مروة أرسانيوس، ترجمها من الانجليزية زياد شكرون
1- الشمس، التعرّض المفرِط والتعرّض الناقص
في 29 فبراير/ شباط من العام 2020، عدت من زيارتي إلى مزرعة كلاودينا في بلدة كوايما الواقعة في جنوب مدينة توليما الكولومبية، حاملةً معي رسالة تطلب فيها كلاودينا مساعدة مالية من أجل بناء عشرة آبار جديدة لسكان البلدة. وطلبت مني أن أوصل هذه الرسالة إلى إحدى المنظمات التي تدعم صغار المزارعين.
كنتُ قد دعوتُ كلاودينا لأول مرة ضمن مبادرة غروپو سيميّاس[1].غروپو سيميّاس (Grupo Semillas) هي منظمة غير ربحية مقرّها بوغوتا، تعمل مع المزارعين/ات والمحافظين/ات على البذور في … Continue reading (Grupo Semillas) من أجل تنظيم اجتماع حول العلاقة بين عملية الحفاظ على بذور الكريول واستعادة الأراضي في منطقتها. كلاودينا هي واحدة من المدافعات عن البذور اللواتي تواصلتُ معهن، وكذلك ميرسي التي سافرت مع سامانتا ضمن إطار عمل غروپو سيميّاس من أجل حضور مؤتمر للنساء المزارعات والنسويّات البيئيّات في صيف العام 2019.[2]“إتفاقيّة المزارعات والنّسويات البيئيات” هو مشروع أقامته مروة أرسانيوس في مدينة وارسو ضمن فعاليات بينالي … Continue reading
في الواقع، لقد أدركنا بعد اجتماعاتنا أن المحافظة على البذور تشكّل تهديداً للقوات المسلحة التابعة لجميع الجهات، سواء الميليشيات أو لوحدات حرب العصابات المُفكَّكة أو للقوات الحكومية أو ما يُعرف بشركات الأمن الخاصة التي تحمي الأعمال التجارية الزراعية.
ذرفت ميرسي الدموع بينما كانت تتحدّث عن لحظة “التطهير”، أي عندما وضعت الميليشيات قوائم بأسماء الأشخاص الذين يجب التخلص منهم، وهي عملية أشبه بتطهيرٍ للمزارعين والسكان الأصليين. حتى هذه اللحظة، لا يزال المدافعون عن البذور والمرشدون الاجتماعيون والمنظمون يشكّلون تهديداً، وبالتالي فهُم مستهدَفون. طبعاً، لم تكن هذه عمليّة التطهير الأولى التي يعلمون بها أو يعيشونها، سواءً هم أم أسلافهم.
بذور الكريول هي موجودات ذات وضع غير قانوني، أما المدافِعة عن البذور فهي فرد غير مرغوب فيه رغم أنّ وضعها قانوني، وهي تدرك جيداً أن الموجودات غير القانونية هي حليفاتها الوحيدة.
في هذه المنطقة الصحراوية التي تعاني من ندرة فعليّة في المياه، وحيث يُمتصّ الشحّ بواسطة الآليات الكهرومائية الموجودة وتلك التي تُبنى حالياً، وحيث تُوجّه المياه عبر نظام الري الذي بنته الحكومة نحو الهكتارات اللامتناهية من مزارع الأرز، يجد المزارعون أنفسهم، في ظل هذه الظروف، أمام خيارين: إما تأجير أراضيهم للمَزارع لينتهي بهم الأمر بالعمل مقابل أجر منخفض جداً، أو التمسّك بالأرض بعنادٍ إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وما كان أمام المُدافعين عن البذور سوى القرار الثاني بتطوير بذور قادرة على التكيّف مع المناخ الصحراوي، وهذا عمل ثوري على حد قول سامانتا أرانغو التابعة لمنظمة غروپو سيميّاس.
بطريقة ما، دفع النظام العالمي بكلاودينا ومجتمعها إلى انتظار التمويلات الدولية وغيرها من المعونات الإنسانية ليتدبّروا معيشتهم. فهم يحصلون على ما يعادل قيمة بئر أو بئرين لإعالة أنفسهم وأُسَرهم، مقابل السطو التاريخي المتواصل على أراضيهم ومواردهم. الرسالة التي أعطتها لي كلاودينا لا تزال بحوزتي، ولا شك أنني سأسلّمها لصديقتي التي تعمل في تلك المنظمة، لكن هذه الرسالة تمثّل مأساة التاريخ ومهزلته. تمثّل وحشيته.
نسير في محيط مزرعة كلاودينا حيث تضرب الشمس بشدة ويصل معدل درجات الحرارة إلى 38 درجة. إنه منتصف النهار والشمس مرتفعة جداً. نحاول التقاط بعض الصُوَر للمنظر الطبيعي ولكن الضوء قوي جداً وكاميرا الپاناسونيك التي بحوزتنا لا تتكيّف بشكل جيد مع تغيّرات الضوء. "كان يجب أن نحضر مرشحات الكثافة المحايدة (ND)"، أقول لخوما. "وعاكساً أيضاً"، يجيبني.
نتوقّف عند نقطة قُتل فيها أحد المدافعين عن البذور. لاحظت أن ما حُدّد كمسرح للجريمة هو مساحة لا يمكن لعدسة الكاميرا أن تلتقطها بالكامل. ليس ذلك بسبب عدم القدرة على تأطيرها بكليّتها، ولكن لأنها تبدو دوماً كنقطة تائهة خارج إطار الصورة أو مفقودة داخله، أو ربما لأننا لا ينبغي أن نكون قادرين على الإحاطة بمسرح الجريمة أو اعتباره مكان محدّداً وخاصّاً، أو ربما أيضاً لأن المنطقة بأكملها هي مسرح جريمة.
قد يكون حَجب الشّمس أو الإسراف بالتعرّض لها هو السبيل للرؤية دون النَّظَر، أو للبدء بالنّظر بصورة مختلفة. طاقة الشمس هي التي تقود ذلك المسار نحو الرؤية.
في كتابها Molecular Red: Theory for the Anthropocene،[3]Wark, McKenzie. Molecular Red: Theory for the Anthropocene. Verso Books, 2016. تقول ماكنزي وارك إنّنا، أثناء عملية الإنتاج والحيوية، لا بد أن نتذكّر أنه لا يمكن الفصل بين طاقة العمل والطاقة الجوهريّة للطبيعة. لذلك، من المفيد أن نتذكّر أن العلاقة المتأصّلة والمتلازمة بين العمل والطبيعة تمثّل أساس ديناميكية الإنتاج التي تغذّيها الطاقة الشمسية. إذن، جُهد النظر هو علاقة بين السعي البشري وضوء الشمس: السّعي بهدف جعل شيء ما يظهر أو يختفي.
2 - فائض الرؤية
لقد فتح الاقتصاد العالمي الذي نعمل فيه مساحة من النظر والإبصار تسمح بالكثير من الرؤية والقليل جداً منها في نفس الوقت. وفقاً للمنطق ذاته، تكمُن أزمة رأس المال في فائض الإنتاج وليس في نقصه، كما يمكننا القول إنّ "أزمة (الرؤية) هي في فائض إنتاج" الصوَر، أي في تراكم وتكديس الصوَر التي ينتهي بها الأمر خَفيّة غير مرئية بسبب الإفراط في النظر إليها والإسراف فيها.
أدى تدخّل الضوء، ضوء الّشمس، إلى جانب تكنولوجياتنا الساذجة وغير المتطورة إلى إنتاج صوَر إمّا مظلمة للغاية أو ساطعة للغاية. هي صوَر ترفض مَنْحنا أي تدقيق في مسرح الجريمة، ربما لأن المنطقة بأكملها هي مسرح جريمة، أو ربما لأنّ هذه الصور تعلم جيداً أننا توقّفنا عن النظر إليها. والموقع، مسرح الجريمة لا يثق في فائض الإنتاج، بل يقاومه. قد تبدو هذه فكرةً رومانسية، ولكن السؤال هو: لماذا نحتاج إلى تصوير مثالي وكامل لمسرح الجريمة بما أننا نعرفه جيداً؟ قد يساعدنا الدليل الفوتوغرافي كوثيقة نعرضها أمام العالم وفي المحاكم، ولكن بما أننا خسرنا المعركة القانونية، فإننا بحاجة إلى معركة أخرى، وبالتالي إلى رؤية أخرى، أو جهد آخر للرؤية.
في الغرفة المظلمة حيث نقوم بتظهير الصوَر الفوتوغرافية، يصبح فقدان البصر هو الأداة الأهم كي نتمكّن من رؤية الصوَر التي تظهر على الشريط السلبي بعد عملية التحميض. إذا أردنا أن نرى، فعلينا أن ندخل إلى الغرفة المظلمة. قد يبدو هذا وكأنه مسار لاهوتي مسيحي (السير في الظلام لرؤية نور الله)، لكنه مجرّد إجراء علميّ لتظهير الصوَر. وقد نرغب في التفكير في علاقة المسار اللاهوتي المسيحي بالعِلم، الذي يبدو كأنه موضوع آخر، ولكنه ليس كذلك.
في سنوات مراهقتي المبكرة، كنت تلميذة في مدرسة يسوعية كاثوليكية لا تبعد كثيراً عن مسقط رأسي بيروت. ذات يوم، وعندما كنت في الصف الخامس، إن لم تخُنّي الذاكرة، رأيت العديد من الطلاب يقفون داخل مكتب المدير ويتناوبون على النظر إلى ورقة موضوعة أمامه. انضممت إليهم بدافع الفضول المحض، ليتبيّن لي أن الورقة التي كانوا يحدّقون فيها لم تكن إلّا نوعاً من الرسومات المنسوخة الرخيصة لما يشبه هيئة قديسة أو ربما مريم العذراء نفسها. كانوا يقفون في طابور ثم يجلسون على كرسي، يحدّقون في الورقة لمدة دقيقة واحدة ثم يشيحون بنظرهم نحو الحائط. بعد ذلك، يطلب منهم المدير أن يتمنّوا أمنية. كنتُ أرى وجوههم تتغيّر لحظة نظرهم إلى الحائط، وقد انعكس ذلك أيضاً على أجسامهم وهيئاتهم عندما كانوا يتركون الكرسي ليعطوا دوراً للآخرين. عندما جاء دوري، أخذت نفساً طويلاً وحدّقتُ في الورقة لمدة دقيقة، ثم رفعت رأسي سريعاً ونظرت إلى الحائط، فظهر أمام عينيّ ظلّ القديسة أو العذراء مريم، وانتابتني الدهشة لدرجة أنني غفلت عن التمنّي، واضطررت فجأة إلى ترك الكرسي كي أعطي دوراً للطالب التالي. كنتُ لا أزال أراها بعد أن وقفتُ، إلى أن تلاشت هيأتها واختفت. أذهلتني تلك اللحظات وأبهرت نظري. في اليوم التالي، أخبرَنا أستاذ البيولوجيا بشيء من السخرية أنه سمع من الطلاب عن حادثة “ظهور” مريم العذراء، وأوضح لنا بشيء من الغطرسة والتعجرف أن هذا مجرد وهم بصري يجب دحضه. شعرت بالارتياح كوني لم أتمنّ شيئاً، ورأيت خيبة الأمل على وجوه العديد من الطلاب. أدى هذا إلى فتح نقاش طويل بعد الحصة الدراسيّة حول ما إذا كنا نؤمن بالله أم لا.
يبدو أن البصر كان جزءاً من الآليات التي اعتمدها المبشّرون المسيحيون في تنفيذ أولى عمليات السطو على الأراضي. فقد عمدوا إلى استخدام صور القديسين وعرضها أمام السكان الأصليين بهدف إخضاعهم وتطويعهم وإقناعهم بالتخلي عن أراضيهم وأملاكهم. ما نراه، ما لا نراه، ما الذي يجعلنا نؤمن بما نراه وما الذي لا يجعلنا نؤمن به: قد تكون رؤية طَيف مريم العذراء على الحائط جزءاً من آلية السَلب والتراكم التي تعتمدها الكنيسة، بحيث يصبح الإيمان بما يتجلّى أمامنا هو المغزى.
بالنسبة لغير المؤمنين العقلانيين، ليس هذا إلا مجرد وهم وخداع بصري، أما بالنسبة للمؤمنين فهذه حقيقة ومعجزة، غير أن كلاهما يستلزم مَهمّة النظر، أي التحديق طويلاً في النقطة نفسها. ما يظهر هو ثمرة جُهد مبذول، الأمر الذي سرعان ما يطرح تساؤلات حول السياسات النيوليبرالية في الإظهار والإخفاء، الاعتراف من خلال الإظهار. أمّا الظهور والاختفاء، فهما يقعان في إطار آخر هو إطار العمل والدين والكيمياء وأحد أنواع التعهُّد والتقيُّد. تصبح مهمة النظر شرطاً متأصلاً لِتَمام الإيمان، وبالتالي الأداة المطلقة والأساسية للسلب والحرمان والاستيلاء على الأرض، ولنزع الملكية والاقتلاع والخَلع والتراكم.
3 - كيف نقيس الفراغ؟
يجب أن يكون ما يُحفر في الأرض للوصول إلى الماء، أو ما يعرف بالبئر، بعمق 50 متراً على الأقل، ولهذا السبب هو مكلف للغاية، إذ تستغرق أعمال الحفر وقتاً طويلاً وتعترض العديدُ من العوائق طريق إتمامه. تُزال أطنان من التربة بتكلفة قد تصل إلى مئة ألف پيسو كولومبي يومياً، وتستغرق هذه المهمة ما لا يقل عن 90 يوماً أو أكثر، أي أنّ تكلفة عملية حفر البئر قد تصل إلى ما يقارب الخمسين مليون پيسو كولومبي. هذا هو ثمن إحداث الفراغ الذي يشكّل في حد ذاته، وبتعبير مجرّد، الذريعة المطلقة للغزو والاستعمار. هناك فراغٌ للعيش وآخر للمضاربة والتراكم والإخضاع. على هذه المفاهيم أن تتلاشى لتفسح مجالاً لرؤية جديدة.
تشبه رؤية الفراغ المحفور في الأرض لبناء البئر رؤية الظلمة أو دخولها. هي أشبه بفقدان البصر للحصول على الماء، وهي مثل التحديق في صورة القديسة من أجل رؤية مجرّد طيف على الحائط، وهي كالدخول إلى الغرفة المظلمة من أجل رؤية الصورة الفوتوغرافية. إن مَهمّة الحفر مشابهة لمَهمّة النظر، بمعنى أنه يُفرِّغ ويتنحّى ليفسح مجالاً للرؤية، أو أنّه يفقد مجال الرؤية ثم يعمل جاهداً لاستعادته.
إذا تعدّينا المادة البشرية والفيزيائية، يصبح الفراغ فضاءً مفعماً بالطاقة.
وفقا للفيزياء النيوتونيّة، الفراغ هو المكان الذي تغيب فيه المادة والملكية والقوانين، مما يعني غياب أثر للطاقة. تُضيف المنظّرة كارين باراد أن الفراغ في علم الفيزياء الكميّة هو المكان الذي تتشكّل فيه الجسيمات، وبالتالي هناك ارتباط وتلازم بين الفراغ والمادة. الفراغ ليس صمتاً. الفراغ يبوح ويتمتم، تقول براد، هو فضاء تعاكس فيه الطاقة مفهوم الفيزياء النيوتونية وتتعارض معه. فالفراغ الذي يتمّ التسلّح به كذريعة استعمارية/رأسمالية توسعيّة مطلقة بهدف الاستيلاء والاستملاك والمصادرة، إنما هو مساحة تكوُّنٍ دائم للطاقة، وهو مساحة يجب التنبّه والإنصات إليها. لذا، فإن الفيزياء الكميّة قد أطاحت بالكامل بالمفهوم النيوتوني للفراغ كخواءٍ وخُلُوّ. لا توجد مساحة فارغة، ذلك لأن المادة هي في حد ذاتها كيان يفكّر، تقول باراد[4]Barad, Karen. Meeting the Universe Halfway: Quantum Physics and the Entanglement of Matter and Meaning. Durham, N.C.; London: Duke University Press, 2007.. وفقاً للفيزياء الكميّة، المساحة الخالية من الملكية والقانون هي في الواقع المساحة التي تتكوّن فيها الجسيمات وتتشكل في كَنَفها تنسيقاتٌ وتنظيمات جديدة.
4 - كيف نقيس الأرض؟
عندما نحتاج إلى قياس مساحة ما على الأرض مباشرةً، علينا تقسيم قطعة الأرض إلى وحدات ذات أشكال هندسية منتظمة، مثل المثلثات أو المستطيلات أو رباعيات الأضلاع. ثم نأخذ جميع القياسات اللازمة ونجمع مساحة تلك الوحدات وفقاً للصِيَغ الرياضية.
5- تَمَدُّد
تُمدِّدُ جسدها لتؤدي جميع مهام رعاية الآخرين ولتحافظ على الأرض. الرعاية التي تؤديها النساء كل يوم تحملهنّ مسؤولية حياة الآخرين وأخطاء الآخرين وعمل الآخرين. تُمدِّدُ جسدها للاختباء وللتكشُّف.
تبسطُ جسدها وتلويه كي تقوم بواجباتها. جسدها أداةٌ للآخرين. جسدها تهديد للآخرين. جسدها عقبة أمام التوسُّعيين. هي، تمسكُ بالعالم، والإمساك بالعالم من الأسفل أمرٌ خطير.
اعتادت مريم، السيدة التي كانت ترعاني في طفولتي، على تخزين الخبز في الثلاجة واخفاء أكياس من الأرز والعدس في الخزانة ومراقبتها عن كثب للتأكد من عدم نقصان كميتها. بعد أن عاشت الحرب العالمية الأولى واجتياح الجراد والحصار القاتل الذي فرضه “السَفّاح” جمال باشا على جبل لبنان، خشيَت مريم عدم توفّر الطعام. وسردت لي ولإخوتي تاريخ المجاعة الكبرى في جبل لبنان من خلال القصص المصورة لشقيقَيها المتوفَّين. الأوّل اختنق بعشب الشعير عندما حاول ابتلاعه بسرعة بسبب الجوع، والثاني ضربه الكاهن وأستاذ المدرسة على جبينه بقوةٍ جعلته يُصاب بالدوار ويفقد حاسّة السمع، "عاد إلى المنزل، خلد إلى النوم، ولم يستيقظ أبداً". سألنا مريم مراراً وتكراراً عمّا حدث للكاهن وما إذا تمّت محاسبته، ولكنها كانت دائماً تتجاهل هذا السؤال أو تصرخ قائلةً إنه لا يمكن لأحد محاسبة رجل دين. كانت مريم تشعر بتعرّض أخيها للظلم وتعرف أن الحياة كانت مُجحِفة بحقّها وبحق أخوَيها، لكنها رضيت بذلك. كما أنّها كانت إنسانة هامشية، تعبّر عن هامشيتها من خلال قسوتها نحوي. تعرّض شقيقها للظلم والتعنيف على يد ممثّل الله على الأرض، فمات. ولكن أحد لا يمكنه أن يحاسب كاهناً.
هكذا كانت حياة عوائل الفلاحين الذين حُرِموا من أراضيهم. كانت مريم مدركة أنّها اضطرت للعمل في منازل الغرباء كمربيّة وطاهية لأنها لم تُجِد القراءة والكتابة، كما كانت مدركةً أنّ الحياة عاملتها بمرارة ووحشيّة. وعلى الرغم من كل ذلك، لم تتوقّف يوماً عن الاعتناء بالآخرين، كانت تلك هي طريقتها الوحيدة لكسب رزقها ولقمة عيشها.
اعتنت بأراضي الآخرين عندما عملت في حقول الزيتون قبل أن تُرسَل للعمل في منازل المدينة كي تعتني مجدداً بحياة الآخرين. فقدت مريم قيمة مدخّراتها بعد انهيار الليرة اللبنانية أبان الحرب الأهلية سنة 1986. وكان ذلك المال هو آخر ما تملك في هذا العالم. بعد سنين من العمل، وجدت نفسها عاجزة، مرة أخرى، أمام عائلتها التي تتهرّب منها وتتجنّبها. لقد خسرت مرة أخرى أمام زوجة أخيها التي أساءت معاملتها عندما كانت طفلة. لم تعاملها مريم بالمثل عندما جائتها بطلب المال. الآن، لم تعد مريم تملك الكثير. كانت، مرة أخرى، مهملة ضعيفةً واهنةً بلا حول ولا قوة.
في القرية التي أتت منها، الأرض جافة، أو عقيمة كما يقولون. ليست قاحلة تماماً، ولكنها صالحة فقط لأنواع قليلة ومحدودة من الزراعات.
على الرغم من أن البلاد كانت تتجه نحو نزعةٍ إتّجارية وتفاوت اجتماعي واضح ومتزايد، كان لثورة الفلاحين في جبل لبنان تداعيات مهمة. في القرن التاسع عشر، كانت ملكية الأراضي ستشهد عملية تحديث وإصلاح شاملة، وانتقال من نظام الإيجار الضريبي إلى الاعتراف بحق التملك الوراثي للأرض. وكانت العائلات التي مارست أدواراً معيَّنة في إطار نظام الإيجار الضريبي العثماني، ستطالب بحقوقها في التملّك كمزارعين. من ناحية أخرى، كان الفلاحون يزعمون بأنهم هم من تمكنوا من إقامة علاقة حميمة مع هذه الأرض، حميميّة في القُرب والمُجاورة والفلاحة والزَّرع، وعلى ذلك فإنّ هذه الأرض هي جزء من هويتهم وتجربتهم وحياتهم المشتركة معاً.[5].قوانين الملكية في جبل لبنان في عهد الإمبراطورية العثمانية”، مقابلة مع وسام سعادة، 2021“
على الرغم من إعادة توزيع الأراضي، لم تتمكن مريم من الحصول على الميراث، ذلك لأنها وُلِدَت أنثى، فحُرِمَت منه مثل العديد من النساء الأخريات من جيلها. ينصّ القانون بوضوح على قانونية حرمان طفل من الميراث، وقد استُغلّ هذا القانون ضد النساء من أجل الحفاظ على الميراث ضمن السُلالة الأبوية.
تقول مايا مكداشي في مقالها “دليل شخصي لأن تكوني امرأة في لبنان”:
قانون المواريث لغير المسلمين: يتمتّع الرجال والنساء، وبالتساوي، في الحقّ في الميراث الشّرعي بموجب قانون مدني يُطبَّق على جميع المسيحيين واليهود في لبنان، تنظّمه المحاكم المدنية. وفقاً لهذا القانون، يحقُّ للأب أن يحرم طفله من الميراث.[6] ."مايا مكداشي، أن تكوني امرأة في لبنان (الجزء الأول)، 3 كانون الأول/ديسمبر 2010، نُشر في “جدلية
6 – من يفلح الأرض؟
الأرض ملك الله، ويعود أصل ملكيتها إليه وحده. أمّا استخدام الأرض وإنتاجها فيعود للمزارعين، وحدهم القيّمين على رعايتها. السُّلطان هو المزارع الأكبر، والسُّلطان هو الذي يعيّن جابي الضرائب. لا يوجد في “نظام التيمار”العثماني مُلّاكٌ للعقارات، إنما فقط مستأجرون.
عُدِّل هذا الاعتقاد الذي يحدّد العلاقة مع الأرض في ظلّ الحُكم العثماني خلال فترة “التنظيمات” (أي الإصلاحات).
قبل ذلك، لم يكن هناك توريث تلقائي بالدم.
لم تكن الإمبراطورية العثمانية لتسمح لنفسها بتطبيق نظام فصل السلطات. بل كان الانتداب الفرنسي هو الذي أتى بهذا النظام ومعه نظام قائم على الملكية الخاصة يعزّزه على نحوٍ متزياد.[7].وسام سعادة، المرجع نفسه"
الملكية الخاصة هي أحد الدوافع الأيديولوجية المركزية للانقسام بين المحيط الحيوي غير البشري والصراعات السياسية البشرية التي تنبثق من نمط الهيمنة الاستعماري التوسعي (فرِّق تسُد). والتقسيم هو ما ينمّي نمط الهيمنة هذا، فهو متجذّر في كل علاقة اجتماعية وملازم لكل إدراك ليبرالي حديث للذات بالعلاقة مع العالم (العالم غير البشري). وهذه العلاقة مبنية على التقسيم والتجزئة بين المزارع والأرض، مما يحول دون تحالف الصراعات البشرية وغير البشرية.
لكن الواقع المادي للأرض لا يمكن إدراجه بالكامل ضمن نظام قانوني. ما يبقى خارج هذا القَيد هو ما يجعل العلاقة بالقانون مشوبة وغير كاملة. هذه الفجوة هي التي تعقّد مسألة الملكية: الفجوة بين القانون وماديّة الأرض، أي البكتيريا والميكروبات وغيرها من مكوّنات التربة. في هذه الفجوة، تصبح مسألة الملكيّة والميراث معقّدة للغاية.
ماذا نرث فعليّاً عندما نرث أرضاً؟ نرث أشجاراً وزيتوناً ومحصولاً، نرث البكتيريا والميكروبات، نرث التربة ومكوّناتها.
الإرث هو أيضاً مركّبٌ من عناصر كيميائية مختلفة تعمل معاً على انتاج القيمة المضافة. تعمل المكوّنات البكتيرية يداً بيد للمحافظة على التربة ولصَون خصوبة الأرض وقيمتها.
الإرث كيان كيميائي وخيميائي (الخيمياء كفرع قديم للفلسفة الطبيعية).
ليس الفراغ عصيّاً على القانون أو مخالفاً له، إنما هو تركيب كيميائي.
المساحة الخالية من الملكيّة هي المكان الذي تتشكل فيه الجسيمات.
اليوم، السِجِل الوحيد المعقول هو تأريخ سِجِل الحرمان من الإرث. وهو الجهد الحرّ الذي تبذله الميكروبات والتكوينات البكتيرية التي تسمّد التربة وتساعد الأرض في الحفاظ على قيمها الخصبة والمثمِرة. يُعتبر المحرومون من الميراث أفراداً هامشيين، فعلى الرغم من الاعتراف بهم كمواطنين بهدف الحفاظ على السيطرة والإنتاج، إلّا أنهم محرومون من أي إرثٍ أو تَرِكة.
شاق وثقيل هو الاقتصاد الدَيني العاطفي والوجداني الذي يتعيّن على الوريثات تحمُّله. يتعيّن على أولئك النساء أن يشعرن بالامتنان لعدم حرمانهن من الميراث، فيما لا ينفكّ القانون يهدّدهن بحرمانهن منه.
الحرمان من الميراث ليس هزيمة، الحرمان من الميراث هو فيضان داخل المنظومة.
نحن نرث إمّا طوفاناً أو جفافاً.
نحن محرومات من الإرث بسبب فيضان.
نحن نرث نظاماً غارقاً ومَغموراً.
لكن، ما هو الميراث خارج قوانين الملكية؟
أو، ما هي الملكية عندما يُبطِلها الحرمان من الميراث؟
تظهر الملكية وتختفي من خلال الميراث والحرمان منه.
يظهر العمل ويختفي من خلال السيولة.
تتبخّر السيولة مع التعرّض للشمس والإفراط فيها.
تذوب المفاهيم عندما تنتهي السيولة.
نرث شمساً لاسعة.
7 - نهاية السيولة
رأيتُ حلماً: خريف العام 2019، أرى نفسي جالسةً مع والدي أحاول أن أسأله عما إذا استطاع سَحب مبلغ 300 دولار من حسابي المصرفي. ينظر إليّ بصمت دون أن ينطق بأي كلمة، أُصرّ وأسأله مرة أخرى، لكنه لا يومئ سلباً أو إيجاباً. فجأةً، يظهر رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في منامي وأجد نفسي جالسةً معه في غرفة مكتب حيث يبدأ بالحديث عن الهندسة الاقتصادية التي اعتمدها في التسعينيات إبان تعيينه رئيساً للوزراء. ومع بدء مشروع إعادة الإعمار الذي وُضِع قيد التنفيذ بعد إبرام قانون اتفاق الطائف في نهاية الحرب الأهلية اللبنانية. يُريني رسوماً بيانية تُظهِر تدفّقاً ما، بينما يطمئنني ويقول لي ألّا أقلق، حتى ولو، في مرحلة ما، بدا أنه لا توجد سيولة في البلد، إلا أنها لا بدّ أن تعود. "حافظي على هدوئكِ"، يقول لي، "السيولة لا تختفي حتى عندما تظنّينها اختفت، ستظهر من جديد لا محالة". في تلك اللحظة، أجد نفسي فيما يشبه غرفة نومي، أُمسِك بهاتفي وأتّصل بصديق لي وأبدأ بالصراخ فيه.
كان لصمت والدي يليه خطاب رئيس الوزراء ثم صراخي في صديقي وقعاً محموماً ومتوتّراً، إذ كان الحُلم مرتّباً، لقطة تلو الأخرى، داخل تلك المشاهد الثلاثة المتزامنة: عجزُ والدي، والغضب الذي اعتراني تجاه سياسات رئيس الوزراء الاقتصاديّة، بينما يحاول هو إقناعي بأن غياب السيولة هر مجرد وهم بصري. ظل يردّد قائلاً "حتى لو كنت تعتقدين أنه لم يعد هناك سيولة، فهي حتماً ستعود". كما لو أن الأزمة الاقتصادية برمّتها كانت نتيجة إضطرابي النفسي، وكما لو كنتُ أنا المجنونة لأنني صرخت في صديقي أو أصررت أن يكسر والدي صمته.
بدا صمت والدي مجحفاً وجائراً تماماً كخطاب رئيس الوزراء. حتى في منامي لم أستطع أن أتحدّى، وبطريقة مباشرة، السلطة التي يمثّلها هذان الرجلان. في منامي، بدا كلٌّ منهما متواطئاً مع فعل حجز الأموال؛ مهندس النظام الاقتصادي المتداعي، صاحب الميراث الصغير الذي سيبقى مُحتجزاً، بالإضافة إلى شخص ثالث كان بمثابة مكسر عصا.
في مشهد معتاد من الحياة اليومية في لبنان اليوم، قد نرى امرأة تصرخ في المصرف وهي تحاول سحب أموالها للدخول إلى المستشفى أو دفع أقساط أطفالها المدرسية أو تحويلها إلى ابنتها التي تكمل دراستها الجامعية في الخارج. هذه المشاهد التي وُثِّقت بانتظام قبل بضعة أشهر أصبحت الآن جزءاً طبيعياً من المشهد.
إن الجهد المبذول في هذه المدّخرات التي جمعتها النساء خلال سنوات وسنوات من المشقّة والعمل هو نفسه الجهد المبذول للمحافظة على النظام الأبوي وإبقائه مُفعَماً، طافحاً. هو نفسه الجهد الذي يمارَس للحفاظ على نظام الإنتاج. الممرّضات والراعيات وربّات البيوت والمعلمات والأخصائيات الاجتماعيات والعاملات المنزليات... جميعهنّ جُرِّدن من قيمة أعمالهنّ. لقد جُرِّدن من قيمة العمل الإنتاجي الذي يدعم آلة الإنتاج الرأسمالية الأبوية ويصونها. هو إذاً إذلال مزدوج تتبنّاه الرأسمالية الأبوية العنصرية التي لا تكفّ عن استغلالنا وإذلالنا لتحافظ على حياتها. إن النظام الأبوي لا يقوم على استغلال الجهد الإنتاجي فقط، بل أيضاً على إذلال الجسد نفسه الذي يقوم بذلك الجهد بعد أن يكون قد أنهى عمله.
الإذلال هو أكثر من مجرد استغلال. الإذلال هو استغلال مزدوج.
إنّ التواطؤ والحميمية بين الصمت والكلام في الحلم الذي أبصرته كانا بمثابة الدرع الذي احتمى به وَهمُ التسعينيات المكوَّن من تلك البنية الصلبة التي لا تنهار أبداً والسيولة التي لا تنتهي أبداً. تلك السيولة التي تتحرّك بحرية داخل هذه البنية الصلبة المصنوعة من الفولاذ والاسمنت. هي وليدة هذه البنية ومن صنعها. يتكشّف وهم الصلابة وينفضح في نفس اللحظة التي يختفي فيها الاسمنت والسيولة أو يتبخّران ويتحوّلان إلى هواء، على الرغم من المحاولات الحثيثة لتمتينهما مرة بعد مرة عبر حمايتهما وتحصينهما. يدرك المرء أن العديد من هذه الأرقام كانت هواءً طوال الوقت. يعمل النظام على رعاية “الحسابات الكبيرة”، أي حسابات النُخبة الحاكمة، من خلال سَلب الحسابات الصغيرة واحتجازها، ومن خلال إذلال الأجساد التي تقوم بالعمل الإنتاجي، وما يُسمّى بالحسابات الصغيرة، هو عمل المصارف الإنتاجي. النظام المصرفي إذاً هو جوهر النظام الأبوي ونواته ومحوره.
المصرف هو الوعي حيث تحدث الحركة المادية. وخسارة هذه البنية الفوقية والمؤسساتيّة، أي المصرف، هي خسارة وهم النظام الأبوي الذي، وفي حالة هذا النظام تحديداً، لا يمثّله ديكتاتور، بل المصرف نفسه.
رأيتُ في منامي أنني أسير في “شارع لبنان” حيث نشأت، وبأنني توقّفت عند ماكينة الصراف الآلي لأحاول سحب راتبي الشهري. أُدخل الكود الخاص بي وأضغط على “enter”، وفجأة، تبدأ المياه بالتدفّق من داخل الماكينة. أحاول إنقاذ بطاقتي لكنني أفشل. تبتلع الماكينة البطاقة وتبدأ الماكنة بالفيضان. يتبلّل كامل جسدي بالمياه وأحاول أن أنقذ نفسي من هذا الفيضان.
كل صَلب يذوب في الهواء، كل مُقدَّس مُدنَّس. يرى الإنسان نفسه، وبجميع حواسه الصاحية، مُرغَماً على مواجهة ظروف حياته الحقيقية وعلاقاته مع بَني جنسه.
كل سائل يتبخُّر. سطح المظاهر حيث تتهالك أنماط الإنتاج هو واجهة المصرف اللمّاعة.
Footnotes:
↑1 | .غروپو سيميّاس (Grupo Semillas) هي منظمة غير ربحية مقرّها بوغوتا، تعمل مع المزارعين/ات والمحافظين/ات على البذور في مناطق مختلفة في كولومبيا |
---|---|
↑2 | “إتفاقيّة المزارعات والنّسويات البيئيات” هو مشروع أقامته مروة أرسانيوس في مدينة وارسو ضمن فعاليات بينالي وارسو في شهر يونيو/تموز من العام 2019. ضمّ المشروع 17 مزارعاً/ة ونسوياً/ة بيئي/ة ومحامين/ات وناشطين/ات وموسيقيين/ات وفنانين/ات. |
↑3 | Wark, McKenzie. Molecular Red: Theory for the Anthropocene. Verso Books, 2016. |
↑4 | Barad, Karen. Meeting the Universe Halfway: Quantum Physics and the Entanglement of Matter and Meaning. Durham, N.C.; London: Duke University Press, 2007. |
↑5 | .قوانين الملكية في جبل لبنان في عهد الإمبراطورية العثمانية”، مقابلة مع وسام سعادة، 2021“ |
↑6 | ."مايا مكداشي، أن تكوني امرأة في لبنان (الجزء الأول)، 3 كانون الأول/ديسمبر 2010، نُشر في “جدلية |
↑7 | .وسام سعادة، المرجع نفسه" |