-1-
كنتما على حافة ما، قرب نهاية.
تدخّنان سيجارة واحدة. هي في حضنك تسند رأسها إلى كتفك، وأنت تحدّق في القمر حتى لا تنظر إلى وجهها. كان القمر مكتملاً، أعورَ يراقبك بعين بيضاء لا يغمض لها جفن. من الصالة يأتي صوت الموسيقى ورقص الأصدقاء، كصدى صوتٍ مكتوم، كأنّ عنف الموسيقى يتردّد داخل رأسيْكما فقط. لا وجود له في الخارج.
عندما دخلتما من البلكونة، تظاهرتْ أنها لا تعرفكَ جيداً، كما اعتادت أن تفعل كلّ مرة.
يومها، نظرتْ إليكَ بعينين باردتين، لن تنساهما. قضيتَ، في ما بعد، وقتاً طويلاً لا تتذكّرُ إلا برودة عينيها، رغم أنك كنت قد رأيتهما مراراً تسكبان حمماً مشتعلة في حلقك.
غرباء، قضيتما بقية اليوم على إيقاع موسيقى عنيفة تفرغكما من أرواحكما، وتترككما آلاتٍ يُسكب فيها الكحول، فتعمل بلا توقف.
-2-
ذهبتُ إلى الطبيب النفسي، وجلستُ على الكرسي المريح، ودفعت الـ 600 جنيه ثمن الجلسة. قدّمتُ واجبَ الاعتراف الحديث: تحدّثتُ عن نفسي، عن الوحوش في عقلي والنار في حلقي، عن برودة عينيها، وعينيّ اللتيْن ما عادتا تعرفان كيف تتلمّسان طريقهما إلى النوم ليلاً. حصلتُ على الأدوية وتشخيص عام للمرض يحتاج إلى التدقيق في ما بعد، لمزيد من الاعتراف وتقديم الذات على طاولة التشريح. لا يريد مني الطبيب إلا الحقيقة، كأنني خارج عيادته كنت أعيش الزيف كلّه. أتكلّم بلسان مقطوع وأتواصل مع الآخرين من خلف زجاج وسخ.
كنت أفضّل التعايش مع اضطرابات القلق على أن أُجبَر على الكلام أسبوعياً. ينبض قلبي نبضاتٍ عالية بلا داع، أسمعها أحياناً في أثناء نومي. يجتاحني إعصار الخوف والرعب بلا سبب، أقول الحقيقة بلسان الكذب، تتدفّق المشاعر داخل صدري مثل حمم بركانية، أتحرّك داخل دائرة منقبضة ومحدودة من مشاعر متطرفة لا تهدأ ولا أعرف كيف أتحكّم بها.
ذهبتُ إلى الطبيب بعد سنوات أربع من الخطط المؤجلة وتفاقم اضطرابات قلقي التي تقبّلتها في كل مراحلها، على أمل ألّا تزداد سوءاً. حضرت جلسة هنا وجلستين هناك. حكيت عن علاقات تترك أسئلة معلقة في الذهن مثل خشبة دقيقة تحت الجلد، وأخرى مدمرة اكتشفت في ما بعد أنها الوحيدة التي تحرّك مشاعري بصدق. عند الحدود القصوى، عندما تصبح كل المسارات مغلقة، يصير الوقوع في الحب ممكناً. حكيت عن ماما مثل أيّ ابن طبقة وسطى في منتصف عشرينيّاته يعتقد غافلًا أن حلّ مشكلاته يبدأ عند العائلة ويرجو حالماً أن تنتهي عندها. تجاهلتُ النصائح بمواصلة العلاج والانتظام في تناول الدواء. ثم كان ينتهي الأمر كلّ مرة بالانقطاع عن زيارة الطبيب لفترة طويلة، والتشكيك في جدوى الكلام من الأساس، والدخول في هدنة مع القلق قبل الدخول في مرحلة جديدة من التعب أكثر سوءاً، والتفكير مجدداً في خطة لبداية العلاج.
جلستُ أمام الطبيب هذه المرة بنبضات قلب عالية تذكّرني بضرورة الاستمرار في الكلام والتغاضي عن الشعور القذر الذي يتولّد داخلي عند زيارة طبيب نفسي. أحسست بغرابة أن أتكشّف أمام غريب لا ينكشف بدوره أمامي، ولا يربط بيني وبينه غير ثمن الخدمة التي سأدفعها عند إتمام الجلسة. بدأتُ الكلام من الحاضر إلى الماضي. حكيتُ عن لعبة الاختفاء والظهور، البُعد والقرب، عن استمتاعي منذ البداية بحدود ترسمها بجسدها أمام الناس وتلغيها في الغرف المغلقة، عن تركي لها المساحة كاملة لتتحكّم في مفاصل الأمور حتى النهاية. وخلال تدفّق تيار الكلام، تذكّرتُ حين احتضنتني مرّةً ومسكت قضيبي وسط الأصدقاء في ليلة رأس السنة، عندما أغلقنا النور لنعد 1…2…3…، وقبل انتصاف الليل، انتصب قضيبي ملتصقاً بفخذي ومتمدداً في زاوية داخل الجينز. في الظلام، تداخلت الحدود واندمجت المسارات، وقبل إضاءة النور كانت قد اتّخذت مسافة كافية مني لتضعني في موقعي المعتاد مجدداً مع بداية السنة، كصديق قديم. نظرتُ إلى الطبيب يومها وأخبرته: «أحلى شعور حسيته السنة دي». عادة أفضل التحرك في فضاء من المبالغات اللفظية، لم يكن قد مرّ من السنة غير شهرين فقط، لكن أثر ليلة رأس السنة ظل طاغياً على نفسي. كانت لحظة تحقّق فانتازيا لطالما راودتني.
-3-
تكرّر هذا المشهد مراتٍ سابقاً. لكنْ، هذه المرةَ تحديداً، عرفتَ أنها النهاية.
تحتاج النهايات إلى تحريرها من مكامنها وغرفها السرية المغلقة، أن تنطقها وتسميها باسمها، «النهاية»، حتى تتحدّث معك وتنظر إليك فتتمثل واقعاً حياً يتدفّق من حولك ويخترقك. لم تكن النهاية بالفعل، لكن بمجرد أن الفكرة انبثقت من خيالك، احتلّت مكانها في الواقع وشكّلت مسار العلاقة على هواها، فدفعت بها إلى نهايتها، عند الحافة… قذفت بها إلى موت أكيد.
كنتما تقفان في البلكونة، عند حدود الشقة. في المرات السابقة، كنتما في الحمام، وأحيانا في غرفتكَ، على الأرض، ومرات تتسلّقان الجدران بظهركما. غيرَ أنّ كل تلك الأماكن كانت تفتح مسارات متوترة لاستمرار العلاقة.
كنتما تقتربان من الحافة، دون أن تقفا عندها، وتحدّقان أسفلكما أو فوقكما أو أمامكما أو في دواخلكما، مثلما فعلتما يومها.
هي تَعرف جيداً كيف تنسى، كيف تَنظرُ إليك دون أن تراك. تَسير معك في الطريق دون أن ترافقك، تتحدّث معك بكلمات تخرج من منطقة عمياء في قلبها. تخلو من شعور يمكنك فهمه، تتفوّه بكلمات لا تترك فيك إلا ألماً في فم المعدة وحيرة سترافقك في سريرك وحدك وأنت تعتصر نفسك فتفرز المني والدموع على ذكراها. مع الوقت، تأكّدت أن قلبها ليس إلا مساحة من العماء، ومشاعرها تتحسّس طريقها نحوك، فلا تصل إليك، تضلّ طريقها عن عمد في منتصف المسافة.
أحببتَ سيطرتها على مجرى العلاقة حتى أدركتَ مع الوقت أنك تماهيتَ تماماً مع دوركَ، ونسيتَ طرائق المراوغة الحلوة والإفلات بخفة والانسحاب المؤقت عند الضرورة.
واستمرّت هي في الحفاظ على موقعها، إذ ببساطة لم يكنْ بينكما كلام متماسك بوعود. تتفاهمان بجسديكما ولا تشكّل لكما الجمل المنطوقة أهمية تُذكر. كانت لعبة سرية وجميلة وقاسية. كان ما يحدث سطحياً وعلى إيقاع اللحظة والمزاج العام لليوم أو السهرة. لكنك أردتَ تحويل اللعب إلى جدّ فجأة، فحولته إلى دراما طويلة ومملة، ظهرت انعكاساتها في مواقف عشوائية تركت في نفسكَ حزناً وغضباً بلا سبب. حافظتما على سرية العلاقة وأنتما تعرفان أنه لا يوجد ما تخافانه أصلًا. لكنْ هكذا تحدث الأمور أحياناً، يجد الأشخاص أنفسهم متواطئين مع أشكال علاقات يحكمها قانون باطني خاص، وعندما يقف أحد الأطراف في اتجاه معاكس لسريان مجرى العلاقة ليسائل منطقها، ينقلب كل شيء.
كانت تستند إلى كتفكَ اليمنى وتغمض عينيها. تحركّك بصمت واستهتار ومرح، ترسل الإشارات والغَمَزات، تقترب منك وتهمس في أذنك وتلحسها.
-4-
يومها، عندما دخلت البلكونة، كانت تقف بجانبها ويظهر نصف وجهها الأيمن، الذي كشف لوهلة عن حيرة وقلق. استدرتَ مِن حولها وحركت يدك بخفة على خصرها، فكشف لك نصف وجهها الآخر شبقاً وهيجاناً.
فكّرتَ أن تحكي لها مكالمتك الهاتفية مع أمك صباحاً، وصوت الضحكات الذي لم يغادر أذنك على مدار اليوم إلا منذ ساعة، بعد كأسَيْ ويسكي مع الثلج. لكنك فكرت أيضاً أنها لن تمنحك إلا أذناً واحدة مشتتة تحاول جمع أطراف الحكاية بصعوبة، وأخرى مشغولة مع الموسيقى لتحافظ على ارتباطها بالصالة، كي لا تدع مأساويتك تفسد عليها الحفل القصير.
تذكّرتما يومها مشاهد من ماضٍ قريب. كنتما سكرانين لدرجة تمنعكما من التعمق في ذاكرتكما المشتركة. طفتْ ذكريات هشة على السطح معظمها هزلي وتافه، مشاهد قصيرة مقتطعة من سياقات أوسع لا تستطيعان تذكرها، لكنها كافية لإغراقكما في نوبات ضحك يهتزّ لها جسداكما في مبالغات غير مقصودة.
بدا لكما وأنتما تتذكّران المشاهد أنكما نسيتما الكلام، وظهرت شاشة عرض كبيرة في السماء، تمزج خيالاتكما وذكرياتكما معاً. لا تتذكّر أنكما حكيتما المشاهد فعلا بلغة منطوقة، كانت الذكريات تُعرض على الشاشة وأنتما تتفاعلان معها تلقائياً في عرض مفتوح لكما وحدكما.
-5-
يومها، اتصلت بماما صباحاً وأخبرتني أنها ستذهب بعد قليل إلى دكتور المخ والأعصاب مع أختي في عيادة المستشفى. أصررْتُ عليها أن تخبره أنها مؤخراً أصبحت تنسى أكثر من المعتاد، وتحكي القصص مرة تلو الأخرى بالقدر ذاته من الشغف والحماس والغضب والحزن، وتستدعي مشاعرها بالقوة ذاتها، ببراءة مَن يُخرج الكلام من حلقه لأول مرة، وبثقة من لم يلوّث حكايته بكلام منطوق. قالت لي: «طبعا يا حبيبي، مش حانسى أبداً، أنا جهزت كلام كتير حقوله. طمني عليك انت». مرة أخرى تزيح نفسها إلى خلفية المشهد، وتقف خلف ستارة تخفي تعبها حتى لا ينتبه إليه أحد. كانت تتحدّث عن التعب والألم بشكل عام بطريقة تسمح لها بدمجه مع صيرورة تعب أكبر، تعب الحياة والوجود، حتى لا ينتبه إليها الأبناء القلقون فيصطحبوها إلى الأطباء ومعامل التحاليل ومراكز الأشعة.
كَشفنا مرضها وسَلّطنا عليه الأطباء النهمين للحقيقة بمختلف تخصصاتهم، فرأتْ ماما ذهابها اليوم إلى دكتور الأعصاب غلطة، ستحرص على عدم تكرارها مدّةً. أدركت أنها خسرت هذه الجولة، وفي المرات القادمة ستزيد من تعقيد مناوراتها، وتكثّف سردية التعب الأكبر على حساب ذاتها وحقيقة مرضها.
عندما عادت اتصلت بي وسألتها إنْ كانت قد أخبرت الطبيب عن النسيان. قالت لي «تصدّق؟ نسيت»، ثم انفجرت بالضحك بلا توقف. أغلقت المكالمة بسرعة بعدما تظاهرتُ بالضحك بصوت عالٍ، وعندما جلست وحيداً في الصالة بكيت كمن يعتصر خرقة وسخة.
-6-
عندما خرجتَ من الحمام مترنحاً وراقصاً على صدى الموسيقى، وجدتها في الطرقة المضيئة على نور الحمام الذي نسيته، تقف بالقرب من زاوية الحائط وتفرغ معدتها على الأرض، تستند إلى الحائط بيدها اليمنى وباليسرى، وتمسك بطنها وتعتصره. كان الحائط يشعر بالغثيان، والزاوية تحافظ على ثباتها وتماسكها، تلتزم بدورها كأحد أركان الشقة، وتكابد الخليط الكريه من السوائل وبقايا الطعام حتى النهاية. حينها اقتربتَ منها ببطء، طبطبتَ على كتفها، وأثاركَ خيط لعاب دقيق تدلى من شفتيها. أحضرتَ مناديل ورقية ومسحتَ فمها وقبّلتَ جبينها، سحبتها من يدها بخفة ودخلتما الصالة الراقصة من جديد. تخطيتما الأجساد المتشنجة على إيقاعات موسيقية تدفع الساهرين جميعاً نحو هاوية خارج ذواتهم، ليسقطوا عميقاً ويرتطموا بالسطح. برفق وهدوء لا يناسب عنف الأجواء، وصلتما إلى البلكونة. فتحتَ الشيش وأغلقته خلفكَ. وقفتما جنباً إلى جنب، استندت هي إلى السور الحديدي الصدئ تستنشق نفساً عميقاً، تستعيد به قدراً من الحيوية لاستكمال السهرة. وبين كل نفس وآخر، تطلق ضحكة متوترة. اقتربت من السور أكثر حتى التصقت به، خفضت رأسها وارتجّ جسدها بخفة، فانبثقت من فمها دفقتان عنيفتان متتاليتان من السوائل، لتزيّن مدخل العمارة.
-7-
مؤخراً، بتُّ أتجنّب قدر الإمكان الشوارع العمومية، وأسلك طرقاً داخلية ومتفرعة، تستغرق وقتاً أطول لكنّها تمنحني طمأنينة أشعر معها أن الشوارع تتقبّل وجودي وتمشيتي القصيرة على إسفلتها القذر.
أصبحت الشوارع العمومية حلقات سباق واسعة للسيارات بعد تطوير مصر الجديدة، من دون إشارات مرور كافية لضبط الحركة. وإذا وُجدَتْ، فهي أشبه بإشارات لتنظيم سباق كبير بين الآلات والإنسان، حيث يجب العبور جرياً للوصول إلى بر الأمان قبل أن تفتح الإشارة سريعاً وتنطلق سيارات السباق وأنا ما زلت في منتصف المسافة. وكلما سمعت أن أحدهم صدمته سيارة في أثناء عبوره تلك الشوارع، شعرت أنه يفوقني كرامةً، هو ببساطة أثبت وجوده للجميع. لم يضبط نغمته على إيقاع السباق، إنما حاول ترويض الطريق لصالحه، وعندما رفض الخضوع له، تمدد في الشارع كجثة ثقيلة وسط بركة دماء داكنة، تفضح بؤس واقعه.
حتى لا أتأخر عن موعدنا واختصاراً للوقت ممزوجاً بحماس لرؤيتها، عَبرت شارع عثمان بن عفان جرياً وقفزاً حتى وصلت إلى الرصيف الآخر، تمشيّتُ حتى مقهى نادي الاتحاد، جنتي الصغيرة الهادئة، المليئة بالعجائز والكسالى والمخبرين والضباط المتقاعدين.
عندما وصلتُ، كان يغيّم على رؤيتي حزن صباحي من أثر مكالمتي مع أمي، لكن شدّتني منه كاميرات المراقبة التي احتلّت أركان المقهى، حيث ظهرت للزوايا عيون تحدق بالجميع. لم أفهم لماذا يحتاج مقهى قديم معظم زبائنه من أرباب المعاشات للمراقبة. ماذا سيسرق رواد مقهى يأتون هنا للبحث عن هدنة من العيون والضغوط وسباقات الشوارع الواسعة ومخططات تطوير القاهرة وتدميرها؟
يبدو تركيب الكاميرات في «نادي الاتحاد» نوعاً من التواطؤ مع حالة عامة من فرط التسلط والمراقبة الجمعية. لم تكن الكاميرات تعرف ما تراقب فعلا، تائهة تحدق في أكواب مشروباتٍ أوشك أصحابها على الانتهاء منها، والشاشة المقسمة إلى ست نوافذ صغيرة لا ينظر إليها أحد من عمال المقهى إلا شذراً بين المهامّ المتلاحقة والمتضاربة أو في أثناء استراحة قصيرة مع حجر معسل لذيذ أو حديث جانبي مع أحد الزبائن القدامى. لكن المراقبة المستمرة تدخل الطمأنينة على نفوس الجميع الآن، فلماذا تراقب المقاهي الأخرى زبائنها ويظل «نادي الاتحاد» مكانه وديعاً مسالماً؟ لماذا لا يستغلّ مساحته الخاصة في بسط سلطته إلى كل خرم وزاوية، ويلتحق بشبكة المراقبة الكبرى؟
انتظرت وصولها، فجلستُ بعيداً من الكاميرا قدر الإمكان. كانت تثير داخلي قلقاً لم أفهمه، كأنه لم يعد ثمة راحة من العيون والسلطة. فتحت رواية لا تقرأ ترجمها أستاذ جامعي. لا يتبقّى لي في نهاية كل فصل، إلا منصب الأستاذ ومراكزه المرموقة في مقبرة الأدب. رحمني من تجربة القراءة المريرة صوت الواتساب ينبّهني إلى وصول رسالة منها: تعتذر عن عدم قدرتها على المجيء إلى المقهى الآن كما وعدتني. تخبرني أنها افتقدتني كثيراً، وتسألني ماذا لو التقينا في شقتي في مصر الجديدة مساءً، لنشرب ونرقص ونستعيد سهراتنا الحلوة مع الأصدقاء. وافقتُ طبعاً.
كان عنقي مربوطاً بحبل متين وخفيّ، وتكفي شدةٌ بسيطةٌ حتى أطيعها تماماً.
سأذهب إلى الطبيب النفسي بالقرب من ميدان صلاح الدين بعد المقهى، وأقدّم إليه واجب الاعتراف الأسبوعي. سيسألني عن الدواء ويطمئنّ على نبض قلبي الذي يسعى إلى الحفاظ عليه هادئاً بليداً لا يعكس عنف العالم وانفعالاته.
أغلقت الرواية، وشربت آخر رشفة من كوب القهوة، وبطرف عيني لمحتُ كاميرا المراقبة تنظر إليّ وتغمز بعينها الوحيدة.
-8-
كنت أصعد منحدراً داخل تضاريس نفسي، وكلما اقتربت من القمة سمعت صوت ضحكات مألوفة تزداد وضوحاً، سرعان ما تداركت أنها ضحكات أمي من مكالمة الصباح. تتجدّد المسافة كلما أوشكتُ على بلوغ القمة، وتقلّ حدة الصوت من جديد، ثم تتدرجُ من الخفوت إلى الوضوح الذي يحول الألفة والطمأنينة إلى خوف وقلق.
قلقت من نومي مع تصاعد نبضات قلبي، فوجدتني أنام على سطح أبيض وأملس، يرطّب جسمي ببرودة لطيفة، وبقعة بيضاء مثل مجسم للشمس، تعمي رؤيتي لثوانٍ معدودة حتى اكتملت صورة الواقع في ذهني.
كنت نائماً على أرضية الحمام.
شعرت بألم خفيف في خلفية رأسي. يبدو أنني اصطدمتُ بحافة الحوض في أثناء سقوطي. كان النوم على أرضية الحمام مريحاً جداً، أغمضتُ عينيّ ثانية، وغبت في نوم خفيف لمدة ربع ساعة تقريباً. استيقظتُ مرة أخرى، ونهضت سريعاً بعدما شعرت بإهانة لا تحتمل. طَفحت نفسي بالعار.
كأن هناك عيناً ما زالت في الشقة، ستنقل بثاً حياً لمشهد نومي على أرضية الحمام، فأصبح محل سخرية في دوائر أصدقاء لا أعلم عنهم شيئاً.
كان اليوم قد انتهى للتو، فنزلوا وتركوني بصحبة ربع زجاجة ويسكي. شربت كأساً، فالثانية، فالثالثة، ودخلت الحمام للتقيؤ.
فجأة، نزع أحدهم الفيشة.
-9-
بالقرب من الطريق، طريق مغلق.
هكذا أخبر تطبيق «خرائط جوجل» سائق أوبر عندما كنت عائداً إلى بيت العائلة في مدينة نصر، قبل أيام من نهاية كل شيء في البلكونة. جالساً على الكرسي بجوار السائق، أستمع لأحد ألبومات فريق «Molchat dom» وشمس الخريف الهادئة تنفض الكسل والخمول عن جسدي، والموسيقى تشحن روحي بحماس مكتوم.
تغيرت جغرافيا الشوارع والطرق أيضاً في مدينة نصر ضمن مشروعات التطوير العنيفة والمتلاحقة في شرق القاهرة، وأصبحتُ أنا والسائق وخرائط جوجل لا نعرف كيف نصل لمنزلي. يسألني ما إذا كنت أعرف طريقاً آخرَ بدل الطريق المغلق؟ أخبره … «لا، ممكن نسأل صاحب الكشك اللي على اليمين ده؟»، شعرت براحة مربكة من فكرة التوهان لدرجة يصعب معها العودة إلى بيت العائلة، وتخيلت مشهداً أبوكاليبسياً تافهاً: يخاف الناس فيه النزولَ إلى الشوارع، فالعودة لم تعد مضمونة، والتغيرات العمرانية أسرع من قدرات الذاكرة.
كنتُ أتابع بعيني أعمدة المونوريل التي تنتصب ضخمة وشامخة، تشقّ بطن الطرق وتنتظر القطار الكهربائي ليمرّ فوقها ويريحها من الانتظار الصامت. من دون القطار، تبدو الأعمدة مثل وحوش ضخمة تربض في منتصف الطريق وتتربص بنا جميعاً بلا معنى. فتحتُ الشات بيني وبينها، قرأت رسائل الواتساب، كلام عادي لكنه يحتمل أكثر من تأويل ورؤية بالضرورة، مثل كل كلام، كتبت رسالة طويلة ومسحتها ثانية بعد تعديلات كثيرة في نبرة الكلام ومضمونه، وضعت الموبايل في جيبي وأكملت متابعة وحوش المونوريل الصامتة على امتداد شارع «ذاكر حسين».
-10-
بعدما خرجتما من البلكونة، جلستَ على الكنبة بجوارها ولاحظتَ برودة عينيها. نظرتَ إليها فابتسمت ابتسامة أشبه ببصقة على الوجه. تجاهلتَ كل ما رأيته متعمداً.
وببجاحة وتناحة اقتربتَ منها، التصقتَ بجسدها ولففتَ يدك حول خصرها وجذبتها نحوك، فشعرتَ أنك تحتضن جذع شجرة متحجرة. أدخلتَ يدكَ أسفل قميصها الأبيض الفضفاض وتحسّست ظهرها الذي خدشك كحائط أسمنتي خشن. نظرت إليكَ بازدراء وقرف، وابتسمت ثانية، ثم قامت واستكملت رقصها وسط حشد الأجساد.
القدرة على التحكم والتحول: لا يحتاج الإنسان إلى أكثر من إتقانهما ليغيّر مصيره ومصاير من يقترب منه. كانت تعرف كيف تتحكّم في جسدها، كيف تجعله أملسَ وطرياً. يجذبك إليه ويدمجك فيه بلا إرادة حقيقية منك، وكيف تنفر منك بمجرد التفكير بها، وتشعرك بالذنب طوال الليل، لأنك فقط أطلت النظر إلى وجهها. كانت تفعل ذلك كل مرة، لكن هذه المرة تحديداً، بالغت في عنف تحولها.
أقنعتَ نفسك بذلك، فرأيته يحدث أمام عينيك.
كنتَ تعلم أنكَ فقدتَ الإحساس بمنطق العلاقة إلى الأبد. لم تَعد تنصت جيداً إلى جسدها. إنما تَركت عقلك يفرضُ تصورات ذهنية متماسكة على الواقع. اضطرب على أثرها كلّ شيء، وحل العنف مكان كل شعور، ولولا أنها أنقذت الموقف وتركت لكَ الكنبة، لتماديتَ في فعلك والله.
جلستَ مكانك وتابعتهم وهم يرقصون. طلبوا إليك الانضمام فرفضتَ. أسندتَ ظهرك فغفوت، واستيقظتَ على أحدهم يقبّلك على خدك وتفوح منه رائحة الفانيليا والمسك. كانوا قد بدؤوا في الانصراف تدريجيّاً. لم تَشعر إلا والباب يغلق والصالة أصبحت خالية. توقعتَ أنها موجودة في مكان ما تنتظرك، خرجتَ إلى البلكونة، ثم عدتَ إلى الصالة مجدداً ودخلتَ الحمام وتفحّصتَ الطرقة. فتّشتَ في الأركان والزوايا والغرف المغلقة، فتّشت خارج نفسك وداخلها. عُدت إلى الكنبة يتملكك شعور بالخذلان وحنين إلى ما لا يمكنُ بلوغه. كنتَ تعلم أنك ستعيش مع شعور الخذلان هذا طوال عمرك. ليس لأن العالم شرير والناس أنذال، بل لأنك لم تتخلَّ يوماً عن إيمانك بأن هناك من يفهمك من نظرة عينيك، ويعرف ما تريده من حركات جسدك.
جلستَ على الكنبة من جديد، فاصطدمت قدمك بزجاجة الويسكي، صببت كأساً وسرحتَ في حوائط الصالة.
-11-
ساد صمت يشبه في مذاقه طعم عملة معدنية جديدة.
التفتتْ ونظرت إليكَ بعيون غائمة كمن رأى حلماً، فاندمج قلق وجهها بشبقه. لم تكن تَشعرُ إلا بدغدغةٍ لذيذة في أسفل بطنكَ، وحرقةٍ خفيفة في صدركَ وهي تمسكُ وجهكَ بيديها وتتحسّس ذقنكَ بأصابعها. اختفت الأفكار والمشاهد مع الموسيقى، كنتما خارج حدود الشقة، وما يحدث بالداخل كان ماضياً بعيداً. تجاوزتَ قلقك وأسئلتك وأفكارك بسهولة. كنتما معاً في مستقبل محتمل وغائم.
أطالت النظر إلى وجهكَ، فارتعش جفنها الأيمن وارتفع على أثره نبض قلبكَ، فسمعت دقاته في أذنك.
كريم محسن
كريم محسن، كاتبٌ وقاصّ من مصر، صدرت له مجموعة قصصية بعنوان «هذه ليست غرفتك» عن دار المرايا عام 2022. وقد فازت هذه المجموعةُ بجائزة ساويرس 2023 بوصفها أفضلَ مجموعة قصصية. شارك في مشروع «قصص القاهرة القصيرة» الذي نظمه معهد جوته عام 2018، ونُشرت له كتابات متنوعة في مواقع ومدونات.