النص من كتاب «ليس مصيفا في هوليوود»، قصص وقصائد ورسوم لـ٢١ مؤلفاً ومؤلفة. الموجة الأولى من مشروع «لنتخيل_البحر»، الصادر عن «وزيز للنشر».
لاحقًا، بعد ثمانية أعوام، ووسط أصياف عادِمة بغير ملح، أُدرِك أن مصيف رحلات الكنيسة، المشفوع بصلوات القديسين وروائح البخور والحنوط، الذي أخذتنا أمي من خلاله إلى الشاطئ، حمل -بالنسبة إليها وإلى النسوة المُصيِّفات تحت مظلة الشهيد مارجرجس- معنى أعمق مما بدا ظاهرًا وقتها، أو من وقت قريب، لي ولها، أو لهن؛ كانت تلك الرحلات حَجرها الذي ضربَت به ثلاثة عصافير برمية واحدة: زارت ديار الآباء المُقدَّسين، وحَمَتْ ولديها من إحراجات الإجابات الصامتة وقت يسألهم زملاؤهم ببراءة، في الخريف التالي، أين صيَّفوا تلك السنة، وظفرت بثلاثة أيام وليلتين شعرت فيها أخيرًا بأنها امرأة حرة.
في البدء، خلق الله السماوات والأرض، والبحار. وجعل حاجزًا بين السماوات والأرض؛ الخطيَّة، وفاصلًا بين الأرض والبحار؛ الشطآن. وخلق الأشجار والحيوانات والعصافير المزقزقة المضروبة بأحجار حجج البشر، والرجال والنساء ومَن بينهما، وأمي، وكنيسة الشهيد مارجرجس الروماني، الرابضة داخل شارع جانبي باهت، متوارية بستر الروح القدُس وكتمان السر، وبمنارة لا يُضاء صليب قمتها أبدًا، عن أنظار السلفيين والمتعصبين والإخوة، بحي الشنهورية في قنا البلد؛ وخلق خدمة مدارس الأحد لأطفال الابتدائية، وخادماتها المُوقَّرات، بزيِّ عفَّتهن ومُحافظتهن على تقاليد الآباء المحدثين؛ وخلق رحلاتها التي للصغار وللعوائل، ورحلاتها الخاصة بثلَّة نساء صديقات صدِّيقات، لا يقربن المحروم ولا المحلول، ولا يترددن في ترتيل صلوات توسُّلية، مُنغَّمة وحزينة، في طريق ذهابهن وعودتهن، من وإلى الكنائس والأديرة والأقصر والشواطئ، بمباركة رجال ثلاثة: كاهن الكنيسة المسؤول، وكان رجلًا طيبًا، كثير الانشغال، كثير النسيان، كثير الاعتراض بلا داعٍ،وسائق حافلة الكنيسة، وهو رجل هادئ ينام كثيرًا –لا في الطريق في أثناء القيادة، ستَر الستَّار- ويحب صوت المُرنِّمة فادية بزي أكثر من والدة فادية نفسها، وأبي. تبدي له أمي، كل أغسطس، بلا ملل تكرار الطلب، كفأرة لا تنهي مدار دولاب دورانها أبدًا، رغبتَها في التصييف، من أجلنا، من أجل العيال. ولأنه كان مصابًا بدوار البحر والمواصلات والسفر والتغيُّب عن الشغل، وميالًا إلى الاستقرار والتوفير، يرد، ككل سنة: «شوفوا الكنيسة وأنا سدَّاد»، و«تشوف» هي الكنيسة، و«يسدُّ» هو.
تأتي إليَّ، في يوم حار، مرتخٍ ومُعرِّق، ومروحة السقف تنتحب على الدرجة الرابعة، وترفض أن أزيدها إلى الخامسة كي لا تقع على رأسي؛ فالله وحده يعلم صعوبة حجز موعد مستعجل مع كهربائي جيد وأمين لتصليح الأضرار، والحر دون مروحة –وبها والله- لا يُطاق هنا، في قولون مدينة قارِّية صحراوية أكلت منتوج الدولة من الفلفل الحامي وحدها ولم تتقيأ. تأتي إليَّ، بينما تطبخ الغداء على نار «هادية»، وأنا أُضيِّع وقت العطلة بمحاولاتي البائسة لتحسين إنجليزيتي بمشاهدة مسلسلات أمريكية مسروقة، وتخبرني: «فيه رحلة للأنبا بولا، تطلع؟»، ولا تقول البحر، ولا تفسر مزيدًا؛ ربما لأنها تعلم أني أفهم ما تعنيه، أو لعلها أرادت تأكيد نصيب الرب من الرحلة، أو استفاضة في المعلومات لا تضر؛ فالأنبا بولا هو الدير المُزار خصوصًا (نصيب الرب)، وهو اسم فندق مسيحي راقٍ –تابع للدير غالبًا أو لإيبارشية البحر الأحمر- يطلقون عليه لفظة «مبيت زوَّار الدير» كتذكيرٍ نفسيٍّ بالزهد الأرثوذكسي الرهباني، يقدم خدماته بالحجز، وبأسعار متوسطة للعائلات وللكنائس (نصيبي أنا)، وهو تطمين ضمني لذاتها لتتميم علامة «صح» عملاقة، بحجم الكون، أمام خانة «المصيف» في عريضة أمومتها السنوية الطويلة الجالدة للذات، والحالكة بقدر ثقب أسود، ابتلع بداخله النور والكون (نصيبها وقسمتها).
وإذ كنت وقتها أخطو خطواتي متهاديًا بين صفين ثانويين في مدرسة لا يذهب إليها أحد، متعثرًا أتعرف على ذكوريتي بالوقت وبالمصادفات وبحيل مُختلَسة من الواقع؛ أسألها: «فيه ولاد جايين؟» وتجيبني: «واحد آخر، ابن خادمة أخرى؛ صديق ابن صديقة»، كما صديقات أخريات في سنِّي، يستحين، في فورة بلوغ المراهقين جميعًا آنذاك، من الحديث معي، لا في البلد ولا على الشط.
أفكر، مثل كل مرة، وأحسبها بعمليات منطقية غير معقدة. أرى صديقي يعتلي سطح الأتوبيس، وأرفض أن أصعد قطعًا، مبررًا بخوفي من المرتفعات، وأراني أحرك عضلاتي الراقدة في سبات الموت كي أحمل وأرفع وأُلافي الحقائب القماشية الثقيلة ثِقل مآسي آخرين يجبرونك على مشاركتهم تحمُّلها، وأنت لن تلبس أزياء خروجهن التسعة، وبياتهن الستة، وتسامرهن الثلاثة، وطقمَي البحر وحمَّام السباحة، وغياراتهن اللانهائية. وأنت لم تخبرهن أن يُحضِرن هذا كله، ولن تخبرهن أنك لم تُرِد رفع شنطهن للمسكين المُتشعلِق على السطح؛ حتى لا ينظرن إليك من فوق لتحت، ويزممن شفاههن، ويقلن إنك لست رجلًا.
تقتصد أمي في الملبس؛ كي لا نشيل كثيرًا، فأتشارك معها حقيبة واحدة متوسطة. تعرض أمامي خياراتي المحدودة؛ بوكسرين؟ وثالث احتياطي؟ شورتين؟ وثالث خروجيّ؟ تيشرتين، قميصًا للذهاب، وقميصًا للصُّور، وقميصًا قديمًا بكمَّين طويلين للبحر أصرُّ عليه بنفسي لخوفي من التحمُّص تحت أشعة الشمس بعدما اكتشفت من سنتين أن جلدي لا يُقشِّر ولا أسترجع لوني الباهت بعد المصيف مرة أخرى. والحقيقة أني –داخليًّا وحميميًّا خصوصًا- أخشى التعري أمام الغرباء، لا داخل البحر ولا يحزنون، وأخاف من جسدي، كمستأجر لا يحق له التمطُّع بلذَّة داخل سرير يعلم أنه لا يمتلكه، أو أخجل من عدم ملائمتي لمثالية أنماط أجسام الأرباب التي يُعيِّروننا بها في الأفلام والمسلسلات، بترهُّلات ودهون متموضعة في غير قوالبها، وتوزيع غير ملائم للشعر وللعضل، تلعن أمواتَ طفلٍ يتسلَّق بمفرده، وحيدًا لا شريك له، مثل فتاة تحيض لأول مرة، خائفة، جبلَ الذكورة.
تتفهم أمي ذلك دون أن أفصح، أو لا تفعل. ربما عدَّته حشمة حسنة تليق بقديسي هذا العصر، وربما لم تعلم كيف تداوي وصم ابنها لجسده بالنقيصة، فقررت أن تتغاضى عن الأمر كله، كعادتها في الطرمخة عِوضَ المواجهة، أو ربما صمتت أمام الحياة والجينات، عاجزة. لا أعلم؛ فعلاقتي بأمي لم تكن قوية قط، ناهيك عن وجودها أصلًا من عدمه، فهي لا تعرف شيئًا عني خلاف درجاتي الكاملة في المدرسة، وانتظامي في الذهاب إلى الكنيسة، وحفظي للألحان وقواعد اللغة القبطية ودقائق تفاصيل القصص في الكتاب المقدس. وتظن أني أستمتع بكورسات الرسم والحساب التخيُّلي والفرنسية، التي أنتهكها حين أتحدث بها، ولا تعلم أني فعلت كل هذا طلبًا لحبِّها، وأني كرهت تلك الأشياء كلها.
حشرنا ملابسي في حقيبتنا، وابتعدت كي لا أرى ملابس النساء الـ«عيب» تُنتقى وتُحزَم. وأضفنا في النهاية مناديل ورقية، وأكياسًا بلاستيكية للطوارئ، وصابونة، وفوطتين؛ مشمشية جديدة لي وكنارية شبه مهترئة لأمي، ومِشطينا، وشبشبينا؛ زنُّوبة بإصبع وبغير إصبع، وكوبين زجاجيين لمشروب العصاري، وأكياس نسكافيه للإفطار، وبرطمانَيْ سكر وشاي أحمر صغيرين، لها وللصديقات، وفتلتي شاي أخضر بالنعناع لي، ورواية مفرطة السمنة أعود دون أن أقرأ منها صفحتين.
كبَسنا الشنطة، وأعدَّت أختي حقيبتها الكبرى، لها بمفردها، بعجلات تُجَرُّ، لؤلؤة مجهولة داخل محارة مختومة بالشمع الأحمر لا أملك من المعرفة الكافي لأخمن محتوياتها. ووضعنا الاثنتين قرب مدخل الشقة ليلةَ السفر، ثم تذكرنا، متأخرين للغاية، العوامتين فوق الدولاب، وغداءات أبي.
أعتلي كرسيًّا خشبيًّا صليت ألا ينكسر تحت وزني، وأُنزِل من على سطح الدولاب الخشبي العتيق زكائبَ التخزين الموسمية. تشير أمي إلى واحدة بعينها؛ عملاقة ورقية وحمراء لامعة. «هتلاقي العوَّامات هنا». فأدحرجها بأطراف أطرافي، وأسندها بكفيَّ هابطة لئلا تنهبد على الأرض مُنفتِقة. تفتح أمي سوستتها البيضاء على عجل، وتُدعبِس فيها مليًّا، ثم تخرج ظافرة بالعوَّامتين؛ الزرقاء الوِلادية لي، بالسليقة، والوردية البناويتي لأختي. وتغلق الزكيبة، وتساعدني في رفعها ثانية، وأبي يدفعها معنا إلى أعلى بعصا المكنسة الخشبية. ثم تتفق معه -وأنا أنفض التراب عن يديَّ- على وجبات أيامه التالية: سيفطر أي شيّ، سيتغدى مرة من يد عمتي، ومرة تونة، والثالثة يشتري لنفسه فولًا أو يقلي بيضًا، ويتعشى ما تيسر من مُجمَّدات قد يعثر عليها بالمصادفة في فريزر الثلاجة، أو يُسقِّي بقسماطًا في شاي بلبن، أو يصوم، وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان على أي حال.
أحاول أن أنام ليلة السفر ولا أفلح؛ لا لتحمُّسي الأرِق للرحلة، ولا من حر مُكيِّف هواء على 28 لأن أختي تستشعر البرد أكثر من جميع البشر، وتخاف خوفًا مرضيًّا من الإصابة بنزلة شُعبية صيفية حادة، بل لأني مذ وعيت -مُجبَرًا على حضور صلوات قدَّاسات الأحد الفجرية على مدار السنة، والخروج من تحت اللحاف للذهاب إلى المدرسة في عز البرد في السابعة صباح كل الأيام التي لا بركة فيها- تولَّد عندي رهاب يُذهِب عن عينيَّ النوم والكوابيس لو دخلت فراشي وأنا أعلم أني سأستيقظ قبل الثامنة على أقل تقدير، خصوصًا لو «على وشّ سفر»، أو يوم إرهاق مُحتمَل، بعيدًا عن المنزل لساعات طويلات، أو لأيام دهرية، كما في سفريَّتنا هذه.
سيمر علينا السائق في الخامسة فجرًا لنبدأ الرحلة مبكرًا، مهتدين بنور ربِّنا في الطريق إلى بيت ربِّنا. يأتي بحافلته من بيته عند أطراف البلدة، ويصل إلى بيت أول خادمة في طريقه: بيت أمي. توقظني بعمص عينيَّ سكرانًا بنومة ساعة واحدة مع نسمات الفجر. أجرجر نفسي لفرصتي الأخيرة؛ فلا حمَّام طوال الطريق، وأرتدي ما أرتدي مغالبًا قرف أول الصحيان.
يرن هاتف أمي بلا انقطاع، بترنيمة كئيبة وفاترة حتى حين كانت رائجة، «يا عدرا يا أمي، يا غالية عليّ»، أو شيئًا من هذا القبيل، لا أتذكَّر. «السواق بيرن»، ولا تنهي أختي ارتداء ملابسها سريعًا، «أمينة الخدمة بترن»، وتدخل أختي الحمَّام للمرة الثالثة احتياطًا، «أنا وأخوكِ جاهزين من بدري، هنمشي ونسيبك!»، وهنا أعلم أن بداية الرحلة غم، وستظلَّان ربع طريق السفر تتناقران بشأن التأخر والذهاب والندم واحترام المواعيد والأخلاق العامة وأسس التربية والحب والرحمة والأمومة والبنوَّة والابن الصالح المطيع المُحترِم مواعيده الذي هو أنا. وتتعمق الفجوة بيننا جميعًا، أكثر فأكثر، رويدًا رويدًا، كاتساع حجم الجحيم باطِّراد حين يُولَد طفل جديد؛ فقط لأن الهاتف المحمول رنَّ، ولأن العدرا قررت ألا تكون أمًّا لغير المسيح.
أخيرًا، بعد زِعِيقة الصبحيَّة، نمشي إلى رأس شارعنا صامتين مثل مدينة مقصوفة في حرب معنوية. يقاطعنا بوق الحافلة، يُنغِّمه السائق كي نشعر بذنب التأخر. تمدُّ أمي الخطى، وتُخرِس السائق بنظرة، وبـ«صباح الخير يا أسطى، لا مؤاخذة لطَعناك» تدفعه إلى المسامحة على سبيل التأدب العام و«ما حصلش حاجة يا تاسوني، خدوا وقتكم»، وتشير التاسوني –وهي لفظة قبطية تعني «أختي»، تُطلَق على خادمات الكنيسة بديلًا عن استخدام ألقاب أولاد العالم؛ أستاذة، أبلة، مِس، وهكذا وهكذا- إلى مقعدين مجاورين أجلس فيهما أنا وهي، فيما تجلس أختي في مؤخرة الحافلة تحجز مكانًا لصديقة ستأتي لاحقًا.
أستقر جوار الشباك وتحميني أمي من نظرات الخادمات القادمات؛ فرغم علمهن المسبق بمجيئي، ومعرفتهن العميقة بي وبأمي، فإن وجودي الذَّكري، في مملكة أمانهن النسائية، نغَّص أرواحهن المُعذَّبة، ولو قليلًا، وقطع عليهن آمال أن يعشن يومين بغير ظلِّ رجلٍ مُحيط. أظن أن أمي أحسَّت بوجوب حمايتي كي تضفي شرعية على وجودي في حافلة النسوة تلك؛ لأن ذلك كان وسيلتها الوحيدة لترى السعادة في عينيَّ وأنا أرى البحر أخيرًا بعد سنة كاملة لم نرَ خلالها مسطحًا مائيًّا، سوى الترعة العفِنة التي على رأس الطريق أول شارعنا. أو هذا ما أفكر فيه الآن، مسترجعًا كل هذا بصورة ضبابية، متذوقًا بالكاد طعم الملح في الهواء، ومنتظرًا انقطاع مرأى الصحراء أمام زرقة البحر الممتدة في الأفق، وإلى ما لا نهاية.
خلال ساعة أو اثنتين، تكتمل الحافلة. يقف السائق عند شارع متسع قرب بيت آخر خادمة، ونحقق كابوسي في تحميل الشنط بحَرفيته. أستقر مجددًا جوار أمي، بيدين مُترَّبتين ومُحمرَّتين. ولا أجلس قرب الولد الآخر في الرحلة؛ كي لا ينعزل كلانا عن البقية. فعلى أقل تقدير، ما زالت أمي رابطًا، برغبتي أو دونها، بيني وبين الأغراب، حتى لو لم تعِ هي –ولا حتى أنا- ذلك.
تُقدِّم لي إحداهن منديلًا مُبلَّلًا، وتشكر أخرى مجهودينا، و«كتَّر خيركم يا رجَّالة». تُمَدُّ إليَّ علبة عصير كرتونية بطعم المانجا وأرفضها. تبتسم أمي راضية عن تأدُّبي، وأنا بالأصل أكره المانجا. ما زالت تتعامل معي كما لو كنت في الإعدادية وأنا في الثانوية، وما زلت أتعامل معها كما لو كنت في الإعدادية وهي تراني في الثانوية. وما زلت أسترجع تلك السفريَّات الأربع أو الخمس بشكل أوهى كل مرة، وربما أُفبرِك تفاصيل أو كبائر، ولا أدري ما أتذكر. أتذكر أنها تقطع الصمت بطلبها من تاسوني، أمينة الخدمة، أن تستفتح الطريق بصلاة باكر من الإجبيَّة. تسأل السائق إن امتلك إجبيَّات تُوزِّعها على المُصليَّات، بينما تُخرِج هي من حقيبة يدها الجلدية السوداء إجبيَّتها الخاصة. تبدأ برشم الصليب وبـ«يا أبانا الذي في السماوات»، وأسرح أنا في سماواته عبر الشبَّاك. يتلين مزامير صلاة باكر كلها بالترتيب؛ فالطريق طويل، ولا أخيَر من قتل الفراغ بصلوات لا تنتهي.
نخرج عن طور المدينة ونرزح في بادية الرب تحت شمس الصباح وقد أتبعن صلاتهن الرسمية بترانيم متنوعة لا يحفظن منها إلا الأبيات الأولى والقرارات التي تتكرر بلا وهن. يلعبن «مسابقة ترانيم» وأشاركهن التحدي؛ يقسمن الأتوبيس إلى نصفين بالطول، أو إلى ثلثين وثلث بالعرض، لفريقين يبدأ أحدهما بترنيمة عشوائية بأي حرف، على أن يأتي الآخر بترنيمة تبدأ بآخر حرف انتهت به الأولى. يوزعنَني أنا وأختي على الفريقين؛ لأن كلانا –بشهادة تعتز بها أمي كثيرًا- نحفظ ترانيم لا حصر لها؛ ثمرة حامضية لسنوات من محاولة شراء حبها بإجادة أفانين دينية تُبهِج قلبها وقلب المسيح المُحتجِب وسط سحبه الفردوسية تاركًا أطفالًا هنا يعانون في لهيب الانتماء.
نتراشق الترنيمة تلو الأخرى، حادَّات وثاقبات كقارعات الحرب، وتُعَدُّ بحماسة الأرقام من عشرة إلى واحد لو تعثر الفريق المضاد عن تذكُّر واحدة بحرف نادر. يُهلَّل لانتصار فريق على الآخر، ونُهَدُّ لبقية المشوار، مُنتشين بلذة الفوز أو نكران الخسارة. وننام ساعة تحت ثقل الجفون مع تقدم شمس الظهيرة. وقبل أن أغفو، يعلن السائق، كمَن يُحذِّر من مجيء الموت لتارك الصلاة: «وصلنا الدير».
يستقبلنا دير الأنبا بولا بالخلو، مساحات واسعة من الفراغ والصحراء والنباتات المزهرة. المباني الداخلية شاغرة، والأبواب مفتوحة دون مُستقبِل، ولا أثر للرهبان كما لو كنا غُزاةً برابرة أخفناهم فاحتموا بحصنهم المبني بالحجر الصلد وبالصلوات والصوم.
عند مدخل مجمع الكنائس، وقف سيَّاح آخرون تائهون مثلنا، يستريحون من وعثاء السفر وغبار الخطايا. تقودنا تاسوني، أمينة الخدمة، التي جاءت مرارًا وتحفظ الدير بحذافيره لزيارة كنائسه الثلاث. نخلع أحذيتنا قبل الدخول للبِيَع الأثرية، تهاجمني رائحة الحر والخشوع والشموع المحترقة والقداسة والشرابات النتِنة، وصوت أوبرالي يتردد، في عقلي فقط، لأرغن بيزنطي مُنقَّى في استديو مؤثرات خاصة. وعلى الجدران، تنظر إليَّ أيقونات حديثة مطبوعة لقديسين ماتوا في أزمنة غابرة أو جداريات قديمة قِدم الشر الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس، رُسِمت بيد رهبان الدير الأوائل في أيام الرهبنة الأولى في القرون السماوية، بأصباغ معدنية أو طبيعية وبفنٍّ طفولي سبق اختراع الرسم الواقعي في عصور النهضة.
تقفش تاسوني الأمينة راهبًا غافلًا مرَّ بالمصادفة، وتشتكي له من قلة ظهور رهبان الدير، وتطلب منه بركتهم، فيبرر بأنهم مشغولون بأعمال نسكية أو أنهم يهربون من المجد الباطل. تطالبه -ككل زيارة إلى الكنيسة نفسها- بأن يشرح لنا مجتمعين تاريخ الدير والرسومات الأثرية هذه. يجلس ويرشم الصليب ويحكي ويحكي، ويشير إلى تابوت بحجم طفل موضوع في كوَّة حجرية غير متسعة جنوب الكنيسة. ويخبرنا أن تحت هذه البقعة بالتحديد تقبع عظام القديس، مدفونة تحت الرمل والحجر والماء والزمن، كما أخبر الملاكُ بُناةَ الدير من تلاميذ الأنبا أنطونيوس؛ صديق الأنبا بولا الصدوق وراوي قصته، وكما انتقل السر من الآباء، الذين كانوا تلاميذ، جيلًا بعد جيل، إلى التلاميذ الذين سيصيرون آباء، إلينا. وعلينا نحن، فقط، التبرُّك بالرفات المزيفة.
ينهي الراهب سيرة القديس وما تذكر من معجزاته، ويُوصِّينا أن نزور عين الماء الجوفية المباركة في قلب الجبل، المستمرة من أيام شرَب فيها الأنبا بولا منها بنفسه، ويشرب منها الآن الطالبون شفاعته وصنيعه القوي أمام عرش رب القوَّات.
نرحل أخيرًا، بعد طلوع الروح، وبعد بركات عديدة، وإفطار شهي لا أقربه من فول الدير، وتذكارات تُباع للزائرين يشترون مثيلتها كل عام ولا يستخدمونها أبدًا. ثم نستكمل طريقنا بالحافلة، منهكين، إلى الفندق/ المبيت القريب.
من مبعَد، نراه شامخًا وسط الكثبان، نابضًا بالحياة وأبديًّا، جنة أرضية صارت كذلك لأن محيطها قفر وخراب وخالٍ من كل صلاح. وألمح وراء المبنى البرتقالي العملاق البحرَ الأزرق اللامع يتماهى مع السماوات، لا فاصل إلهي بينهما، ولا يفصلنا عنهما إلا بضعة كيلومترات ومشية الشاطئ. تُنهَب الكيلومترات، لكن يطول انتظارنا الحساب أمام بوابات الملكوت؛ يتحرَّون دهرًا عن بطاقة السائق على البوابة، يتواصلون عبر أجهزة أثيرية ربما مع كهنة كنيسة مارجرجس، أو أسقف إيبارشية قنا، أو مع جهاز الشرطة أو المخابرات، أو رؤساء الملائكة في الفردوس؛ ليتأكدوا أن حافلة مسيحية مُحمَّلة بالنساء خرجت من عندهم إلى عندنا، خوفًا من حركات إرهابٍ غادرة قد تأتي أو لا تأتي، في أي وقت؛ رهاب ترسخ داخل قلوب المسيحيين وممتلكاتهم منذ عصور الاستشهاد قديمًا وحتى عصور الكراهية حديثًا. نتسمَّر ونتسامر، وتنفتح البوابات في النهاية، وندخل إلى فرح سيدنا.
أستغل انتظارهن في ردهة الاستقبال فيما تُراجِع الإدارة الحجوزات وتُسلِّم المفاتيح وإلخ إلخ. أخرج متثائبًا إلى شرفة مدخل الفندق الفسيحة، أُدلِّك يديَّ من أثر تلقي الحقائب المُنفكَّة من يديّ سيئ الحظ الصاعد على سطح الحافلة، وأقف دون أن أسند كفيَّ على سور الشرفة الجبسي. أنظر إلى الحديقة الغنَّاء، وغرف الفندق بشرفاتها الخاصة تمتد يمينًا ويسارًا محيطات بالجنينة. رشاشات العشب تُنقِّط بخفة، ورذاذ البحر تحمله الريح، يلفح وجهي ممتزجًا بالخضرة والشمس، وتمثال للمسيح أبيض رخامي كبير يقف في منتصف الحديقة، وسط شجيرات وورود وفراشات وجِنان، يبارك الناس والأشياء، ويعلن أن الرب رأى ذلك حسنًا جدًّا. ومن خلف المسيح، وربما خارج سلطان ذراعيه المفتوحتين، خلف مبنى حمَّام السباحة والملعب والملاهي، قبَع البحر منتظرنا.
في توزيع الغرف احترن، وقد اكتشفت مُنظِّمة الرحلة؛ تاسوني أمينة الخدمة، أنها نسيت أن تحجز للسائق سريرًا، فعالجت الأمر بقريحة التلييس التي للمصريين، وقررت أن تمنحه سريرًا في غرفة «الرجال»، بلا تكييف ولا مروحة، أطلَّت على الصحراء من أجل نسيم الليل البارد، وضمَّت معه صديقي وأنا.
لم أعترض؛ إذ أعلم أن أختي ستُفضِّل الغرف النسائية؛ لأنها كانت تخجل مني، وتكره أن استعجلها وقت تُطيل البيات في الحمَّام. فأُضطَر، كلما احتجت إلى ملبس أو فوائض، أن أذهب إلى غرفة أمي، وأقرع، وأنتظر خارجًا والباب مغلق ولا يُفتَح إلا مواربًا، لعل امرأة في الداخل تُبدِّل ملابسها، أو خارجة بعد استحمام، أو جالسة على راحتها أو أيًّا كان، حينئذ يسمحن لي بالدخول بعدما تأخذ كلهن احتياطاتهن.
أعاين غرفة الرجال وأختار السرير الملاصق للحائط لأشعر بالأمان، ثم أذهب لأجلس في غرفتها من أجل شاي الغروب، والنساء مُكبَّلات يتجمعن ويحكين في موضوعات عامة أو نمائم أو قصص إنجيلية تنقلب أغلبها إلى مواعظ وحكم وتنظيرات فارغة على سلوك هذه أو ملابس تلك، أو مضايقات خاصة لشطوحات أفكار شباب الجيل الجديد، وأفكاري، ثم يخططن لجلسة استجمام في الحديقة يتابعن فيها الكلام ذاته، أو لحضور صلاة التسبحة الليلية في الكنيسة التي في الطابق الثالث، فوق الاستقبال.
تبدأ المغامرة حقًّا، على أصولها، في اليوم الثاني؛ نفطر إفطارًا دسمًا وتتنهد أمي بارتياح، تأكل على مهل وتمضغ بتأنٍّ كأن العالم سينتهي لو أنهت هي طعامها. تحشي شطيرة واثنتين وثلاثًا؛ فولًا مُدمَّسًا وفلافل ساخنة وجبنة طرية غير مالحة وبيضًا مسلوقًا وجبنًا روميًّا ومربى فراولة ودَنَش بالكريمة والعسل للتحلية، وتشرب كوبًا ثقيلًا من الشاي الأسود لبتون فتلة، وتترك العروسة كشري لمنتصف اليوم. تملي عليَّ يومها ويوم أختي وتتركني لحال سبيلي؛ ستذهبان مع كل الخادمات والأطفال إلى حمَّام السباحة ويُترَك لي اقتراح لا بديل له: أن أذهب إلى الشاطئ مع صديقي. أحجز لهن مكانًا حتى يجدن مستقرًّا لحاجياتهن عندما يُطرَدن من البيسين على يد رجال ومراهقين عرايا الصدور وغاضبين، وقت انتهاء موعد حرية الستات في الواحدة؛ إذ يرغبن في استكمال التمتع بالمياه، وبأموالهن المدفوعة، في البحر. ولي أن أسبقها بالنزول للبحر إن أردت، أو أنتظرها، ولا تدرك أنني أكره النزول للبحر، وأكره الوحدة، وسأنتظرها.
أمشي كيلومترًا إلى البحر، مع صديقي المتأهب السعيد، وبالكاد نتبادل كلمتين. أرتدي قميصي ذا الكمَّين الطويلين، وشورتًا يمتد إلى ما تحت الركبة، وأضع كابًا أسود على رأسي أُوجِّهه ناحية الشمس أينما كانت، وفي يدي روايتي الكبيرة، وعلبة عصير من أجل الصورة التي سوف ألتقطها
لأنشرها على إنستجرام برهانًا على أني صيَّفت، أولًا، وثانيًا على أني لا كالعوام أذهب إلى المصيف لأبلبط، بل أدَّعي الثقافة بالقراءة على الشاطئ، في رحاب البحر، واحتساء القهوة، وسماع فيروز، وما إلى ذلك، وما إلى ذلك. ارتدى صديقي تيشيرتًا بغير أكمام، منه برزت شعيرات صدره متحدية الشمس والسمرة، وشورتًا قصيرًا فوق الركبة، وفي يده فوطته، وكيس كبير من اللُّب الأبيض والسوبر والفول السوداني، ينتهي اليوم بأن آكل أنا نصفه، بينما أجلس على الشاطئ منتظرًا، بملل، تاركًا الرواية الثقيلة جواري لم تُفتَح، والقهوة لم تُعَدَّ، وفيروز لم تُسمَع، وصورة إنستجرام قد التُقِطت، وعلبة العصير خاوية ومضعضعة، وأنتظر وأنتظر انتهاء النهار، وغياب نسيم البحر، وانكسار حدة لهيب الشمس، وقدوم أمي.
لعلِّي كنت طفلًا كبيرًا، أو رجلًا رضيعًا، أو الاثنين معًا، ربما كان عليَّ أن أُقلِّد صديقي، وأن أخلع ملابسي، وأضع حجرًا صلبًا فوق شبشبي، وأن أجري على الرمال الحارقة حافيًا، كرجل كهوف بدائي وذكريٍّ، وأغطس في الماء إلى الغريق، أعبث بيديَّ في الشعاب وقنافذ البحر المدببة، وأعثر على أصداف أقدمها لأي فتاة إثباتًا للمهارة، وغزَلًا.
والحقيقة أني لم أفعل ذاك كله لأني ربما خفت البحر؛ من رحابته ومن جهلي العوم، ومن خشيتي التعري، ومن عدم تصالحي مع الخوف، لا أعلم، ولا أستطيع التذكر، لا وأنا جالس هناك، في السادسة عشرة، على الشاطئ، والهواء يعابث شعري، والمياه تتغلغل بين أصابع قدميَّ وأنا أقف محايدًا على الرمال الندية، تاركًا المد يُجبِرني على لمس المياه، والجزر يُشعِرني بالحنين إليها، ولا هنا، الآن، في عيادة طبيب نفسي، أحاول إعادة هيكلة حياتي بتحليل الماضي، وبإصلاح علاقتي بأمي وبذاتي، وبالبحر، بكتابة عنيدة، مُهلهَلة ومُبتذَلة، أتعافى عليها، ولا أتعافى بها، ولا أتعافى منها، ولا أنجح في التذكر.
عندما تأتي أمي، كمسيح طال الشوق إلى خلاصه، وفي يدها العوَّامة الزرقاء التي لم آخذها معي لأني أعلم أني لن أقرب البحر، تتعجب ببراءة، تتعجب ببراءة من مقبرة مخاوفي الساحلية وتشجعني قائلة: «يالَّا هنزل أنا معاك أهو»، وتأخذني من يدي. «بحب أقعد قدامه بس»، ولا تستجيب: «نبقى ما جيناش البحر لو ما نزلناهوش!»، أتحرَّج من كِبر سنِّي ومن العوَّامة. «أنا اللي هلبسها»، تطمئنني، وندخل البحر بثقة حتى نقف في مكاننا والماء بالغ صدرينا، وهي ترتدي العوَّامة وتعرضها عليَّ بين الحين والآخر، وأرفض، وأنا أمسك بها خشية التعثر والسقوط.
ترتدي أمي بلوزة ذات كمَّين قصيرين، وبنطالًا قماشيًّا بالكاد يصل إلى ركبتيها، وكابًا أبيض يقيها الشمس، تعطيني إياه وتأخذ كابي الأسود، «عشان الشمس ما تسخَّنش راسك»، ولما أعترض، تأخذ ملء قبضتها من ماء البحر، وتخلع نظارتها، وتسكبه على رأسها ضاحكة، «برطَّب نفسي أهو»، ولا أسترجع إن كانت قد حاولت أن تفعل المثل معي فأشحت بوجهي بعيدًا صائحًا؛ لأني أتوتر إن أصاب خطب نظارتي، أم أنها علمت ذلك عني فلم تفعل.
على كلٍّ، لبست أمي ذاك كله؛ البلوزة والبنطال القصيرين، داخل البحر وخارجه، على عكس الأيام العادية، مما لن تستطيع –ولن ترغب في- ارتداءە في قنا البلد ولا في أي موضع عام؛ لا لأن للمصيف تصنيفًا مخصصًا للملابس، لكن لأن حياتها برمتها مُراقَبة ومحكوم عليها من الناس، فمن السهل التشكيك في شرف النساء بلا مبرر، ولا دليل، ولا مُحفِّز، حتى لو كانت امرأة كبيرة في السن، في عمر أمي، جارَّةً ابنها الذي في الصف الثانوي وراءها، يتحدثان عن اللاشيء لأن لا قنوات تواصل وُجِدت -ولا حُفِرت- بينهما.
تُقذَف علينا كرة بلاستيكية من الخلف. صديقة في سنِّي جاءت مع أختها وأمها والخادمات الأخريات، جميعهن في البحر يمرحن ويدعونني للعب معهن. النساء هنا حُرَّات وسعيدات، غير محرجات ولا خائفات، يرتدين ملابس قصيرة لا يمكن أن نطلق عليها مايوهات بأريحية، أنصاف ملابس بحر مصرية من الطبقة المتوسطة، والأطفال يرتدون مايوهات ملونة. نسوة رحلتنا يُرنِّمن، آمنات تحت الأنظار البعيدة لتمثال المسيح الحامي، هناك أول طريق الشاطئ، في حديقة الفندق، وينادين بعضهن بعضًا، ويصرخن، يتراشقن الماء، ويتدافعن، ويتجنبن القنافذ المدببة والقناديل اللاسعة، ويصطدن أسماكًا صغيرة بأيديهن العارية ثم سرعان ما يفلتنها في الماء مرة أخرى، يتبارين بكتم الأنفاس تحت سطح الماء، يلعبن بالكرة المائية، يجرين بعضهن وراء بعض، ويُهرَعن خلف عوَّامات فالتة من أطفال تائهة يُخشى فقدانها، ويُعلِّمن بعضهن بعضًا وإياي العوم، ولا ينجحن في تعليمي أي شيء؛ لخوفي المرضي من سقوط نظارتي في البحر فأفقد بصري إلى الأبد. ويتعلمن الطفو بمدِّ الجسد أو بالعوَّامات، وهو ما أنجح في تقليده بالاستناد إلى عوَّامة ماما الزرقاء، ويحترقن معًا تحت الشمس، ويبتللن بملوحة الماء، ويصغرن في السنِّ دهرًا، ويشعرن أنهن أحياء، ربما جنة الله حقيقية بالفعل!
آمنت بجنة الله على الأرض حين رأيتها، في عينيّ ماما. بدت ماما لأول مرة، منذ لا أذكر متى، سعيدة بحق، مبتهجة ومنتشية ومرتاحة. ترانا أمامها؛ أنا جوارها، وأختي على مقربة، نبلبط، ونلعب، ونعوم كلابيًّا، ونُصيِّف، مبتسمين وقانعين، بلحظات قصيرة مسروقة من السعادة، كما يجدر بعائلة حقيقية أن تكون. وقتها فقط، شعرت بالقرب من ماما، وأنا أتذكر ما قالته، عرضيًّا، أمس، في سهراية الليل في الحديقة، أو في شرفة غرفتها، وهي تقاوم النوم لأننا «مش مسافرين عشان ننام»، قالت إنها أخيرًا تشعر بأنها حية؛ أحدهم يطبخ لها، وهي غير مضطرة للتنظيف أو حمل مسؤولية البيت لثلاثة أيام، ولا الاهتمام بثلاثتنا كما الأطفال. شعرَت بالحياة وبالحرية هنا، وبراحة عدم الإحساس بالذنب من الاسترخاء دون تفكير مستمر في الخطوة القادمة وفي حل المشكلة الفلانية أو العلة العلانية.
بلا مسؤوليات، فقط لثلاثة أيام تتصالح فيها مع الخوف عاقدةً معه هدنة، وتترك لروحها الفرصة كي تتنفس الصعداء، وتُكافَأ على معارك سنيّها المديدة ضد العالم. هذه كانت روح ماما الحقيقية: ضعيفة وتعِبة ومُرهَقة وخائفة وحقيقية للغاية، مثلي، أو أنا الذي مثلها؛ فبخلاف شكلينا المتشابهين، في الملامح والشعر والعينين ومحاولة التملق وتقليد لهجة البحريِّين مع سكان العاصمة، والأصابع القصيرة وحساسية الجلد من المعدن، كنا متشابهين في الروح، قلقين وجزعين وصغيرين جدًّا.
وقتها فقط، والبحر ثالثنا، خُلِق خيط رفيع مضفور من طحالب بحرية وأنوار ومخاوف، بين روحي وروحها.
بيد أن جنتنا ليست أزلية.
نخرج أنا وماما مع الغروب مبلولين، تلتصق ملابسنا بجسدينا وتُغوي أرجُلنا المُبلَّلة رمالَ الشاطئ للرقص على قدمينا. نبتعد مُثقَلين لا نريد الرحيل، يأكل الملح جلدينا وقد نسينا الفوطتين في الفندق، نترك الباقيات على الشاطئ ونمشي –أنا وهي وحدنا- الكيلومتر الفاصل حتى الحديقة، يلفحنا الهواء ولا نشعر بالبرد، نتحادث عن البحر وعن الرحلة وعنا. ندخل من باب جانبي للمبنى، وأصعد معها إلى غرفتها حيث تعرض عليَّ التحمُّم هناك، لا في غرفة الرجال، قبل أن تأتي الأخريات. أقبل ونتشارك سرَّنا الصغير التافه هذا، ولا نخبر أحدًا أبدًا.
في اليوم التالي، نغادر بعد الظهر، نُنزِل حقائبنا إلى ردهة الاستقبال ونُسلِّم مفاتيحنا، وقبل أن نُحمِّل الشنط على سطح الحافلة، تتنحَّى تاسوني، أمينة الخدمة، بماما وبالخادمات على جانب، يتهامسن ويقررن سريعًا، ويسألن موظف الاستقبال إن كان بالإمكان الحجز، في هذه اللحظة، للسنة القادمة، في التوقيت نفسه.
إذن، خطَّطن لشراء صكوك حريتهن مستقبلًا، لثلاثة أيام، من الآن.
لابد أني، حتمًا، سأشتري معهن. وكيف لي أن أرفض العودة، وأنا الذي لم تقترب روحي من روح ماما قط، إلا في هذه الأيام الثلاثة؟
مينا مبارك
مينا مبارك، كاتب مصري، مولود عام ١٩٩٩ في قنا البلد ويتنقل بينها وبين مسكنه المؤقت في ميدان الجيزة. يدرس الطب البشري في كلية طب قصر العيني؛ استخسارًا للمجموع، ويكرهه. يتعلم الكتابة الإبداعية واللغة الإسبانية، ويتمنى ألا يفشل فيهما. يمضي لياليه في المذاكرة، وقراءة الأدب الجيد، ومحاولة استكشاف نفسه ومَنْ يحب. لم تُنشر له من قبل أيّة نصوص (بخلاف قصة في كتاب لم يُتح للبيع أبدًا).