زينة الحلبي | كلمة المحرّرة
يتهيّأ لك أنك تقضين وقتك لا تتحدّثين إلّا عن المال، أو على الأقلّ لم يحصل أن تحدّثت عن المال بقدر ما فعلت طوال السنتين الماضيتين. شاهدت سعر صرف الليرة يزداد عشرين ضعفاً مقابل الدولار، فتحوّل مالُك من كائن محسوس إلى آخر وهمي، يقال لك أنه لا يزال موجوداً في المصارف، من دون أن تتمكّني من لمسه. لن تلمسيه، ولكنك ستنفقينه وفق أسعار صرف تتبدّل مع ساعات النهار. مالك إمّا محتجز في المصارف، وإمّا سائل متحوّل أو متجمّد على شكل نقود معدنية صارت كنوزاً أثريّة تحيلك إلى حياة غابرة لا تحاكي انهيارك المعاصر. كلما انهارت الليرة أمامك، كلّما لجأت إلى مصطلحات جديدة يصعب عليك شرح معناها لمن لا يعرف سوى عملة واحدة، مستقرّة وأنيقة.
تقضين أيّامك تتحدّثين عن المال، ولكن كيف تكتبين عنه؟
في هذا العدد من فَمْ موادّ تتناول المال كما تنظّمه السلطة وكما تتفاعل معه الرغبة، مستكشفةً العوالم بينهما. تُظهر القصص القصيرة والمقالات والأبحاث والنصوص الفنّية كيف أنّ الكتابة عن المال هي ممارسة مستحيلة في الجري وراء ما هو سائل. ترينه ينساب دون قالب ثابت، يتفلّت بين يديك فيما تسعين للإمساك به. فالمال يجمع بين المعنى ونقيضه، هو الهدف الذي تسعين لأجله، أو مجرّد وسيلة لتحقيق أهداف أخرى. وقد يكون أحياناً الغاية والوسيلة معاً: تُدينين تراكمه لدى البعض فيما تُثمّنين سعي آخرين إليه. يعود المال ويتجمّد، فيذوب، يتدفّق، يفيض، ثم ينبض من جديد.
مهما حاولت، لن تصلي إلّا إلى خلاصات سائلة حول الذات التي تتطبّع على إيقاع المال وخسارته. تصوّر دانا الأسير فانتازيا العودة إلى زمن طفولي سابق للحداثة البيروتية وسيلةً للاحتماء من ضجيج الانهيار وألمه. بين الفانتازيا والمعدن، تتحدّث سلوى الأرياني عن العملة الوطنية بصفتها سيولة متحجّرة، فتقوم برحلة تقفّي أثر الصور التي تحملها القطع المعدنية والأوراق النقدية اليمنية، فتنظر إلى الدالّ السلطوي المنقوش على العملة بشكليه الأثري والهندسي، وقد فقد صلته بالواقع الذي يدلّ عليه. فالأمكنة، وإن ثُبّتت صورتها على العملة، فإنّ ما مِن أثر لها في الواقع، أو أنها اكتسبت معاني عادت وفقدتها.
ولكن كيف فقدتِ ما فقدته؟
لم تعد الإجابة غامضة. فهناك آلية سهّلت السلب المقنّع والممنهج الذي شهدتِ عليه في جمهورية ما بعد الحرب. فكما يتبخّر السائل من المستوعبات، يختفي المال الذي بدا لك صلباً ذات يوم. يقال لك إن صبرت قليلاً وحدّقت كثيراً، فلا بدّ أن تريه. يصوّر لطفي زايد في قصّته المصورة خفة النهب المعطوف على الخداع القائم على التزوير، سلسلة لا تلبث أن تتحوّل إلى دائرة مقفلة تعيد إنتاج النهب بالخفّة ذاتها. في مقالة مروة أرسانيوس مقاربة عابرة للحدود اللغوية والقومية حول إرث النساء كسائل متبخّر: كيف يتعرّض جنى عمر العاملات للإخفاء، كيف تُنهب بذور وأراضٍ من يد مزارعات كولومبيات، من جملة ممارسات أخرى لنهب ثروات النساء التي تشكّل ذاكرة عابرة للأجيال انسلّت إلى لاوعي الكاتبة لحظة الانهيار اللبناني.
تحيلك هذه الخسارات إلى السؤال الأكثر سيولة: هكذا تفقدين المال، ولكن كيف ترغبين فيه؟
يدلّ المال على مكمن رغبتك، رغبة تسعين إلى تحقيقها فيما تتفلّت منك وتتفلّتين منها. تخشين الاعتراف برغبتك بما هو مادّي، فتنكرينه وتعقلنينه وتضبطينه ليعود ويتجلّى انفعالات: تخافين من فقدانه، قد تقرفين من رؤيته يُستعرض أمامك، أو تخجلين من الرغبة به، وتحزنين من الانكسار أمامه أحياناً. هكذا يتحدّث راوي مو مصراتى عن علاقته السائلة بالمال، هو المدمن السابق الذي يقفز بين الجوع والإفلاس والتهرّب من الدائنين فيما ينفق مالاً لا يملكه بعد، كي يراكم مالاً يعرف إنه لن يجنيه، فيما ينكشف أمامه زيف الكتابة التي تعد برغد الحياة واتّساعها. ولكن حتى عندما تتحقّق رغبة الراوي بالمال، فإنه يعود ليواجه هشاشته. يتناول محمد ربيع هشاشة رأس المال وهشاشة من يمتلكه من خلال النظر إلى التماسك الظاهري لرأس المال الذي يحرس الانقسام الأفقي بين الطبقات الاجتماعية، والذي يخبّئ داخله هشاشة ذكورة فائضة وعاجزة معاً.
إن كان المال يتماسك على هيئة طبقات، فكيف تتماسكين أنت أمامه؟
تتساءل رشا عباس حول عجز الكتابة تجاه الفظائع، عن الأشكال العديدة التي يأخذها هذا العجز، من تشكيك بجدوى الكتابة إلى قدرات الكاتبة وموقعها في الحقل الثقافي، حيّز تجول فيه شخصيات تبحث عن التوازن بين الكلمة والمعنى والبدل المادي في عالم المهن الجديدة القائمة على الاستهلاك وجني الأرباح ممّا هو غير مرئي أو غير منتج. تتناول حنان طوقان تلك الأسئلة من منظور الاقتصاد السياسي، فتقتفي أثر ما يعرف بـ”التمويل الأجنبي” على سياسات الفن المعاصر المشرقي وجمالياته. تشير طوقان إلى تدفّق المال من مؤسسات تمويلية عابرة للحدود القومية ومشاريعها، ليدلّ على مكامن السلطة وقدرتها على إعادة إنتاج شروط هيمنتها. حين تنظّر طوقان إلى التفاعل بين السيولة الخارجية والفن المحلي، فإنها تشير إلى قدرة التمويل بهويته الأجنبية على تطويع الفن وتسليعه وميل الفنان نحو التأقلم مع متطلبات التمويل من جهة، ومقاومة سطوته من جهة أخرى.
هذا العدد من مجلة فَمْ هو عن المال، ولكنّه أيضاً عن اللعب معه والتلاعب فيه. شخصيات مو مصراتي ومحمد ربيع ورشا عباس تتأرجح بين العوز والبحبوحة، ولكنّها تبقى متيقّظة تجاه تجليات السلطة، ولاذعةً في نقدها لها. المال في نصوص طوقان وأرسانيوس والأرياني سلطة سافرة، ولكنها ما زالت قادرة على خداعك، مثل الساحر الذي يختطف نقوداً من يدك ليخرجها من قبعته. ترينه يستولي على مالك فيما تقفين أنت مشدوهة بين إنكار خسارتك والاعتراف باللعب الجميل.