Skip to main content

Short Stories | قصص قصيرة

جامع الست لولّا

CONTRIBUTOR
المساهم/ة
هدى عمران

TAGS
الوسوم
web-featured

PDF

SHARE POST
للمشاركة
CONTRIBUTOR المساهم/ة
هدى عمران

No bio available for this author.

WORKS BY THIS CONTRIBUTOR
أعمال للمساهم/ة
هدى عمران
Short Stories | قصص قصيرة

جامع الست لولّا

By هدى عمرانJanuary 8, 2025February 25th, 2025No Comments

كنا في طريقنا إلى الشفاء.

في هذه المرحلة من شَعْرَنَةِ الألم، ودمجه في منظورنا لحب الحياة وتقدير دخولنا في التجربة، الألم فتتّنا بجَّد. عصف بنا لشهور مضت وملأنا باليأس والرغبة في الفناء. صار الآن شعاعا دافئا في ليلنا البارد الطويل، يعطي معنى للوجود الإنساني ويغمرنا في النعمة. لكننا من وقت إلى آخر نصحو مكتئبَين، لا نتحمل الجرح، فنهيم على وجوهنا في الشوارع. يريد الإنسان منا أن يقتل نفسه. في هذه الأوقات البينية تحدث المغامرات ونقابل الأشخاص الغريبين. وهكذا التقينا. 

كانت تمشي في الشارع وفي عينيها دموع، «ومتى يُشفَى منك الفؤاد؟»، وأشياءُ من تلك الأشياء. يجعل الألم الإنسان منا غريزياً، جميلا، بدائياً ومكشوفاً للصيادين. مشت بهذه الرعونة، وبهذا العري في قلب المدينة، في قلب الخطر، وكانت الدنيا تمطر، وتودع الشتاء. مرَّ هو جوارها على الموتوسيكل، نظر إليها، حاد عن طريقه، ووقف ينتظرها عند الإشارة. اقتربت منه. 

بلا كلمة واحدة نظر أحدنا إلى الآخر، ودون معرفة مسبقة، وانطلقنا معاً.

 كما في مرآة، واحدة أنثوية وأخرى ذكورية، تقابلنا، رجلٌ وامرأة غريبان. كنا نحتاج أن يمسك أحدنا يد الآخر. كل منا خارج من حكايته الخاصة، مجروح، ومهشّم مائة قطعة. احتجنا إلى الكثير من التسكع وسماع المزيكا، والاختفاء، ولملمة قطعنا المتناثرة. وبُنيت صداقتنا على رحلات المشي الطويل، بلا وجهات محددة سلفا. وكان هناك اتفاق ضمني على اللا-جنس في هذه العلاقة، حاولتْ كسره بعض لحظات الضعف واختلاط الأُلفة بالاحتياج أحيانا، لكنْ، الحمد لله أننا نجونا من ركوب الزحليقة الكئيبة، وبذلنا كل الجهد أن نحافظ على هذه الصداقة خالية من أجسام عريانة، أو من الدخول في مدارات مهووسة، بغير المشي والمخدرات. 

وكانت رحلتنا الأهم، التي ذهبنا بها إلى بطن القاهرة، من عابدين للسيدة زينب، ومن السيدة للأباجية، فوجدنا نفسيْنا في مدينة لا نعرفها، مجهولة إلا لأصحابها، مبنية على سفح جبل، ورأينا الخرابات والمباني المنيرة، من عليَّة، وكانت المدينة كلها مرصوصة أمامنا كعلب كبريت مشتعلة، ممتلئة بالجمال والغرابة، والتقطنا صورا كثيرة، وأخذنا سيلفيهات لا تحصى، بتقنية أسميناها eyes of distortion، تقوم على اللعب بالنور المنعكس على الأجسام، فنولد صوراً مشوهة مضاءة بألوان مكهربة. واحتفظت النسخة الأنثوية بصورتها التي تبدو فيها مثل جسم أثيري قاتم، يعلو رأسها عصفور مُشعّ أحمر يخرج من منقاره الطويل كلبش كابوريا، وعلى جانب الخصر ارتسمت سلسلة عمود فقري زرقاء تشعّ بضوء وكهارب.

وقالت في ما قالت، في لحظات الهذيان الكبرى، إنّ داخلها عَكَس خارجها وإن عصفورها الأحمر بكلابش كابوريا في منقاره ما هو إلا حزنها، وإن العمود الفقري الأزرق الذي يوازي خصرها هو روحها الكئيب الغريب المغامر. 

ولم يجمعنا في هذا الضمير «نا» إلا رحلتنا لمسجد الست لولَّا، فسمعنا خاطرا ينادينا مثنى: «يا أنتما — اذهبا — تعالا...». وهكذا، وقبل ذلك كنا نتصارع حول هويتنا، وإثبات كل واحد فرديته الطاغية، فكنا نتعارك على طرق المشي، أوقات السهر، سياقة الموتوسيكل، وطبعا على ألعاب ذهنية تسعى لتحريك العلاقة ناحية الجنس، من ناحية الطرف الرجولي، وألعاب أنثوية تحاول تسكين ذلك الجنس، وتمويت طاقة الانجذاب. لكن كل ذلك لم يكن له معنى أمام تجربتنا للذهاب إلى رحلة مسجد الست لولَّا، ومن بعدها رحلتنا لمدينة «اللؤلؤة» في قلب بطن السيدة زينب المبنية فوق سفح الجبل، والمخفية عن العيون. ولولا أن هذا الخاطر جاءنا معا، ولولا أن رأيناها بأم أعيننا، لقال كل واحد منا إن هذا تأثير المخدرات، لكن لدينا من السيلفيهات — أينعم مشوهة ومكهربة ولامعة — ما يكفي، لكنها ملتقطة من فوق الجبل نفسه، وتظهر البيوت خلفنا. 

وفهمنا، منذ ذلك اليوم الذي نادانا فيه ذلك الصوت بـ «يا أنتما»، أن التجربة الإنسانية شيء جماعي، حتى لو أنكرنا، وأنه عارٌ علينا التحدث بفردانية بعد ذلك، وأن مسار التاريخ ليس أفقياً ولا رأسياً ولا لولبياً، بل مخفيٌّ في سراديب وعوالم موازية. 

كيف بدأت تلك الحكاية الجميلة؟ وكيف بدأ ذلك الإدراك؟

*

حينما ذهبنا إلى الشقة، التي تقع في شارع حسين حجازي، دخلنا دخلة جريئة بالموتوسيكل، مبتعدين عن زحام سوق السيدة زينب الذي يبدأ من هناك. من شارع لشارع، ندوس الأحجار الصفراء التي عمرها مئات السنين. تنبهر السِّت اللي فينا، بهذه الأجواء الإيكزوتيكية. نصل إلى حوش البيت، الباب خشبي، مكسور، شاهق، يجلس أمامه بواب. يغطي الرجل اللي فينا رأس الست اللي فينا، ونمشي متجاورين محتميين بالظلام وضعف نظر البواب. نعبر الحوش الترابي الممتد بحذر، حتى لا يرانا الجيران، نلمح ضوءاً أصفر في أول بلكونة، هذه هي. 

نصل، فنجد أشياء غير مستساغة، شقة غريبة، ليست بيتاً بالمعنى المعروف. تسميها السِّت شقتنا «المغارة»، وتقارن بين كلمتي المغارة والمغامرة، وتقول إن هذه الشقة «مغارة للمغامرة الغامرة». ثم بعد ذلك ستطلق عليها اسم «كبسولة التكثيف الزمني». فنحن حين ندخل هذه الشقة، لا نكون في هذا الكون العادي السارح في الخارج، لكننا نصبح — كما تقول — في الزمكان الأبدي، حيث لا حاضرَ ولا ماضي ولا مستقبلَ، لكن أبعاد الزمان تتجمّع بين هذه الجدران، وكل شيء يمكن حدوثه. وتأكّدت فكرة السِّت حين عرفت أن هذه الشقة كانت ملكاً لسمير الإسكندراني، وأنه هنا لعب مزيكته وأحب عشيقته الوحيدة الحقيقية. وقالت السِّت إنها تستشعر روح الإسكندراني وحبيبته، وإنها تشعر بالحزن كلما دخلت غرفة النوم، لأن طاقتيهما ما زالتا محبوستين بين تلك الجدران، وتريدان أن تتجسدا في جسمين حقيقيين. وكانت كلما نجح الرجل في إدخالها إلى غرفة النوم ممنّيا نفسه بليلة حمراء، جاءها وجع بطن لا يحتمل، فتخرج سريعا. وقالت لاحقا في تجلياتها، إنها لن تسمح لداليا «عشيقة الإسكندراني» أن تتكثّف في جسمها، ومش عشان سِّت تسكن سِّت. وقالت بانحراف غريب، إنها قد تقبل بتجسّد الإسكندراني نفسه في جسمها لكن ليوم واحد فقط، كنوع من الفضول لا أكثر. ومع الوقت آمنا بطاقة تلك الشقة، وبهذه الحكاية، لا شيءَ مستبعدٌ بعد حكاية اللؤلؤة، وأمنَّا عليها في حواراتنا، وكان كلما حدث ما يفزعنا في الخارج، وشعرنا بالكِبَر يعترينا، نعود إلى الشقة لتثبيت الزمن وتسكينه. 

تمتدّ صالة الشقة، مربعة الشكل، مرفوعة كسماء فارعة على أربعة أعمدة حمراء، نُقشت عليها نقوش بلغة لا نفهمها، قد تكون لاتينية، قد تكون سِحرا وتعاويذ. تكرّرت تلك التعاويذ وبعض الرسومات التي تبدو طلاسمَ ومعمولة لغرض سحري، في غرفة النوم وفي المطبخ. عندما نترك الصالة ونمشي عشرين خطوة بالتمام إلى الأمام ندخل غرفتين متداخلتين، صنع منهما الرجل ستوديو لشغله، يسجّل فيه تسجيلات وأغاني، وريميكسات يصنعها لمغنّي راب صاعدين ومغنّي مهرجانات كئيبين. هناك يُشغّل جهاز ستيريو ضخم مصمم على شكل تسجيل خارج من التسعينيات، يصدح صوت سمير الإسكندراني باعتداد أكثر من اللازم، يغني: «مين اللي قال إن الزمان مالهش أمان يا عيني....»، للمؤلف حسين السيد، بتوزيعات لحنية غربية

 يسرع الرجل التيمبو، يضيف ساكس، ويدخل في خلفية الأغنية قصيدة لشاعر اشتهر وقت الثورة باسم «عبد الله الأخطل»، عن قهر الحُكام والواقع البلا معنى، واللف في دوائر العدم والوجود:

«مشى في شوارع كلها دم

وتاريخ متجذر بالألم واليأس

ونسخة أرَّق مني سِبتها هناك

ومشيت

كأني كنت ملاك،

ومش مفهوم

كأني بقيت ديب

بيحب غزال

كأني سكين في قلب الديب

كأني جَرح نابض في جِسم سُخن

كأني نور فجّ

كأني هُدى لقلب ضال وأعمى

كأني ضِّل لكل شيء هنا

كأني مفيش

كأني أنا».

يشغل الرجل الإضاءة التي صنعها في قلب الغرفة المظلمة، تتحرك أشعة النور الزرقاء والحمراء، فوقنا، تقوم الست لترقص مع تلك المزيكا الهجينة، تنادي بعلو صوتها «آه يا إسكندراني... رمشك ناداني....». يضحك الرجل ويشعر بالإثارة، يلف جوب حشيش، ينفث منه ويشعر أنه يسبح فوق بحيرة ساجية ناعمة، يعطيها الجوب لتأخذ نفسا، تسعل بقوة، وتقهقه. كنا نرقص بالبطن، وحين يعلو صوت الأخطل عن اللا-معنى، تلوي بوزها وتمثل أنها ستبكي، فنقع من الضحك. يغطي الدخان جو الغرفة، يغشى أعيننا، ويعلو صوت المزيكا في نافوخنا أكثر من اللازم. يغلّف الدخان أجسامنا التي بدأت تطفو قليلاً على أشعة أثيرية امتدت من صوت المزيكا المتداخلة مع بهجة الحشيش. نطفو. وحين نترك جسمينا بلا رهبة، يلفّ جسم الواحد فينا في دوائر، حول نفسه، نرتفع لسقف الغرفة، نرى الصندرة ونسبح عائمَين فيها. نصول ونجول لنتفرج على العالم من الأسفل. ينتابنا الخوف حين ندرك أننا نطفو فعلاً، وأن الجسم يلفّ بنعومة حول نفسه، ينادي صوت أجش «أَلّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا»، فنرى أمامنا الدخان يتكثّف، يلف ويدور مع الضوء الأزرق والأحمر. يظهر أمامنا سمير الإسكندراني، ببذلة زرقاء وكرافات حمراء، وشاربه المفتول وأناقته المفحفحة. 

*

كانت تلك هي الإشارة الأولى لتلك المغامرة. تجّسد لنا الأستاذ سمير الإسكندراني كشبح سرعان ما تهاوى مع الخوف. انحلّ الشبح لدخان، وسقطنا معاً على الأرض. واستيقظنا صباحا، على صوت بائع الروبابيكيا ينادي ويطرق. كانت الدنيا نهاراً أكثر من اللازم، وكنا نريد قهوة وفطارا متيناً، وتولى الرجل تلك المهمة. حاولنا إنكار ما رأيناه، ودارى كل منا عن الآخر ما رآه، خوفا من اتهام بالجنون والهلوسة. لكن حين دخل الرجل المطبخ، وفي أثناء عبوره الصالة الحمراء، وجد رسماً على الحائط لم يكن موجودا. اندهش، وتصور أنّها هي من رسمته. نادى عليها لتقف معه في المطبخ، وأشار بطريقة حاول أن يظهرها عفوية على الرسم، قال: «جميل والله»، فردت أنْ والله فعلاً جميل. فتجرأ وهو يولي ظهره ويقمَّر العيش على النار وسأل: «رسمتيه إزاي بقى؟» فضحكت ها ها ها، ليس هههههه، لكن هكذا، ها ها ها، متقطعة ساخرة، وطلبت منه ألا يزاولها، فنظر مستفهما. حينها نظرنا أحدنا إلى الآخر مدركَين أن الأستاذ سمير الإسكندراني كان فعلاً هنا، وتجسّد للحظات واهنة لا في جسد بيولوجي، بل في جسد أثيري صنعناه من اتحاد طاقتينا معاً بالاندماج مع خيوط المزيكا وطاقة الأخطل التي يبدو أنها كانت صادقة. 

لو نظرت إلى الرسمة على الحائط، فلن تشكّ للحظة أنها رمز لحوتٍ كبير. ما الذي يريد قوله السيد الإسكندراني بموضوع الحوت؟ دخلنا جوجل وسألناه: «إلى ماذا يرمز الحوت يا عمنا؟». 

الحوت يا حبايبي هو ما يلي: 

الأحلام والتأملات التي تظهر فيها الحيتان يمكن أن يكون لها معنى رمزي خاص وتؤثر على الحالة الداخلية للشخص.

- الحدس والفهم الداخلي: غالباً ما ترتبط الحيتان بالحدس والفهم الداخلي. يمكن أن يكون ظهور الحوت في الأحلام أو التأمل بمثابة دعوة لمعرفة الذات الداخلية العميقة واتخاذ قرارات مهمة بناءً على الحدس.
- الدليل والحامي: في بعض الثقافات، تعدّ الحيتان بمنزلة المرشدين والحماة الروحيين. قد تشير الأحلام المتعلقة بالحيتان إلى الحاجة إلى الحماية والتوجيه خلال الأوقات الصعبة.
- التطور الروحي: يمكن أن يكون ظهور الحوت في الأحلام أو التأمل رمزا للتطور الروحي والرغبة في فهم أعمق للذات والعالم من حولها.
- مناشدة الطبيعة: يمكن للحيتان، بوصفها رموزاً للبحر والطبيعة، أن تذكرنا بأهمية الارتباط بالطبيعة وضرورة احترام البيئة.
- نذير التغيير: في بعض الحالات، يمكن أن تكون أحلام الحيتان نذير تغيّرات في حياة الشخص. يشير ذلك إلى ضرورة الاستعداد للتغيير والتكيف مع الظروف الجديدة.

اختتام: الحوت ليس مجرد مخلوق بحري عظيم، ولكنه أيضاً رمز للقوة والحكمة والجمال، وهو متجذر في أساطير الشعوب المختلفة وثقافاتها. رمزيتها عميقة ومتعددة الأوجه، وتعكس جوانب مختلفة من التجربة الإنسانية والتفاعل مع الطبيعة. ( حقوق الطبع والنشر © 2024»)

هل ينبهنا الإسكندراني إلى ضرورة التحلي بالحكمة، أم إلى التغيير الذي سيقلب حياتنا رأسا على عقب، أم يدعونا إلى رسم تاتو حوت على جسمنا؟ قال الرجل إنه لا يمانع رسم وشم الحوت على ذراعه. لكن الست تذمرت وقالت إنها كانت تحلم دائما برسم وشم على شكل غزالة، خاصة بعدما سمعت صوتا إلهياً يناديها في الحلم: «يا غزالة الشِّعر...»، واقترح الرجل عليها أن ترسم الوشمين معاً. 

*

رغم وجودنا معا، وتحركنا في التجربة ككتلة واحدة، ما زلنا اثنين، رجلا وامرأةً. السِّت عاطفية وتحب الشعر وتتكلم عن أمور خارقة للطبيعة، لذلك تعطي تفسيرات لا منطقية لما يحدث بإيمان مطلق. والرجل عملي وحيد يريد مَنطَقَة الأمور، ويفسر ما يحدث بأنه هلوسة، ويشك أحيانا في وجود الست من أساسه، ويتخيل أن مخه ضرب من كثرة المخدرات. يراها في الصور، ألوانا وانعكاسات صحيحة، لكنه هو نفسه ألوان وانعكاسات. يسجل مرة جلستهما وهما يغنيان مع شفيقة: «جربت الحب مرة...كان مرة وهي مرة... أنا عشت فيه ليالي كانت ليالي مُرَّة...»، ذلك اليوم وقفت الست ترقص وتتمايل بكل غواية، دون مراعاة شعور الرجل.

أحيانا أخرى يسير معها في أفكارها ويحاول تصديقها إذ ليس له حل آخر. وأحيانا كان يشعر بالغرام، ويقول في نفسه إنه لو أخذ مسافته وابتعد عنها لاستطاع «هندلة» تلك المشاعر. لكن المشكلة أنه لا يعرف لماذا لا يبتعد أحدهما عن الآخر، ولماذا هما معا الآن. فهي لا تمتلك حتّى أيا من الصفات الجسدية التي يحبّها في النساء. ليست نحيفة وليست شقراء وليست قصيرة وليست أي شيء، سوى أنها أغرب ست رآها في الحياة حتى الآن. تتكلّم عن الشقة بوصفها «تكثيفا للزمن»، يقول الرجل: «هذا هو فيزياء الكمّ»، فتتأفّف وتقول: «هذا هو الشِّعر». تحكي عن الصوت الذي ناداها في الحلم، وتقول هازئة إنها ليست غزالة واحدة، بل قطيع غير محتمل من الغزلان. تدلّ على فكرة الشِّعر بأي طريقة ممكنة، بينما يحاول هو تفسير الوجود والشقة، وتفسيرها هي نفسها بطريقة علمية وبقوانين الفيزياء والكيمياء والحسابات، تقول: «طريقة ذكورية لتفسير العالم». يصمت خائفا من إغضابها، يحاول مجاراتها، خاصة بعد رسم الحوت على الحائط وتجّسُد الإسكندراني، وصحوها مفزوعة وهما ينامان متجاورين. تقول له إنها حلمت به في مسجد اسمه لولة، وإنه يتركها لأشخاص لابسين أخضر في أخضر، ويجري من الخوف. يضحك أولا إذ من المستحيل أن يكون هناك مسجد اسمه لولة، لأن هذا اسم رقاصة مش جامع، ثانيا لأنه نائم جوارها أهو، كيف سيجري، وكل ما كان يفزعها ليس تركها لأناس لابسين أخضر في أخضر لا تعرفهم، لكن ما أفزعها جُبنه والخذلان الذي شعرت به حين تفككت من كتلتهما لتصير فردا متوحدا. ضحك وقهقه، فاستاءت، وشغّلت الست شفيقة وهي تغني: «غابوا الأحبة… سهران وصاحي من نار جراحي...». كانت حزينة بكل جدية، تسمع الأغنية وتبكي. ضحك أكثر على طريقتها الطفولية والخَبَل. حوَّل على أغنية «جربت الحب مرة...»، فتبدلت من البكاء للضحك، وقامت لترقص. نظر إليها هائجاً، يائساً. تفرّج عليها وهي تثني جسمها غير المتمرس ببهجة. شغّل المسجل، وغنى معها ومع شفيقة بصوت عال، وانسابت البهجة مرة أخرى في المكان. وراح يكتب على جوجل: «مسجد لولة»، فظهر له المسجد الأبيض الشاهق الكبير مطلا من تخوم المقطم. فاندهش، وخاف منها ومما قالته، وقال لنفسه: يمكن أوهام، يمكن أحلام.

 

*

كان هذا اليوم فارقاً في وجودنا. حلمت الست بجامع لولَا. قررنا نضرب أول قرص «مولي» مع بعض. صنعت لنا الست أكلة سمك عجيبة، احتفالا بالمعرفة بوجود الجامع، شغّل الرجل مزيكا هادئة، أخرج الحباية الزرقاء، قسمها لأربع حِتت، أعطى الست حتَّة، وبلع هو حتة، وبعدها بقليل، بدأت هرمونات السعادة تغزو المخ. دخلت الست لتطبخ السمكتين، أخرجتهما من الثلاجة، كانت قد وضعتهما سابقا في التوابل، وحين رأتهما أمامها، كانت واحدة تنهش بأسنانها رأس الأخرى. حدّقت فيهما، وتخيلت أنهما حيَّتَان، بمعنى أنهما ثعبانان وأيضا حيتان بمعنى أن فيهما الحياة. ضحكت، ونادت الرجل، ليشاركها الفرجة على خناقة بين سمكتين، وجاء يجري راقصا نحيفا سعيدا، وقف جوارها ليسمع كلامها عن سمكتين تشبهان لوحة لجويا، لإنسان يقضم رأس إنسان، قال لها: «يا حرااااام....»، وبدأ بهز ذراعيه الطويلتين الرفيعتين، فرفرف قليلا وطفا عن الأرض حتى صار جسمه عند موضع رأسها، فشدته وقالت له ألّا يسخر من مشاعرها وألّا يهزر وقت الجد وألّا يطير الآن، وطبعا لا يعرف أيّ وقت من أوقاتها جدّ وأي هزار. فطبطب عليها وطمأنها أن العالم في سلام، وأن جويا هذا ما هو إلا فنان مذعور يحاكي مأساة الوجود، وأن الفن روعة، آه والله روعة. وقالت له إنها كانت حزينة عندما قابلته، لكنها الآن تُشَعرِن الألم، وتضعه في موقع اللغة، وأنها تريد كتابة قصيدة. وبدأت فك السمكتين عن بعضهما استعدادا لتقطيعهما، وقليهما في الزيت المولع، وطلبت منه تشغيل مزيكا كابوسية تليق بما هما فيه، وطلبت منه توصيل صوتها بتلك المزيكا، لأنها سترتجل الآن وهي تطبخ وتطبخ.

فعل ما طلبته. وضع الكاميرا أيضا ليصورها ويلتقط اللحظة. تقلب الأرز في الحلة، تسخن الزيت وتروح وتجيء كاللبوة في العرين. 

تحرك ذراعها مثله، ترفرف، وتطفو فوق البوتاجاز، تسقط السمك من أعلى في الطاسة، يلهمها المشهد والمزيكا، يرفرف معها، والمخدر يملأ الدماغ إلى آخره، فلا يعطي أية مساحة ليأسٍ ولا حزن. تمسك وجهه بيدها، وتنظر لعينيه بحنان، تمسك يده ويلفَّان سابحين في الشقة، طافيَين فوق الأرض، تنادي: «يا إسكندراني... رمشك ناداني، اخرج من وقت للتاني....»، لكن لا أحد يخرج. يرجعان إلى المطبخ، تسقط لأن أفكارها أثقلتها فوقعت، تتهته، تطفئ البوتاجاز وتخرج السمك على الأطباق، تترك كل شيء وتجلس على الأرض، تحدق في الكاميرا وتنطلق: 

(أنا جائعة\ والجوع سمكتان مرعوبتان\ واحدة تنبش أسنانها في عنق الأخرى\ لوحة من لوحات جويا خرجت لي من الثلاجة\ أكلتهما.

الوجود كله مرآة لحزني هذا اليوم\ الحزن مشيمتي\ ميراث وجودي\ أغلقت عليه مهدي\ أرضعته حتى صار طفلا\ لا يُفطَم\ الآن كبر. أنا أمه وهو أمي. أيها الحزن، يا أُماً غير رؤوفة\ يا راهبة متشحة بالسواد\ يا زاهدة في الرغبات الدنيوية\ لا تخافي من ضياع زمني.

هذه صورتك الوديعة لحظة توحشها\ احتفظت بها كالختم في بطني

كنسيجٍ في لحمي\ حتى لا أغفر\ هذا الحب ضيعني، وبكيت من رأسي، حتى غرقت\ حتى جاء الليل يحمل الآلام

أنتَ يا ألمي بهيمة مسكينة لا تشبهني\ تدخل غشيماً\ في ذكريات موغلة\ تعيدني رضيعة في مَهدي\ تلقمني ثدياً حنوناً

تصر على جعلي أسبح حرة، عمياء عن نفسي\ لأنني لو فتحت عينيّ المغلقتين في المجهول، سأرى

 الرعب كان عظامي

 عاطفتي ثقيلة وطاعنة

 حبي كان خالدا

وأنا صنعتُ أقداري).

ثم وجدنا الإسكندراني يقف أمامنا يذرف الدموع، يصفق ويقول «برافو برافو برافو، تلاتة برافو يا هانم». 

*

جاء إلينا الإسكندراني. بطريقته المتعالية وهو يصفق ويقول تلاتة برافو يا هانم، ونظن أنه لولا المخدر لكنا فزعنا، وكان قد اختفى مثل المرة السابقة. لكن هذه المرة كنا نطير في تخوم السعادة وتَقبُّل حقيقة الوجود بأبعادها المختلفة، لذلك تقبلنا وجود رجل ميت أمامنا، رحبنا به وقلنا له: «أهلا يا شبح»، وأخبرنا أنْ ليس عنده ما يكفي من الوقت للترحيب والسلامات، إذ بمجرد أن يزول قليلا تأثير المخدر ونرجع لمشاعرنا الإنسانية الأحادية، سنخاف ونرتعب، وسيُضطر إلى الذهاب. 

وقال إنه جاءنا هنا، ومقدّر لنا أن نقابله، وكما قالت الست: «وأنا صنعت أقداري»، وهذا يعني في ما يعنيه أننا أتينا هنا لندخل هذه التجربة، ولأن روحينا تاقتا للارتقاء، لإدراك الوجود أكثر، ولأننا شخصين استثنائيين. سمعناه في البداية مذهولَين. لكن لما احلوِّت القعدة، طلبنا منه أن يغني لنا شيئا، وطاوعنا، ووقف يسلك حنجرته، ثم أتحفنا بأغنية للمغنية شفيقة، وقد كان غريبا ما يفعله، أن يغني لشفيقة، أينعم اختار أكثر أغنية تناسبه «زعلانة منك» ببداية لحنية كالمارش العسكري الراسي العارف، لكنها في النهاية محسوبة كونها أغنية شعبية. قاطعته الست وهو يجلجل «من يوم ما غابوا عني الأحبة سهرت عيوني ولا ناموا حبة...»، وسألته: «مين داليا؟» فسألها: «مين داليا؟!» فردت عليه: «مش حبيبتك اسمها داليا...». رفع حاجبه البُني الأشعث الكثيف وحرك شاربه كعلامة على عدم الفهم. حل الصمت دقيقة كاملة، نحرك فيها الحقائق والأفكار المغلوطة في دماغنا، نحاول الفهم. ثم قلنا له معا: «هي شفيقة هي حبيبتك.... أحا». وجلجلنا وضحكنا، لكننا تراجعنا وسكتنا لما بدأنا نرى شبح الإسكندراني يذوب من الخجل. اقتربنا منه وطبطبنا عليه، وقلنا الحب لا يعرف الفروقات الدنيوية، والأرواح جنود مجندة، ووالله فيكم حاجة من بعض. تراجع الإسكندراني عن ذوبانه، وكنا قد فهمنا أن حبنا لشفيقة الذي اندلع من ساعة جئنا إلى الشقة، بسبب الإسكندراني الذي يحاول استحضارها من خلالنا، يعني هذا الشبح يستخدمنا، لكن لا مشكلة، يا بخت من وفق راسين في الحلال. وما المطلوب منَّا الآن؟!

قال الإسكندراني إنه يريد أن يحكي الحكاية كلها من أولها، لأنه تعب من المعاناة، وكل ما يريده أن يراها وجها لوجه ويطلب منها المغفرة. قال أعرف أن الحب دون معاناة لا يساوي شيئا، وأن المعاناة ليست شرا في حد ذاتها، بل دافعٌلتقدير نعمة الوجود، لكن حين تزيد عن حدها تشعرنا باليأس والقنوط والكُفر. لذلك أنا تائه الآن ومحبوس بين تلك الجدران، وكل ما أريده أن تأتيا لي بروح شفيقة من مكانها، وأين مكانها يا فنان؟ قال لا أعرف، لكن يدلكم عليها روح واحد اسمه الحسن يسكن جدران جامع اللؤلؤة. نظرنا لبعضنا البعض، وقلنا له: «تقصد جامع لولة؟» وجاء صوته بعيدا مموها، ثم ذاب في الأثير. واختفى الفنان لأيام طويلة، لم نعرف ما الذي سنفعله، ولم نستطع حتى أن نسأله عن حكاية الحوت. وأرقنا الذنب، والأمانة التي حملها لنا عاشق مسكين، وروح تائه يريد التحرر، فقررنا أن ننطلق وأمرِنا لله، ونذهب للجامع إن شاء الله. 

*

كنا نتخيل أن الموضوع بسيط، سنركب ميكروباصا من السيدة عائشة، ونذهب للأباجية، هناك نجد الجامع، ندخل، ننادي يا الحسن، يا سيدنا، فيخرج علينا الشبح الحارس للجامع، ونسأله أن يدلنا على الست شفيقة، فيدلنا، ونقنعها أن تأتي وتسمع الإسكندراني، فتطاوعنا بعد تَمنّع، وتسامح المحبوبة العاشق الولهان، وتنتهي الحكاية في سلام. 

لكن للأسف خاب ظننا، وكل ما عرفنا أننا سنفعله، أننا أخذنا الميكروباص للأباجية، وتفرجنا على المنطقة العامرة بالمساجد الطاهرة، جامع سيدي عمر بن الفارض و«قلبي يحدثني أنك متلفي» أه والله، وقبة جميلة بنت الخديوي إسماعيل، التي دفنت ابنها بيديها جوار جامع سيدي عمر، وجامع شاهين الخلوتي، ومشهد إخوة يوسف، وجامع محمد علي، وكل تلك الأماكن المقدسة المباركة تحيط بمسجد اللؤلؤة، أو مسجد لولّا، غريب المنظر، الذي يشبه قلعة بيضاء، لم نستطع الدخول إليه لأنه ممنوع دخول الجامع لغير طائفة البهرة الإسماعيلية. ورحنا نتجول في المنطقة، محاولين جس النبض، لأجل أن يدلنا شخص ما على طريقة للدخول، لكنّ الجميع اعتبرونا اتنين سياح، لا نفهم جرم ما نطلبه، وقيل لنا بالطريقة أن ننسى ما نحن آتيان من أجله. 

ولا ننكر أن شيئا ما داخلنا ارتاح من عدم دخولنا للجامع، وتصورنا أننا عملنا اللي علينا خلاص. ورحنا نأخذ صورا لكل الأماكن الجميلة في ضوء النهار المتلألئ. ورجعنا لشقتنا، نشعر بالارتياح، وقررنا أن ننسى الحكاية كلها، والإسكندراني له الله، ينجيه من ذنبه، أما نحن فما بيدنا حيلة. 

طبعا حاولنا أن ننسى الحكاية، وكلما أكلتنا الرغبة لنسمع الست شفيقة، كبحنا نفسيْنا، وسمعنا صوت بكاء يأتينا في الليل، وعرفنا أنه بكاء الفنان، لكن العذاب والألم قدر الفنانين، وماذا نحن بفاعلين في شيء أكبر منَا! ورأينا بأم أعيننا، كيف اكتمل رسم الحوت على الحائط، فإذا به كالمركب الذي يبلع في بطنه امرأة تحمل على رأسها ثعبانا. وناديناه «يا إسكندراني...» لكنه لم يأتِ. وبعدها بأيام لجأنا مرة أخرى لمخدر «المولي»، وشعرنا بالسعادة وطرنا حتى خاطرنا وصعدنا فوق البيت كله، ورأينا القاهرة من فوق السماء، وكان المنظر مبهرا مجنونا ويفجّر القلب من السعادة. وانتظرنا أن يتجسّد لنا الإسكندراني ليدلنا على الطريقة التي نساعده بها، لكنه لم يأتِ. ونمنا أحدنا يحضن الآخر. واستيقظت الست ذلك اليوم وهي تهتف: «الحياة بهية الحياة بهية». ثم سردت الحلم الذي لأجله أصرت على أن نجد طريقة ندخل بها مسجد لولَّا، وبدأت تلوك الكلمة في فمها «لولّا- لولّا لولَّا...» كأنها تتذكر شيئا ما، وقالت إنها افتكرت الآن، لقد كانت حزينة لأنها كانت تحب شخصا اسمه عليّ وكانت تدلعه وتناديه لولَّا، وقالت إنها ليست صدفة، وإن حكمة ما من وراء كل ما يحدث، وقد رأت نفسها في مركب على صورة حوت يخبّ الماء، وهي على صورة كائن فوق إنساني يتخفف من لحمه، واحدة واحدة، حتى إذا ما رَسَا المركب على الشاطئ تحوَّل هذا الكائن الأنثوي السماوي إلى هيكل عظمي، غير مرئي، يدخل البيوت، يجلس على الموائد، يحكم بين الناس، وينام مرتاحا في الأسرّة الدافئة. 

كثرت الإشارات، وتكثف بكاء الإسكندراني ليوقظنا في عز الليل، وكان لا بد من طريقة تخلصنا مما نحن فيه.

Nader Tabri and Eleonora Gatto, “Yom el Zift — Fish Rain” (Issue#9/Health and Illness, 2021)

*

عصف الحزن بنا، كنا عاجزين ومهزومين. وقررنا أن نخوض أي شيء للنهاية. قلنا نأخذ الموتوسيكل، نجري به على الطريق الدائري، بأقصى سرعة، وحين يمتلئ صدرنا بالنشوة والأدرينالين، ندخل في مقطورة، وهكذا نموت. فعلا، جهزنا بعضنا، وتعاركنا أيّنا سيتولى هذه المهمة، فساقت السِّت. شغلنا التراك الذي ولّفه الرجل، من قصيدة الأخطل ومزيكا الإسكندراني، وانطلقنا بسرعة البرق، رأينا ظُلمة الكباري الشاهقة، تطل على البيوت الصغيرة في عشوائيات القاهرة والجيزة، وسمعنا أصواتا لاعنة، تسب العابرين المجانين والعيال المش متربية، وجاءتنا حروف متقطعة لخطبة الريِّس من أحد المقاهي، فاندمج صوته بصوت الأخطل، فأصبحا يردان على بعضهما، يقول الأخطل: «بمشي في شوارع كلها دم…»، فيأتينا صوت الريَّس يجلجل: «متمشيش يا حبيبي..». يقول التراك: «كأني مفيش…» فيرد الريس: «أنا عاوز أديك بس مش قادر…». وهكذا ضحكنا ضحك طفلين معاً وعدونا فسبقنا ظلنا. وقهقهنا ورأيناها فكرة تجنن لمزج التراك بخطبة الريِّس، بدلا من صوت الإسكندراني وحكايته بنت الوسخة. لكننا حاليا ذاهبان للموت، وقلنا أن نعمل ذلك التراك في النيكست لايف إن شاء الله. شدت الست السرعة على الآخر، وبدأت تتطوَّح في عرض الطريق، في انتظار أي مقطورة آتية إلينا، وحين وجدناها، بدأت تجري أمامها، وتدوس الفرامل فجأة، لكننا بدلا من الاصطدام، وجدنا الموتوسيكل يطير فوق الكوبري، ويأخذنا للشقة.

مرة وقفنا فوق البيت، يمسك أحدنا بيد الآخر، وقفزنا بلا تردد، لكننا أيضا طرنا. وهكذا كلما حاولنا الانتحار، فشلنا.

قلنا نجرب طريقة أخرى، قالت السِّت، نحفر ذلك الحوت على بطنينا، ووقتها قد يحدث أي شيء. وبسكينٍ لامع، نحتنا بدمائنا وَشمين على البطن حول السُرّة . غمسنا أيادينا في بحيرة الدم التي صنعناها منَّا، وعملنا قرنين للحوت على الحائط بكفيِّنا الداميتين. مشينا ننزف، بلا قطع ملابس تستر جزءنا العلوي، نهز بطنينا ببهجة ودلع، حتى تظل حِيتانُنا مِتشَافَة، تبكي بدل الدموع دما، تتفاعل مع أمها على الحائط. 

وضعنا مخداتنا وفَرشتنا أمام الحوت، وتحمَّلنا ضيق المكان، والعرق والحر، والهذيان الذي تبع سخونة سبّبها الجُرح. وبلبعنا بقية المولي اللي معانا، حتى كادت دماغنا أن تضرب. وتعبنا، وكدنا نتصفى، قال الرجل هازئاً: «تخيلي نتصفى فنصبح مجرد جِلد معلق على عضم مجفف، ههههه»، قالت السِّت: «أو نكون راية مهفهفة، ياخدها واحد يسكن الشقة دي يكون بيشتغل بحَّار، ويعملنا شراع بعد ما يخيطنا في بعضنا، ويحسبنا مجرد قماشة غريبة بتتهز كتير، وميعرفش إننا أصلا اتنين عايشين، ونقعد نعيط نعيط بالليل، لحد ما نخليه يدور علينا زي الإسكندراني ما عمل فينا….». كله كلام يضحك لكننا خلاص بدأنا نتعب، وكدنا ننفصل عن بعضنا، إذ لا نهاية لذلك. وجاءنا خاطر يحمل أملاً أخيراً، وفي لحظة، أتينا بشاكوش ومفك، ورحنا نخلع الحوت من مكانه بحرص، وحين نجحنا في تفكيك الحائط برسمه وتعاويذه، نظرنا للتجويف الذي صنعناه، فلم نجد مذكرات ولا يحزنون، ووضعنا رأسينا على رأس الحوت وبكينا، واستسلمنا خلاص للذوبان. أخذنا سيلفي أخيراً يظهرنا مثل خطين من الدم على وجه البسيطة. ودخلنا غرفة النوم لنموت، وقاومنا الرغبة الحارقة التي تأتينا هنا ووجع البطن، ونمنا يحضن أحدنا الآخر ونحن نرتعش. 

لكننا صحونا في عز الفجر، عادي، مبللين من العرق والدماء، نشعر بصفاء النَفس، كأننا شِلنا حمول من على جسمينا. سأل الرجل: «تشربي شاي؟» ودخل المطبخ يصفِّر بنعومة، وضع البراد على النار، ونظر أمامه، فوجد الحائط المخلوع يلمع. تفاجأنا أن الحوت الذي خلعناه أصبح مرآةً تلمع. صببنا الشاي، وخبطنا الكوبين في بعضهما: «في صحتنا». ورحنا للمرآة ننظر إليها، فكانت أشكالنا داخلها واضحة غير مموهة، على عكس وجودنا هنا، رأينا نفسيْنا أشخاصاً يشبهوننا لكنهم ليسوا نحن، كنا نتبدل كل مرة ننظر فيها في المرآة، كبني آدميين سَليمين بلا ندوب وآلام. قلنا نجرب ونضع شيئا آخر أمامها، فوضعنا الفوتييه الأحمر، رأينا انعكاسه جديدا نظيفا، بلا تراب ولا ثقوب سجائر. ثم بدأ يظهر لنا الإسكندراني جالسا على الفوتييه، منفصلا عنا في عالمه القديم، يرفع سماعة التليفون ويتحدث بصوته الأجش. وضعنا أيدينا على المرآة، لكن الإسكندراني استمر في ما هو فيه، دون أن يلتفت إلينا. هززنا رأسينا ونحن فاهمان واعيان. لقد ظهرت الحقيقة، وهذه المرآة كانت تريد تضحيتنا الكبيرة، لتمنحنا البصيرة، وها نحن لسنا إلا انعكاساً لزمن شفيقة والإسكندراني. إحنا هناك، حتى لو كنا مجرد نُطَف في بطون أمهاتنا. 

*

في منتصف الثمانينيات، لمع نجم مغنية دلتاوية قادمة من مدينة طنطا، لها صوت فيه بحَّة ذكورية، قصة شعرها قصَّة الأسد، ولونه أصفر فاقع. حين كان يركب النجم أي تاكسي للضرورة، كان يسمع هذا الصوت الراقص والحزين في الوقت نفسه، خارجا من كاسيت السواق، مندمجا بحرارة الصيف وضجيج الشوارع. تكررت تلك الصُدَف ثلاث مرات أو خمساً خلال سنة 1988، ما جعله يفكر في معرفة ماهية ذلك الصوت. وفكَّر، أنه قد ينتشل هذا المغني المجهول من كاسيتات السواقين، ويحوّله من صوت شعبي، إلى صوت فنيّ مُعتَبَر. فهو الذي أخذ الأغاني الشعبية الكلاسيكية وأعاد توزيع ألحانها بطريقة غربية، فمنحها حياة جديدة. 

يدخن الفنان السيجار الكوبي الفاخر، يجلس على الفوتييه الأحمر في شقته الواقعة في شارع محمود حجازي بوسط البلد، يلف قرص التليفون، ويكلم محمد زكريا، مساعده في الأمور المستعصية. يشرح له طبيعة الصوت الذي سمعه في التاكسي، يقول: «صوت ذكوري، لكن التسجيل رديء»، يتنحنح ليسلك حنجرته، يتذكر كلمات الأغنية: «جابلي العنب ياما» يغنيها بإيقاعه هو، هادئ ورزين، حين يندمج يحول الأغنية لرتم مختلف يجعلها غربية. لا يتعرف زكريا على الأغنية من الأستاذ، إلا حين يتنازل فيغنيها بطريقة الصوت الذي سمعه سابقا في التاكسي. يهتف زكريا كالذي اكتشف الجاذبية الأرضية «وجدتها وجدتها، شفيقة شفيقة». يستفهم الأستاذ سمير الإسكندراني عن ماهية شفيقة، ويخامره إعجاب بطبقة الصوت الذكورية الصادرة عن أنثى. صوت نادر يا بيه. الفنان الذي يحمل في صوته الذكر والأنثى، هو فنان فريد. لا يصرح بتلك الحقيقة لزكريا أو يقولها لنفسه بصوت عال. فهو المتعالي عن هذا اللون من الموسيقى. وهو الفاهم العارف، والحمد لله أنها أنثى، يستطيع أن ينقلها إلى منطقة جديدة في الغناء، ويكون راعياً لهذه الموهبة الجديدة. يتفق مع زكريا، أن يأخذه متخفيا، لفرح تحييه شفيقة ليلة الجمعة القادمة بإذن الله. 

يسافر الفنان مع مساعده إلى طنطا. يأخذان القطار ويتحملان سخافة الطريق، وبعض الفلاحين الذين ينظرون للأستاذ نظرة انبهار، فيأتون ليتكلموا معه دون انقطاع. يضحك الفنان بصوته العميق الرخيم، ويحاول أن يبدو متواضعا وابن بلد. يهش زكريا الفلاحين من حوالي الأستاذ، ثم يأتي بالكمسري ويطلب منه أن يخلي نصف العربة من البشر، خاصة أن الغالبية العظمى يركبون القطار «سفلقة». يزجر الكمسري الواقفين حول الفنان، ويأمرهم بالرجوع للوقوف بين العربتين، ويهددهم بإلقائهم من القطار أو بتغريمهم التذكرة وفوقها ثمن الغرامة إن لم يبتعدوا. 

في الفرح يضع الفنان نظارته الشمسية محاولا التخفي. لكن يبدو أن الجميع مشغولون بالست شفيقة، التي تقف أمامهم على المسرح وجوارها ثلاث راقصات، جميعهن صبغن شعورهن بالأصفر الفاقع. تذوب فيهن شفيقة ولا تبدو مختلفة، مجرد عالمة، هكذا يراها الفنان، حتى تأتي اللحظة التي تبدأ فيها بالغناء، فتتحول إلى وحش منطلق. تغني شفيقة فتسيطر على الجمهور بطريقة خرافية. فلا يستطيع الإنسان إلا أن يتطلع إليها. كل واحد من الجمهور يشعر أنها تغني له، هو وبَسّ. وهكذا شعر الفنان في لحظة أنه مستلب. ووجد نفسه يسبح في تيار هذه المرأة، نظر باستغراب إلى البشر حوله وهم يرقصون ويغنون، ووجد محمد زكريا أيضا يغني ويدندن. كانت تلك اللحظة التي وجد نفسه فيها غير مرئي، وهو الذي يُسمَع صوته في كل الأماكن، وله الهيبة والحضور. كانت تلك اللحظة التي شعر فيها بانجراح كرامته، ووقوعه في أسر تلك الطاقة العجيبة، هل هذا ما يسمّى الحب من أول نظرة؟!

*

جلس الإسكندراني في بيت شفيقة بطنطا. يمرر بصره على الراقصات البيض اللواتي يحاوطنه من كل اتجاه ببدل الرقص. تترجرج النهود، والأذرع البيضاء البضَّة، تمتدُّ بنهمٍ على المائدة المفروشة على الأرض، كُفتة وطَرب وسَلَطات والذي مِنِّه، بينما تجلس شفيقة كالسلطانة على الكنبة الإسطنبولي المنقوشة بالورود المنمنمة وتسحب نفسا من الجوزة السلوم، وتشجع الأستاذ على الأكل، مُرحِّبة به في بيتها المتواضع. بينما تشعر بارتباكه وتوتره، تلكز بقدمها سنية المهلبية في بطنها المكتظة والبارزة من بين التُل الأحمر لبدلة الرقص، تقول لها: «قومي يا سنية، اعملي صينية للأستاذ»، بينما يتمتم هو بأنه ابن بلد أوي لكنه ليس جائعا. لكنها تصر عليه أن يذوق الزاد في بيتها حتى يصبح عيشا وملحا. تعجبه جدعنة شفيقة، وقوة شخصيتها، التي تتحكم في كل شيء حولها، مثل ملكة متوجة، تأسره بحنيتها وطبيعيتها، بينما ينسى صوتها وموهبتها التي حركته من القاهرة لطنطا، يتحول شغفه إلى حالة شفيقة الإنسانية ككل. تتكرر زياراته إلى البيت، ويصبح مألوفا للفرقة والراقصات وجيران شفيقة. أصبح يأتي منفردا دون محمد زكريا، علمته تجربة السفر الأولى أن يتخفى جيدا في القطار. واضعا نظارة سوداء عريضة وبيريه بلون البذلة التي يرتديها.

تكررت زياراته حتى إنه فقد الدافع الحقيقي وراء مجيئه. شعر أن شيئا ما يشده لهذا البيت. قال لنفسه إنه الونس والبُعد عن زيف فناني القاهرة، ثم وجد نفسه متورطا في حبها. يستطيع أن يرى مواطن الجمال فيها. يلهبه قلبه حين يراها تغني على المسرح، تأسره بكيانها، وتوجه كل مشاعرها تجاهه. تأججت المشاعر بينهما لكن دون تصريح، في ليلة من ليالي الأُنس، تضبط نفسها تمد يدها بقطعة كُفتة وتطعمه، بينما هو يغرقه الحنان ويربكه. 

كامرأة غير مرفهة، تكبت مشاعرها وتزهد بها حين لا تستطيع تحملها، لكن كامرأة فنانة وعاطفية، مال الأمل بها نحو الحب المستحيل. شعرت شفيقة بحب الأستاذ لها، لكنها خافت من كل الفروق التي تفصلهما. أشارت عليها جمالات أن تذهبا للست «ماما الكريمة» التي تسكن في المجاورين، ناحية السيد البدوي، تصنع لها حجابا لجلب الحبيب وتقرأ لها الفنجان. وقد وافقت شفيقة شرط ألا يكون هناك ضرر يلحق بالأستاذ. تخلت شفيقة وجمالات عن اللبس المبهرج والمكياج ووضعتا إيشاربا من الحرير يظهر شُقرة شعرهما، وارتدتا «تايير» أصفر وبنفسجيا يصل طوله لبعد الرُّكبَة. جلست شفيقة أمام الست «ماما الكريمة»، التي تسكن في ركن بساحة السيد البدوي، أمامها سبرتاية نحاس، وحلة بها أرز وخبز ولحم ومرق، تطعم من يلجأ إليها. بَسمَلت وحَوقَلَت المرأة العجوز، وأمرت شفيقة بشرب فنجان القهوة بعد أن تسمي الله. ولما أمسكت الفنجان بين يديها قالت: «لا حول ولا قوة إلا بالله، كأني أرى حوتاً من اللؤلؤ... الخير كل الخير فيكِ إن شاء الله». ثم قالت لها أن ما تسعى إليه يسعى إليها، ولا تحتاج إلى حجاب، لكن ليس كل ما يتمناه المرء خير. قالت: «يأتيكِ راكضا بإذن الله... لكنكِ وحياتك أكبر من هذا، ستزهدين به وتلمع روحك في الدنيا والآخرة...»، انقبضت شفيقة لمّا سمعت سيرة الموت، لكنها سايرت المرأة، التي أمسكت رأسها بين يديها وحصنتها بالحصن الذي أسسه الله. 

بعد تلك الزيارة، أتاها متقدم بطلب للزواج، تاجر كبير للأقمشة في نواحي المحلة الكبرى، واختفى الأستاذ ولم يعد. فشعرت بالكآبة، وحاولت تأويل نبوءة الست «ماما الكريمة»، بأنه شر وراح. وافقت على الزيجة السريعة، واشترطت على المعلم ناجي، أن تعيش كما هي في طنطا، وانتقل المعلم ليعيش معها يومين في الأسبوع. لم تعزّها علاقة الزواج الحديثة عن الحب، واندهشت أنها تمتلك مشاعر كبيرة ناحية الإسكندراني، متى وكيف ملأتها تلك العاطفة، لا تعرف. بكت وحزنت وهي تغني على المسرح «معقولة دي...» وأبكت معها السمّيعة. 

بعدها عادت وطلبت الطلاق من زوجها الجديد، متراضين. سرحها بالإحسان ولوجه الله. وفي التوقيت نفسه عاد الإسكندراني، فجأة، طالبا الزواج منها لكن في السر، وأقيمت الأفراح والليالي الملاح، وعاشا مع بعضهما أياما من العسل، يغنيان فيها مع بعضهما، وينعمان بالنوم في أحضان دافئة، يغشاهما الحنان والمودة. 

*

تنطلق شفيقة وهي تغني، بصوت مُستغرَب، فهي هذه المرأة البيضاء، التي تعطي انطباعا بأنها أنثى خلقت لتُعَاشَر فقط، لكن، يجعلها صوتها كائنا لا جنسيا، يضعها هذا الصوت في مكان مختلف، تصبح فيه لا أنثى ولا ذكرا، تصبح فيه نَفساً متجردا من الدنيا، هذه النفس تتخطى الجسد الذي وُلِدت فيه. لم يعرف الفنان ذلك، وكل ما فعله أنه عاند هذا الحب، متخيلا أنها تفعل شيئا ما، مجهولا بالنسبة له، لتبقيه تحت سيطرتها. 

كانت شفيقة إنسانا عاطفيا، وكانت تلك مأساتها. في لحظة ما من حياتها، غلبتها رغباتها الدنيوية، ولم تفهم أن نَفسها التي ولدت بها أكبر من أن يتحملها إنسان عادي، لذلك تخبطت طوال عمرها في قصص حب عنيفة ودرامية، أرادت تدميرها، وكان كل رجل يحبها تتراوح مشاعره بين الحب الجامح والكراهية. حيث يفقد السيطرة على ذاته، فيتمنى زوالها وزوال ذلك الحب. 

وهكذا دخل الفنان في ذلك الحب، وأحبته شفيقة، باذلة له كل العطاء. كان يقول «يا لييييل» فترد عليه «الله عليك يا أستاذ، الله عليك يا حبيبي...»، وكانت تتحمل كل انتقاد يوجهه لأغانيها وطريقتها في الغناء، مبررة ذلك لنفسها أنه العارف عنها، أنه الأستاذ وغرضه أن يعلمها. لكن قالت: «هي دي طريقتي وهعمل إيه؟!». وانتقل الأستاذ ليعيش معها أيام الجمع في طنطا، محافظا على سرية تلك الزيجة، خائفا على منظره إن عرف الناس أنه تزوج من شفيقة. وقد تحملت هي كل ذلك، أطعمته وحنت عليه، وغنت له ورقصت له، وتحملت شعورها باحتقاره لها، لكنها أحبته، والحب أعمى. وكل ما كان يعزيها، وينقذها من محاولة الفنان ازدراءها، أن تصعد على المسرح وتغني وتلعلع، وقد أزهرها الحب رغم ذلك، فكانت تتجلى أكثر. وقد حقد الفنان على ذلك الحب لأنه يمنحها ذلك البهاء، ويغمرها في هذا الفن، بينما هو ينزوي وينطفئ، وقال في نفسه إن هذا الحب يستنزفه، وإنها هي نفسها تستنزفه، واستخسر فيها تلك المشاعر، وكانت تتنازعه سكاكين تجول في صدره، تريده أن يفكّ نفسه من تلك الرابطة. 

لم يجل ببال شفيقة التي آمنت روحها بحب حبيبها، أن كل تلك الصراعات تجول في روحه، لذلك حين جاءها خبر حملها منه، كانت سعادتها لا توصف. راحت إليه تزف الخبر السعيد، حين كانا نائمين مع بعضهما، وفي لحظة الغَبَش القصوى، حيث يختلط جسماهما في عالم الغرام الساحر، همست له، وهو على وشك الوصول، أنها حامل، فقذف بسرعة، وخرج مبهوتا، رمى جسمه جوارها دون كلمة واحدة، وأخذ يدخن سيجارة من سجائرها الكليوباترا عن الكومودينو. 

كَذَّبت حدسها وكذّبت صمته ورحيله أول ما شقشق نور الصبح واتصالاتها المتكررة لأسبوعين كاملين دون أن تصل إليه. كذبت كل شيء وتلوَّت من الحزن، إلى أن أتاها محمد زكريا فجأة في عز الظهر، يطرق بابها، فأدخلته، وأيقظت جمالات وسنية المكومتين في عرض الصالة لتناما في غرفتها. وحضّرت للرجل الغريب الشاي بالنعناع والقُرَص الطرية، وهي تضع يدها على قلبها، عارفة أنها تتلقّى خبراً من الإسكندراني. بلع الرجل الغريب ريقه وهو يمضغ اللقمة ويتبعها برشفة من الشاي المحلى بزيادة. نظرت له نظرة الفاهم، لتحثّه على الكلام، فطأطأ رأسه واضطر للكلام، قال متلعثما: «الأستاذ بيسلّم عليكي... بيقولك النصيب اتقطع وانه مش عاوز الأمانة اللي انتي شايلاها، واتصرفي...». صمت قليلا وزاد من عنده: «معلش يا ست شفيقة، أنا آسف والله إني أوصلك رسالة زي دي، لكن ما على الرسول إلا البلاغ، والأستاذ بيقولك هو تحت أمرك في أي شيء، وباعت معايا مبلغ كدة والورقة....». نظرت شفيقة للورقة ورفعت حاجبها الأيسر وهزت رأسها، وقالت له: «طيب يا زكريا، يالا سيب الورقة والفلوس دي والشاي والقرص واتكل على الله. مش عاوزة أشوف وشك ولا وش الراجل بتاعك ده هنا تاني». بُهت الرجل من المعاملة المباغتة وأمسك ذيله في أسنانه وهرول على السلم قبل أن يسمع ما يهينه أكثر من ذلك.

تكومت شفيقة على نفسها مكان رقدة سنية وجمالات وراحت في نومٍ مكبوت للمغربية. ولما صحت الراقصتان، وجدتاها هكذا، فهمتا أن شيئا ما حصل. قرأت سنية الورقة الموجودة على الكنبة، وقالت بصوت مسموع «ابن الكلب أبو دقن أحمر..».

 

*

انطفأت شفيقة لأيام طويلة، انزوت على نفسها، وذهبت لتختلي بنفسها في بيت الست محاسن، ولم تعرف كيف تتصرّف. لقد أرادت الطفل من كل قلبها، وما كان من حبايبها والمحيطين بها إل>ا أن حاولوا التسرية عنها. لم يفلح مع حزنها شيء. وما كان من صديقاتها إلا أن يرتبن لها جلسة زار ورُقية تخرج السم من بدنها. حمل اثنان من صبيانها الست «ماما الكريمة» من خلوتها في السيد البدوي، جاءت كرامةً لشفيقة. ودخلت بيت محاسن محمولة على أيدي الرجلين. فهي قد نذرت منذ زمن ألا تخطو قدماها على أرضٍ غير طاهرة. وطلبت منهما أن يرقداها في فراش شفيقة، ولما وضعاها هتفت: «لا حول ولا قوة إلا بالله، إيه كل الحزن ده، هتموتي نفسك يا بِتّ...». لكن شفيقة كانت صامتة تماما، لا تبكي ولا تتكلم ولا ترد على أحد. أمرت «ماما الكريمة» جمالات وسنية بتنظيف البيت ورشه بالماء والملح وتشغيل سورة البقرة. ثم أرسلت أحد التابعين لساحة السيد البدوي يأتي بالشيخ السّني، لعمل ختمة وزار على اسم شفيقة بنت حوا وآدم. ولم يطلع المغرب حتى امتلأ البيت عن آخره بالأحباب والتابعين والشيوخ. نزلت ماما الكريمة تخطو على بلاط البيت بعد مسحه بالماء والملح وتبخيره وقراءة القرآن. 

وجلس أتباع الشيخ السني، يبتهلون لله عز وجل، ويصلون على النبي محمد الصادق الأمين، ثم يقرؤون أورادا للأتباع الصالحين ولآل البيت، تمهيدا لبدء تلاوة بُردة البوصيري، فبدأ الشيخ بإطلاق آهات بصوته العذب، تتراوح بين الآلام والسفر للملكوت، وما إن دخل في حالة الوجد الكاملة حتى انطلق يرنم البُردة: «مولاي صلّ وسلم دائما أبدا على حبيبك خير الخلق كلهمِ....» وردد خلفه كل الجالسين، إلا شفيقة التي ظلت تستمع وتنهنه بهدوء.

فَكَيْفَ تُنْكِرُ حُبًّا بَعْدَمَا شَهِدَتْ... بِهِ عَلَيْكَ عُدُولُ الدَّمْعِ وَالسَّقَمِ» حتى نزلت دموعها وسَحَّت، وما إن وصل إلى «نَعَمْ سَرَى طَيْفُ مَنْ أَهْوَى فَأَرَّقَنِي... وَالحُبُّ يَعْتَرِضُ اللَّذَّاتَ بِالأَلَمِ»، حتى بدأت تنهنه وتنتحب، فهتف الشيخ: «الله أكبر». وضعت الست «ماما الكريمة» يديها على رأس شفيقة وتمتمت بآيات الرقية الشرعية. وما إن هدأت حتى راحت في نوم عميق بين الجموع، وراحت تحلم أنها تخرج من عمق جبل فتتلقفها أيادي رجال كثيرين يرتدون أخضر في أخضر، وحين اقتربت منهم، كانت حزينة ومهلهلة، قال لها شيخهم: «عيب عليكي يا شفيقة. اصلبي طولك...» ثم مد يده نحو جوفها وإذا به يشد شيئا من حنجرتها، ويخرج في يده حوتا ضخما يلمع، وقال لها «انظري... حوت اللؤلؤ في جوفك، قومي اقري سورة الإخلاص ثلاث مرات...». 

فصحت وهي تضع يدها على صدرها، تلهث، فوجدت نفسها في حضن الست ماما الكريمة، التي طمأنتها، وأمرت الشيخ باستكمال وصلته، وبدأت تدندن معه البردة بصوتها الفريد. وما إن اكتملت الوصلة، حتى اختتموها بقراءة القرآن الكريم بقصار السور. ثم حين صفا الجو تماما وحلَّت السَّكينة، ووزعت أكواب الشاي وأطباق البسبوسة. هدأت شفيقة وقررت الرجوع لحياتها والاحتفاظ بالطفل، وقد اتفقت مع أحد صبيانها، أن يتزوجها ويكتب الطفل باسمه، وأن يزورها ويناما معا مرة في الشهر، بالحلال، وهكذا تؤمن لنفسها رجلا دون عاطفة قوية، لتلتفت لفنها وحياتها وأحبابها. 

حاول بعدها الإسكندراني ولسنين، التواصل معها، بعدما أكله الندم على فعلته، وكان قد انتهى به الحال، نادماً سكرانَ، يتراوح بين سبها بأفظع الصفات، تبريرا لفعلته، وتذكر لياليهما معا والبكاء على الأطلال. وقد ظلت شفيقة تغني حتى بعد موت طفلها الذي ولد مريضا، بإيمان وتسليم لله. وما إن فارقت روحها الحياة الدنيا، جنّ جنون الإسكندراني لأنه لم يحصل منها على الغفران الذي ينشده.

*

ظهرت لنا الحقيقة، ورأيناها كالمسلسل أمامنا. أنكرنا حالنا، ورحنا نلوي عنق الحقيقة الجليّة، ورحنا نفكر في الحكاية كلها بحساب المنطق الإنساني العادي. وقلنا إنها كآبة تلي انسحاب المخدر. يصبح الدماغ بلا زيت، تلف عالناشف. بحثنا على الإنترنت عن حكاية الإسكندراني وشفيقة، لم نجد لها أثرا. وسألنا أنفسنا: هل صنعنا تلك الحكاية من الوهم؟ وكابدنا أياماً من القيظ والذباب والكآبة. واختفى أي أثر للبهجة، وتوارى الإسكندراني عن حياتنا وانطفأت المرآة. وهكذا فقدنا المعنى من جدوى وجودنا ذاته، ولم نقدر على الموت. ماذا سنفعل بالأيام؟ بالأحرى ماذا سنصنع بالزمن الذي نمتلك، أو ماذا سيفعل بنا الزمن الذي يمتلكنا؟ ووجدنا نفسيْنا بعد وقت نفقد الرغبة في أي شيء، حتى الألعاب والمراوغة ورغبتنا في الطعام والجنس فقدناها. لكننا لم نكن شخصيتين تستسلمان بسهولة، فقررنا أن نغامر ونخوض تجربة الذهاب مرة أخرى لجامع «لولَّة» دون ضغوط من أشباح ولا غيره، كان دافعنا هذه المرة نابعا من الداخل، بحثاً محموماً عن الذات. حملنا المرآة الحوت، غطيناها بملاءة، واتكلنا على الله.

رتّب لنا حارس الجامع زيارة ليلية مسترقة، بعد دفع رشوة 500 جنيه. تتغير المنطقة كلها بالليل. كانت الحياة دون مخدر مفزعة، وكل الأشياء جارحة، الإنسان والحيوان والنبات — كل ذلك مصدر للقلق. وتحولت الصخور والمقامات من حولنا لأصنام مهولة ومروعة. لاحظ علينا الحارس أمارات فزع غير مبرر، فقرأ علينا آية الكرسي، وقال: «لا تخافوا ولا تحزنوا...» وأمرنا بقراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات والتحصن بآية الكرسي قبل دخول أي مكان. وقال لنا إنه ليس أمامنا إلا ساعة واحدة وسيُضطر إلى طردنا من الجامع.

ووجدنا أنفسنا نصعد سلالم شاهقة، نبحث في أروقة غريبة عن شيء غير مفهوم. وكان صعودنا شاقا بلا وصول لنقطة بعينها. وفجأة توقفت السِّت وبكت، وضعت يدها على صدرها هكذا، وانتحبت، وانحنى نصفها على الآخر ولم يتوقّف تشنجها، وقالت إنها تشعر بحزن عميق وغائر، وإنها رأت ذلك المكان من قبل، وإن هذا المكان مليء بطاقة من الألم.

فصلتنا لحظة بكائها نفسيا عن بعضنا، ولم يكن عندنا رفاهية الانفصال، فشدّ الرجل على يد السِّت بقوة، وسحبها للأعلى كي نعود معا في رحلة البحث. ووقفنا في أعلى نقطة في الجامع، ووضعنا المرآة لنرى ما تعكسه هنا، وميّلناها إلى الأسفل، فلم نرَ إلا السكون، وانتظرنا حتى انقضت الساعة. ونزلنا وتركنا مرآتنا، ووقفنا أمام الحارس على باب الجامع، وفي محاولة أخيرة، نظرنا ناحية المبنى الشاهق ونادينا بعلو صوتنا غير مبالين بأن يسمعنا أحد: «يا الحــــــــــســـــــــــــــــــــــــــــن، ياااااا الحــــــــــــــــــــســــــــــــــــــــــــــن» فجاءنا صوت من خلفنا يرد: «نعم». وكان هو الحارس الذي أدخلنا إلى الجامع.

وحيننظرنا وأمعنا النظر، وجدنا هذا الحارس الهزيل، الطويل كعمود النور، تبرق عيناه وتشعّ بضوء مخيف، ففزعنا وهو يجيبنا أنْ «نعم»، فطرنا عائدين للجامع مهرولين، فجرى خلفنا وهو يقول إن الساعة خلصت ولا بد أن نخرج الآن. لكن لا شيء استطاع أن يوقفنا. فبحثنا عن أي مخبأ بعيدا عن هذا العالم، ووجدنا بئرا وسلما، فتسلّقنا السلم عائدين لمرآتنا، فجاء الحارس يلهث في ذيلنا، ولم يكن هناك بدٌ فسألناه: «تعرف شفيقة؟ احنا عاوزينها تسامح...» ولم نكمل جملتنا حتى قاطعنا: «بأن كل ذلك من صغائر الدنيا، ومن يترفّع عن ذلك يصبح في منزلةٍ مختلفة»، وأتبع كلامه بأن الإنسان لا بدّ أن يبحث عن الرحمة داخله أولاً حتى يطلبها من الآخرين.

ورجوناه أن يتركنا ساعة أخرى، فوافق على مضض. فبَانَ لنا لمعان المرآة وفهمنا أنها اشتغلت. ورحنا ننظر في ما تعكسه. ورأينا جَمعا كَثيفاً، يتحلقون في دائرة، قومٌ جلوسٌ حولهم ماء، يرتدون جلابيب بيضاء وتهتزّ أجسامهم في ورع كأنهم ينشدون، ونحن كنا هناك هزيلين تائهين. ألقينا نفسينا في البحيرة الُملتفّ حولها الخَلق، رأينا نفسينا نسبح بسعادة، وكأن الماء به سحرٌ غريب، وشعرنا بالسكينة ويبدو أننا كنا نتحضر لننضم لهؤلاء البشر، الذين التفوا حولنا ونحن في تلك الماء الصافية، التي تكتسي بلون أخضر ساج. ونظرنا فرأينا جبالا شاهقة تحيط بنا، بُنيت فيها بيوت بيضاء، وعُلّق على أبوابها غسيل أطفال رُضَّع ونساء. وخرجنا من الماء مرتجفين، فأخذونا لنبدل ملابسنا بمثل تلك الجلابيب البيضاء، والتففنا معهم في حلقة الذِّكر وبدأنا نردد معهم ما يرددون. وقد تحول جسمنا وصار جميلا ساكنا راضيا، وقد تحول صوتنا وصار رقيقاً وغنَّينا معهم ونحن نشعر بحنانٍ يشقّ صدورنا ويعدنا بالأمل، والشفاء من كل كَبدٍ ويأس.

ونظر بعضنا إلى بعض بعد الذي رأيناه هناك، وفهمنا ما علينا فعله، وقررنا إلقاء هذه المرآة من هذه القمة، لنتخلّص من هذه اللعنة والمتاهة البلا أول ولا آخر. وشددنا على أيدي بعضنا، وأمسكنا المرآة من قرنيها، وعددنا، 1… 2… 3، هووووب، وسمعنا صوت تكسير المرايا يرنّ في الأفق، يتشظّى في فضاء الكون، ويحول كل الوجود لكسور. كان الصوت عنيفا مدويا، أغمضنا أعيننا مستعدين للفناء. لكنْ حين استقر الوضع، فتحنا أعيننا، فوجدنا القاهرة كلها مُفتتَّة ملايين الحِتت، صارت مثل ألوان مكهربة ومسننة، تخترقنا ونخترقها. وتَحوَّل الجميع مثلنا، أصبحوا مجرد صور أثيرية تشع بألوان تعكس أرواحهم. فهذا جسمٌ معتم تعلو رأسه سلحفاة بأسنان نمر، وهذه يعلو رأسها نملة بيضاء ضئيلة، وهناك ضوار وفرائس يحتضن بعضُها بعضا في كل مكان، بينما تنعكس صورهم البشرية في فتافيت المرايا. انضممنا إليهم. فَلَم نَصِر اثنين، بل صِرنا كل الناس. ورحنا نجري سعداء، في سديمٍ مُطلَق، حيواناتٍ لاهيةً بلا مآس. لقد صنعنا هذا الزمن الجديد. وشهدنا ملايين الفتافيت المتلألئة، خلطنا بعضنا ببعض، تجردنا أخيرا من أنفسنا. 

واتخذت المدينة هيئتها الجديدة على صورتنا.

Close Menu