
مقتطفات من «خطوط الضعف» لعلاء خالد ننشرها بالتعاون مع منشورات وزيز
طوال سنتين قضاهما أبي نائمًا في المرض، أسدل الظلام نهائيًّا، ولم يرغب في أي حديث يوقظ حاسة الحياة في روحه، فقط يعيش ليستمع. نوم بعينين مفتوحتين. كان النوم هو الصيغة المناسبة لقلة حيلته في التمتع بالحياة وبفنجان القهوة في السابعة صباحًا.
خلال السنتين، دفعني أبي لكي أكون أبًا له ولصمته. كنت آخذه للسير، فكان يتوقف كثيرًا في الطريق، ويتدخل أصحاب المحلات بالكراسي والماء والشفقة، ليتألم من قدميه اللتين يجرهما خلفه كأول عضو تنفصل عنه الحياة. وكان يرفض الجلوس أو الشرب من المياه التي تُقدَّم له.
كنت أحدثه عن أهمية السير، وأحكي له عن مغامراتي على البحر، وأن كثيرًا من الأفكار السوداء قتلها السير، وأن محبتي له قد بدأت تتكون أيضًا على البحر. كان يستمع فقط، وكان عليَّ أن أقوم بدور لسانه، عملية بث واستقبال تحدث داخلي وتعبر به كوسيط مهزوم، فقط تعبر به وتعلق بها تواريخ الشفقة المسجلة في الهواء.
كنت حريصًا في حديثي ألا أجرحه ولو من بعيد، ومتنازلاً أحيانًا كثيرة، وأتركه يعطي سائق التاكسي، عند عودتنا، ما يُقدِّره هو، ثم أكمل للسائق بقية الحساب دون أن يشعر.
خلال تلك الفترة، نسي الصلاة التي واظب عليها عدة سنوات بعد المعاش، بإلحاح صامت من أمي، بأن تترك الحمام مبللاً بالدعاء وبخيط من المياه تجره في يديها إثر كل وضوء ويظل يرافقها عبر الصالة، وبفراغ أكثر وطأة، وبيوم يبدأ من السادسة صباحًا. ولكنه لم ينسَ القطط، كانت تنتظره في الثانية ظهرًا، بعد الفتحة المعتادة للباب وصفير مبهم ليس له علاقة سابقة بالقطط. بعد موته، انتظرت القطط طويلاً أمام الباب، انتظرت انحناءة هذا الظهر وهو يصعد السلم عائدًا من نهار الحديقة وظلال شجر تتحرك عليه، لم يهتم بالقطط إلا في الأيام التي نطهو فيها السمك، وفي الأيام الأخرى، لا تدخل القطط في رحمته.
أثناء مرضه، كنت أيضًا أبا للمواعيد المتأخرة للأدوية، أدخل عليه الغرفة دون أن أضيء النور مباشرة، لأحفظ لعينيه وسطًا تعودت عليه، ويومًا دخلت وتشممت رائحة حمض فطري، وتعثرت قدمي بمياه بجانب السرير، يومها لم أعطِه الدواء، ولكني كنت واثقًا بأنه يراني بحاسة جديدة اكتسبها خلال مرضه، وأنه لاحظ ترددي، ولكنه لم يشأ أن يضبطني متلبسًا بمحبة هينة له.
وقبل أن يموت بدقائق، وقبل هرعي في الفجر بحثًا عن عين للشفاء، ناداني لآخذه إلى الحمام. كان جسده ثقيلاً ولم أقدر على حمله، فأرحته بمساعدة أمي مرة أخرى فوق السرير، على ظهره وبالروب الأزرق الطويل، وهو الوضع الذي لن يغيره بعد ذلك، بالأفكار نفسها، وبالبول نفسه، وبالنظرة الزائغة نفسها التي وزعها بين مستقبلي وبين أمي بالتساوي. لن يتغير شيء سوى أني أنا وأمي سنتحايل بالمقص ونمزق الروب ونمرره من تحته، وقد نرفع ظهره قليلاً، وسنُلبِسه ملابس جديدة ليقابل بها ابنه الكبير وأحفاده وزوجات أبنائه عندما يلقون عليه قبلة أخيرة، ولن يقدر أحمد أخي على إكمالها وسيخرج مسرعًا من الغرفة.
*
الأب اليتيم الذي لم يرَ أباه فعاش في رعاية خاله. أو هذا ما أشاعه عن نفسه ليحمي نقطة ضعيفة في الخلف، سرًّا كان يجب أن يستره، وأن أباه لم يمت، ولكنه أماته لأنه انفصل عن أمه وتركه وهو صغير بأب غائب، فتكونت أبوته بعرق جبينه، من الصفر، دون تعليم ولا رصيد لها، دون أب يقف ضده أو يحبه، فكان ضد نفسه على طول الخط. حذف غير مقصود لرأسمال سابق. كان عصاميًّا في أبوته، فتكونت مع غرائزه البدائية، مع الرحمة والقسوة والملكية والبكاء الشديد، خاصة في عيد ميلاده الأخير، وذكورة طافحة في صوته، كان يستخدمها كجدار. انقسم ولم يجد أي سياق للتوازن سوى العودة إلى الطفولة، بكل بكائها، وأن يطلب المساعدة من الآخرين، وأيضًا يقسو عليهم ببكائه. لقد استعاد أرضًا أنثوية خشنة.
في شبابه، عشق التمثيل، وحكى لي عندما شاهده أندريه جيد وهو يقوم بدور في مسرحية «أنتيجون»، وعن إعجابه الشديد بالرغم من أنه لا يعرف اللغة العربية، وعن صداقته القديمة لمحمود مرسي التي لم تستمر لسفر محمود مرسي إلى الخارج لاحتراف التمثيل، أما هو فقد قنع بالزواج.

لوحة الغلاف لمحسن أمغار
لو رجع أبي بعمره خمسين عامًا لكان سيتخرج في كلية الآداب دون زميلة يحبها، ومتأخرًا عدة سنوات لحبه للتمثيل ولانقطاعه عن الدراسة نظير العمل مع خاله في التجارة، ثم يسافر في رحلة إلى الخارج يعوض بها الرحلة التي فقدها من قبل، وهناك، سيتعرف بصديقة نمساوية، سيتبادل معها خمس رسائل، ويخبرها في آخر رسالة بأنه قد تزوج، وأنه قد تخلى عن كل المسرحيات التي قرأها بالإنجليزية ولم يعد التمثيل هامًّا له لأن زوجته تريد موظفًا بمرتب ثابت ولا تريد فنانًا، وسيتخلى أيضًا عن كل الصحف التي كتبت عنه، وكما حدثني ذات يوم عندما صارحته بأني سوف أخلص للكتابة.
ولكنه قد يغير من خطته قليلاً ويتخلى عن قسوته تجاه زوجته، أو يجعلها أكثر نضجًا، بعد أن أثبتت له صدق يديها ومعدنها النقي طوال سنتين على فراش المرض، وقد يتخلى عن نظرته السوداء لمستقبلي.
كل الأصدقاء القدامى، الذين تربوا منذ المدرسة الابتدائية، كان يحتفظ بهم لآخر حياته، وكانوا يحتلون يومًا هامًّا في بيتنا. كانوا جميعًا أولاد تجار، ولكنه امتاز عنهم باستكمال دراسته حتى نهايتها، أما هم فلجؤوا لطموحات أخرى. أما الأصدقاء، الذين اكتسبهم من الجامعة وما بعدها، فجميعهم كانوا يحملون بذرة ناضجة للأرستقراطية، وكانوا أيضًا يحتلون أيامًا هامة في بيتنا. كل ملابسه وعاداته وثقافته كانت منقسمة بين هاتين الطبقتين اللتين شغلتا خريطة حياته والطبقة النوعية التي صنعها لنفسه، بالإضافة إلى أمي وعائلتها.
وفي المرض، كان أيضًا عصاميًّا، بدأه من الصفر ولم يدخر له طوال حياته، لأنه كان يتمتع بصحة جيدة تحسده عليها أمي بحب، صحة من يدخن بحساب ويأكل بحساب ويسهر بحساب، ومشاجرات طويلة حول أنبوبة معجون الحلاقة التي يستعملها أخي أحمد من المنتصف.
*
وجدته بانتظاري وراء الباب مباشرة، في الصالة المظلمة. انتظر طويلاً صوت المفتاح ليعتذر لي، وليبكي أمامي، ويحاول أن يشرح لي أسباب قسوته، وأنني لا أفهمه لأنني لست أبًا، وأن أصدقاءہ الأغنياء ليسوا أحسن منه، وأنه أيضًا صاحب رحلة ومشروع مختلف في الحياة، وكرامته ومبادئه هما أهم لديه من كل كنوز الأرض، وأنه كان يعطي دروسًا مجانية لتلامذته الفقراء لأن أخلاقه لا تسمح له بأن يستغل أحدًا حتى لو كان غنيًّا، سوى أنه عصبي قليلاً وحساس لأنه «فنان» يحتاج لمن يتفهمه.
عندما كانت يدي صغيرة ولا تعرف القسوة، وضعتها كاملة في يد أبي وذهبنا إلى السينما احتفالاً بعيد ميلادي. وعندما تعلمت القسوة، ذهبت بها أيضًا بصحبته إلى الطبيب النفسي، لإدانته، وسحب من الدموع تكثفت على نظارته عندما طلبت منه أن يتركني وحدي مع الطبيب. تحرك متثاقلاً كإله يترك أحد أبنائه للاعتراف، ولغيره. وطوال الطريق من العيادة إلى البيت، اشترى لي قميصًا جديدًا. وكي أرضي عينيه، أدليت له ببعض اعترافات صغيرة عن علا زميلتي في أولى جامعة.
لم أكن أكرهه كما قال لأمي، ولكني كنت متعاطفًا أكثر مع يده اليسرى وأصابعها الضامرة، متعاطفًا أكثر مع كل من يحاول أن يبادلني شعوري بالوحدة، المهم أن تكون المبادلة في هدوء.
لم ينتظرني وراء الباب في الصالة المظلمة ليعتذر لي عن كلامه بأن أبحث عن بيت آخر يعول شابًّا عاطلاً عن العمل. كان يُؤمِّن نفسه لأن أي خسارة داخل مشاعره المحسوبة تدميه، بعد أن خسر الأخوين الكبيرين لي في بيوت أخرى وفي بلاد أخرى. لم يكن يمتلك أي وفرة في الروح ليُؤمِّن بها على مكاسبه وأولاده، بل كان يفقدها بتهور، بحس فنان وحيد لم يتحقق. ويوم عودتي من السفارة الفرنسية فرحًا لقبولهم أوراقي، ويعني أني سأسافر لمدة سنة قد تطول لسنوات، وأني سأجد بيتًا آخر أعوله بمفردي، يومها، أفاق من مرضه، الذي كان في بدايته، وتحركت بوصلته تجاه قطب الفقد والخسارة، وتحاشى أن ينظر في عيني طوال ثلاثة أيام. لم ينقذه إلا النوم.
شاعر وروائي من مواليد الإسكندرية سنة 1960، ويُعدّ أحد أعلام المشهد الأدبي في التسعينيات. أسس وشارك في تحرير وإصدار مجلة «أمكنة» المعنية بثقافة المكان والتي صدر عددها الأول عام 1999. بعد ثلاثة دواوين شعرية، صدر كتابه «خطوط الضعف» (1995) جامعاً بين السرد الروائي وروح الشعر، وممهداً لأعماله السردية اللاحقة.