لا أزال أذكر أول عضّة كلب وأول قصة حب في المدرسة وأول تحية إيطالية تعلمتها: «فا فنكولو». اكتشفت فيما بعد أنها تعني: «روح نيّك». حدث ذلك كلّه خلال صيف 1994. غالبني النوم بشكلٍ مفاجئ خلال مباراة إيطاليا والبرازيل في نهائي كأس العالم تلك السنة. بوسعي أن أحزر أنه منتصف الشوط الثاني. ظلّت تصويبة ماورو سيلفا عالقةً بذهني، ليس بسبب اصطدامها بالقائم بعد اضطراب باليوكا الذي أفلت الكرة من يده وقبّل القائم متنفّسًا الصعداء، لكن بسبب عمّي، المناصر لإيطاليا، الذي نطق بكلمة «فافنكولو» مغتاظًا. أدمنتُ استعمال الكلمة كتحيّة صباحيّة بعدما أخبرني عمّي بأنّها مرادف شوارعيّ لكلمة «يعطيك الصحة»، أي «أحسنت»، حتى يتجنّب إحراج العائلة والجيران المجتمعين وقتها.
كان ذلك آخر ما تبقى في ذاكرتي من سهرة مباراة نهائي كأس العالم التي أُقيمت في الولايات المتّحدة الأميركيّة سنة 1994.
لم أفرح كثيرًا بأوّل عطلةٍ مدرسيّةٍ حظيت بها خلال تلك الصائفة. حزنت وقتها لنهاية العام الدراسي لأنني لن أجالس هاجَر من جديد. تزامن ذلك مع صدمةٍ عصيبة عشتها أول الصيف بعدما هاجمني الجنرال، كلب جارنا المتقاعد من الجيش، في طريق عودتي من المخبزة. ظللت أرتعد من الرتب العسكرية لوقتٍ طويل، وارتبطت هرمية التسميات في ذهني بمدى الشراسة. لم يخيّبني حدسي الطفوليّ فيما بعد.
تعرّفت إلى هاجَر خلال يومي الأول في المدرسة. دخلت متأخرًا عن الجميع بسبب عمري، إذ كنت الأصغر على لائحة القبول. اصطحبني عمي في يومي الأول. فوجئت بمعلمي الذي كان إمام الجامع الوحيد في القرية في الوقت نفسه. تملّكتني الرهبة وكدت أفرّ هاربًا. تذكّرت غضبه منّا عندما لعبتُ الغميضة ذات صيفٍ مع أصدقاء الحي ودخلتُ الجامع بِنيّة الاختباء وراء جدي أثناء سجوده. عندما أشار إليّ بالجلوس بجانب هاجر في المقعد الأمامي، نسيت خوفي وتركت يد عمّي لأهرع صوبها. لا أذكر الكثير عن سنتي الدراسية عدا هوسي بهاجر ودفتر الأعداد الأزرق الصغير، بالإضافة إلى قطع الطباشير التي أتعمّد سرقتها منها حتى أتذكّر ملمس أصابعها.
اقترنتُ بداية الصيف بحفل تسليم جوائز المدرسة ومجاورتي لِهاجر أثناء التقاط الصورة الجماعية للمتفوّقين، بالإضافة إلى عزوفي عن مباريات كرة القدم في الحيّ وانسحابي من عصابة «النمور» ومخططاتها للإغارة على أشجار البِيثر في الحقول المجاورة. نَهرَنا الإمام عن لعب الغميضة في محيط الجامع، وغادرت هاجر بعد حفل تسليم الجوائز لقضاء عطلة الصيف مع عائلتها في مدينة ساحلية. كنت حزينًا. لكن الأمور تغيّرت مع نجاح عمتي في امتحان الباكالوريا. سرعان ما نسيت هاجر وقطع الطباشير، واسترجعت مكانتي ضمن زعامات النمور بعدما ضربت جرس منزل كلاودييتا الإيطالية وفررتُ هاربًا باتجاه زمرتي التي اختبأتْ بحائط المقبرة. خرجت كلاودييتا بلباسها القصير مزمجرة، وكان ذلك انتصارًا مذهلا وغنيمةً بصرية لأطفالٍ لم يبلغ أكبرهم سنّ العاشرة، اقتصر خيالهم على لحظة عُريٍ مسروقة من قناة رايونو الإيطالية على شاشة التلفزيون مساءً.
*
انتقلت العائلة إلى القرية منذ السبعينيات. كأغلب السكان الذين لا يملكون أراضي زراعية، هاجر جدي من القرية للعمل في حقول الشمال أثناء الاستعمار الفرنسي. مكث سنوات طويلة هناك ورجع إلى القرية بعد أن كبرت العائلة. اشترى قطعة أرضٍ صغيرة وبنى الحوش. ترك مهنته كمزارعٍ في أراضي الآخرين واشتغل كسّارَ حجرٍ، لكنه انقطع عن العمل بعد أن انقلبت به العربة التي يجرّها بغل، والمسماة الكرّيطة.
استأنسنا مراسم الموت منذ وقتٍ مبكر. يقع الحوش في الحي الذي يحتضن المقبرة والمخبز الوحيدين في القرية وعلى مقربةٍ من الجامع. لم يكن للمقبرة سور، ما جعل القبور على مرمى نظرٍ دائم بالنسبة لنا. مثّلت الجنازات فرصةً للمغامرة لدينا. يختبئ بعضنا بين أشجار السرو التي أثار تواجدها المكثف فضولي. علمت في وقتٍ متأخر أنها مرتبطة بالحداد وتُعَدّ من رموز الحزن والجنائز. أحيانًا يسبق حفر القبر فعالية الدفن بليلةٍ. كنا نختبر شجاعتنا بالنزول إلى الحفرة بعد الغروب. كسبنا حظوةً بين بقية الأحياء التي كانت تهابنا لمجاورتنا عالم الأموات، حتى أننا صنعنا ملعبنا الرسمي في قلب المقبرة وسط الشواهد والأضرحة. في تناظرٍ عكسي، يقابل الباب الرئيسي للمقبرة مخبز القرية الذي تنطلق منه الحياة صباحًا إلى كل شرايينها عبر توزيع الخبز. يستأثر الجامع بمكانةٍ رمزية على الجانب الآخر، إذ يقع بجانب مكتب العمدة وتحتضن ساحته الأمامية فعاليات الزردة الموسمية وخرجات الطريقة العيساوية التي كان جدي ناقرَ طبلٍ في فرقتها.
اكتسبت الطريقة العيساوية جاذبية شعبيةً في قريتنا وبقية الأرياف المجاورة من خلال مراسمها الاحتفالية. يستحضر أتباعها أسطورة مؤسس الطريقة محمد بن عيسى وأتباعه من مدينة مكناس المغربية واقتياتهم في الخلاء على العقارب والأفاعي والزجاج الحادّ التي تتحوّل في أفواههم إلى مذاقٍ طيب، فيما يستعرض أحد المريدين رقصًا متخمرًا يشق خلاله بطنه بسيفٍ حاد. ترافق احتفالات العيساوية في القرية مع الزردة التي ننتظرها بكثيرٍ من الشغف وتنطلق من مرقد سيدي عبد العزيز بجانب الجامع، وتُنحر خلالها الأضاحي التي تُوزّع لحمها على العامة. أتذكر بكثير من الضبابية مشهد جدّي في إحدى المناسبات وهو يساير رقص المتخمّرين أثناء الزردة بنقرات طبلٍ مهيبة، وجمعٌ من المجاذيب العراة من حوله يهشّمون الزجاج بأسنانهم ويرمون بالعقارب في أفواههم. يظهر جدي أيضًا في بعض الصور الفوتوغرافية وهو يرقص متلحِّفًا بالعَرّاقية فوق رأسه في زفاف عمتي الوسطى، وأخرى وهو يتلقّى فيها التهاني ويميل بجسده مشاكسًا إحداهنّ خلال حدث نجاح عمتي الصغرى في الباكالوريا.
*
استثمرتُ نجاح عمتي لصالحي وعزّزتُ موقعي في عصابة الحيّ. حاول الجميع كسب ودّي وقتها طمعًا في الكوكا وصناديق المشروبات الغازية التي يحملها الضيوف معهم في تقليدٍ رافق طقوس التهنئة في مناسبات النجاح. غنمتُ من عمتي الصغرى ثروةً صغيرة ممّا كانت تتلقّاه من الأسخياء من أقاربنا من رِشق النجاح: ورقات الخمس دنانير الحمراء. توّجتني الظروف ملكًا بعد انكسارٍ سبّبه ابتعادي عن هاجر. حتى خلال مباريات كرة القدم، جعلني الجميع في موقع الهجوم بالرغم من بساطة إمكانياتي في اللعب.
استمرّ الأمر لأيامٍ عديدة. خفّت وتيرة الاحتفال بنجاح عمّتي تدريجيًا، وتراجعتُ إلى مواقع الدفاع ثم بديلًا لحارس المرمى في أحسن الحالات. شحّت موارد النمور واقتصرت غنائمنا على بعض البطيخات من حقل بعيدٍ، نال عزّوز بسببها عضّة كلبٍ مسعور. تذكّرت هاجر فجأةً ودخلت جولةً جديدةً من الحزن. كنت بحاجةٍ إلى معجزة ثانية.
أنقذتني كرة القدم. ليس لهدفٍ قد سجّلته ضد حومة الملاجي، ولا لانتصارٍ صنعته أمام فريق الحمادة العتيد، ولا حتى لرميي الموفّق خلال غارة حجارةٍ مظفرة بعد خسارتنا أمام فريق قِزمير الذي انفصل عن حومة الجبّانة وانضمّ إلى فريق وسط البلد. طبعًا لم أشارك في أيٍّ من تلك الأمجاد، لكن بطولة كأس العالم التي أقيمت وقتها في أميركا أنقذتني.
احتلّت كرة القدم الحيّز الأهمّ في حياتنا اليومية وتقاليد العائلة. نلتقي كل ليلةٍ في منزل جدي أمام تلفزيون طومسون الكبير بالأبيض والأسود. يتطوّع شخصان لإخراجه إلى الباحة الواسعة وسط الحوش مع ارتفاع درجات الحرارة صيفًا. تبدأ التحضيرات مع بداية العشية. يأمرني جدّي بتبريد باحة الحوش بدلو الماء ومساعدته في صناعة مشمومه اليومي من الياسمين كي يشكه وراء أذنه. أقطف له نورات زهر الياسمين التي لم تتفتّح بعد. يرصفها حول عود جاف من السعف ويحيطها بورقة عنب يشدّها بخيط أبيض رفيع حتى يكوّن باقة صغيرة. يترك جدي المشموم لسويعات قليلة وراء أذنه ثم ينزع عنه ورقة العنب لتتفتح الأزهار ويبثّ رائحة عطرة أشتمّها على بعد أمتار. المشموم حليّ كبار السن. يحمل بصمتهم في الصنع والزخرفة. يتميّز جدّي عن أصدقائه بلفّة مثالية لورق العنب وبكرة خيط زامنته لوقتٍ طويل، لا أحد يعرف سرها أو من أهداه إياها. يصطحبني كل عشية إلى وسط القرية ليلعب الورق مع صديقه وجاره المولدي، أو «الحاج» كما يناديه الجميع. يتبجّح بمشمومه ويغيظ رفاقه الذين يتكالبون عليه غالبًا لسرقة المشموم أثناء انهماكه في اللعب. عندما ينجو من السطو، يأتمنني عليه أثناء ذهابه إلى الجامع لصلاة المغرب ويشتري لي الكاكوية النيئة. أحملها إلى جدتي التي ترميها فوق قدرٍ معدني على كانون الفخار تحضيرًا للسهرة وتخصني بحصةٍ استثنائية في غفلةٍ من الجميع.
هكذا كان يومي يمرّ بسرعةٍ تنسيني خيبة ابتعادي عن المغامرات؛ من أجواء مباريات كرة القدم ضمن فريق الجبّانة التي استعر وطيسها مع بداية البطولة المحلية غير المعلنة بين الأحياء، إلى جولات الإغارة المسائية على حقول البطيخ البعيدة بعد أن انتقم عزّوز من الكلب المسعور واستدرجه إلى بئرٍ عميقة ليتخلّص منه. تخلّيت عن زعامتي تدريجياً بعد أن اشترى لي أبي مجلة صور الفرق المشاركة التي صنعت ثقافتي المبكرة لكرة القدم بالتعرّف إلى اللاعبين، وأصبحت قطًا في نظر رفاقي بعد تنازلي عن هويتي كنمرٍ ضمن العصابة. بعضهم أطلق عليّ ساخراً لقب النمر الوردي. تركتُ الإغارات المسائية وبدأت بمتابعة كل المباريات التي تبدأ في وقتٍ مبكر. صارت هوايتي تخمين أسماء اللاعبين صحبة معلّق التلفزيون، وشعرت بالتكبّر أمام أقراني وأنا أتبجّح أمامهم بأسماء مثل راشيدي ياكيني وكلينزمان وروجيه ميلا.
*
يتسمّر جدي أمام التلفزيون. يجلس القرفصاء ويضع قدمه فوق ركبته. يزيل شاشيته الحمراء جانبًا ويرمي بداخلها علبة سجائر الكريستال وأعواد الثقاب. يتحسّس مشمومه عند أذنه. يشتمّ منه أنفاسًا مع كل هجوم للبرازيل يقوده روماريو وبيبيتو، وسرعان ما يعيده إلى موضعه المعتاد مع تراجع نسق اللعب. يقرّبه من أنفي مع كل هدفٍ، وكأنه يحتفل بإهدائي أنفاسًا من الياسمين فيما تلتمع عيناه غبطةً. أقتربُ من ركبته وأضع كلتا يديّ عليها، وأحيانًا أرتمي في حضنه. أسارع بإشعال عود ثقاب عندما يهمّ بتناول سيجارة طمعًا في نشوة إشعال نارٍ صغيرة، وحتى أتلقّف المزيج الغريب من روائح التبغ والياسمين التي تختلط في أنفي. كانت تلك رائحة كرة القدم أيضًا: خيط من دخان التبغ الأبيض برائحة الياسمين، مع صوت الصرصار الليلي وهمهمات جدتي التي تحتجّ على تدخّل جدي في مقادير إبريق الشاي.
لم أشجّع فريقًا بعينه في البداية، لكني تأثرت بولاءات أفراد العائلة. ناصر عمّي العائد لتوّه من هجرة دامت أربع سنوات في ميلانو فريق إيطاليا، ومثله فعل أبي، مع تعاطفٍ معلن لهولندا وبلغاريا التي وجدتُ لذةً في قافية أسماء لاعبيها مثل ستايشكوف وبالاكوف، متأثرًا بأبي الذي حرّكه الحنينٍ لجرسِ موسيقى الأسماء السوفياتية بدءًا من إليتش أوليانوف. رغبتُ في متابعة الأرجنتين حتى أشاهد مارادونا الذي كان اسمه لازمةً نرددها دائمًا لتحفيز أنفسنا أثناء لعبنا في الحي. لم أفهم استبعاده من البطولة وقتها، لكن عرفت من أصدقائي بأن كرموسة، ابن العمدة القديم لقريتنا، تقدّم للخدمة العسكرية بعد استبعاد مارادونا عقابًا لنفسه. لم يجرؤ على مواجهة أقرانه بعدما خسر رهانه بأن مارادونا سيقود الأرجنتين مرةً أخرى للفوز بكأس العالم. عذاب الخدمة العسكرية كان أهون من تنمّرهم.
فيما وحّدت نيجيريا والكاميرون العائلة الموسعة لوقتٍ قصير، بفضل راشيدي ياكيني وروجيه ميلا، استقريت أخيرًا على البرازيل في انحيازٍ واضح مع جدي الذي وجد إجابته: «إنهم الأجمل». ثمّة شيء سحري يلفّ البرازيل. رنّة أسماء اللاعبين: راي وروماريو وبيبيتو وماورو سيلفا. سمرتهم تشبهنا إلى حدٍ كبير، ما عدا تافارال حارس المرمى. بدا وكأنه أوروبي أبيض وسط كتيبة السامبا، وكذلك دونغا الذي لا أتذكّره جيدًا، ربما لدوره الدفاعي في وسط الميدان الذي لم أستسغه كفايةً نظرًا لتلهّفي للهجوم واللعب المهاري، ما جعله ذكرى بعيدة جداً في ذهني. شهدت البطولة وقتَها عودةً نسبية للّعب الهجومي بعد قوانين الفيفا التي فرضت نظام احتساب ثلاث نقاط للفائز خلال المباريات الترتيبية، وذلك من أجل تحفيز الفرق المشاركة للعب الهجوم بعد أن تحوّلت كرة القدم تدريجيًا إلى وظيفةٍ رسمية لمنع الأهداف وتعقيم اللعب. كان جدّي يتذمّر من المقابلات التي تنتهي بتعادل أبيض أو لا تشهد كثيراً من الأهداف. لم يكن يفهم في التكتيكات وتغيّرات نسق اللعب، لكنه يُطرَب لِصيحات المعلّق إثر مراوغةٍ مهينة يقوم بها أحد اللاعبين وينتشي لرؤية الأهداف الرأسية.
كان جدّي «عَشّاقاً»، أي صاحب سوابق في العشق والزواج. قبل أن يتزوّج جدتي، ارتبط بامرأتين. أعتقد جازمًا أنه نقل الروح اللّعوب للعشّاق بداخله إلى كرة القدم، وطارد جمالها الذي تجلّى في فن المراوغة. بوسعي الآن أن أفهم انجذابه للبرازيل. لم تكن سردية البطل ما أسرته، بل تجليات سحر المراوغة لدى أجنحتها ومهاجميها المهاريين. ذلك الاختراع الذي يضاهي روعة الهدف. شيء ما غرسه غارينشا عميقًا في أذهان البرازيليين وجعل من المراوغة حشيش كرة القدم. لم يشاهد جدي غارينشا، إذ دخل التلفزيون متأخرًا إلى العائلة، لكنه عاين ورثته عبر الشاشة وأهمهم روماريو. قبل ذلك، كان الراديو عنوان السمر الليلي حول حكايات العروي وبرنامج القافلة تسير الذي يذيع أغاني اسماعيل الحطاب. لكن مع انتشار التلفزيون في المقاهي ولدى بعض الميسورين، انتقل جدي إلى متابعة نزالات كلاي في الملاكمة ومشاهدة كرة القدم.
حدّثني أبي في وقتٍ لاحق عن التلفزيون الوحيد في حيّهم القديم في سليمان. كان على ملك حمُّو، أحد الميسورين الذي باعه لشراء تذكرة حفل أم كلثوم خلال الستينيات. فقَد سكان الحي متعة مشاهدة «صندوق العجب» ومباريات محمد علي كلاي وقتها، لكنهم غنموا ليالي متواصلة من السمر في منزل حمُّو الذي قصّ عليهم تفاصيل الحفل في أسلوبٍ شهرزادي. خصّ كل ليلة تفصيلاً بعينه، من فستان أم كلثوم وإطلالتها، مرورًا بأدق تفاصيل غنائها وتأوّهاتها، وصولًا إلى الجمهور الغفير واختلاقه بعض الخوارق التي رافقت الحفل مثل المرأة الحامل التي أصرت على الحضور وقاومت آلام المخاض لتضع طفلها بعد انتهاء وصلة غناء الست. أحبّ أبي أم كلثوم كثيرًا، خلافًا لجدي الذي كان ينتشي لرؤية الراقصات الشعبيات في حفلات أعراس الأعيان، وخاصةً اللواتي رافقن إسماعيل الحطاب الذي أدمن جدي أغانيه.
*
أبطال جدّي ثلاثة: النساء وإسماعيل الحطاب وكرة القدم. يحضر ترتيب مماثل أيضًا في عادات جدّي المتعلّقة بالشاي والذي يمرّ بثلاث مراحل بدوره: «الكاس لوَّل»، وهو الأقوى مذاقًا والأكثر تركيزًا. «يعمّر الراس» ويمنحه دوزنةً مناسبة. يُسمّى كذلك لأنه مكثّف وينتج عن أول خلطةٍ بين الماء والشاي. يضعف تركيزه تدريجيًا مع إضافة الماء والسكر وخلطه بأوراق الشاي المطبوخة في الإبريق. الكاس الثاني للسمر. أخفّ مذاقًا. الثالث هو المسموح لنا، نحن الأطفال، محلى بالسكّر وهو أقرب إلى التحلية.
لا أحد يشارك جدّي أوّل الكؤوس. يستلمه فورًا بعد العشاء إثر انتهائه من الصلاة. يترشّفه على مهلٍ لإزالة وجع الرأس مثلما يقول، فيما ننظر إليه كصاحب خوارق لا تؤثّر فيه الأشياء التي نهابها في حياتنا اليومية. لطالما كانت لديه تقاليد في التطبّب ومعالجة الأوجاع التي تلازمه، كأن يضرب جبهته بموسى الحلاقة بشكلٍ خفيف لينزّ الدم ويصفّي رأسه حسب اعتقاده، ويتخمّر مع فرقة العيساوية في القرية أثناء نقره على الطبل خلال احتفالات الزردة. كان ذلك كافيًا بأن أتبع هوى جدي حتى في كرة القدم.
بدأت السهرات فعليا في الحوش مع المقابلات النهائية وتزامن توقيت المباريات ليلاً مع ساعات السمر الصيفي. تخمد الحركة في الحي ويتداخل صدى أصوات المباراة المنبعثة من أجهزة التلفزيون في المنازل، تتوزّع على درجاتٍ من الحدّة والنقاء وتلتبس أحيانًا بحلةٍ من الخشخشة لتضخّم صوت المعلّق الوحيد بفعل الصدى. يصنع المزيج الغريب جوقةً ليلية تكسر إيقاعها حوارات مسلسل مصري ينبعث من منزل دليلة التي تسكن في مدخل الحي من جهة المقبرة، ومواءات متقطّعة لقطط الحي تقودها الشهباء وقلنزة من أجل الظفر ببقايا العشاء تشقّها أصوات قادمة من بعيد لسهرات الأعراس.
لم تزل أغنية لامبادا على صدارة قوائم الراديوهات ومنصات الديسكور الشعبية خلال ذلك الوقت معلنةً بداية الصيف، في تنافسٍ محموم مع أوول ذات شي وانتس لفرقة البوب السويدية آيس أوف بايز. بالنسبة لنا كانت اختصارًا: «أولماتشيفانز»، إذ كانت الانجليزية بمثابة طلاسم لنا. مع انطلاق ماراثون الأعراس في القرية، كنا نحزر نهاية الحفلة عبر انطلاق أولماتشيفانز التي تغري الشباب بالنزول إلى حلبة الرقص واستعراض فحوّلتهم الناعمة الموشّحة بقمصان الصيف المزركشة أمام فتيات القرية. لطالما تذمّر جدي من انتهاء فقرة إسماعيل الحطاب سريعًا واقتصارها على بين الوديان والخمسة اللي لحقوا بالجرّة، مقابل المساحة المخصصة للغناء الأجنبي.
شكّلت أعراس القرية بداية تعلقي بالغناء. كنت أفضّل الأيام الأولى التي يجتمع فيها الأهالي حول الدربوكة. ينقسم فريقان من الرجال والنساء في مقابلة بعضهما بعضاً. تبدأ النساء بالتحمية ثم يعلن أحد الرجال عن جولةٍ أولى تنتهي سريعًا بِـ«تقعيد العريس» الذي يجلس وسط أصدقائه إيذانًا بافتتاح السهرة. تنطلق المشاكسات الغنائية التي تكتنز بالإيحاءات. يتداول الفريقان على الغناء واستعراض مهارات النقر على الدربوكة. يستعر الجو مع وصلات رقص خاطفة لشخصٍ أو اثنين، يكونان عادةً الأفضل من كل جانب والأقدر على «تدوير الحزام». هنالك أغنية بعينها كانت تحرّك المنافسة بشكل خاص وتشتد معها الهتافات والتصفيق. تمتدّ على ارتجالات طويلة تنطلق من مقطعٍ ثابت يتغزّل طالعه بديكٍ يملكه حاج اسمه علي: «سردوكك يا الحاج علي»، يتمّ إثرها تعداد أحياء القرية وجغرافيتها الفلاحية: العِيثة، الحمادة، السعيتة، الكونغو، الشط، الملاجي.. تتفجر الضحكات في الأرجاء ويسود جوّ من الودّ المشوب بالمعاكسة الخفيفة. لم أكن أفقه شيئًا من الرمزيات المبطّنة في رحلة سردوك الحاج علي بين ثنايا القرية التي يمشي خلالها مزهوًا بين الدجاج، ويعبر أحياءها غير عابئ بالوحل والرمل والكلاب التي تطارده. تنتهي الأغنية بمشهدٍ حزين لسردوك الحاج علي الذي يطأطئ رأسه ويفقد زهوه وريشه في الحي الذي تسكن فيه العروس. خلال زفاف إحدى عمّاتي، كان جدّي يبتسم في ركنٍ بعيد وهو يشاهد الفريقَيْن ويضحك عابثًا غير عابئٍ بنظرات جدتي الحادّة.
*
اجتزنا ملل الأدوار الأولى التي لا تشي بالكثير من الحماس، ما عدا ثلاثية نيجيريا في مرمى بلغاريا بقيادة ستايشكوف الذي تأبّط شرًا خلال البطولة بعد أن خيّبته مجلة فرانس فوتبول في جوائز الكرة الذهبية لسنة 1992 بسبب عدائيته وسلوكه المشاغب على الملعب. وضع روبارتو بادجيو حدًّا لمفاجآت بلغاريا التي بلغت نصف النهائي وسجّل ثنائيةً. في النصف الثاني
من الجدول، أزاحت البرازيل أميركا البلد المنظِّم وهولندا في طريقها قبل أن تقضي على آمال السويد قبل النهائي. مع اقترابنا من النهائي، تكسّرت حمية العائلة الموسعة في التشجيع المشترك، وبدا جليًا أن أن كفة المعسكر الإيطالي باتت الأكثر عددًا بعد أن تمركزت حول عمي العائد من إيطاليا. ترك عمي عمله في ميلانو وأصبح بائع كاسيتات. دائمًا ما كان يصطحبني أثناء جولاته على سيارة العمل ويطلب مني أن أستمع إلى الكاسيتات الجديدة التي يقتنيها وأختار منها الأجمل.
صباح النهائي، ضجّ الحوش بأغاني طوطو كوتونيو وتعالى صوت عمي الذي أراد إغاظتنا وهو يرشقنا بكلمات إيطالية: «العشاء الليلة سباغيتي على الطريقة الإيطالية»، «سيفعل بادجيو في البرازيل ما فعله مارادونا في إنجلترا قبل سنوات». انطلقت الرهانات المغيظة من جانب أبي وعمي. من جهته، كان جدي واثقًا من أنهما سيتكفّلان بمصاريف العشاء في اليوم الموالي طبقًا للرهان الذي جرى بينهم. فعلتُ كل شيء يومها حتى أتمكن من الاستمرار في السهر، منها إرغام نفسي على أخذ قيلولةٍ طويلة وسرقة رشفةٍ صغيرة من «الكاس لَوَّل» الذي ينهي به جدي عشاءه.
دعانا الحاج صديق جدي إلى حوشه لمشاهدة المباراة على التلفزيون الكبير الذي اشتراه للتوّ تحضيرًا لزفاف ابنه آخر الصيف. تحمّست للفكرة، خاصّةً وأنّنا سنشاهد المباريات بالألوان أخيرًا. لا يختلف حوش الحاج عن حوش جدي. باحة كبيرة وغرف مفتوحة على بعض في شكل مربع مع حنفية في الركن وشجرة ياسمين يحيط بها حوض صغير، لم يخلُ منها كل حوش في القرية. توزّعنا في الباحة الكبيرة في حوش الحاج، فيما جهّزت ابنته الكبرى عدّة الشاي والكاكوية طبقًا لما يريده جدي.
لم أعرف أبدًا سرّ عزوفها عن الزواج. لطالما لازمني اعتقاد بأنها أرادت ذلك لتعلّقها الكبير بعائلتها وبسكان الحي عمومًا. أحببناها جميعاً. كانت حريصةً على المشاركة في كل المناسبات وكانت تقحم نفسها بشكل ودودٍ في كل مرة، من المشاركة في غسل البطانيات الثقيلة بعد انتهاء الشتاء مع كل عائلة، إلى حمل أطباق الكعك إلى المخبزة مع أولاد الحي خلال النصف الأخير من شهر رمضان. كبرتُ كفايةً في نظر أقراني عندما قرروا إخباري بسرٍ كان فاصلًا في إنهاء سذاجتي الطفولية: أنجبت ابنة الحاج بنتًا خارج إطار الزواج، وأرغمتها والدتها على التخلص منها بتركها في المستشفى لتظل من «صغار بورقيبة»، كما كان يُطلَق على المواليد مجهولي النسب الذين تحتضنهم مؤسسات الرعاية الرسمية لتوظفهم فيما بعد في سلك الأمن غالبًا، وذلك حسب الأساطير الشعبية التي تربط عنفهم وهمجيتهم بنسبهم المجهول. انقشعت غيوم الإبهام وقتها وفهمت سرّ تصرفاتها العصبية تجاه والدتها خلال سنواتها الأخيرة. بدت لي كنوعٍ من الثأر لاحقًا. توصّلتُ إلى بناء السردية المتكاملة لتلك الحادثة فيما بعد. كانت جارتنا تشتغل برفقة فتيات الحي في المزارع أثناء جني الزيتون وخلال تهيئة الأرض لموسمٍ زراعي جديد. أحبّت رجلاً يسكن في ضيعةٍ قريبة منا. راودها ذات مرة في حقول الدرع أثناء عملها. حملت من دون أن تعلم. انتبهت والدتها لذلك. عنّفتها ونَفتها خارج الحوش إلى دكانٍ قريب درءًا لما رأته عارًا. ظل الحاج والدها يزورها ويحمل إليها الطعام، وكذلك جدي الذي تعاطف معها. حاولت الانتحار وقتل جنينها. ضربت مرة بطنها بحجرٍ كبير قبل أن يتدخّل أحدهم ويمنعها من ذلك. وضعت جارتنا ابنتها دون أن تحتضنها، فيما اختفى أثرها من سجلات المستشفى. ارتعبتُ لرؤيتها تنتحب مستندةً إلى عمتي التي كانت تدقّ يدها بجمرة ملتهبة حتى تهدّئ من روعها إثر موت الحاج، والدها. فهمت فيما بعد سر ألمها الكبير وقتها، إذ كان الوحيد من عائلتها الذي احتضنها عندما ألّبت والدتها الجميع ضدها.
*
توسط التلفزيون الباحة في حوش الحاج. ارتميت بجانب جدي الذي اتكأ على الحوض المحيط بشجرة الياسمين. صعد ابن الحاج إلى السطح من أجل تعديلٍ أخير للهوائي وتنقية صورة التلفاز. أعطاني أبي دروسًا سريعة في الجغرافيا حول دور خطوط العرض والطول وفوارق التوقيت، فيما غنمتُ حصة إضافية من الكاكوية في غفلة من الجميع بعد أن أشار إليّ جدي بالاقتراب أكثر منه ودسّ في جيبي حصته حتى لا أستسلم لإغاظة عمي وأبي اللذين شرعا في ذلك مبكرًا.
بدأت المباراة أخيرًا.
كنت أبحث عن روماريو ولا أطيق صبرًا أن أرى الكرة في حوزة البقية. أشعرني بأنه يلعب لأجل لقمة عيش ويقاتل المدافعين في حرب شوارع وبأطرافٍ عارية، وكأنه يلاكم بقدميه. يستعين بصديقه بيبيتو لقيادة نقابة عمالية في منطقة دفاعات الخصم تهوي على الأعراف بهجماتها ولا تملّ من العودة في كلّ مرّة إلى مربّع الملكية تلك. في المقابل، رسّخ بادجيو صورةً مثالية لفرد عصابة صقليّ، مع ربطة ذيل الحصان في شعره ونظراته الشرسة تجاه خصومه التي توحي بأنه يرغب في تجريدهم من كل غنائمهم. عزّز تشجيع جدي للبرازيل تلك الثنائية: الخير المستبسل من أجل لقمة العيش مقابل الصلف العصاباتي الذي يحمل الكرة كسكين جيب يريد به شرًا. وضعتُ أبي وعمي في محور الشر المطلق. كانوا أعداءً بالمعنى الحرفيّ للكلمة، فيما تظاهر الحاج بالحياد واستسلم أخيرًا لنشوة إغاظة جدّي بعد إغوائه من طرف محور إيطاليا. اعتبرت أن حصتي الزائدة في الكاكوية جزاء الخير الذي اصطفيت إلى جانبه، وكأن الله يكافئني على الوقوف مع جدي في صف البرازيل.
كانت تلك آخر الصور. نمتُ بشكل مفاجئ وحملني أبي إلى منزلنا إثر نهاية المباراة. ذلك ما أخبرني به فيما بعد. أيقظني عند الساعة الخامسة فجرًا. خلتُ أنني غفوتُ لدقائق وفاتتني نهاية المقابلة. قال لي بصوتٍ مرتجف: «مات جدّك».
أعتقد أنّها المرة الوحيدة التي خاطبتُ فيها أبي بكل وقاحة ونهرتُه عن الكذب. لكنه كان صادقًا. أخبرتني عيناه بذلك. لم أسأله عن نهاية المباراة. حدثت ثقوب كبيرة في ذاكرتي بعد ذلك. أتذكّر الدفن في المقبرة وأنا أبحث بعيني عن أصدقائي بين أشجار السرو بعد أن انقلبت أدوارنا وأصبحتُ محور التطفّل. أتذكّر صفًا طويلًا من المعزّين وحيرتي بين الانضمام إلى أبي وعمّي أم ملاحقة أصدقائي. أتذكّر أنها المرة الأولى التي وصلتُ فيها إلى ملعبنا وسط المقبرة دون نيّة لعب كرة القدم.
أضاع بادجيو ضربة الجزاء وفازت البرازيل. استكثر عليّ الله فرحتي وحصة الكاكوية الزائدة، ومات جدي. كتب متطرفون على جدران الفاتيكان: «يغفر الله للجميع إلا بادجيو». لم ينسَ أولئك أحقادهم ضد بادجيو الذي ترك المسيح وتضرّع إلى بوذا خلال وقتٍ عصيب من مسيرته إثر إصاباتٍ بليغة. على أية حال، غفر الله للجميع، بما فيهم بادجيو، ولم ينسَ جدّي.
*
استمرّ روماريو وخفت بريقه بعد صعود رونالدو وجيل 98 واستبعاده من المسابقة حينها إثر عدم جاهزيته، ولعب كثيرًا بعد سنّ الأربعين رغبةً منه في كسر حاجز الألف هدف. انضمّ إلى فرقٍ مغمورة لأجل ذلك وسرعان ما تناسى الجميع أنه لا يزال يلعب خلال العشرية الأولى من الألفية الثالثة. أما بادجيو، فلا يمكن لرجل عصابة مثلما أتخيّله- أو تحديدا كما نمّطته الأفلام الهوليودية في رأسي- أن يحزن هكذا على ضياع ضربة جزاء. خالف بادجيو أعراف المافيا والكنيسة: لم ينتقم ولم يطلب الغفران، بل استمرّ في لعب كرة القدم بالشغف نفسه. لم يرهق نفسه بالاستمرار طويلا والمقايضة بتراجع مردوده مقابل تحقيق أرقامٍ ما. انسحب بادجيو في عمر السابعة والثلاثين، لم يسمح لنفسه بأن تتهرّم ركبتاه ويصبح عجوزًا خانه الوقار مثل روماريو.
قلَب موت جدّي تدريجيًا معادلة روماريو الخيّر وبادجيو العصاباتي. صار لديّ تداخل مريب بين ركلة بادجيو الضائعة وسقوط جدي من الكريطة. لم يقتل الحادث جدي، ولم تقتل ضربة الجزاء الضائعة بادجيو، بل حوّلته إلى بطلٍ ملعون وأحاطته بهالة تراجيديا إغريقية ملهمة. كذلك جدي الذي وجد سلواه في الانضمام إلى فرقة صوفية واحترف نقر الطبل وصناعة المشموم بعد تحطّم العربة.
أدركت مؤخّراً أن ضربة جزاء بادجيو الضائعة حرّكتني عميقًا لكي أقلب المعادلة وألا أنحاز إلى سردية المتفوّق. تخليت عن البرازيل في وقتٍ متأخر. في المقابل، ازداد شغفي ببطولات المقهورين.
الذاكرة كرّيطة حجر يجرّها جدّ يحب النساء وكرة القدم وينقر الطبل في احتفالات فرقةٍ صوفية. استمريت في متابعة كرة القدم وشغف الأغاني والحفر في طيّات تاريخ القرية من أجل قلع الحجارة التي لم تطَلْها مطرقة جدي. كل ذلك من أجل البحث عن صوته. اختفى الحوش القديم وحوض الياسمين. أحاط سور كبير بالمقبرة واقتلعت أشجار السرو. تضاعف عدد المخابز في القرية وشيّد جامع جديد. لكنّ شيئًا لم يمنع الأطفال من لعب كرة القدم تحت السور، شيئاً لم يمنع الناس من نسيان ضربة جزاء بادجيو الضائعة، شيئاً لم يمنعني من تذكّر تفاصيل ليلة نهائي كأس العالم في كل مرة أشاهد فيها كرة قدم جميلة.
أحلم أحياناً بجدّي وهو يقف بمواجهة تافارال. يرتدي برنسه الثقيل ووراءه روجيه ميلا وياكيني وبادجيو بانتظار أن يسجّل. لا ينتهي الحلم أبدًا بتسديد جدّي ضربة الجزاء. أسأل نفسي في كلّ مرة يراودني فيها الحلم ذاته: هل كان جدّي سيخطئ المرمى مثل بادجيو؟
هيكل الحزقي
كاتب تونسي من قرية حزق. ناقد وباحث موسيقي، مهتم بالثقافة الشعبية والذاكرة الشفوية وتنظيم جلسات الخمر في قريته الأبدية. حاصل على منحة آفاق للكتابة الإبداعية والنقدية 2022 حول موضوع "ظاهرة الباندية في تونس من خلال أغاني السجون وقصص قاع المدينة". يفضّل الخمر على الحشيش، والبيرة على النبيذ. مناصر أبدي للدراجات الهوائية ومحترف نزالات شوارع إلى حدود سن السادسة.