1.
توقّفتُ عن تعاطي الكوكايين قبل تسعة وعشرين يوماً، لكن حسابي المصرفي ما يزال صفراً. امتنع المصرف عن إعطائي أي قروض أكثر من المتراكمة، ومعارفي وأصحابي رأوا أنّه لا فائدة من الاستمرار في فعل ذلك. ظاهرياً قد أبدو لك أنني لا أهتمّ بالأمر، واثقاً بأنّ حياة الإفلاس تناسبني، وأعتبر أجمل أيامي هي تلك التي لم أمتلك فيها مليماً. إنّني مدين للإفلاس، ولولاه متُّ زمان. رغم ذلك، لم أجد مفرّاً من لحظات كهذه يحضر فيها الإفلاس كمعضلة وواقع أليم. موعد دفع الإيجار غداً، وأنا أصلاً متأخر شهرين. رسائل الفواتير ملأت مدخل البيت، وكل يوم يتّصل بي رقم غريب فلا أردّ عليه، أو يتّصل سمسار البيت، وحتى هو لا أردّ عليه.
خلال هذه الأيام التسعة والعشرين بقيت معظم الوقت جالساً أو مستلقياً على الكنبة، غير قادر على المبادرة بأي أمر يُخرجني من واقعي أو يُعيدني إليه. كنت واعياً لمسألة الاعتكاف كضرورة للخروج من حلقات الشم. التوقف عن التعاطي يحتاج إلى وقت وصبر وكساد وقلة مال وطلعات. كنتُ مزاجياً معظم الوقت في الأسبوع الأول وحائساً في نفسي، أتنقّل دون سبب بين الغرف ونادراً ما أدخل المطبخ أو الحمام. قضيتُ وقتاً لا بأس به أنظر إلى سقف الصالون أحدّق في لصقة شفافة صغيرة في الزاوية بعثت شعاعاً لطيفاً أثناء انعكاس أشعة الشمس عليها، وانتبهتُ بعد كم يوم أنّ هذه العملية التأملية هي أكثر ما عدّل مزاجي وصفّى ذهني.
في الأسبوع الثاني لم يعد عندي أي علب تُن كما نفذ كيس التبغ، ومع نفاذه جاء القرار الصارم بترك الدُخان. نزلتُ إلى السوق الكبيرة، وقضيت فيها وقتاً لا بأس به، ولما وصلتُ إلى طاولة الدفع لم يكن في سلتي سوى اثني عشر علبة تُن بالماء. سألتني العاملة ان أردتُ شيئاً آخر اليوم. نظرتُ الى يدي حيث ترقد آخر عشرين جنيها وقلت: "لا، هذا كل شي، شكراً." وما إن وصلت إلى باب السوق حتى عُدت وسألتُ العاملة عن أرخص كيس تبغ متوفر عندها.
في نفس الليلة كتبتُ على ورقة كبيرة مهاماً عمليةً ورؤوس أقلام لمشاريع صغيرة، وكتبتُ ببنط عريض أعلى الصفحة عنواناً لها: التحدي، علها تكون محاولة لتبديل عاداتي وإنجاز مهام لا تتطلّب مغادرة البيت. هي مهام بسيطة قد تكون للبعض تافهة وعادية، بل وبالإمكان إنجازها في يوم واحد أو حتى في ساعات قليلة، كتحديث سيرتي العملية مثلاً، والبحث عن أشغال مؤقتة في الترجمة والتَملِية، والتريّض كل صباح، وتنظيف البيت كل يوم، والتقديم على منح للتفرّغ الأدبي، وكتابة شهادة ذاتية عن علاقتي السائلة بالمال كان عليّ تسليمها منذ أواخر الشهر الماضي. هذه المهام، وعلى قدر بساطتها، تعني بالنسبة لي الخطوة الثانية نحو بداية جديدة لحياة هنيئة. تعني المشي على الصراط المستقيم. تعني التركيز والنجاح والخروج من العدم. بعد إعداد المهام ومراجعتها مزّقتُ الورقة وعدتُ إلى الأريكة ونمت، ومن يومها، كل ما قمتُ به يمكن اختصاره في شيئين أو ثلاثة: مشاهدة المسلسلات الكوميدية والرسوم المتحركة وقراءة القصص القصيرة في الكتب وعلى الانترنت. قصص، بتنوع كُتّابها وزمن كتابتها واختلاف شخصياتها، بدت كلها – أو معظمها، كي لا أبالغ – متشابهة، وتدور حول رجال غريبي الأطوار وصلوا إلى حافة حياتهم، رجال سلبيين في علاقاتهم الاجتماعية. كلهم منهارون، منهزمون، منعزلون، وكل واحد منهم بطريقته الخاصة واختلاف الأسباب التي أدت إلى ذلك، وكلهم تنتهي بهم القصص وهم على حافة البكاء أو حقاً يبكون، بكاءً حاراً وطويلاً. وكنتُ في كل قصة أجمعُ شيئاً في ذاتي أو أحطّمه، وكنتُ في نهاية كل واحدة أودّ البكاء، بكاءً طويلاً وحاراً، لكنني لم أستطع البكاء، وبدلاً منه أفكّر في الماضي، حياتي في الشهور الماضية وحياتي قبل عامين وحياتي قبل عشرة أعوام وحياتي قبل عشرين وخمسة وعشرين عاماً. عدتُ كثيراً إلى صباي وذكرياتي المعتمة، حاولتُ أن أستعيد الصورة المتخيَّلة في طفولتي عن نفسي عندما أكبر. وفي لحظات كهذه الآن، وأنا مستلقٍ على الكنبة وأنظر إلى اللصقة الشفافة على السقف، أتخيل لنفسي حيوات أخرى بديلة، حيوات لا يحضر فيها المال ولا يوجد فيها كوكايين وتكون الكتابة فيها إما هواية مارستها في الماضي او شيئاً لم يوجد من قبل؛ حياتي وأنا مخرج سينمائي مثلا، وحياتي وأنا أشتغل موظفاً من الصبح الى العصر وأتقاضى راتباً شهرياً، وحياتي وأنا مازلتُ أعيش في ليبيا، وحياتي وأنا سياسي، وفي واقع أحكم فيه ليبيا.
لطالما شعرت بالجوع بعد وصلة الحياة المتخيَّلة هذه.
2.
كنتُ ألتهم علبة التُن الأخيرة واقفاً في المطبخ لما رنّ التليفون. رقم غريب يبدأ بزائد مائتين وطمنطاش يتصل بي على واتساب. المكالمات التي تصلني من ليبيا قليلة، قليلة جداً. وفي السنوات السبع الماضية صارت معدومة، طبعاً إن لم نحسب تلك التي أبلغتني بالوفيات. مرّت عليّ صور الذين توقعتُ موتهم قريباً وأنا أنقر على الشاشة للرد. قلتُ آلو كأنني ألقيها في سرّي. الصوت الذي وصلني، رغم مألوفيته، ليس في نبرته أي شخص أعرفه. الصوت لرجل، خشن، والخط واضح وقريب. قال المتصل أنه أكرم عبد المجيد.
- من أكرم عبد المجيد؟
- ما تعرفش شكون أكرم عبد المجيد؟
- نعرف أكرم عبد المجيد واحد، لكن هذا لا عنده علاقة بيا ولا نعرفه من قريب أو بعيد.
- بالزبط، هذا الأكرم عبد المجيد.
فكرتُ أن أغلق الخط. لست في مزاج يستحمل خفة ظل أو مزاح ثقيل. يعشق أقاربي لعبة "تْرا قول من أني" والتخفّي وراء أصوات غامضة.
- تسمع فيا؟
- نسمع فيك، تفضل.
- معاك أكرم عبد المجيد. أعطاني رقمك ربيع زيدان. قالّي إنّك تسكن في مانشستر وأني الليلة موجود أهني ومروّح غدوة الظهر، وكنت نبّي نتلاقى معاك ونتعرف عليك بخصوص مشروع نخدم عليه. فاضي نتلاقوا؟
- غدوة الصبح فاضي.
- يا ريت نتلاقوا اليوم. غدوة الظهر طيارتي من لندن ولازم نطلع الصبح، الاّ لو مشغول توّا؟
- لا فاضي.
- باهي أني قاعد في فندق اسمه طويل توّا نبعتهولك في رسالة. قدامه بار شكله كويس وفيه جلسة خارجية. نتلاقوا فيه.
- خلاص حنكون غادي بعد ساعة زمان.
- آه اسمع، ربيع حكالي عليك وبيناتنا ثقة، وكنت نبّي نطلب منك طلب بسيط.
- تفضل.
- تقدر تجيبلنا معاك شوية أغراض ملاح؟ هداك النوع الّي كتبت عليه في قصة وزير الثقافة.
- قصة شنو؟
- قصة وزير الثقافة، وليمة غذاء في بيت وزير الثقافة. قصتك.
- إيه عرفتها.
- تتذكّر الحاجات الّي كتبت عليهم في القصة؟ لو تجيب منهم تكون درت فيا معروف ما ننساشي.
كانت الغرفة قد غرقت في العتمة. الساعة العاشرة ليلاً، والطقس في الخارج دافئ، يصلح لمشية، ولكن ليس من راديش، حيث أسكن، إلى وسط المدينة. بحثتُ في أرقام هاتفي عن أي شخص يدينني بعض المال، ثم غيّرتُ رأيي بعد أن مررت على الارقام بضع مرات ولم أجد أحداً مازال عندي تجاهه ماء وجه للاستدانة أكثر. غداً أو بعد غد، سأتساءل في قرارة نفسي لمَ لم أقل لأكرم عبد المجيد إنني لم أعد أتعاطى المخدرات وإنني لا أعرف أي رقم لتاجر. لمَ لم أعتذر بصوت يملأه الكبرياء؟ لماذا أضع نفسي دائماً في هذه المواقف؟ لماذا أكرّر نفس الأخطاء؟ لن أفكر في الاسئلة مطوّلاً، وسأضع اللوم على الصحوة وعلى انقطاعي عن الكوكايين، لأن فترة النقاهة تجعل الواحد غير قادر على التفكير بشكل صحيح.
لكن هذا لم يحدث بعد، وأنا الآن جالس أفكر في أي شيء أبيعه مقابل عشرين جنيهاً ثمن الحشيش. وقعت عيناي على الكاميرا القابعة فوق طاولة صغيرة قرب المكتبة، وفكرت بأنها الشيء الوحيد القادر على إنقاذي. حملتها في يدي وتأملتها كما لو أنني أبحث فيها عن شيء معيّن.
صحيح أنّني أحلم طوال الوقت باستخدامها، وفي رأسي مشروع أطمح لإعداده بها، ولهذا السبب اشتريتها، غير أنني أمتلكها اليوم منذ قرابة العام ولم أستخدمها سوى مرة واحدة. لأعتبره إذاً تمريناً على التخلي واستثماراً في مشروع جديد أسدّ به حاجتي. بإمكاني شراء واحدة أخرى لاحقاً، وربما أفضل منها. ولو جئنا إلى الحق، هذه الكاميرا اشتريتها بعد بيع واحدة قبلها استخدمتها مرات أكثر، وما هان عليّ فراقها آنذاك لولا حاجتي للمال لإتمام صفقةٍ اشتريت بجزء من أرباحها هذه الكاميرا، الأرخص، وإنما الأجدد.
صف المحلات في الشارع الرئيسي مكتظّ بدكاكين الأدوات الكهربائية، ولكن ثلاثة منها فقط ماتزال مفتوحة. في واحدة منها سألني البائع عن السعر. ستين جنيهاً. أدار رأسه ولم يعرني اهتماماً حتى لما خفّضتُ السعر إلى خمسين.
البائع في المحل الثاني قلّبَ الكاميرا بين يديه لبعض الوقت وعرض استعداده لشرائها بثلاثين. سحبتها وأعدتها إلى الصندوق وقلتُ إنني اشتريتها منذ عام بمائتين وخمسين، ولن أبيعها بأقل من خمسين.
في المحل الثالث، نظر البائع إلى الكاميرا بقلق وأخبرني أنها مسجلة، وسألني من أين سرقتها. لم أُعر الشطر الثاني من كلامه اهتماماً وسألته عما يقصده بأنها مسجّلة. قال: كأجهزة اللابتوب والهواتف التي تُسجّل برقم خاص للوصول إليها في حالة سرقتها وبيعها. قلت له إن الكاميرات لا تُسجل، وحين أخبرني أنه لا يريد شراءها، خرجتُ محبطاً وعدتُ إلى البائع الثاني. وضعتُ الكاميرا فوق الطاولة أمامه، وقلت: اتفقنا. تفحّص البائع الكاميرا كأنه يراها للمرة الأولى، ثم أعادها إلى الصندوق وقال: خمسة وعشرين.
3.
أكرم عبد المجيد، في سيرة مختصرة، سياسي من النوع الذي تراه كل يوم في التلفاز أو في البث المباشر على صفحاته بمواقع التواصل الاجتماعي. من مواليد 1965، بدأ حياته العملية مجاهداً في الحرب السوفياتية في أفغانستان، وعاد إلى ليبيا بعد انضمامه إلى الجماعة الليبية المقاتلة، حيث شارك في الاشتباكات للإطاحة بنظام معمر القذافي خلال النصف الأول من التسعينيات، واستطاع الفرار منها إلى السودان عقب حل الجماعة ومقتل وحبس معظم أفرادها. وصل إلى مانشستر عام 1996، وكسب فيها حق اللجوء السياسي. لا تورد صفحاته في الموسوعات الرقمية أي معلومة تخصّ ظروف قدومه إلى بريطانيا وسنواته الأولى فيها، وتشير معظمها إلى أن 11 سبتمبر 2001 أحدثت تغييراً جذرياً في حياته. صار خبيراً في شؤون الجماعات الإسلامية المسلحة، كما صار علمانياً ليبرالياً خالصاً، وانضمّ إلى نخبة سيف الإسلام القذافي عقب انطلاق مشروع ليبيا الغد، كما ساهم مع الصلابي وآخرين في صياغة مراجعات الجماعات الجهادية المعتقلة في سجون النظام استعداداً للإفراج عنهم في الألفين وتسعة. وفي الألفين وحداش عاد إلى ليبيا مجدداً كقيادي في كتيبة تحرير طرابلس.
تغيّرت مواقف أكرم عبد المجيد وانقلبت تصريحاته ولم يعد أحد يعلم في صف مَن يقف في كل حدث. في البداية ظهر معادياً للتشكيلات المسلحة ذات النزعة الجهادية وعدواً لدوداً للإخوان المسلمين وحزبهم والمتحالفين معهم في المؤتمر الوطني. ظهر على البي بي سي العربية يندّد بعملية فجر ليبيا، وفي قناة العربية مدحَ عملية الكرامة. زار بنغازي عدة مرات في طور الحرب ونشر على حسابه في تويتر صورة له وهو يصافح خليفة حفتر. في الألفين وطمنطاش ذاع صيته مجدداً لوقوفه في صف قوات اللواء السابع أثناء هجومهم على طرابلس. وفي الألفين وتسعطاش ظهر من جديد على الجزيرة وقنوات ليبيّة يدعمها الإخوان ليُدين فيها حرب حفتر وميليشياته والقبائل المتحالفة معه على طرابلس، واقفاً في صف تحالف الميليشيات مع حكومة فائز السرّاج.
استقر أكرم في طرابلس في شهور الحرب تلك، وخصصت له إحدى القنوات برنامجاً كاملاً يعلّق فيه على أحداث الحرب والأخبار وتكذيب الشائعات وإطلاق أخرى مضادة. في تلك الفترة صار حضوره مرتبطاً بالحرب، وبمستقبل القناة نفسها التي مدّدت وقت برنامجه من ساعة واحدة إلى سهرة تستمر كل يوم حتى الفجر، يسرد فيها بأسلوبه الحر قصصاً مكررة حول لقاءاته الحقيقية والمتخيَلة مع حفتر ومع سفراء دول ووزراء خارجية. كان يدخّن السيجار البني الغليظ ويتحدث إلى الجمهور وهو ينظر مباشرة إلى الكاميرا، وفي كل سهرة يظهر ببذلة جديدة، ساعة جديدة، وأحياناً يرتدي قبعة عسكرية تُناقض مظهره المدني، فيبدو كأنه نسخة مشوّهة من تشي غيفارا. اتّبع أكرم عبد المجيد في خطاباته أسلوباً شعبياً استساغه الجمهور وحظي باحترام شديد، فهو يسبّ خصومه بأوسخ العبارات وبنبرة صوت تُذكّر المستمعين بخطابات معمر، كما يحيي مصطلحات شعبية قديمة ولا يتورّع عن استخدام مصطلحات إنكليزية كـ stupid أو idiots أو bastards، متبوعةً بسكوت طويل ومصّة عميقة من سيجاره. لاحقاً تحولت اللقطة المتلازمة إلى ميم شهير.
لا يشبه أكرم عبد المجيد صورته في الفيديوهات المنقولة من التلفزيون؛ ربما أناقته المفرِطة فقط، وغرابة معطفه الثقيل في ليلة صيف دافئة. إنه قصير القامة بشكل ملفت، وعلى وجهه نتوءات ذكّرتني بالرفاق القدامى في المرحلة الإعدادية.
وصلتُ إلى الحانة متأخراً بعض الشي، ولم أجد أكرم عبد المجيد على أي من الطاولات المرصوفة في الخارج. أكّد النادل أن الزبائن مسموح لهم الدخول فقط لقضاء حاجتهم في دورات المياه، وأنه لم يرَ شخصاً بالمواصفات المشوّشة التي أخبرته اياها قبل قليل. داخل السياج المحيط بالحانة يوجد زبونان جلسا يشربان البيرة ويدخنان. اليوم هو الرابع لي دون تبغ والتاسع والعشرون دون كوكايين، فتساءلتُ عن جدوى طلب سيجارة منهما حين تخيلتُ اعتذارهما البارد ونظرات عيونهما الفارغة. لم يعد غلاء التبغ هو الدافع الوحيد لترك الناس عادة وهب السجائر في الحانات اليوم، بل صار تجنب أي نوع من التواصل الجسدي لعزل الفيروسات حجة تدعم الدافع. تركتُ يداي في جيوبي أتحسّس بضع قطع معدنية حمراء وكمامة، وكنت كل خمس ثوان ألتفت في حركة آلية أحسب فيها زمن كل التفاتة، حتى وصل أكرم عبد المجيد. سألني، وهو يقترب، لمَ أبدُ حزيناً. أردتُ القول إنها الظروف، لولا أن باغتني وهو يمد يده لمصافحتي قائلاً إنه يمزح، وأخبرني أنه جاء إلى الحانة مرتين ولم يجدني فعاد إلى الفندق لأنه يكره التواجد وحيداً في مكان عام، وبالأخص في تونس ومانشستر المرصوصتين بالليبيين، ثم سألني أين شرابي.
جلسنا على طاولة داخل السياج وجاء النادل. سألتُ أكرم ماذا يشرب، بنبرة مَن يدعوه لذلك. هيبيكي، قال، double. قلت للنادل: دبل هيبيكي وأي نوع من المشروبات الغازية. ذهب النادل وأشعل أكرم عبد المجيد سيجاره البُنّي وهو ينظر مباشرة إلى عينيّ، ثم وصف نفسه بأكبر المعجبين بكتاباتي. قلت منوّر. سألني إن كنت مازلت أكتب. قلتُ أترجم، إنني أشتغل على ترجمة نصوص لأفضل القصص القصيرة المنشورة في بريطانيا وإيرلندا خلال العقد الماضي، ولم أخبره أن الفكرة خطرت على بالي للتو. هز أكرم عبد المجيد رأسه وقال ممتاز، وصرّح عن أمنيته في أن يقرأ لي قصصاً قصيرة جديدة تُشبه "وليمة غذاء في بيت وزير الثقافة"؛ قصة كتبتها منذ طناش عام ونشرتها على مدونتي، والتي، حسب أكرم، تُعتبر أفضل قصة قصيرة ليبية على الإطلاق. ابتسمتُ لسماع ذلك، ولم تكن ابتسامة امتنان بقدر ما كانت ابتسامة مرتبكة، لأنني عندي موقف صارم تجاه القصة.
جاء النادل بالشراب وأخرجتُ من جيبي بطاقتي المصرفية. مرّرتها على الآلة رغم أنني متيقن من الرد مسبقاً، اذ أخبرني النادل أن العملية لم تكتمل، وبادر بالإعتذار قائلاً إنه أمر عادي ويحدث دوماً، ثم كرر المحاولة للمرة الثانية وفي الثالثة حشا البطاقة في الآلة وطلب مني إدخال الرقم السري. اعتذر النادل مجدداً وقال إن العملية لم تنجح وهذا يعني وجود خطب ما في البطاقة أو في حساب المصرف.
- مستحيل، قلتُ مفتعلاً حركة مسرحية، وخجلتُ لدى سماع الحشرجة التي انبثقت مع صوتي. احتجّيت بالقول إنني استخدمتها منذ قليل للحصول على نقد ومشت الأمور تمام. قال النادل إنه بإمكاني أن أدفع نقداً إن أحببت. تحشرج الصوت في حلقي مرة أخرى وأنا أقول إنني صرفتُ النقود.
وضع أكرم سيجاره في المنفضة واعتدل في جلسته وأخرج من جيبه ورقة خمسين جنيهاً. لقد مدّها إلى النادل دون أن ينظر إليه. مدّها إلى النادل بسبابته وخنصره كأنه يمرّر إليه سيجارة أو جوينت. لقد طلب من النادل أن يُحضر لي شراباً حقيقياً. وبينما كان النادل يعدّ الباقي دنا أكرم عبد المجيد بجذعه ونظر إلي وقال بصوت خافت إنه يحب وليمة غذاء في بيت وزير الثقافة كثيراً، وإنه عن طريقها تعرّف على مدونتي وأُعجب بكل النصوص المنشورة فيها، إنما لقصة وزير الثقافة معزة خاصة عنده، واقترح عليّ أن أستمر فيها وأن أنشرها في كتاب، رواية مثلاً أو قصة طويلة، وأنه سيتكفل بطباعته لو لقيتُ أي صعوبة في النشر.
في الحقيقة هذه القصة سيئة وركيكة للغاية، هكذا ببساطة، تفتقر لأبسط مقومات القصة وتمتلئ بالثغرات. تدور أحداثها حول عزومة غداء دعا وزير الثقافة الكُتّاب والشعراء الشباب إليها في بيته. يبدأ النص بعزيمة عادية على قصعة بازين في يوم جمعة، وتتحوّل العزيمة تدريجياً إلى معاكسات شبقة وتصير حفلة نيك جماعي، لتنتهي بخروج الكُتّاب والشعراء الشباب من بيت الوزير ممتلئين بالفلوس والمنَوي.
لكن القصة، ورغم أنني مسحتها من المدونة بعد أيام قليلة من نشرها، خلقَت لنفسها حياة خاصة بعيدة عن رأيي فيها اليوم، وما زالت متوفرة في منتديات قديمة على الشبكة وعلى صفحات ليبيّة في فيسبوك، وأعادت نشرها حسابات لا أعرف أصحابها، وصار لها قراؤها المخلصون ومريدوها. لو كتبتَ اسم وزير الثقافة في محركات البحث، ستعثر عليها في صفحة النتائج الأولى. وحتى أيام قليلة مضت، بقيت أتلقى رسائل على فيسبوك من حسابات غرباء يشبهون أكرم عبد المجيد ولكنهم ليسوا أكرم عبد المجيد، يسألون إن كنت الكاتب "مْتاع مقالة زب وزير الثقافة".
سرحتُ في هذه الأفكار بينما أكرم عبد المجيد يحدّثني عن أسباب حبه للقصة، وقد أدهشني قدر إلمامه بأدق تفاصيلها، حتى أنه راح يتلو مقاطع منها وكنتُ لا أتذكر سوى الأحداث الرئيسية والنهاية الهزلية، وهذا لم يمنع الإحساس الطفيف بالراحة يتسرّب إلى عروقي، ليس بسبب كلام أكرم بشكل خاص، وإنما بفضل تأثير الويسكي الياباني. طلب لنا كأسين آخرين بعد انتهاء وصلة مديحه، واعترفتُ له تحت تأثير النشوة، وبصوت واثق، بموقفي منها وكرهي الشديد لها. أخبرته عن كل ما فكرتُ فيه بخصوصها وذكرته أعلاه، كل هواجسي، ولماذا أراها اليوم من أسوأ ما كتبت. كنتُ دقيقاً في كل سبب بشكل أعاد لي الثقة في نفسي، وكنتُ مُصرّاً على أنّ هذا النص بالذات يفتقر لأي أسلوب يجعل منه قصة، وأنه عبارة عن لعب فروخ، كهذه القصة، غير أن تلك، وإن كانت أيضاُ في حوالي خمسة آلاف كلمة أو أكثر، إلاّ أن كلمتي زب وزبي مذكورتان فيها ستمائة وأربع وعشرين مرة.
- لكنها على الأقل قصة حقيقية، قال أكرم عبد المجيد، أقصد واقعية، وكتابتك ونشرك للقصة في الألفين وتسعة، في الوقت الّي كان فيه وزير الثقافة قاعد في منصبه، هذي بحد ذاتها إنجاز وثورة.
وضع أكرم يده في جيب معطفه الثقيل واستمر في الحديث: أصلاً لهذا السبب اتصلت بيك واندور عليك. عندي مشروع ضخم، وأحد المهام فيه كتاب عن قصة حياتي، ومش حنلقى حد خير منك يكتبها، ومدّ لي سيجارا بُنّيا. مهتم؟
- أكيد مهتم.
- حيكون كتاب كبير.. خمسمائة صفحة أو أكثر، نبّيه يكون مليان قصص، لأن حياتي مليانة أحداث وناس وأحلام ومشاكل زي ما تعرف. حيكون مشروع مربح، وحنعطيك عربون يخليك تتفرغ كم شهر وحيكون ليك فيه نسبة مبيعات. الشيء الوحيد المهم إنه لازم يكون كامل ومنشور قبل الانتخابات. لأنّي ناوي نترشح ونبّي الكتاب ضمن الحملة. شن رايك؟
- أكيد. تْرا اعطيني ولاعة.
ما أراده أكرم عبد المجيد هو أن يُكتب الكتاب بأسلوب الملاحم الشعبية، أو على الأقل هذا بالضبط ما قاله بعد أن طلب لكلينا كأساً ثالثاً. (حاولتُ هذه المرة أيضاً تمرير بطاقتي على الآلة، وحين طُبع واصل الرفض أخبرني ألّا أقلق، وأنّ هذا الشراب نخب مشروعنا المقبل.) قال أيضاً إنه لا يريدها أن تكون سيرة ذاتية عادية من الألف إلى الياء، بل نوعاً أقرب إلى الرواية، لها حبكة قصصية وشخصيات وأحداث متشابكة. وأهم شيء لازم شخصيته فيها تبقى غامضة وتخلّي القارئ يتخيّل.
اقترحتُ عليه أن يكون عدد الصفحات مائتين أو أقل، بحجة أن الكتاب موجّه لأناس غير معتادين على قراءة الكتب. رفض أكرم عبد المجيد بحركة من رأسه وقال إن الجمهور المستهدَف لكتابه هم القرّاء الحقيقيون والناس الذين يفهمون في الأدب والثقافة مثلي ومثله، لأن الذين لا يقرأون يسمعونه ويشاهدونه في التلفزيون، وهؤلاء مضمونون وبالإمكان كسب المزيد من ثقتهم حين يرون أنّ كتاباً ضخماً كهذا كُتب عنه.
- أصلاً القصص الّي عندي ماتسدّش ألف صفحة، ما بالك بخمسمية، قال أكرم عبد المجيد. ولهذا، حسب ختام تصوره، سنحتاج للعديد من القعدات المبحبحة وللدردشة والنقاش اللذين سأستمد منهما فصول الكتاب.
- خلاص اعتبر الموضوع تم، قلتُ له. كانت النشوة قد اعترتني الآن واستحوذت عليّ بالكامل بسبب كؤوس الويسكي.
- باهي قولي توّا.. جبتلنا بضاعة انبحبحوا بيها القعدة؟
أخرجتُ قطعة الحشيش الملفوفة في السيلفر وقلت إنه صنف جاء طازة من كتاما. تناول أكرم القطعة وتفحّص محتواها وقال بصوت واهن إنه لم يقصد الحشيش.
- أمّالا شن كان قصدك؟
- الأبيض.
- إنت قُتلي البضاعة إلّي في قصة وزير الثقافة!
- قصة وزير الثقافة كلها كوكايين يا ولد عمي، خيرك ناسي؟
حاولتُ تذكّر أي مقطع في قصة الوزير عن الكوكايين ولم أفلح، حتى أنني بالكاد كنتُ أتعاطى المخدرات في ذلك الزمن الذي كتبتُ فيه القصة. كل ما تذكرته هو ولع الراوي بالحشيش، وأيضاً قنينة جاك دانيلز الفارغة التي حشاها وزير الثقافة في خرم مؤخرة شاعر مغمور. ويبدو أن أكرم عبد المجيد أدرك حيرتي فانتصب جذعه كمن نزل عليه الوحي وبدأ التلاوة بصوت مبالغ في فخامته: لما دعانا وزير الثقافة إلى بيته لتناول البازين، لم نعلم أنها ستكون بداية رحلتنا مع الكوكايين. ونظر إلي متفحصاً وقع الجملة.
- كلام صح، قلت بعد تذكّر مطلع القصة.
- صار خير. بدت خيبة الأمل واضحة في وجهه، وحضر معها الصمت. حاولتُ استدراجه للحديث عن الكتاب. سألته عن طفولته وأين درس مراحله التعليمية، وعن عمره لما سافر إلى أفغانستان، وعن الحياة في كهوف تورا بورا وحصار مدينة خوست ومعركة غارديز، وكان أكرم عبد المجيد يردّ بإجابات قصيرة وقاطعة، غير مبالٍ بالحديث. كان يتطلع حوله كأنه يتفقد أمراً طارئاً، وانغمستُ أنا في الشراب وفي التدخين وفي مراقبته وهو يتطلع إلى الزبونين الوحيدين، وقد عاد أحدهما من الداخل للتو ومدّ للثاني شيئا قام على إثره الأخير واختفى في الداخل. نظر الزبون الذي جلس الآن تجاهنا ثم رفع كأسه وابتسم وسألنا إن كنا بخير.
- القواد شكله كيف واخد خط، همس أكرم عبد المجيد.
- لو واجعاتك وعندك نيّة في الغُبرة نعرف ولد نقدر نتصل بيه ونطلب منه يجيبلك.
- شن قاعد تستنى يا راجل؟ اتصل بيه.
- المشكلة الوحيدة أن خدمته محصورة في جنوب مانشستر، وما يجيش السنتر الاّ لو في طلبية تستاهل.
- تي عادي لو جت عالفلوس ما يهمكش.
4.
مبحبحة مصدرها بحبح، أي يبحبح، بحبحة، بحباحًا فهو مبحبِح، والمفعول مبحبَح فيه. في المعجم العربي المعاصر تعني "توسّع فيه، أي بحبح الرجل في معيشته"، و"تبحبح الشخص أي توفّر له رغد العيش" وفي الرائد تعني "اتّسع وازدهر في عيش أو مجد نحوهما"، وفي المعجم الغني "يعيش في بحبوحة أي هناء ورفاهية"، ويقول صلعم في حديث صحيح: من أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة، ويقول أكرم عبد المجيد، في غرفته بفندق الهوليداي إن المطلة على المباني المهجورة ومشاريع البناء المتوقفة، إنّ "كل ليبي لازم يعيش مبحبَح، وهذا الّي نبّيك تركز عليه في كتابي".
في الحمّام غسلت وجهي وتوقفتُ أمام المرآة أنظر إلى عينيّ مباشرةً، وعقلي مستقر على قرار أن لا أقرَب الكوكايين مهما حدث. اليوم هو التاسع والعشرون دون كوكايين، وغداً سيصير بإمكاني القول إنني لم أقربه منذ شهر كامل. حاولت التفكير في كل الأيام المملة التي قضيتها نحو حياة خالية من الإدمان، وصبّرتُ نفسي بإخبارها أنني في لحظة الامتحان الكبير. صحيح أن الامتحان جاء مبكراً ودون ميعاد، لكن كل الامتحانات والاختبارات والتطبيقات الشفهية لم تأتني يوماً بميعاد.
وفكرتُ في تلك اللحظة، وأنا ما أزال أنظر إلى وجهي في المرآة، أن أطلب من أكرم عبد المجيد عربون الكتاب الليلة فأعود غداً إلى لندن. أحمل حقيبة صغيرة وأترك كل شيء في البيت وأسافر إلى لندن، ببساطة، لأنني لم أكن لأصير مدمناً على الكوكايين إن بقيتُ هناك ولم أنتقل للعيش في مانشستر. في لندن، ورغم احتكاكي بعوالم الدوخة وكل أصناف المخدرات، إلّا أنني تمسكت بقرار اتخذته وألزمني بأن لا أشتري الكوكايين أو أي منشطات باهظة تُستهلك سريعاً، واعتدتُ عوض ذلك على تناول المنشطات والمكيفات الأخرى، فأستلذيت أكثر شيء بالكيتامين والسبيد والعقاقير المهلوسة. لقد اقتصر تعاطيَّ للكوكايين على خطوط كالفن كلاين، وهو مزيج من الكوكايين والكيتامين، وكنت أُدعى لتناوله في حفلات التكنو من قِبل الأصدقاء أو الروّاد الذين كسبتُ صحبتهم بمشاركتهم ما عندي من كيتامين أو جوينتات حشيش أو قطرة إلسْدي.
ما أكثر عشّاق كالفن كلاين في حفلات التكنو، وما أفقرني أمام أسعار الكوكايين الباهظة في لندن.
في مانشستر اختلف الحال. إحدى أعظم الصدمات التي تلقيتها عند وصولي هنا بخس أسعار الكوكايين مقارنة بلندن. ثمن الغرام الواحد في لندن مائة جنيه، وفي مانشستر أربعون جنيهاً. ولأنني في مانشستر اشتغلتُ نفس الساعات الطويلة التي اشتغلتها في لندن، موزعاً وظائفي بين عدة بارات ونوادٍ ليلية، وأبيع على جنب ما تيسّر من مهلوسات وأغراض أحصل عليها في صفقات صغيرة. قفزت الحياة بي من الكدح إلى البذخ، ومن غرفة صغيرة في بيت مشترك سعر إيجارها سبعمائة جنيه في الشهر، إلى بيت من طابقين وغرفتين وصالون بخمسمائة جنيه. هذا النوع من الاسترزاق في لندن بالكاد سدّ حاجتي، وفي مانشستر حوّلني لما يمكن اختزاله في عبارة اعتدتُ ترديدها دون التفكير في مدى سماجتها: أعيش أسلوب حياة باهظ.
كل ذلك انتهى بعد الكوفيد.
الآن أقف أمام المرآة في الحمّام، وأستمع إلى أكرم عبد المجيد في الغرفة ما يزال يشرح لي نهج البحبحة الذي اخترعه، وكيف أن السياسيين في ليبيا كلهم أغبياء لعدم استثمارهم في مشروع كهذا سيصوّت له كل الليبيين بمختلف توجهاتهم وقبائلهم وأعمارهم.
عدتُ إلى الغرفة وجلستُ قبالته وراقبته وهو يرصّ الخطوط السمينة. مرّت على رأسي ومضات رأيتني فيها أرفض الخط القادم بالقول إنني والكوكا معش اصحاب، ومرة أخرى بأدب ودون ذكر أي سبب، ومرة أخيرة وأنا أرفع يدي فقط في إشارة تلقائية للرفض، كهؤلاء الذين لا يمانعون الانضمام لحلقة شم ولكنهم اعتادوا رفض الخطوط دون الحاجة للنبس بكلمة. هذه الأفكار مرت على بالي كالومضات ولم تستقر أبداً. إنني، لما أعطاني أكرم عبد المجيد ورقة الخمسين جنيهاً الملفوفة، لم أفكر للحظة ومشّطتُ الخطّين.
- ما قُتليش شن تخدم؟
- مترجم.
- ايه صح تذكرت توّا. مْليحة الترجمة. فلوسها بحبوحات حتى هي.
- مية الميّة.
- الحياة مْستفة والاّ؟
- ماشية
- درت فلوس؟
- على قد الحال.
- كم ليك ماروحتش ليبيا؟
- هلبة.
- كان بريطانيا مافيهاش فلوس روّح أحسنلك. ما عندكش سبب تقعد فيها.
وقف أكرم وراح يدور حول الغرفة وهو يخبرني عن انزعاجه في كل مرة يلتقي فيها بليبي قادته الظروف لأن يكون عاطلاً ومفلساً. وضع نظريات حول شخصية الشاب الليبي اليوم. قال إن العقلية لازم تتغيّر، ولهذا كتاب حياته لازم يورّي الشاب الليبي معنى الحيوات المتعددة، معنى المجازفة والقرارات الخطيرة. هززت رأسي على وقع كل كلمة قالها، ليس موافقة بقدر ما كانت إشارة إلى أنني مازلتُ معه وأسمع ما يقول. توقف فجأة أمام النافذة والتفت إليّ. كان هادئاً وقد احتفظ بحيّز من السكوت لبعض الوقت، ثم أخبرني أنه، ولهذا السبب تحديداً، لن يضع لحملته الانتخابية أي شعارات رنانة. لا أمن ولا أمان ولا حرية ولا فالصو، بل "حنحط صورتي ورقمي الانتخابي وتحتهم كلمة وحدة بس".
- شن هي؟
- بحبوحة.
سحبتُ الأغراض تجاهي وباشرتُ في إعداد خطوط جديدة، وأصغيتُ إلى وصلة عن المال كشيء أساسي هذه الأيام. قال زمان عادي الواحد يعيش على قد الحال، أما اليوم فنحن في زمن آخر جديد لم تعد الفلوس فيه حكراً على جماعة أو نخبة معيّنة.
دعوتُ أكرم ليستأنف خطاً من الأربعة على الطاولة أمامنا. امتعض لدى رؤيته لحجمها وأمرني بأن أبحبحها لأن في سيولة. علّقتُ بدعابة جافة مغزاها خوفي أن تكون نهاية السهرة كنهاية قصة وزير الثقافة. وتذكرت النهاية الجنسية المروعة وأردتُ أن أصحّح قصدي وتراجعتُ حين لم أجد شيئاً أقوله.
وهكذا مضت الكؤوس بعدها، واحد وراء واحد، وخط وراء الثاني، وكلام كثير معظمه قاله أكرم، وبقيتُ أستمع اليه، ولعلني في لحظة ما تساءلتُ عمّا أفعله هنا، في بريطانيا، وماذا أفعل الآن، في حجرة فندق يسكنها أكرم عبد المجيد. ألمّ بي حزن طفيف حين تساءلت عن سعر الليلة هنا فتذكرتُ الإيجار غداً، أو بالأحرى اليوم، لأنها فاتت منتصف الليل بأربعة ساعات.
نظر أكرم عبد المجيد إلى ساعة معصمه وقال إن الوقت قد تأخر. عليه أن ينام كي يستيقظ بعد ساعات قليلة للالتحاق بموعد القطار إلى لندن ومن هناك إلى اسطنبول ثم مصراتة وبعدها طرابلس. سألته عن مشروع الكتاب.
- نتكلموا على التفاصيل بعدين.. بيناتنا تليفون.
- إمتى؟
- بعدين ساهل، خيرك مستعجل؟
- تبّي الكتاب يكون في خمسمية صفحة وجاهز مع الانتخابات والاّ؟ لازم نبدا فيه من اليوم.
- خلاص أبدا فيه.
- والعربون؟
- اكتبلي معلومات حساب المصرف متاعك وغدوة والّا بعد غدوة نْحولّك الفلوس.
باشرتُ الكتابة على ورقة الكلينكس بقلم سائل أعارني اياه أكرم، وانتبهت لعلامة مونت بلانك على رأس القلم حين باشرت كتابة الأرقام. أصرّيتُ أن يقرأ أكرم الأرقام جهراً بحجة أن يديّ متعرقتان والحبر سميك على ورقة الكلينكس وخطّي صعب القراءة. عنوان حسابي ممتلئ برقم ثمانية وأنا أكتب رقم ثمانية كدائرتين متباعدتين فوق بعضهما البعض وليس كرمز اللانهاية واقفاً كما يكتبها البشر عادة.
أتساءل الآن ماذا لو دريتُ لحظتها أنها كانت أول وآخر مرة سأتواصل فيها مع أكرم عبد المجيد، أنه لن يُرسل لي شيئاً، وأنني لن أتواصل معه بخصوص أي شي. لعل الأمر الوحيد المؤكد في هذه القصة أن ثمة شيئاً في تلك السهرة كان منطفئاً، شيئاً لم أضع يدي عليه بعد، أو ربما وضعت يدي عليه لو أن هذا الشيء كان قلم مونت بلانك السائل الذي تحسسته في جيبي غارقاً بين الكمامة وقطع النقود الحمراء.
خرجتُ من الفندق وكان ضوء الفجر قد حلّ والطقس ما يزالُ دافئاً، وكنتُ نشطاً ومنتشياً وممتلئاً بالحيوية والقرارات الحاسمة، قرارات مصيرية سأكتبها في نقاط عند عودتي إلى البيت بقلم مونت بلانك، ونقاط سأراجعها فور انتهائي من كتابتها وقرارات سأقرأها ثم سأمزّقها، وسأشرع بعدها، بنفس القلم السائل، في كتابة المقال المنشود عن علاقتي السائلة بالمال. تبدأ من اللحظة التي جلست فيها على الكنبة وحسابي المصرفي الذي ما يزال صفراً، وفي مطلع الفصل الثاني سيتحول المقال إلى قصة قصيرة بطلها أكرم عبد المجيد، ولن يكون اسمه في القصة أكرم عبد المجيد، ولكن في نهايتها، حين يعود الراوي إلى بيته سكراناً وممتلئاً بالكوكايين، لن يقدر على النوم، وسيقضي ساعات طويلة واقفاً خلف الستار يتلصّص على مدخل البيت في انتظار السمسار ليأتي ويطرق الباب في أي لحظة. سيعود الراوي في آخر القصة إلى الكنبة، وذلك حين يخطر بباله مطلع قصة، وسيشرع في كتابة قصة قصيرة عن راوٍ ملتبس المخاوف وشخص يُدعى أكرم عبد المجيد، وفي آخر جملة سيذرف الدمع، وسيبكي أخيراً، بكاء طويل وحار.
مو مصراتي
وُلد بطرابلس في ليبيا ويعيش حاليا بمانشستر. نشر نصوصه في العديد من المطبوعات والمواقع الأدبية منها "ختم السلطان" و"الجمهورية نت" و"كلمن" و"كيكا" بالإضافة إلى العدد الأول من مجلة The Out-post في نسختها العربية. يكتب القصة القصيرة والمقالة الأدبية والسيناريو، كما يحرر موقع آخر قصة المختص بنشر الكتابة السردية الجديدة في العالم العربي. أختير فيلمه القصير Lynch ضمن الترشيحات المتميزة بمهرجان بوشو السينمائي بالمجر ويعمل حاليا على اتمام كتابه القصصي الحائز على المنحة الإنتاجية لمؤسسة المورد الثقافي 2021.