RR

مشهد تونسي للكسل

Part of the series Requiem | By Nooshin Hakim


وجدت نفسي في مأزق عندما التقيت بأستاذ العربية الذي درّسني أيام المعهد بعد سنوات في العاصمة. كان علينا أن نملأ ساعة من الزمن بالأحاديث في انتظار توقف المطر الذي حاصرنا في إحدى المقاهي. مرّ عليّ شريط من الذكريات الثقيلة عن ساعات الدرس المسائية التي كانت تمتصّنا حتى الشحوب، وعن مقعدي المجاور للنافذة المطلة على شجر اللوز من منزل مدير المعهد. أعادني صوته إلى شرحه الرتيب لمقامات الهمذاني ودروس العروض المضجرة وأشعاره التي يلقيها علينا قبل نهاية الحصة ليستمتع بتملّقنا له. علمنا فيما بعد أنه كان يقصد التودّد إلى زميلتي عبر إلقائه المنغّم لشعر عمودي، تخاله محاولة مراهق عشريني في عمود جريدة بائسة.

شممت رائحة اللوز لوهلة. كان ذلك ما أنقذني فعلياً من رغبة في الموت المؤقت إلى حين توقّف المطر وتفارقنا.

بينما كنت أفرك أصابعي من الضجر متسبباً بطقطقة رتيبة، مال نحوي برأسه وسألني في عربية قحّة: "هل تتذكّر الألعاب الذهنية في القسم؟ فلنجّرب بعضها حتى أختبر مدى نضجك اللغوي منذ حينها". واجهته بابتسامة صفراء لا ريب فيها. شاحبة بلون وجهي المعتلّ أيام دروس المعهد عنده. تقتضي اللعبة إيجاد توائم ومتلازمات لغوية تتساوى في اللفظ والبناء والقافية. عندما بدأ يعرض عليّ مزدوجات لغوية مغتبطاً من صمتي العاجز بقوة القهر، خطر لي أن أجيبه بعاميّة حافية لأخلّص نفسي من كلب أسود ضخم بدأ يجثم على كاهلي ويحرّك فيّ الرغبة في موت دائم غير عابئ بتوقف المطر:

"تكركير وتركريك"

انتفض لإجابتي التي خرقت عهود اللعبة المقدسة بإقحام العامية في حضرة الفصحى، وبدا متعجباً من الترابط بين الكلمتين. انقلبت الأدوار وتملّكتني نشوة شامتة. انقطع المطر فجأة عندما تهيّأت للكلام. رفعت رأسي للسماء كقدّيس وجد كل نِعَمه دفعة واحدة. كان بحوزتي ألف كذبة مجدية لأخلّص نفسي سريعاً وأقفز إلى الخارج. اخترت أقلّها دون عناء وبادرته بتحية وداع ثم وثبت إلى الباب. حدث ذلك كله في ثانيتين تقريباً. عند باب المقهى المطل إلى الخارج، كنت كمن يتبوّل بعد طول تعصّر في البرد. 

يحمل التلازم بين الكلمتين خصوصية تونسية صرفة، وتشترك الكلمتان في الخِفّة الآسرة التي تنزع عنها أثقال الحياة اليومية الوخيمة وسماجة فاعليها المفرطين في الجدّية مثل أستاذي. نقول: "فلان يكركر"، كمن يجرّ أحمالاً وراءه ويتثاقل في المشي، و"يركرك التاي"، أي يشرب الشاي في جرعات منتظمة. 

يرتبط تركريك الشاي بالتكركير في العمل. فالشاي جزء رئيسي من ثقافة العمل: "يعمّر الراس" ويحضر وقوداً عضليّاً ومحفّزاً ذهنياً. تحتلّ عُدّته مكانة جليّة ضمن لوازم العمل في الضيعات وحظائر البناء بنفس أهمية المنجل والمطرقة والمجرفة المعروفة بالبالة، كما سطل البغلي الذي يُخلط فيه الإسمنت.

تجتمع المتلازمتان بشكل نموذجي لدى زَبْراخ، أحد أعلام القرية. سُمّي كذلك أثناء الفترة القصيرة التي اعتزل فيها الخمر للصلاة وأراد إقناع أحد ندمائه السابقين بمعجزة البرزخ، فنطقها زبراخ. نديمه الذي كان سكراناً وقتها انفجر ضاحكاً واقتنص الفرصة ليختم الكنية الجديدة ضمن سجلّات الأسماء البديلة التي تميّز القرية. يحظى كل شخص تقريباً بكنية تعوّضه عن اسمه وترتبط بزلة لسان أو فعل أو حتى شَبه مخادع. ألقاب مثل "شيري شارا" و"تريلية"، أو "زوز ونص" أي من يحافظ على معدّل شرب ثابت من خلال قنينتين ونصف. أظرفها "هُبل"، ابن الخالة منجيّة الذي تأثر بفيلم الرسالة، ونديم زبراخ، صاحب الفضل في رواج كنيته. كان قد خطر لـ"هُبل"، أثناء مقابلة فريق القرية ضد غريمه التقليدي، أن ينطلق بالغناء في مدرجات الملعب ويهتف "نحن غرابا عك"، أملاً في ترهيب المنافس وبث الرعب في قلوب لاعبيه. سمعه حارس مرمى فريق القرية الذي انفجر ضاحكاً ولم ينتبه للكرة القادمة من بعيد، فاهتزّت شباكه. مُنيَ فريق القرية بالهزيمة وتندّر الجمهور الغريم لسنوات طويلة ببركات "هُبل" الذي منحهم الانتصار، فيما كسب زبراخ جولات طويلة من التنمر والسخرية قادها نديمه.

 

--<>--<>--<>--<>--<>--<>--


ولد زبراخ مرماجياً، كما تقول ميثولوجيا القرية. كان مضرباً للمثل في المدرسة. استمرّت أسطورته عبر أجيال عديدة بفضل رسوبه المتكرر في أول فصل. عندما كان ينهرنا المعلم عن التكاسل ونسيان الفروض المنزلية، يستحضر زبراخ في قلب الموعظة: "تحبّ تولّي كركار كِـ زبراخ؟". على النقيض من ذلك، ارتبطت مرادفات التفوق بأول طبيب ومحامٍ في القرية، ما أحكم التلازم في أذهاننا بين مهن العمل اليدوي والتكركير. شكّلت ذكريات المدرسة تصوّرنا الدائم للأشياء. أخذت الأحداث والصفات شكل الأشخاص من حولنا منذ ذلك الزمن. تمثّلت القسوة في هيئة مدير المدرسة؛ "غليظ ومخشنب وراسو قد الكار"، حسب وصف أحدنا له. كانت كفّه بحجم رؤوسنا التي تستقبل الصفعة من طرف الأذن إلى أسفل الذقن. الرقّة هي معلمة الفرنسية. طويلة وتهمس عند الكلام مثل بطلات الرسوم المتحركة. المغامرة هي ثمرة الخوخ الأولى التي سرقناها من منزل عمدة القرية في طريق العودة إلى المنزل. الكسل هو زبراخ، وأيضا المنجي العوني ونور الدين بن عياد، شخصيات في إحدى حلقات سلسلة خاطيني التي بثّها التلفزيون التونسي وارتبطت في أذهاننا بسهرات رمضان خلال أولى سنوات المدرسة. يتقمّص العوني دور عامل البناء النّازح من الريف البعيد في إحدى حظائر البناء في تونس العاصمة. يجلس حول برّاد التاي مزهواً في غفلة من الكبران، المشرف على العمّال والذي يستمدّ تسميته من المسؤول عن المساجين في الزنزانة، ويغنّي "قالولي روّح برّاني"، إحدى أغاني المزود التي اشتهرت مع صالح الفرزيط. ترد على لسان نور الدين بن عيّاد كلمتا تكركير وتركريك بشكل متلازم في عتابه للعوني، العامل المتخامل الذي جعل من أدوات العمل عدّة للتاي بعد أن سوّى كرسياً صغيراً من قطع الياجور وحوّل سطل البغلي إلى موقد إبريق. يشتدّ الجدال بين المرمّاجي والكبران الذي يرى في برّاد التاي دليل إدانة وتكركير ويهدّد العامل بخصم أجره اليومي.

طبعت تلك المشاهد تصوّرنا للمرمّاجي وعالمه المكون من سطل البغلي وعدّة التاي، والتي اكتملت معالمها في كل مرة نرى فيها زبراخ عائداً من العمل مصحوباً بعدّته وهو يغني. يشقّ زبراخ الشارع الرئيسي وسط القرية، يمرّ قبالة مقهى الجمهورية، يشاغب العم بوراوي -والذي يسمّيه اختصاراً بُو- ويذكّره بجلسة البارحة. يستفزّه قليلاً أملاً في استدراجه إلى جلسة المساء: "ماكش عطشان يا بُو؟ المولدي باش يجيب شوية سمّان الليلة أوراكهم كي مرت الحاج، هاهي الصمصومة" ويمثّل بيديه امتلاءً لا يشبه حجم الطير، وإنما تقترب صورياً من أرداف مكتنزة. يستمر زبراخ في حركاته التمثيلية ثم يلوي كفه ليرسم نصف دائرة قبل أن يعضّ شفتيه ويرفع يديه للسماء صائحاً: "يتعذّب الإنسان يا بُو". يختفي زبراخ وسط ضحكات رواد المقهى وحنق بُو الذي يبدو متردداً مع الاقتراب من موعد صلاة المغرب. يحسم العجوز الجدل ويقفز من مقعده ليعرّج على أول انعطافة إلى منزل زوجة الحاج.

 

--<>--<>--<>--<>--<>--<>--


يمتلك كل مرمّاجي مهارة خاصة، إما التفرطيس أو الخلطة أو اللّيقة، وكلها تشكّل معجم البناء ومراحله المختلفة. يتميّز زبراخ عن المرمّاجية جميعهم بمهارات أخرى، وهي تحضير التاي وترديد الجديد من أغاني المزود والراي لشحذ الهمم وتطريب رفاقه في العمل. دخل جورج وسوف متأخراً إلى فقرات زبراخ الغنائية وأصبح ملازماً له. أتاح له الوسوف ذخيرة من الحزن يستنجد بها لإطلاق آهاته وزفراته الملكومة الطويلة التي تستغرق دقائق طويلة. يتوقّف عند "طبيب جرّاح"، يتصنّع نظرة يغمرها الدمع ثم يرمي البالة بعيداً ويشير بسبابته إلى قلبه: "أنا اللي فيا جراح، أطبا الكون ما تشفيني"، لينطلق إثرها في اختلاق قصص هجر بائسة عاشها وسط شتائم المولدي الكبران الذي ينفجر حنقاً.

تختلف عدّة العمل التي يحملها زبراخ عن البقية، تضمّ القليل من أدوات البناء التقليدية فيما تزدحم بأشرطة الكاسيت والقداحات المعطّلة. يضع أحياناً بعض أواني الطبخ الصغيرة حتى لا يهدر الوقت في العودة إلى المنزل قبل الالتحاق بزمرته لجلسة الخمر المسائية. يحرص زبراخ على وضع أدوات العمل التي تصلح لمهام الجلسة أيضاً. يستعمل المطرقة لتكسير الفحم إلى قطع صغيرة حتى يسعها الكانون للشواء، ويستعين بالإزميل لفتح فلينة النبيذ عندما يتعسّر عليه ضغطها بإصبعه، وأما الشاغول، أو ميزان الخيط، فتحفظ له الذاكرة استعمالاً تاريخياً أثناء واقعة خمرية شهيرة بقيت في الأذهان. 

اتفق زبراخ مع البُو وهُبل والمولدي الكبران على الشرب ذات مساء، وسلّموا النقود إلى هُبل بعد أن طلبوا منه أن يخصّص جزءاً منها لشراء بعض الكوامخ والنّقل، والتي تسمّى كمْية في الأعراف المجالسية. أهدر هُبل كل الميزانية في شراء النبيذ وتغاضى عن أمر الكمْية أملاً في أن يظفر ببعض الخيار والبطيخ من ضيعة قريبة. خاب ظنه بعد أن سبقه أصحاب الضيعة في جمع المحصول وبيعه في السوق قبل أيام. وجد زبراخ وندماؤه أنفسهم على الشاطئ مع الكثير من النبيذ ودون أي شيء آخر. المكان بعيد وناء، وحتى الأشجار المثمرة القريبة عليها حراسة مشدّدة من كرموسة الذي لا يجمعه حبل الودّ بالسكيرين بسبب غاراتهم المستمرة على حقله. بعد نفاذ كل الحلول واستحالة التدارك، لم يكن أمامهم إلا الشروع في الشرب وانتظار حدوث معجزة مع تمضية الوقت في جلد هُبل وتوبيخه.

تمرّ مراحل السكر بذروة أولى تُسمّى النمّوسة، في إشارة لأول وخزة نشوة في الرأس. يختلق البعض تسميات مختلفة تعكس مراحل تصاعد الخمرة التي تنتهي عادة بمصيبة. ترتبط أغلبها بأسماء حشرات طائرة منها الفرططّو، أو فراش الضوء، وهي الحالة التي يستوي فيها الوهم بالواقع. تأخّر إيقاظ النمّوسة الأولى عند زبراخ، ومع فتح القنينة الرابعة، انتفض من جلسته كقطّ جائع لمح وليمة. أخرج الشاغول من قفة العمل وبدأ برسم دجاجة وسط المساحة التي تتوسّط الجلسة، ثم أحكم تقسيمها إلى أربعة أجزاء في هندسة متقنة أثارت استغراب المولدي الذي انتفض صائحاً: "ما لقيتكش فالح في الخدمة يا الزبي، وليت توا تهندس وتخطّط في الشرب". أشار زبراخ إلى ندمائه أن يتخيّلوا الرسم الذي أمامهم كمْية، وطلب من كل واحد أن يقوم بمسح جزء بسيط من نصيبه من الدجاجة في معادلة رمزية ومتخيلة لأثر القضم. أمام الإحباط ولاجدوى انتظار المعجزات، انصاع هُبل وبُو لِسحر الوهم وانخرطا في الحيلة. سخر المولدي من فعل زبراخ وأشاح بوجهه متذمراً. لكن مع اقتراب يد الأخير من حصته، اهتزّت أركانه وضرب على يد زبراخ: "سيّب متاعي يا الزبي".

كان المولدي ممزقاً بين الانبهار بعبقرية زبراخ المفاجئة والتبرم من غياب استثماره لملكاته الذهنية في العمل. نال هُبل النصيب الأصغر عقاباً له على نسيانه شراء لوازم الكمية، فيما حظي العم بوراوي بجزء كبير من الفخذ متعللاً بسهوه عن تناول الغداء بسبب زبراخ الذي ألحّ عليه في الإسراع. أنهى زبراخ سريعاً حصته دون أن يفكّر برسم فخذ ضأن أو أي شيء آخر قد يشتهيه، إذ تهيّأ له أن الأمر لن يكون بنفس السحر.

 

--<>--<>--<>--<>--<>--<>--


جلس الحاج على مقربة من حظيرة العمل وأحكم مراقبته لزبراخ وبقية المرماجية. تأخّرت زوجة الحاج في تحضير المشحّط، التحريشة الأساسية صباحاً وإحدى وصفات القرية السريعة التي اخترعتها عاملات الفلاحة لتوفير المشقة عليهن وحتى لا يستغرق أمر الطبخ دهراً. بدأ زبراخ في التبرم والتثاقل. أمامهم ثلاثة أيام لاستكمال بناء السور حول المنزل، والحاج يريد ألا يتجاوز الأمر يومين على أقصى تقدير.

يقسّم زبراخ ساعات العمل إلى مهام أساسية. البداية بتحضير عدّة التاي الصباحية للانطلاق في العمل، ثم انتظار أصحاب الدار لتقديم المشحّط الذي لا مناص من هضمه دون شرب كاس التاي. استنبط زبراخ حيلاً عديدة لتبرير تكركيره، منها أن يستمرّ كأس التاي ممتلئاً على الدوام. لذا تراه يُكثر من التوقف اللحظي لتلذّذ الشاي و"تعمير راسه" للاستمرار في العمل. تنصهر لحظة العمل مع التوقف المتخامل عند رشفة كأس الشاي الذي يكون دائماً أحمر قاتماً ومكثفاً، "يوقّف عرف الوقيد" حسب معجم الشرّيبين المتمرسين. يعتبرها زبراخ كغيره من المرمّاجية لحظة لا بد منها لتشحيم ماكينة العمل، فيما يراها أصحاب الحظائر والأعراف تعلّة لتكركير العامل. 

التكركير موروث سلوكي وثقافي تلقّفه العمال التونسيون بشكل عام منذ عهد الاستعمار الفرنسي. تربّى العامل التونسي على التكركير كضرب من المقاومة. تزامنت نشأة العمال التونسيين مع هيمنة الاستعمار المباشر على البلاد، ما ولّد قناعة تكاد تكون آلية لدى الكثير منهم بأن التقاعس عن العمل وعدم إتقانه يندرج ضمن النضال الوطني ضد الفرنسيين. بالنسبة لزبراخ، فإن افتعاله للتوقف المستمر لتركريك التاي وتكركيره في العمل في دار الحاج ليس من سلوكياته المعتادة فقط، وإنما موقف طبقيّ من الحاج ومن شحّه الأسطوري، وكذلك تضامن مع نديمه العم بوراوي في عداوته التاريخية ضد الحاج بعد أن تزوّج حبيبته غصباً واستنصر في ذلك بعلاقاته المؤثرة مع والدها العمدة فيما مضى.

حضر المشحّط أخيراً. ابتلع زبراخ بيضتين في فمه وازدرى لقمات سريعة من المشحط ليغصّ حلقه ويتعلّل بتوقفه المستمر عن العمل للهضم والتجشؤ. خيّمت أجواء من الحرب الباردة بين زبراخ والحاج الذي كان متوثباً لأدق التفاصيل ومنزعجاً من صوت زبراخ وغنائه وتكركيره. انتبه الأخير إلى أن حركيته الزائدة عن النشاط قد ترفع من توقعات الحاج في العمل، لذا فكّر بتغيير حيله وتوقّف تدريجياً عن الغناء والعبث. تجهّم وجهه فجأةَ وبدأ يطلق تنهيدات حارة حوّلت حظيرة العمل إلى شبه مأتم. سرت العدوى بين المرمّاجية وخيّم جو ثقيل شلّ الجميع. حتى الحاج أصابه الكدر وأصبح يتأفّف بصوت عالٍ ممتعضاً.

ابتهج زبراخ مع مرور زوجة الحاج وتحررت أساريره فجأة من العبوس الذي تصنّعه. راقب أردافها في انتباه شديد ثم أطلق زفرة مكلومة وصاح: "يتعذّب الإنسان". التفت الجميع إلى الرجل الذي نطق لأول مرة عربية قحّة خالية من التكسير العامي. خيّم الصمت لبرهة قبل أن يستأنف زبراخ: "ثم يموت". انفجر المولدي بالضحك واحتنق وجه الحاج الذي لم يجد حيلة لتفجير غضبه غير الانسحاب إلى غرفته ومناداة زوجته.

 

--<>--<>--<>--<>--<>--<>--


من الصعب أن يستيقظ زبراخ صباحاً دون أن ينتبه سكان الحيّ إلى ذلك. تستنزف زوجته صوتها وتستعين بالمولدي الكبران الذي ينتظره دائماً أمام المنزل. يضرب المولدي نافذة غرفة النوم المطلة على الشارع بمطرقة ويهدّد زبراخ بخصم نصف أجره اليومي. يأتي صوت زبراخ من الجهة الأخرى من النافذة ممزوجاً بسيل من الشتائم. يتكرّر نفس المشهد كل صباح تقريباً، تتخلّله أحياناً ألاعيب بعض الصبية في طريقهم إلى المدرسة وهم يردّدون: "دب الفار دب الفار يا زبراخ يا كركار". يمشي زبراخ خلف الكبران في طريقهم إلى العمل. يبدأ في التهام السجائر ويفكر بجلسة المساء. 

على طول الطريق إلى العمل، تبدأ ماكينة زبراخ في الدوران. يترنّم بمقطع من أهزوجة يا سلّاك الواحلين التي انتشرت كغناء للمتسولين في شوارع العاصمة بين القرنين التاسع عشر والعشرين وارتبطت بِـ "الكدية"، وهي طلب المال في مقابل الأشعار والكلاميات البليغة ومقاطع الغناء، يؤدّيها في الأغلب منشد يحمل إيقاعاً ووراءه مردّد يشاركه التوسّل والغناء. يتضرّع خلالها السائل إلى الله ليسلّك له طريقاً للخلاص من الفاقة والكسل الذي كبّله: "التونسي وبلاده فقيرة تلزملو الصحوة والغيرة / وهاك النوم والتخميرة ردّتّو مالمنبوذين". تحوّلت الأغنية إلى تعويذة صباحية يتبرّك بها الفلّاحة والمرمّاجية في سياق الاستفتاح والتبرّك بالبدايات، أضاف إليها زبراخ تلوينات عددية من وحي ارتجالاته العابثة: "ناي والمولدي رانا زاهين / حتى كان فلسنا الاثنين / واليوم انشالله ماشين / معانا بُو وآكا المسكين" (في إشارة إلى هُبل)، ثم ينشد ما تبقى: "يا سلّاك الواحلين / وعلى ربّي معملين". يُرغم زبراخ المولدي على الابتسام بالرغم من مزاجه العدائي صباحاً، ثم لا يلبث أن ينقهر سريعاً وينخرط معه في الدندنة والارتجال. 

نكاد نرى قسمات زبراخ على ملامح كل المرمّاجية في القرية. عينان متثاقلتان فيهما سنة من النوم وأسارير تنفجر لأبسط إيقاع مغنى. طبع زبراخ سلوكيات العمل في القرية، وأدخل إلى ألسُنها لازمته الأيقونية "يتعذّب الإنسان ثم يموت" التي تحوّلت إلى ركن دائم في التقوّل اليومي، وأصبح لها استعمالات متعددة منها التعجّب أو التحسر الممزوج بالشقاوة أو حتى المغازلة أو التشكي. بات لزاماً على كل من يهمّ بأشغال بناء أن يوفّر عدّة التاي للمرماجية ويحضر المشحّط قبل الشروع في العمل، كما تأخّر توقيت بدء العمل بساعة بعد أن كانت السابعة صباحاً، وأما الغناء فقد أصبح أساساً من أساسات حظيرة البناء. يضطر أصحاب المنزل أحياناً إلى استجلاب راديو أو مشغّل كاسيت من الجيران في حال فقدانهم لذلك. جعل زبراخ من صوت جورج وسوف أذاناً لقيام المرمّة والشروع في العمل، قبل المرور إلى فقرة المزود التي تشتدّ خلالها وتيرة العمل لتُختم مع أغاني الراي التي تحمل إعلاناً ضمنياً لأصحاب المنزل أو الحظيرة باقتراب نهاية اليوم.

لم نكن لنتذكّر زبراخ لو كان عاملاً مجتهداً مثل موظفي البنوك أو منضبطاً كمدير مدرسة. لم نكن لندمن قصصه لو لم يكن سكيراً وكركاراً. نحتفل بإرثه عند كل تثاءب كسلان، نقلّد مشيته المتثاقلة أثناء العودة من المدرسة سائمين من الدروس الطويلة المضجرة. نستحضر قصصه أثناء الجلسات. كان دوعاجياً دون أن يعلم، حاملاً بداخله سمات من قلاديمة، شخصية الكاتب علي الدوعاجي، والذي يتوسّط إثني عشر زنجياً يعملون في تبليط البيوت. "يجلس في قُطر دائرة عملهم. يشتغل معهم على أنه لا يشتغل، هم يشتغلون والعرق يتصبّب من جباههم. أما هو فعمله ينحصر في أنه يغنّي لهم، وهم لا يعملون إلا بغنائه. ليس غناؤه هذا بعبث بل هو عمل شريف كعملهم." 

وضع الدوعاجي كوجيتو قلاديمة الذي يلخّص فلسفة التكركير التونسية: "الشعب يعمل ونحن نغني له"، ومثله فعل زبراخ دون أن يكون قد عرفه أو قرأ عنه شيئاً، فكلاهما من أبطال الحياة اليومية، من صلب عجينة الروح الشوارعية التونسية الكسلانة التي تجمّلها خصلة من الشقاوة. كلاهما عنوان للتكركير والغناء، ليس كسلاً، وإنما إدماناً "للتعب القاتل من الحياة".

Contributor
هيكل الحزقي

كاتب تونسي من قرية حزق. ناقد وباحث موسيقي، مهتم بالثقافة الشعبية والذاكرة الشفوية وتنظيم جلسات الخمر في قريته الأبدية. حاصل على منحة آفاق للكتابة الإبداعية والنقدية 2022 حول موضوع "ظاهرة الباندية في تونس من خلال أغاني السجون وقصص قاع المدينة". يفضّل الخمر على الحشيش، والبيرة على النبيذ. مناصر أبدي للدراجات الهوائية ومحترف نزالات شوارع إلى حدود سن السادسة. 

 

Post Tags
Share Post
Written by

<p dir="rtl"><span style="font-size: 14pt;">كاتب تونسي من قرية حزق. ناقد وباحث موسيقي، مهتم بالثقافة الشعبية والذاكرة الشفوية وتنظيم جلسات الخمر في قريته الأبدية. حاصل على منحة آفاق للكتابة الإبداعية والنقدية 2022 حول موضوع "ظاهرة الباندية في تونس من خلال أغاني السجون وقصص قاع المدينة". يفضّل الخمر على الحشيش، والبيرة على النبيذ. مناصر أبدي للدراجات الهوائية ومحترف نزالات شوارع إلى حدود سن السادسة. </span></p>  

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.