ازدادت كوابيس البدين فترة الامتحانات.
روى على جدته حلمين. أوقفته قبل أن يشرع في سرد الثالث. حذّرته من أن يحكي كوابيسه لأحد. إن فعل تحقّقت. أتت بقطعة ورقية وقصّتها على هيئة عروسة بوجه وذراعين وساقين. خزَّقت العيون ثم أحرقتها. غطّت جبهته بالرماد. تلت عليه بعدها آيات مختارة من الذكر الحكيم. نهته عن التحرك. تركته جالساً على حرف سريره ثم خرجت وقد أغلقت باب غرفته من ورائها. شعر برغبة في حك فخذه لكنه التزم بتعليمات الجدة. دخلت عليه بعدها بدقائق إذ انتشر أذان الفجر. أمرته بالوضوء ليؤمّها في الصلاة.
سمَّى. غسل كفيه. تمضمض. جذب الماء من منخاره الأيمن وأخرجه من الأيسر. غسل وجهه. مرّر الماء على يديه وحتى كوعيه. بلَّل شعره. شطف عن أذنيه الشمع. تعسّر عليه رفع قدميه إلى الحوض. اكتفى برمي الماء عليهما.
كان لحمه الزائد يصفق مع كل ركعة. سلّم على الملاكين. خفّف حِمل كتلته عن ركبتيه عند الوقوف بالاستناد إلى الحائط أمامه. قبّل يد جدته. كانت تسبّح. عاد لمذاكرته. انشغلت بدروسها.
جدته معلمة تحفيظ قرآن بترخيص من وزارة الأوقاف. مجموعتها على تيليجرام هي الأشهر لتلقين القرآن بالتجويد للأطفال والنساء. كل يوم من الفجر للعصر تسمع وتعدّل وتحفِّظ وتفسّر بلا مقابل مادي. على عكس الرسول، لم تقبل أية هدايا.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
لم تتوقّف كوابيس البدين. ازدادت. تمثّلت له في واقعه.
حلم أنه ممدد على كرسي الأسنان تحت كشاف أعماه. فمه مفتوح، والطبيبة أعلاه. كان كبيراً جداً. سقطت الطبيبة في فمه المفتوح على وسعه أثناء الكشف. قالت من تحت لسانه: "أسنانك كلها بايظة يا مسكين. هناخد مقاسات ونعملك طقم كامل. لازم نخلع كل دا. هرس الطبيبة بين فكيه. لفظها في المبصقة."
استيقظ على وجع بدأ في سن وحيدة، ثم انتشر لبقية أسنانه بالطول والعرض، حتى أنه لم يستطع تحديد مكانه. ازداد الألم مع الشرب والمضغ واصطكاك الأسنان أثناء حل المسائل جالساً إزاء المكتب على كرسيه الذي استحمل لساعات طويلة طيزه الثقيلة بفسائها المكتوم.
لا متسع للذهاب لأطباء. امتحانه القادم والأخير بعد ثلاثة أيام. بلبع المسكنات بوفرة، لكن الألم لم ينتهِ. لم تتوقّف كوابيس البدين.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
بدأ البيت يتداعى.
يعيش مع جدته في بيت واسع من أربع شقق وطابقين. ربط سلم خشبي داخلي الشقتين فوق بالشقتين تحت. كان يشتكي لها أحياناً من مدى سعة البيت عليهما، هما الاثنين فقط. طمأنته بأنها تملأه بالقرآن والبخور. نشرت الملح عند أركان الغرف المقفلة منذ زمن.
الكثير من الأثاث ليزحم البيت.
شقوق في الحوائط. صفير أنابيب المياه. حنفيات تنقّط. بلاط مشروخ. سقوف مصفرة. صرير مفصلات الأبواب. شبابيك بأطر مفكوكة تسرّب البرودة. ملاءات لا تُهوَّى. بطاطين لا ترى الشمس. عفن خشب الدواليب. غسيل مكمكم. غسيل على المنشر لا يُلَم. مدفأة كهربائية تحتاج للتشحيم. مراوح سقف علاها التراب وثقيلة الحركة. الكراسي تئنّ. النمل يقتات على بقايا طعام مهمل على الأرض. مواعين متراكمة على هيئة تل في حوض صدئ. كل ذلك يُرى تحت ضوء لمبات موفرة للطاقة.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
لا ينام كثيراً فترة الامتحانات.
في غرفته تتناثر الأوراق في كل ناحية. على المكتب. على الأرض. على السرير. يدوّن الملاحظات على كروت فسفورية ويلصقها على الجدران. لابتوب مفتوح طوال الوقت بمروحة تبريد عالية الصوت. يقلّب في المراجع بحثاً عن أصل كل معلومة. تدخل عليه جدته بالمحمصات والمخبوزات والمشروبات والحلويات. تتركها وتخرج بلا كلمة. يردّد القوانين باستنتاجاتها وهو يتخيّلها على هيئة خرائط ذهنية ممتلئة بالرموز. يتلوها على نفسه بشفتين ملطختين بالزيت والشوكولاتة.
عندما لا تتبقى مساحة في مخه لاستقبال معلومات جديدة، يستريح على الصوفا الواسعة لمدة تُقاس بدورة نوم واحدة. عندها يحلم. اشترك في النادي ليتعلّم مبادئ الانسياب في الطفو على الماء. في الحصة الأولى اختبره المدرب وألقاه في البسين. فشل وغطس. ثقل الشحم اختفى. في الحلم كان ذائب الدهون. حاول الطلوع بلا جدوى. بقي يستكشف تحت الماء. قدماه للأعلى. رأسه للأسفل. شعب مرجانية وطحالب ونجوم وردية. اقتربت منه سمكة بفم غليظ وأسنان متآكلة. قالت له بلغة الأسماك: "وانت هتعمل إيه بحياتك غير إنك هتعيش مبضون؟"
استيقظ على صوت جدته تصحّح لمُريدة تلاوة خاطئة. أتى صوتها من بعيد كأنها تتحدّث من داخل صندوق مملوء بالماء. دحرج نفسه من على الصوفا وسقط على السجادة. ظنّ أنه لا يزال يغرق. فُتح الباب. اشتعل النور. قالت له: "الشروق قرّب والفجر هيفوتك. يلا اتوضّى علشان ربنا يوفّقك في الامتحان النهارده." طبعت له قبلة في الهواء، ثم خرجت.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
مبرمَج. الشمس طلعت فتحرّك.
فتح باب الحمام في منتصف الطرقة. رأى خنزيرة بتنورة كاروهات في منتصف قاعة رقص مضاءة بنور برتقالي. ظلّ واقفاً على عتبة الباب يتأمّل. الأرض مغطاة بملح الوقاية من الحسد. في الركن خنزؤور على أربع بقناع لاتيكس يمرمغ وجهه في طشت من طين. الخنزيرة ترقص على إيقاع أغاني المهرجانات كما الشبيحة. لما لاحظَته شخَرت شخرة استغراب. رزع الباب.
في الضوء الشحيح بالطرقة، نظر حوله ليتأكّد من موقعه في البيت. كشط الحلم عن عينيه ليتيقّن من مكانه في الواقع. استعاذ بالله من الشيطان وخبائثه. فتح الباب برفق. تلاشت الرؤية. دخل مقدِّما قدمه اليسرى.
وقف أمام الحوض. رفع بطنه بيد فتدلّت حمامته النائمة. باليد الأخرى ضغط على مثانته فتحرّر السائل شفافاً. فتح الماء فغُسِلت قطرات بوله. شطف عضوه. أرخى البطن فترهَّلت.
في المرآة، كل مَعلَم في وجهه منفوخ. عيناه ضيقتان داخل المحجرين كخندقين كساهما جفنان متورمان. لُغد متصل مباشرة بالصدر. رؤوس سوداء على أنفه المفلطح كثقوب إبر. ثم يتكتّل كل شيء آخر بلا تكوين واضح. صلصال غير مشكَّل.
شغّل الماكينة فانطلق منها صوت كهربائي متذبذب. بدأ يحدّد ذقنه. خفّف الشعر عن أعلى الخدين. عن أسفل اللُغد حيث يتجمّع العرق. لكن تحديد الذقن لم يجعل شكله أحسن. السبب هو تشعث شعره البني عند جانبي رأسه. من الأعلى شكَّل شعره موجة تتحرّك من اليسار وتعلو ثم تهبط في اليمين. اتّصل السالفان باللحية. فكر أنه سيستفيد من حلقة رأس جديدة ترسم ملامحه بشكل أفضل. عندها سينحف وجهه بمقدار كيلوغرامين. ربما ثلاثة.
جلس على المرحاض السيراميكي. بقايا شعر ذقنه على الحوض وعلى تهدلاته. بيده سطل من قطع الفراخ الكريسبي. يلتقط القطع المقرمشة بأطراف أصابعه الطويلة السميكة ويلقمها بفمه المعبَّأ. تدخل القطع المقلية من فتحة وتخرج من أخرى .
اختبر حرارة الماء في البانيو بإصبعه. اطمأنّ فتمدّد وطفا. لم تلمس مؤخرته قاع البانيو العميق. خضّرت الرواسبُ الجيرية الماء. كان يردّد المعادلات بترتيبها في المراجع بصوت غير مسموع. شفتاه تتحرّكان وصوته ينطلق للداخل.
دخلت عليه جدته. حشرت في فمه قطعتي شوكولاتة. دعكت رأسه بالشامبو. دلّكت جسمه بالرغاوي. يمضغ القطعتين الكبيرتين. تتجمّع ريالة بنية عند جانبي فمه. تتساقط على لُغده ومنها لصدره. ثم يهبط البني في الماء ليمتزج بالفقاقيع والخَضار. أغلق عينيه فرأى خنزيرة تدهس رأساً بكعبها العالي. فتح عينيه من الرعب فدخل فيهما الصابون. ساعدته جدته في الخروج من حوض الاستحمام. نشّفت جسده بمنشفتين. ألبسته قطعتي لباسه الداخلي. فتحت باب الدولاب المخلع واختارت له من الملابس أدفأها على بنطال قماشي كحلي. جفّ شعره تماماً الآن. وضعت الجدة قطرات من الزيت على يدها اليمنى ثم مسحتها على شعره.
بقبضته ساندويتش آخر. يده على الدرابزين وهو يهبط السلم. طقطق خشب السلم المتهالك. اليوم آخر أربعاء في الشهر.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
أمام بوابة الجامعة الرئيسية وقفوا في صف. كل طالب في دوره. اليد ممدودة بالكارنيه كقربان الطاعة.
لا يرى الطريق. لا يرى سوى رموز الاهتزاز الميكانيكي متجمعة على خلفية بيضاء. حفظت قدماه الطريق التي سار فيها ألف مرة نحو مبنى قسمه، ولا يحتاج أن يتابعها. مغناطيس يجذبه. راح يعيد ويسترجع المعادلات والقوانين وأفكار المسائل. الهواء البارد يخبط وجهه.
مرّ على المطعم المركزي. حلم بالمطعم ثلاث مرات من قبل:
- هو مع صديقته الوهمية في الحلم. جلسا متقابلين في المطعم غير المُمحَّر. سقف من الصاج. ملمس الطوب والزلط تحت قدميه. لعقت عن وجهه الملح والعرق. يد تلعب في شعره الفاتح المقشر. يد تقفش بزيه المتهدلتين. لحست الإطار الخارجي لأذنه. أنفاسها في خده. وشوشته: "إنت دافي أوي." ثم ابتعد الوجه عنه كفاية لأن يظهر بجلاء، فإذا به وجه خنزيرة بمبي. رجع لليدين فوجدهما حافرين أماميتين. القدمان حافران خلفيتان. بمجرد أن التقت أعينهما، صدر عن حلق الخنزيرة صوت اشمئزاز. تقيأت عليه. كان قيؤها بلون الكاسترد.
- كان وجه الخنزيرة مألوفاً أكثر في هذا المنام. المطعم مزحوم. تكلّم فابتلع الصخب صوته. امتزجت أحاديث زبائن المطعم في اتحاد صوتي مُشفَّر. البدين مستعجل وخائف من أن يفوته ميعاد. الخنزيرة تقلّب النظر بين الجالسين باستثنائه. أراد أن يقول: "إديني اهتمامك. أنا مستعجل. عايز أكلّمك في حاجة." عيناه ملتهبتان والرؤية غبشاء. ركّز وسط ضباب البصر ليكتشف أن الخنزيرة بلا أذنين.
- أفلت حافرها المشقوق. توسّطت الطاولة فازة ورد. الأرضية مفروشة بنجيل صناعي. مقطع بيانو حزين يتكرّر في الخلفية. قال لها: "اسمعيني. صحيت من كام يوم حسيت إني مش حقيقي." فَرَدَ كفه الحرة وتأمّلها: "كأن دي مش إيدي. كأني محبوس في حلم حد تاني ماعرفوش. اكتشفت إنها حالة اسمها على ويكيبيديا derealization. مرّيتِ بحاجة مشابهة قبل كدا يا حلوفتي؟" طوّحت رأسها يميناً ويساراً في حركة نفي. أفلت حافرها المشقوق. دَعَك عينيه: "دكتورة السنان قالتلي في الحلم اللي قبلك إني كويس بس الألم ماتسكنش." اغرورقت عينا الخنزيرة بدموع التعاطف. بصوت ملؤه الشفقة خنخنت.
لا يتذكّر البدين أياً من الأحلام السابقة. لم تثر رؤية المطعم المركزي في نفسه شيئاً عندما مرّ عليه. ترسّبت صورة الخنزيرة في القاع. ولما رآها ذلك الصباح ترقص عقباوي في قاعة رقص سرية قي البيت، لم يعرفها.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
تحلَّقوا من حوله بمجرد أن دخل المدرج. مسيح مخلص يلهث بنفس ثقيل.
يطنّون: "يا أسطى هتغششنا؟ يا أسطى ماتنساناش علشان مش عارفين أي حاجة. يا أسطى. يا باشمهندس." ظل يكرّر: "إن شاء الله. إن شاء الله. ماتقلقوش. ماتقلقوش. ادعولي بس. ادعولي بس." دخل المراقبون وفي ذيلهم رئيس اللجنة. وزّعوا الورق. أخذ نفساً عميقاً كأنه يتأهّب لجماع عنيف. بدأ يحلّ.
انتصف الوقت. دخل رجل بلحية مشعثة وشعر خفيف انحسر خطه الأمامي. بنطلون كشمير أبيض بالٍ وملطخ. معطف زيتي مُترَب على قميص ارتسمت عليه أشكال مربعة. طلع سلمات المدرج باحثاً عن مكانه. اقترب منه مراقب وسأله: "أنت معانا هنا؟" ردّ بصوت شاحب: "آه." قال الآخر: "وإيه اللي جايبك متأخر كدا؟" ردّ: "عندي اكتئاب." عندها ترك الجميع الحل. أشاروا إليه بذقونهم وأصابعهم وأقلامهم وتحرّرت ضحكاتهم مجلجلة عبر طوابق اللهاة. الوجوه مبسوطة على الآخر كاشفة عن أسنان بيضاء وألسنة حمراء ولثى وردية.
حرّك السيرك الضاج معدته. غثيانه على طرف الحلق. حاول كبته فخرجت قطراته من أنفه حارقة. مرّ المُعيد عن يساره. أوقفه: "لو سمحت." قال: "حمام." ردّ: "ما فيش حمامات بعد نص الوقت." قال: "حمام. ضروري." أجابه: "وأنت ليه ما دخلتش قبل الامتحان؟" غطّى فمه بكفه. قال: "مش هعرف أشرح. حالة طارئة." رد: "ما فيش حمامات بعد نص الوقت." لم يندّ عن صفحة وجهه أبسط معالم الشفقة. نادى على رئيس اللجنة الجالس بأسفل المدرج: "دكتور. لو سمحت. حمام. ضروري." طلعت تجشؤاته مع توسلاته. أعاصير ملولبة. استفسر رئيس اللجنة: "إيه يا بني؟ مش سامعك." لو فتح فمه الآن لفرَّغ بطنه. رد طالب أقرب: "يا دكتور بيقولك إنه محتاج يخشّ الحمام ضروري بعد إذن حضرتك." قال: "موبايلك مقفول وفي الشنطة. ورقة اجابتك مقفولة ومقلوبة على ضهرها ومحفظتك فوقيها. معاك سبع دقايق. لو اتأخّرت مالكش امتحان."
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
الطرقة طويلة. المراحيض في آخرها.
دوّت خطواته. كل لظاليظه ترتجّ. فتح باب أول حمام. وجده مبعثراً بإسهال أسود ثقيل متكوّم لم يُشطف. على القعدة صُفَّت مناديل في دائرة. الأرض مطينة انتثرت عليها أعقاب السجائر والكارتيلات. كتم أنفه. حاول الخروج لكن الغثيان قوي. انحنى بأقصى استطاعة بدنه. تقيّأ مغلَق العينين. طعم القيء كان غريباً في فمه. حبري ومائي.
ويده على السيفون. لمح تحت الضوء المرتعش الإفرازات المختلطة في القاع. اكتشف أنه تقيّأ أرقاماً. تقيّأ علامة الجمع. تقيّأ علامة الطرح. تقيّأ علامة الضرب. تقيّأ علامة القسمة. تقيّأ مهارات الحساب الأساسية التي تلقّنها في الابتدائية. تقيّأ رمز الشد. تقيّأ رمز الضغط. تقيّأ معادلات الاهتزاز الميكانيكي التي حشرها في دماغه طوال الفصل . سحب يده من على السيفون. حاول أن يجمع الرموز والعلامات والأرقام من القعر. ابتهل بصوت مختنق: "يا رب لأ. يا رب بلاش. يا رب علشان خاطري طيب." همّ بوضعها في فمه، فانساب الحبر بين أصابعه واختفت الإشارات. علق بيديه خراء شخص غريب. اختفت كل المعلومات وتحوّلت إلى مجرد أحبار سوداء تنثال. استفرغ المادة بالكامل قبل أن ينهي الامتحان.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
رجع إلى المدرج.
كان رئيس اللجنة يشخط في مَن تحجّج باكتئابه كسبب لتأخره. يهدّده بمحضر شغب إن لم يمضِ على محضر الغش. اكتشف أنه مبرشم القوانين والثوابت الرياضية على غطاء الآلة الحاسبة بخط صغير وأنيق. محضر الشغب سيجعل المكتئب يقضي بقية حياته في الكلية. هدّده الدكتور بتعميق اكتئابه إن لم يوقّع على المحضر. كانت لحيته الكثيفة تهتزّ باهتزازات وجهه. يعتذر مخبئاً عينيه من وراء يديه كالمفضوح.
عاد البدين إلى البنش. فتح ورقته ليجد أن كل ما خطَّه استحال شفرات ملغَّزة. ما من شكل واحد في صفحة مخه ليكتبه. أخذ ينقر ركبتيه بأصابعه بتوتر. تقيّأ مفاتيح كل الرموز. نقّب في ذهنه عن أية معلومة. الأصوات تهمس من حوله: "يا أسطى ورقتي فاضية. يا باشمهندس." تَفقد الهمساتُ صبرها: "يا بغل هات أي حاجة. أنت يا متناك." لا يعرف حتى مسميات الرموز لينقلها لهم. وصل السباب لأمه الميتة.
بتسليم الفاشل سلّم ورقته. انسحب خارجاً.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
بدت الأرض مفروشة بأحزان باهتة.
عاوده الألم يبري أسنانه واشتدّ. وجوه مبتسمة ابتسامات واسعة. خنزيرة تبيع المناديل على الرصيف غمزت له. الكل يتحرك في جماعات. تصوّر المشهد: "آسف يا تيتا. بطني كانت مقلوبة. رجَّعت كل اللي ذاكرته. آخري هجيب فيها جيد." تخيل عينيها. تبصق عليه. تخبره أنه لا يستحق كل المال الذي يُصرف على كرشه. وجهها الطيب. أصابعها النحيلة. عباءتها السوداء الواسعة. لا تتغيّر. لا تتّسخ. يسير الناس بسرعة منكمشين. كأنهم يفرّون من عاصفة. كل الملامح عَلَتها ابتسامات سمجة. تلميحات ساخرة من وجوده. الكل ينظر إليه من فوق. لا أحد يعرفه. بدين يُفصّل من رخاوته ثلاثة أشخاص. بلا اسم. فاشل بتقدير جيد في مادة الاهتزازات الميكانيكية.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
رسم السيناريوهات لما فتح البوابة ودخل. كل سيناريو برد فعل مختلف.
حلم مرة بواجهة البيت. الشبابيك في الواجهة متساوية الأبعاد. انعكاس الأضواء الصفراء عليها من الداخل جعلها كأعين منتشرة على وجه أسمنتي يتطاير منها الغضب. البوابة فم مفتوح. السلالم لسان متدلٍّ. حاول تجنب النظر للواجهة داخلاً إلى البيت أو خارجاً منه. ذلك البيت هو الكائن الذي ابتلعه في الحلم.
رتّب الكلام واستعدّ. لم يجد جدته في الصالة. نادى عليها. رحل النداء ثم ارتدّ إليه في البيت الواسع. دخل المطبخ. علّقت على الثلاجة رسالة تحت ورقة أدعية الصباح مفادها أنها خرجت لشراء احتياجات البيت. تركت له تصبيرة على ما ترجع. وقَّعت: جدتك الحبيبة.
فكّر فيما سيقول. بينما يتخيّل رد الفعل، أجهز على حلة محشي مع ثلاثة قطع مستطيلة من البشاميل. راقب تشققات الحائط وهو يمضغ. "آسف يا تيتا أنا فاشل." بدأ يبكي. دموع ومخاط ولعاب أصفر يتساقط غصباً عن فيه. غطّت السوائل ذقنه ولُغده وأرديته الدافئة. مسح عينيه بطرف كمه. فتح الثلاجة. ختم تصبيرته بالتحلية. عبَّ لترين من الحليب. تصوّر شكل عقابها. تكفّ عن الكلام معه. تكفّ عن تحميمه. تكفّ عن دعوته للصلاة. تجوّعه في دايت قسري. تهجّره. تطرده. ثم تطفر الدموع من جديد.
دخل المرحاض ليغسل نفسه. قرّر أن يتوضأ لعل قلبه يطمئن. تمضمض ثلاثاً. تكرّع لعاباً أصفر كثيفاً. تنشّق الماء فانطلق الجشاء أقوى. غثت نفسه. ارتكز بيديه على الحوض. على مشارف التقيؤ. انتظر تفريغ معدته. هواء كل ما خرج. لم يعد في جوفه معلومات لتُلفَظ. يداه على حافة الحوض. تسرّب لسمعه خرير المياه تتحرّك في المواسير خلف الحيطان.
--<>--<>--<>--<>--<>--<>--
ارتقى السلالم بخفة لم يُتحها جسده من قبل.
نفض الأوراق عن سريره. انسدح بالعرق واللعاب والمخاط والدموع وبقايا الأكل على مرتبة هابطة تعلو عروق خشب تتهاوى. ظلام وصمت كالح. بدأ يحلم. هو في فيلم. هو نجم الفيلم.
<
قلِق وفتح عينيه. رأى جسداً حُدّدت أبعاده في الظلام يقف أمام سريره. سأل: تيتا. أنتِ جيتِ؟ ولج الظل أذنه في ثانية إلا ثانية. قال: كمّل نوم. ثم فرَّ. شدّ لحافه وحاول الرجوع للسبات. سوائل حمضية في فمه. قلبه يضرب صدره من الداخل. عاد يحلم. عينا الجدة في الحلم لم تجفّا من خيبة الأمل. تصدعات البيت التأمت. تقلّب على سريره فمالت الدهون معه متأرجحة.
في تلك الليلة، بكيلوجراماته المئة والتسعين، أمسى البدين حلماً. بالصداع الذي دمّر قذاله. بنهيجه. بالوعاء الذي صُبَّ فيه. برأسه غير المقصوصة. بلحيته سيئة التحديد.
ما يبلي أسنانه سُكِّن جيداً الآن.
حسين فوزي
حسين فوزي، من مواليد 2001 في مصر، يكتب القصة القصيرة ويدرس هندسة الميكاترونيات.