوقفهما زلزال. بدا الفيلم قصيدةً بصريةً في مدح السحر والجمال في ظروفٍ هي أبعد ما تكون عنهما. لكن الفيلم سببَّ لكيارستمي في إيران، بحسب الناقد الإيراني حميد دباشي، انتقاداتٍ حادةً وصلت حدّ التهكم، واتُهم من قِبل نقادٍ إيرانيين بأنه يجهل مقومات الصناعة السينمائية. لم تهدأ هذه النظرة الهجومية والحذرة تجاه كيارستمي وباتت تتضخّم مع كل نجاحٍ عالميٍ له، ولم تخلُ خطاباتٌ لتيارٍ في إيران من اتهاماتٍ بوجود مؤامرةٍ للغرب يسعى من خلالها إلى هدم ثقافة البلاد. لكن كيارستمي الذي هوجم في بلده علّق على الأمر في حوار:[3]كتاب السينما الإيرانية الراهنة ندى الأزهري/ دار المدى بيروت 2012 "لو لم تكن أفلامي ناجحةً في الخارج لربما كانت هناك رؤية مغايرة لها في الداخل" . لكن شهرته العالمية كانت مطمحًا للكثير من المخرجين الإيرانيين الشباب الذي أرادوا السير على نهجه أملًا باعترافٍ عالمي، وامتلأت السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، على سبيل المثال ،"بأشباه" كيارستمي في السينما الإيرانية.
جاء "تحت أشجار الزيتون" (1994) ليُعتبر الثالث في ما أُطلق عليه ثلاثية كوكر. كان كيارستمي قد لاحظ بوادر حبٍ بين شابين أثناء تصوير "حياة ثمّ لاشيء" فعاد إليهما. ومن خلال أداء عفويٍّ وبريءٍ لممثلين غير محترفين، أدخل حكاية حبهما المستحيل في سيناريو امتزج فيه الواقع والخيال، الحلم والحقيقة، الأمنية والتحقق. اعتُبرت هذه الثلاثية التي صُوّرت كلها في قرية كوكر من أفضل أعماله، كونها تستند إلى ما عايشه قبل الثورة وخلال مرحلةٍ اعتُبر فيها كيارستمي في إيران صانع أفلامٍ عاديٍ مع تواجد آخرين حددوا هوية السينما الإيرانية، مثل داريوش مهرجوي وبهرام بيضائي، لكن بعد الثورة بسنوات، أصبح هو "المخرج" بلا منازع.
لقد صُنف كيارستمي في الغرب بـ "روسيليني" الإيراني، وبلغ الاهتمام الغربي بأفلامه ذروته مع فوزه بالسعفة الذهبية في كان عن "طعم الكرز" (1997)، حيث ناقش الفيلم مقاربةً للموت وتساؤلاتٍ عن الحياة والموت في موضوعٍ عبثيٍّ حول رجلٍ يريد الانتحار ويبحث عمّن يقبل بدفنه بعد انتحاره . تتجمع عناصر سينما كيارستمي المُميِّزة له في فيلم "سينما الطريق": من سيارةٍ تجول فوق طرقٍ ملتويةٍ ترابية، ومرتفعاتٍ جرداء، وأناسٍ بسطاء. في فيلمه "ستحملنا الريح بعيدًا" (1999)، الذي جاء بعد تكريم كيارستمي كمخرجٍ عالمي، هناك مهندس يهبط من المدينة إلى قريةٍ كرديةٍ جبليةٍ معزولةٍ مع مساعدين لا يظهرون؛ بل يُسمعون، ويستمر لغز مجيئهم حتى نهاية الفيلم تقريبًا. كان هذا الفيلم آخر ما قدمه كيارستمي من أفلامٍ ذات نزعةٍ "محلية" وصبغةٍ إنسانيةٍ وعالميةٍ في مدلولاتها. أفلام تكرر في معظمها ما يمكن أن يوصف بثوابت في سينماه، أي هذه البساطة القصوى، جمالية الواقع، سيارة سوداء وهي تقطع سهوبًا ومرتفعات جرداء إلا من شجرةٍ أو زاهية باخضرارها، أو وهي تعبر المدينة المزدحمة، أبواب مغلقة أو شبه مفتوحة، نوافذ تتردد منها أصوات لا وجوه لها، أغراض: تفاحة، كرة، بخاخ، عظمة ... تتدحرج. لقد كان قادرًا ، بأفلامٍ دون حبكة، ولقطاتٍ عامةٍ طويلةٍ وحوارٍ محدود، على تحويل حياةٍ يوميةٍ عاديةٍ إلى درسٍ فلسفيٍ وجودي.
جاء فيلم "تن" ( 2002) مخالفًا لما عُرف عن أفلامه من قلة الحوار وعدم التحدث عن الشيء الواقعي، بل الاكتفاء بتبيانه والدعوة إلى التمعن فيه. اعتمد هنا حواراتٍ لا تنتهي، وأحاديث تُسرد فيها حَكايا أليمة وسارة، على امتداد عشرة مشاهد في سيارةٍ تقودها امرأةٌ شابة (مانيا أكبري) ويتوالى فيها عشرة عابرين من ابن وأخت وصديقة أو مجرد عابرة طريق.
مع "تن" بدا وكأن كيارستمي قد استنفذ مواضيعه الإيرانية، فصوّر "نسخة طبق الأصل" (2010) في إيطاليا مع الممثلة الفرنسية جولييت بينوش. بدا الفيلم مخيبًا كأنه كُتب فقط لبينوش ولتصوير جمال المدينة. لكن، لحسن الحظ، فإنّ براعة كيارستمي وسحره وقدرته على مسّ المشاعر بكل رهافةٍ وعمقٍ تجلّت من جديدٍ في فيلمٍ صوّره في اليابان هذه المرة. " كمثل عاشق" (2012) يتناول قصة طالبةٍ جامعيةٍ في النهار وفتاة صحبة في الليل لتوفر مالًا لإكمال دراستها. يطلبها يومًا رجل عجوز لمجالسته، هنا تحدث مفاجآت عدة. عن سبب اختياره عجوز كبطلٍ لقصته قال كيارستمي في حوار مع الناقد الإيراني أميد روحاني، بأنّ الفيلم "قد" يكون مقتبسًا من تجربته الشخصية بالإضافة إلى تجارب آخرين. ولعل هناك سبب آخر، فهذه المقاربة تسمح له بالتهرب من عرض بعض التفاصيل، فلو كانت الشخصية شابًا لاقتضى الأمر مشاهد جنسية، كان باستطاعته بالطبع تصويرها بما أنّ الفيلم لم يصوَّر في إيران، لكن كيارستمي شعر بنوعٍ من الاحتشام، وطبّق بخياره هذا رقابةً ذاتيةً لطالما لازمته في عمله في إيران، كما اعترف.
لم يسلم عباس كيارستمي من النقد القاسي حين عرض فيلمه هذا في مهرجان كان 2012، ولم يشفع له اسمه وتصنيفه كواحدٍ من أهم عشرة مخرجين عالميين معاصرين. لكن هذا الفيلم الرائع بنظر الآخرين، رغم بعض التحفظات، أعاد كيارستمي إلى من افتقدوه طويلًا في أفلامه الأخيرة.
يقرأ كيارستمي الحياة في أفلامه، إذ يرسم العواطف الصامتة في نظرة، ويرى الجمال والحياة وسط حتمية الوجود التي لا تطاق. إنه "أول شاعرٍ بصريٍ في هذه الأمة" كما يقول دباشي.
إنه أحد مراجع السينما الكبار، سيرته مغايرة لأية سيرة أخرى في السينما الإيرانية، لم يكن سينمائيًا فحسب، بل شاعرًا ومصورًا وفنانًا معماريًا وموسيقيًا. كان يقول: "من الصعب القول أني محترفٌ كصانع أفلام، لأنني أقوم بأعمالٍ أخرى كالرسم والتصوير ... السينما هي واحدة من عدة مجالات أنشط فيها".
اعتُبرت قوته في ندرة تطرقه إلى القضية العامة والحياة السياسية، ولم يطقْ الاستخدامات السياسية للتربية أو للفنون نفسها. هو ليس كتلميذيه جعفر بناهي أو محمد رسول أف، إذ نأى بنفسه عن السياسة المباشرة واهتم بالفن، وعبره، ذهب بعيدًا إلى أعماق الإنسان كائنًا من كان وأينما كان. أجاب في حوارٍ[4]المرجع 3 ردًا على سؤالٍ حول موقفه من الثورة الإيرانية : "دفعتْ الثورةُ بالسينمائيين إلى التغيير في نمط الإخراج وفي نوعية الأفلام التي يصنعونها، هذا بشكلٍ عامٍ بالطبع. ولكن فيما يخصني، لم يطرأ أي تحول على أعمالي، ولو حُذف تاريخ أيٍّ من أفلامي، فسيكون من العسير معرفة إن كان الفيلم يعود إلى ما قبل الثورة أو بعدها".
قال في مقابلةٍ مصورةٍ ردًا على سؤالٍ حول الأثر الذي سيتركه على هذه الأرض: "التفكير بأني لن أكون موجودًا يومًا ما لكن أعمالي ستبقى؟ لم أفكر بهذا ... بما أنّ لذتي هي في وجودي وليست في الأعمال التي ستبقى بعدي، فإني أفضل بقائي أنا".
Nada Azhari Gillon
Nada Azhari Gillon is a Syrian-French film critic mainly specialized in French, Arab, and Asian Cinema (ie. Iranian, Indian). She is the author of Al Cinema al-irâniyya al-râhina (Contemporary Iranian Cinema), 2012. She contributes regularly to Arabic-language magazines and newspapers including Al-Hayat Newspaper, Al Jazeera Documentary, Al-Araby Al-Jadeed, and Arab Cinema Magazine.