Skip to main content

Short Stories | قصص قصيرة

الولد ذو العينين الشاخصتين

CONTRIBUTOR
المساهم/ة
رشا عباس

ARTIST
الفنان/ة
Nourhan Maayouf

TAGS
الوسوم
posts-issue12

PDF

SHARE POST
للمشاركة
CONTRIBUTOR المساهم/ة
رشا عباس

قاصّة سورية مقيمة في برلين صدر لها ثلاث مجموعات قصص قصيرة: آدم يكره (2008)، كيف تم اختراع اللغة الألمانية (2017 دار 10/11 للنشر)، ملخص ما جرى (دار المتوسط 2018). محررة القسم الثقافي ومنسقة ملحق هامش الثقافي في موقع الجمهورية. من مواليد 1984 نشأت في دمشق متلقيةً تربية فاضلة أدت إلى هذه النتيجة، ومن ثم تتلمذت على يد خيرةٍ من الخبراء في الصحافة الستالينية في قسم الإعلام في جامعة دمشق قبل أن يتم فصلها من الجامعة عام 2007، استهلت مسيرتها الصحفية والخيالية معاً بتأليف الجرائم وسلاسل قصص الجواسيس في جريدة حوادث محلية في دمشق، لها مساهمات صحفية وأدبية في مواقع ومطبوعات عربية وغيرها منذ عام 2005 وحتى تاريخه.

رشا عباس
Short Stories | قصص قصيرة

الولد ذو العينين الشاخصتين

By رشا عباسOctober 27, 2025November 14th, 2025No Comments
Nourhan Maayouf, Don’t don’t don’t you forget about me. Digital photography (2023)

صحوتُ على صوت دقات الساعة الجدارية، استغرقني الأمر عدة ثوانٍ ريثما أدركت أبعاد المكان، متمددة في المغطس المليء بالمياه الداكنة، الدافئة، «هذه القصة كتبتها بدمي»، خفق صوت في صدري كأنما من بقايا حلم أخير. 

قمتُ وقلبتُ المغطس على جنبه سامحة للماء بالانسكاب على الأرض نحو فتحة التصريف. غيرت ملابسي المبللة وارتديت ملابس جافة وهممت لأكمل ما كنت قد بدأته قبل غفوتي، بمسح بلاط الكنيسة. قوطعت بطَرقات على الباب. خمس طرقات موسيقية علامة قدوم الرقم 14. أخذت سلسلة المفاتيح الحديدية المعلقة على الحائط، وهرعت بحذر لئلا أنزلق على الأرضية المبللة. سحبت مقبض الباب الخشبي العملاق بكل جهدي باتجاهي ليُفتح على صقيع الخارج. طيّرت الرياح المثلجة ورقة صغرى أو ورقتين من الإعلانات الملصقة على الباب. تلفعت بردائي جيداً وأنا أتفاوض مع الرقم 14 على مكانٍ ينتظرني فيه، في الزقاق أو في الحانة، حتى أنهي مهامي، إذ كان يتحسّس من بيوت الله، وكان يدّعي أنها تجلب له ضيق نَفَس بسبب تجربته مع أهله المتدينين. كان يبالغ في تكرار هذه الشكوى، إذ لم يكن أهله أصحاب دين حقاً لدرجة قد تسبب التروما لأحد، لكنْ كان يحلو له أن يستثمر هذه الحجة كلما ضاق ذرعاً بجلسة أو مكان ما، أو أراد لفت النظر، مدعياً أنه تأثر بذكريات نشأته المتدينة.

عدت إلى الأرض أمسحها حريصة على أن تتشقّق يداي ويتقشّر جلدهما من مزيج الرماد وقشر الليمون الأخضر، وإلا فلن نستفيد شيئاً من هذا كله. ما لا يعرفه الناس، سوى قلة مثل الرقم 14، أنني أيضاً أتحسّس من بيوت الله، وأنني لست حتى من رعايا الكنيسة، ولكنْ لا خيار آخر أمامي سوى المضيّ في هذه المهمة كل يوم، أن أخدم هذا المكان حتى يبلى جسدي، كما أوصى الشيخ أهلي وهو يمر بأصابعه على رأسي متلمساً الدوائر الفارغة حيث سقطت خصل الشعر، ويحدق في الطفح الجلدي على عظم وجنتي. لعنة عائلية، تترسخ أكثر عندما تكثر الزيجات في العائلة نفسها، العائلات المأفونة على وجه الخصوص ممّن لم تفعل ما هو خير للعالم. قال أمام أمي دون أدنى خجل أو رغبة في المجاملة، إنه على عاتقي تقع مهمة «المشي عكسَ اتجاه الزمن»، ذلك فقط ما سينهي اللعنة، أن أُكره نفسي على خدمة بيتٍ من بيوت الرب التي لا تخصنا، لئلا أنتهي مُلاحقة بمصائر تتربّص بي مثل حال الرقم 14 الذي لا يكترث لأحاديث اللعنات والشؤم هذه، ويصف نفسه بأنه رجل منطقي. لا تظهر هذه العقلانية إلا كعناد أمام أية محاولات رعائية، أمومية يضيق ذرعاً بها، عدا ذلك ياما جررنا في رحلات طويلة عبر أرجاء المدينة وخارجها، لأنه سمع عن بصّارة ماهرة. من قصصه التي لا نعرف صدقها من كذبها أيضاً كيف حدقت إحداهن بكف يده وبكت رافضة أن تخبره عن مصيره.

سرت في جسدي قشعريرة وأنا أستذكر الولد الذي لمحناه عدة مرات من نافذة القبو في مبنى رعاية الأولاد في الحي القريب، والذي يرنو كلما مررنا إلى صديقي الرقم 14 من خلف قضبان نافذة القبو بعينين شاخصتين، جامدتين كالزجاج، يلاحقه حتى نختفي من الطريق. أستشعر شؤمه في ضلوعي، وأحاول دفع صديقي الرقم 14 ليكسر هذا الشؤم. كان يقابل تشاؤمي بأن يسخر، كالعادة، من تعلقي بالخرافات مستخدماً ورقة الرجل المنطقي. عزمت على أن أتحدث إليه مرة أخرى بشأن الولد، صاحب العينين حين أراه بعد قليل، بعد أن أنهي جولة عمل أخيرة لليوم.

ألقيت نظرة على يدي قبل أن أتهيّأ للمغادرة. شعرت بالرضا وأنا أرى بشرتي المتهيجة عند عظام بدايات الأصابع والدم ينزّ من الشقوق. رميت الأغراض في غرفة التخزين وألقيت نظرة على وجهي في المرآة للتأكد من أن مظهري لائق رغم الطفح، وأن شعري أو ما تبقى منه مصفف برتابة قدر الإمكان تحت الوشاح الذي لففته على رأسي. انطلقت إلى حيث ينتظرني صديقي، الرقم 14، في الحانة. لم أكن أحب التردد إلى هذا المكان وتشرّب رائحة الكحول وأنفاس الرجال، هذه الأماكن ضلالة، سواء كنت تخدم الرب أو تخدم الشيطان، بما تشجعه من فظاظة جمعية في سلوك زوارها. 

كان الرقم 14 يشرب كأساً كبيرة من خليط الرم والبيرة مع السكّر، وهي عادة اتخذها، في اختيار مشروبات ذات تراكيبَ معقدة سمعها من زائر للمدينة أو سمع أن أحد النبلاء يشربها، وكان ذلك كافياً ليدمنها فترة بعد أن يتباهى بأنه السبب في دخولها إلى قائمة مشاريب الحانة واعتمادها. غالباً ما كانوا يجاملونه بهذه الخطوة لقاء تبذيره اليومي على المشروبات عندهم. رغبت للحظات بالسائل الحلو الثقيل ومرارته الحلوة الحارة، ولكنني أحجمت متلمسة تحت الطاولة الجلد الخشن المتشقق ليدي. قلت لصديقي، الرقم 14، إنني قلقة للغاية من موضوع الولد نزيل القبو، وإن لدي شعوراً سيئاً تجاهه. أشاح بيده بدعوة لعدم الاكتراث ولأوقف الحديث عن هذا الموضوع مجدداً. كانت محاولاتي الحثيثة لدفعه إلى حلّ مسألة الولد، بطريقة ما، وضبط عاداته السيئة، انقلاباً للأدوار المعتادة طوال فترة معرفتي به. كان هو من رعاني طوال الوقت ولعب دوراً ما يشبه جليسة الأطفال.

ألقيت نظرةً على وجهه وتلفتُّ حولي بجزع، متفحصة المكان ومن فيه والطريق من طاولتنا إلى الباب، إذ شعرت أنه شديد السكر الآن، كنت أحسب الاحتمالات وماذا يمكن أن أفعل إن أغمي على صديقي هنا ونزل رأسه فوق الطاولة وطردنا من المحل، وأنا من نوعية الأشخاص الذين يتوترون من الفضائح في الأمكنة العامة. كان من النوادر أن يسكر حتى يفقد الوعي، ولكن هذه الحوادث بدأت تتكرر في الآونة الأخيرة، واضطررت عدة مرات لإيقاظه وإسناده حتى نتمكن من المغادرة. ماذا لو اضطررت لجرّه جراً إلى الخارج الآن والتشاجر مع سائقي العربات حتى يرضى أحدهم أن يقلّنا. لم يبدُ أن أي شخص حولنا مهتم بما يحدث أو ما سوف يحدث.

في المرة التالية التي مد فيها صديقي، الرقم 14، يده مرة أخرى إلى الكأس، وضعت يدي عليها بحزم، الحزم المرتبك لمن يقف شطراً من عمر الصداقة متحيراً إنْ كان عليه التدخل في سقطات أصدقائه كوالدٍ بغيض، أن يذهب معهم إلى الجحيم ويرجع برفقتهم، أو يتركهم يصارعون شياطينهم والانتظار حتى ينهوا هذه الرحلة. 

«المشي عكسَ باتجاه الزمن، العودة إلى حيث بدأت الأشياء الطريقة الوحيدة لتلافي مسار هذه اللعنات العالقة في الأقدار». جلست على السجادة أصغي لكلام الشيخ. «الناس تهرع لتلقي الوقائع لتلقي الحقائق والمصائر وما هو آتٍ بأيد وأفواه مفتوحة». بين جلستي على الأرض ومجلس الشيخ فجوةٌ في السجادة حدقت فيها بقلبٍ مرتجف. طبقات من السحاب تتسارع حركتها مع كل لحظة تحتنا. «ربنا غيّر اسم بنيامين من بن أوني، من ابن الألم لابن اليد اليمنى، لنأخذ مصائرنا بيدنا، نعاكس رحلة الزمن هذه التي سارت فيها قوافل من مجموعات الناس، العائلات والوقائع التي غيرت سيرة المكان، على أحدٍ أن يركض كل فترة بالاتجاه المعاكس قادماً إلى هذه الوقائع حاملاً الأعلام الممزقة الملوثة بالدماء من الطرف الآخر، من نهاية الرحلة».

دفع صديقي بقية حسابنا، وخرجنا ملفوعين بالهواء الصقيعي. سعدت لأن ذلك سيذهب عنه أثر الكحول، ولكنه بدا الآن صاحياً. قاد طريق المسير، ميّزت بعد دقائق الطريق الذي نمشي فيه، وعندها فقط أيقنت أننا نسير في خط مستقيم نحو لحظة قادمة إلينا من النهاية، كل ما جهدت وسعيت لأعكسه، لكنني عرفت أنه لا سبيل الآن للمقاومة.

وصلنا إلى المبنى، مبنى القبو حيث يقطن الولد. كانت الرياح قد هدأت والغيوم قد انقشعت ليظهر القمر، مكتملاً مشعاً على عتمة الشارع، ومضيفاً إلى ضوء مصابيحه. كل شيء في مكانه، لا مفاجآت. من نافذة قبو مزججة بالقبضان كان الولد ينظر إلينا كالعادة، لا إليّ، بل إلى صديقي الرقم 14. هو في الرابعة أو الخامسة من عمره. كان صديقي قد ضاق ذرعاً بعبء الحضور الكئيب لهذا الولد في حياتنا إلى هذه الدرجة. كان في الواقع مثلي يشعر كل شؤمه في قلبه على عكس ادعائه. قال بصوت هادئ أسبغ عليه السكر بعض التهكم والعناد: «سأذهب لأرى آخرة القصة مع الولد».

جلستُ إلى حافة الرصيف تاركة صديقي الرقم 14 يمضي وحده إلى المبنى، إلى الولد. أنا على يقين أن ذلك لن يجدي نفعاً. لا رضيتَ أن تنظف معي بيوت الله ولا رضيت أن تغير عاداتك. أن تترك عنك التجبّر، وأن تسمح للوجل أن يغشى قلبك من حين إلى حين. أن تلتفت من قبل إلى الولد، أو أن تستجيب لدعواتي لأعرّفك إلى الشيخ. يوم كنت تقول «حين يكبر الولد… وحين يخرج من القبو» أرعبني أنك لم تعرف أنه لن يكبر، لن يخرج من القبو أبداً. مثله مثل كل أطفال المبنى حيث ستذهب الآن دون عودة، أطفال آخرون، 1 و 2 و 3.. و13،حتى 15. أهلهم ليسوا هنا، وإدارة المكان وعدت أنها ستعتني بهم جيداً، ومع ذلك كنا نراهم شاخصين من النوافذ المزجّجة بالقضبان بعيونهم الميتة، وليس يوماً في الطرق. لم ترهم الشمس يوماً.

Author

قاصّة سورية مقيمة في برلين صدر لها ثلاث مجموعات قصص قصيرة: آدم يكره (2008)، كيف تم اختراع اللغة الألمانية (2017 دار 10/11 للنشر)، ملخص ما جرى (دار المتوسط 2018). محررة القسم الثقافي ومنسقة ملحق هامش الثقافي في موقع الجمهورية. من مواليد 1984 نشأت في دمشق متلقيةً تربية فاضلة أدت إلى هذه النتيجة، ومن ثم تتلمذت على يد خيرةٍ من الخبراء في الصحافة الستالينية في قسم الإعلام في جامعة دمشق قبل أن يتم فصلها من الجامعة عام 2007، استهلت مسيرتها الصحفية والخيالية معاً بتأليف الجرائم وسلاسل قصص الجواسيس في جريدة حوادث محلية في دمشق، لها مساهمات صحفية وأدبية في مواقع ومطبوعات عربية وغيرها منذ عام 2005 وحتى تاريخه.

قاصّة سورية مقيمة في برلين صدر لها ثلاث مجموعات قصص قصيرة: آدم يكره (2008)، كيف تم اختراع اللغة الألمانية (2017 دار 10/11 للنشر)، ملخص ما جرى (دار المتوسط 2018). محررة القسم الثقافي ومنسقة ملحق هامش الثقافي في موقع الجمهورية. من مواليد 1984 نشأت في دمشق متلقيةً تربية فاضلة أدت إلى هذه النتيجة، ومن ثم تتلمذت على يد خيرةٍ من الخبراء في الصحافة الستالينية في قسم الإعلام في جامعة دمشق قبل أن يتم فصلها من الجامعة عام 2007، استهلت مسيرتها الصحفية والخيالية معاً بتأليف الجرائم وسلاسل قصص الجواسيس في جريدة حوادث محلية في دمشق، لها مساهمات صحفية وأدبية في مواقع ومطبوعات عربية وغيرها منذ عام 2005 وحتى تاريخه.