- "نعم، إنهم يتامى وهاربون من كل الأرجاء وعبيد وعجزة طاعنون في السن طردهم أسيادهم. وبعد ذلك جاءت نساء ممن اقترفن الخيانة الزوجية والتحقن بهم من شدة الخوف، وجاءت فتيات أحببن أشخاصاً ماتوا فجأة ولم يرغبن في غيرهم، فبقين هناك إلى الأبد. وثمة أشخاص لا يعرفون الله وآخرون يستخفون بهذا العالم ومجرمون... لكنني لا أتذكر الجميع. كنت صغيراً
- اذهب إلى هناك وابحث عن هذا الشعب الضائع. وادي القصب خالٍ الآن
- سأذهب – وافق شاجاتايف – وماذا عليّ أن أفعل هناك؟ أبني الاشتراكية؟
- وماذا غيرها؟ قال السكرتير. – شعبك كان في جهنم، فليعش الآن في الجنة، وسوف نساعده بكل ما نستطيع..."
رواية الأشباح – أندريه بلاتونوف. ت. خيري الضامن
“I don’t know. Our words saved nobody”
جوابٌ غير بارع لسؤال تكرّر كثيراً قبل ذلك عن جدوى الكتابة، ولكنني لا أمتلك جواباً آخر سوى قول هذا وفرد أصابع يدي اليمنى على مداها والبحلقة فيها في كل مرة تدور في رأسي أفكار داعية للتوتر من أسئلة ومشاكل أعجز عن إيجاد حلول لها، مثل الموقف الذي طُرِح فيه عليّ هذا السؤال أمام حوالي ٣٠ شخصاً مجتمعين في قاعة حارّة. "كلماتنا لم تنقذ أحداً" قلتُ وأنا مدركة للأثر العاطفي الذي تخلّفه هذه الجملة وصداها يتردّد بين الأعمدة الرخامية المبنية على طراز حقبة فرسان الهيكل، خارقاً الأزيز الخفيف لشفرات المراوح التي تحاول طرد قيظ صيف مالطا الحارّ. أثرٌ عاطفي يغلّف أو يحاول أن يغلّف لا جدوى أقوالٍ كهذه.
عشر سنواتٍ من الفظائع المكثفة ليست وحدها ما ينخرُ في روح البني آدم محفزةً مشاعر قلّة الحيلة والذنب وسيل الأفكار حول عجز الكتابة وغيرها من الأعمال التي لا يظهر أثرها المادي مباشرة. الصراع مع سؤال الجدوى يعود مع الاصطدام بكلّ ملمحٍ من ملامح البؤس المتفجّرة في كل مكان، المرسومة على وجوهٍ بعيونٍ شاخصة من خلف ساتر زجاجي يفصلها عمّا يدور في العالم من أمامها، عن الفرص الضائعة وعن الآفاق المحتملة. صقيعٌ يبدّده الاستنجاد بأخيلة بطولية تمثّل التجليات شديدة المباشرة للجدوى، مشاهد نضال خريج مدرسة الاقتصاد الموسكوفية المتحمس نَزار شاجاتايف في رواية "الأشباح" قاطعاً آلاف الكيلومترات في قطار عبر قيظ صحارى آسيا الوسطى، حيث تعيش أمّة الجان التائهة في هامش العالم، والتي انطلق إليها شاجاتايف مؤمناً بدوره في قيادتها، عبر الطريق المعبّد بالطبع بقيم الاشتراكية، إلى حياة أفضل.
عندما سارت أمّة الجان منذ مائة عام خلف الخبير الاقتصادي إلى أفق حياة أكثر عدالة، عبرت حدوداً واضحة في هذا المسعى من الجفاف والصحاري إلى الحياة المدنية المعمَّدة بالإسفلت والمعدن، النقلة التي تمثّلها مشاهد تلقّف كسينيا ابنة المدينة الكبرى موسكو في نهاية الرواية للشابة إيديم من الأمّة التائهة، بجسدها الضامر كجسد صبي مراهق بسبب سوء التغذية، مُعرِّفةً إياها على الحمّام العمومي والموضة السائدة وحياة المدينة. لا يشبه خط المسير الأفقي بين العوالم متمايزة المعالم هذا شكل بؤس الهوامش اليوم.
تبدو حدود الارتطام بالبؤس الآن شديدة القرب وشديدة الضبابية في الوقت نفسه، مظللةً بأوضح تمثّلات المدينة؛ أجساد مرمية على الأرض ومثخنة بجراح الإبر في أرجاء أكثر أحياء برلين جنترةً، تعبرها باستعجال في ساعات الصباح الأولى أحذية موظفي السوبرماركات الضجرين وعمال البناء، وأحذية ملونة من الجلد الصناعي لأولاد المصالح الجديدة ممن يؤمنون بالإنفاق الأخلاقي لصالح البيئة والكوكب. أولاد المصالح الجديدة يحتاج كل منهم إلى عدة دقائق للشرح عمّا يفعل حقاً لكسب معيشته، تلاشت مهن الكلمة الواحدة: طبيب، مهندس، ممثل. أولاد المصالح الجديدة يسخرون من فكرة العمل وراء مكتب وبيدهم كلمة سرّ الكاش لتجاوز مراحل اللعبة بشكل أسرع؛ فكوا شيفرة الكريبتو، وبيدهم نصائح تفيدك حول أفضل مستشار ضريبي في حي برينزلاوربيرغ تستطيع التواصل معه بالإنجليزية، وكذلك حول أفضل سوشي نباتي في المدينة. يتحدّث كل منهم عن بزنس بسبع أرقام وعن بودكاست لأحد الأصدقاء حول الاستثمار في سوق الأسهم. بيدهم حبوب وردية اللون. هل أنتِ بخير يا صديقتي؟ تبدين منهكة. الحبوب التي يتبادلها أولاد المصالح الجديدة نظيفة، لا تخرّش صفاء بشرة وجوههم التي تمشي بها خلاصة الكلوروفيل.
حياة اليوم تحتاج إلى الصحو. سبق وأن أغمض شبان وشابات قبلنا أعينهم على خدرٍ يعِد بحياة أفضل في السبعينات، أداروا وجوههم للبؤس وكانت أقسى لطمة تعرّض لها أي جيل يعيش بيننا اليوم. يمشون مشية العار ويشير الكل إليهم؛ اسمهم بات نكتة: جيل الطفرة. تعلَّم أولاد المصالح الجديدة هذا الدرس. التفتوا إلى العالم وجهاً لوجه، فصار الصحو شعارهم لترويض سعاره. حبوب تبقيهم يقظين متحفزين. عيونهم مدربة على قراءة تقلبات الأسهم، منشغلة بقراءة مقالات إمكانيات الاستثمار والإمساك بوحوشٍ من وزن أمازون من قرونها بواسطة التربّح من بيع بضائع عبر الموقع.
"الـCEO، رائد الأعمال، مواليد الـ64، جيفري، جيفري بيزوس، يالله جيفري، إنّك قادر! مهّد الطريق، استثمر كل جهودك. قل لنا لماذا؟ قل لنا كيف؟ انظر من أين أتيت وانظر إليك الآن! زوكربيرغ وغيتس وبافيت، أما الهواة فسحقاً لهم، ضاجع زوجاتهم، اشرب دماءهم يالله يا جيفري عليك بهم!" – أغنية جيف بيزوس/ بو برنهام
العمل في المجال الأكثر رهافة من الأعمال اليدوية، الكتابة والتحرير، قد لا يعطي المرء كلمة سر الكاش كما هي الحال مع أبناء الحياة الجدد، ولكنّه مع ذلك يبدو سهلاً أكثر مما يجب. "هل تظنيّن أنك تعانين من متلازمة الاحتيال (imposter syndrome)؟ كيف يمكن حقاً أن يدفع المرء عن نفسه الإحساس بأنه قد تَمكّن من النصب على محيطه؟ كيف تمكّنتُ من التوصل إلى هنا، أن أخوض أحاديث متكلفة ومسلية مع أولئك الناس بصحبة كؤوس الواين العملاقة. قلتُ في لحظة صدق مع نفسي والآخرين: "نعم أظن أنني ظاهرة مزيفة"، ثم استحيت من كوني قد أبدو متصيدةً للمجاملات التي تحفل بها أمسيات كهذه.
تولد قصص الأبطال الخارقين من قلب المآسي، الإحباط الكبير وصعود التيارات القومية في الثلاثينات، ظرف يخلق الحاجة إلى قوة ضاربة مطلقة. ولكن لحظة الأمريكان الثلاثينية السوبرمانية لا تشبه لحظة السوفييت الثلاثينية الأقرب إلينا والتي تخلق ظواهر مثل نزار شاجاتايف، الذي تتبّعتُ رحلته بلهفة وخوف، معجبة في البداية بتشابه اسمه مع اسم أبي خرّيج موسكو أيضاً ، إلى أن ارتبكتُ أمام مقاطع مشاهده الجنسية مع مراهِقة من الشعب الضائع. الهرب نحو أحلام العمل الجاد، الشاق، في مزرعة أو في مستودع. أحلام العمل اليدوي "الشريف" مستمرة، واعدة بفرصة أخيرة لإحلال السلام مع كل ما يحدث. فرصة التواجد في مكان جديد دون عبء التفاعل مع الدوائر الاجتماعية التقليدية تغري بالانطلاق أبعد نحو انكفاء أمثل في أشغال خفية. أبحث في استمارات دورات تأهيلية في مجال تدريب الكلاب. تتشابك الأسطر المكتوبة بالألمانية، التي أفهمها بصعوبة، أمام عينيّ. يحمل هذا العمل إلى جانب ميزة صحبة الكلاب والقيمة الملموسة جانباً من الانضباط والقسوة. نحن أبناء القسوة فحسب، نشأنا على أن معيار قياس كل شيء حسن هو الصرامة والانضباط.
عادت أفكار العمل "الحقيقي" تلحّ عليّ في زيارة لبراغ، بعد عبور جسر تشارلز العاشر والتجول في متحف كافكا، وهذا غير مفاجئ. لم يكن المتحف نفسه مبهراً للغاية، وهذا غير مفاجئ أيضاً. مع تتبّع الخطوط البسيطة للرسومات وموسيقى مقطوعة ملداو لسميتانا التي تتبّعَتْ مصبّ النهر الذي يشق المدينة من منابعه، كنت أشعر بثقلٍ فظيع في صدري، بثقل الحياة المادية كأنها ذلك الكائن الذي لا تُحتَمل خفته. مفاهيم الأمان والرخاء تبدّلت بشكل حاد دون شكّ منذ أن وجدت نفسي في حياة جديدة. لم يكن الرعب من احتمالات الفاقة أو التشرد موجوداً فيما مضى من حياتي. مشيت في المتحف وأنا أشعر بالانزعاج لأنّ أفكاراً كهذه تحرّكني، تجعلني أقل شجاعة وحرية، مُجبَرةً على التأقلم مع خيارات غير مناسبة والتعامل مع أشخاص لا يُطاقون. استمرّت المقطوعة مارّةً من المنابع الجبلية إلى مسار النهر الأكثر ارتياحاً وانسياباً، وكانت الرسومات الطفولية أمام عيني مثبتة الآن على شاشات عملاقة مع أفكار حياة أكثر نبلاً تلحّ باستمرار.
سبق وأن عرّفتني صديقة لي على فكرة الـwoofing ، أي الإقامة في مزارع منتشرة في أرجاء العالم مقابل العمل فيها. أذكر حتى كيس طحين فارغ جلبته لي من إحدى هذه المغامرات في أميركا كهديةٍ من عاملة في الحقل. تقول العبارة المكتوبة على الكيس: فخر نافاهو (من قبائل السكان الأصليين في القارة) – Navajo Pride.. هناك رسالة حملتُها مع الكيس: كان طلب تأشيرة دخولي إلى الولايات المتحدة لألتحق بصديقتي قد رُفِض. طلبت المرأة من صديقتي أن تخبرني أنها ترحب بي على أرضها. تفاصيل رفض التأشيرة كانت في صلب هذا الصراع حول جدوى الكتابة ومعنى ما نفعله، على نحو حرفيّ لا رمزي. لم أجد ما أقوله لموظف السفارة الأمريكية الذي سألني عن مهنتي – كاتبة. قلتُ بخجل. – "نعم ولكن ما هو عملك الحقيقي؟"
جلستُ في الصالة التي تعرض صوراً فوتوغرافية قديمة لبراغ على شاشةٍ ضوئية. بإمكاني إنهاء هذه الدوامة على الفور، الاستقالة من العمل وترك المنزل الذي أستأجره. الكرامة أقرب بخطوة واحدة. خطوات التقشف والزهد تحتاج إلى أن تنطلق من مكان أكثر استقراراً في الواقع، وخياراتي محدودة بوثيقة سفر ووضع قانوني هش. كذلك، في لحظات كهذه، تختلط مفاهيم ما هو صحيح وصائب وما هو ذريعة جديدة للهرب.
الكتابة كما أفكر بها هي أن ينصت المرء إلى نفسه ويردّد صداها بصفاء، أن يتحدث عن خراب العالم وعن التوق للانعتاق وغيرها مما يشغل نفسه، ولكن إلى أي حد يجب أن يتطابق هذا الصدق مع ما يحياه المرء؟
أقلّب في جريدة فنون الطبقة العاملة التي تُطبع بعدة لغات بين صفحات كل عدد، يوزّعها رجال بقمصان نظيفة، نساء بتاتوهات نارية، شبان غاضبون، شبان لطفاء. الصفحات العربية مطبوعة بالمقلوب أو بأحرف منفصلة. كتابات دافئة وأخرى محشوة بالشعارات. في فترات استراحة من أعمال البناء و"الفعالة" الخيالية جالبة الاطمئنان، أسمح لأفكاري بالتسلّل على نحو مذنّب إلى عوالم الفنانين الداندي. أتفحّص ببعض الحسد زملاء لي من الكتّاب ممن ينفقون بسخاء على مظهرهم وأسلوب حياتهم، يغامرون بالخلط بين ستايلات مختلفة وأنواع متضاربة من الأقمشة في ألبستهم وينجحون في ذلك. يمشون كعرض فني متنقل.
ولكن حياة الداندي مهربٌ من مقلب آخر. كان صديق سابق وهو شاعر من غواتيمالا قد اعتاد أن يردّد بعجرفة تُخفي إنهاكاً قديماً: "أنا لست ضحية، أنا داندي"، كان يتبرّم ممن يتعامل معه بخفة أو يطالبه بالشعور بالامتنان أمام أتفه عرض لنشر كتاباته، ومن يتوقّع منه أن يواظب على تقديم تمثيلٍ حي لسيرة العنف والفقر. كانت هذه العجرفة الواهية لصورة الفنان ذي أسلوب الحياة الباذخ تتلاشى مع غياب محفزاتٍ لحالة دفاعية. كان يصبح أكثر رقة، يقرأ مقاطع شعرية منتقاة بشكل عشوائي، يتحدّث بحماسٍ عن الشامانات وذئاب القيوط، والانفعال يهزّ ملامحه الخشنة. أرغب في أن أمسك رأسه الكبير بين يديّ ولكن ليس هذا نوع الرقة الذي يريده، بل يتوق إلى رقة صورة الفنان، هي ستنجيه، ستخلّصه من وصم الضحية القادم من بلاد الحر والعنف. لا ينفع أن تجلس مائة مرة وراء طاولة في ندوة حوارية لتوضح بهدوء وتعقّل تارةً، وبالنكتة تارة أخرى، أنّ ما تقدمه ليس مقطوعةً متواصلة من صراخ الضحايا. أقسم القيوط أنه كان مرةً شديد السكر في حانة وتمكن يومها من الحديث لليلة كاملة مع شاب عربي، لم يكن هناك داع للغة منطوقة مشتركة إذ "كانت الحرارة تتوق إلى الحرارة" كما قال، وهو يسرد القصة في بيتٍ استأجره في أحد أغلى أحياء برلين. في البيت ركنٌ لأعمال السحر التي لا يخجل بالتصريح بها وبأثرها في أعماله. يصبّ الكحول لضيوفه بلطف ويقرأ لكل منا برجه وفقاً لتقويم المايا. كان من نصيبي الطائر الطنان، وحصل صديقٌ آخر لنا على سمكة القرش. قال له: "القرش يؤمن بالعقاب، لا بالانتقام". تحدّث لنا عن مولوده المنتظر، حاول أن يتهرّب من العواطف والمباركات خلف ستار من السخرية مهدداً إيانا بالانسحاب من الحياة والاختفاء قريباً بعد قدوم المولود. كلّ من حولي يبدو مرتبكاً للغاية حيال موضوع الإنجاب هذا. الأغلبية الساحقة منّا تكرر مقولات اللا إنجابية مثل جمل: "موارد الكوكب المحدودة" لإخفاء ذعر لحظة نبقى فيها وحيدين نحمل هذه الكائنات الصغيرة عديمة الحيلة في مواجهة كل ما يحدث. من ينجبون يبدون وكأنهم قد ارتكبوا ذنباً أو خذلوا أحداً ما، يحاولون تقديم الأعذار أو الإيحاء بأنهم على قدر هذه المسؤولية. صديقي يعاود الشرب ويمسح جبينه المتعرّق بمنديلٍ مطرز بألوان زاهية. صديقي الذي يكاد كل جهد يبذله في حياته يتمحور حول لحظة طراوة تتلاشى فيها الخشونة من يده التي لطالما عاركت العالم، بين الأنسجة الناعمة لمنديله الفاخر أو بين أصابع مولود جديد. انظر إليَّ. تبدو منهكاً أيضاً يا صديقي.
رشا عباس
قاصّة سورية مقيمة في برلين صدر لها ثلاث مجموعات قصص قصيرة: آدم يكره (2008)، كيف تم اختراع اللغة الألمانية (2017 دار 10/11 للنشر)، ملخص ما جرى (دار المتوسط 2018). محررة القسم الثقافي ومنسقة ملحق هامش الثقافي في موقع الجمهورية. من مواليد 1984 نشأت في دمشق متلقيةً تربية فاضلة أدت إلى هذه النتيجة، ومن ثم تتلمذت على يد خيرةٍ من الخبراء في الصحافة الستالينية في قسم الإعلام في جامعة دمشق قبل أن يتم فصلها من الجامعة عام 2007، استهلت مسيرتها الصحفية والخيالية معاً بتأليف الجرائم وسلاسل قصص الجواسيس في جريدة حوادث محلية في دمشق، لها مساهمات صحفية وأدبية في مواقع ومطبوعات عربية وغيرها منذ عام 2005 وحتى تاريخه.