-١-
مذ أسرَّ لي برغبته في مرافقتي إلى بيروت، وأنا أُعْمِل التفكير. قلتُ إنَّه يودُّ أن يكون بجانبي للمساعدة بما أنَّه يعرف المدينة. غير أنَّ عودتي لم تكن تتطلَّب بحثًا وتقصِّيًا، فالعناوين التي حصلتُ عليها من الميتم كانت مفصَّلة، وفهمتُ من الموظفين هناك أنَّ الأمر سهل، وأنِّي لستُ الأول الذي أتى يسأل عن أصوله.
في زمن بعيد، أقرأ عنه فيزداد بعدًا، انكشفَت في الإعلام الألماني قضية الأطفال الذين هُرِّبوا من لبنان في الثمانينيَّات، وكانت التعليمات صارمة: تسهيل مساعدة من يسأل عن عائلته. تعاونَت الشرطة آنذاك مع الوزارات والمؤسَّسات المعنية، ورُتِّبَت زيارات لأهالي الأطفال الجدد لنقاش قانونيَّة وضع المتبنّين. كانت الحرب الأهليَّة في لبنان مستمرَّة والأمور سائبة، فلم تتعاون الحكومة اللبنانية وسفاراتها مع الشرطة الألمانية، وتُرِكَ الأمر برمَّتِه للتقصي الألماني.
أشحتُ وجهي عن التقارير الصحفيَّة محاولًا تذكّر ما حدث في بيتنا، فلم يطفُ على سطح ذاكرتي إلا تلك الزيارة اليتيمة. يناديني «أبي»، فأدخل الغرفة لأجد شرطييْن جالسيْن معه ومع «ماما». يسألانني بضعة أسئلة، فأجيب على ما أفهمه منها باقتضاب، وأنسحبُ عائدًا إلى غرفتي.
عندما أعلمتُ «أبي» برغبتي في البحث عن أهلي الحقيقيين، استمع إليَّ صامتًا. فهمتُ سكوته إشارةً للمتابعة، فتوغَّلتُ في القول حتَّى انتهى الكلام. نهض «بابا» ناحية غرفته ودعاني أن أتبعه، ثمَّ جلس على حافة السرير وأخرج الدفتر الأزرق الذي لطالما رأيتُه يدوِّن فيه، وكتب فيه لدقيقة، ثمَّ خزق الورقة، ورفعها صوبي.
زرتُ الميتم في العنوان المدوَّن على الورقة لأسأل عن هويَّة أهلي الحقيقيين وأقربائي وعناوين سكنهم في لبنان. استغرب الموظَّف طلبي لمعلومات أساسيَّة افترض وجوب معرفتي السابقة بها من أهلي الذين تبنُّوني. ولمّا رددتُ بإيماءة، لم يواصل استفهاماته، ودخل ليأتيني بطلبي.
لم يعرف الموظَّف أنَّ العلاقة بيني وبين «أبي» كانت تنتهي دائمًا قبل أن تبدأ، بإرجاع الأمور إلى منشئها عاريةً بلا أحكام تتلبَّسها. لم تكن النهايات بيننا حاسمة. كانت انتهاءات مؤجلة يحكمها الصمت وإيماءة الرأس. وأنا لطالما تساءلتُ: لِمَ لا أحظى بعلاقات تشبه علاقات رفاقي بآبائهم؟ يمكن لي أن أحسم الغامض وأرتاح، فأقول إنَّ السبب هو في كونه أبي غير البيولوجي، لكنّ الأمور لا تُفسَّر هكذا، ولو كان يمكن تحليلها بهذه الطريقة، لانتهَت قصصٌ كثيرة في هذه الحياة قبل أن تبدأ.
لماذا إذًا يودُّ الإنضمام إليَّ في رحلتي؟ لو أراد فعلًا العودة، لفعلها في الأيام التالية لخروج الجيش السوري من البلد، شأنه شأن أصحابه الذين زارونا وأعلموه بقراراتهم. لكنه لم يفعل. أعلن دعمه لهم، وشدَّ على أيديهم، وربَّت على أكتافهم وعانقَهم. وعندما كانوا يدعونه للعودة معهم، كان يكتفي بهزِّ رأسه والابتسام، ولا يتورط بإعلان إجابة حاسمة، فيغادرونه على أمل اللقاء القريب.
ما الذي تغيَّر الآن إذًا؟
-٢-
نظرتُ إلى آزو من حيث أجلس على الكنبة. شفتُ الشامة الناتئة في الجانب الأيسر من كتفه، ولمحتُ التشقُّقات التي ظهرَت أسفل ظهره بعد فقدانه المتكرر للوزن. ظننتُه غارقًا بالنوم، فأكملْتُ أنحدر بنظري على خصره، وأصابع يده، ثمَّ مؤخرته، ففخذه.
كان يمكن لي أن أبقى أتبصَّر في جسمه بلا ملل. لم تكن المرَّة الأولى التي أصفن فيه على هذا النحو بعد أن ينام. ولم يكن الأمر جنسيًّا. أقصد أنَّه جنسي، لكنَّ الدافع الأساسي من نظرتي لم يكن رغبتي في الاستثارة -وإن كنتُ أُستثار- بقدر استمتاعي باكتشافي المتكرر لجسمه، وتعاملي مع الأمر كرحلة يكتنفها الحزن والمتعة معًا.
«لا متعة بلا حزن عندي، ولا حزن إلا مع متعة»، قلتُ لأدريان، معالجي النفسي، مرَّةً، فقطَّب حاجبيه مبديًا عدم اقتناعه بحكمي الجازم.
عندما أحدِّق في جسمه، يعود آزو ليقف من جديد في صف الانتظار عند مدخل النادي الليلي حيث كان لقاءنا الأول. وقتها، خيِّل لي فيها أنَّه ينظر إليَّ، قبل أن يغادر صفَّه ويتجاوزني ويسلِّم على أناس آخرين يقفون ورائي.
حاولتُ الاستماع إلى حديثه مع رفاقه. كنتُ منهمكًا في التنصُّت، لدرجة أنِّي كنتُ أحيانًا أنسى التقدُّم في الصفِّ، فيقوم الواقف ورائي بتنبيهي. سمعتُهم يتحدَّثون أولًا بالعربية ثمَّ بلغة لم أفهمها، قبل أن أعرف لاحقًا أنَّها الكرديَّة، ولم يطل الانتظار قبل أن أدخل النادي وألتقي برفاقي الذين كانوا ينتظروني.
قلتُ لهم إنِّي سألحقهم خلال دقائق، ودعوتُهم أن يمضوا باتّجاه القاعات الأخرى، وبقيتُ واقفًا عند البار أنظر إلى الباب منتظرًا دخول آزو، لكنَّ ظلام المكان ووميض ألوانه لم يساعداني على تبيِّن وجوه الداخلين، ثمَّ سرعان ما قطع انتظاري مجيء رفيق آخر من المجموعة دعاني لشرب كأس.
لم أبقَ إلى ساعة متأخِّرة كما اعتدتُ أن أفعل في نهاية كل أسبوع. اعتذرتُ من رفاقي قبل منتصف الليل بقليل، مدَّعيًا الشعور بالتوعُّك، وقلتُ إنِّي أفضّل عدم التورُّط بالشرب أكثر.
وقفتُ في الخارج، يراودني شعور الحزن الذي يلي إضاعة الفرص. لا أعرف لِمَ تعاملتُ مع آزو وقتها كفرصة. فأنا لم أعرفه قبل وقوفنا في الصفِّ، ولم ألمحه سابقًا، لا في النادي، ولا في الشارع، رغم تردُّدي الأسبوعي عليهما. لكنِّي كنتُ واثقًا من شعوري بالخسارة.
انتظرتُ عند المدخل أدخِّن سيجارة. لم أكن أرغب في العودة إلى المنزل، ثمّ قرَّرتُ أن أتمشى في الشوارع وأرى إلى أين ستأخذني قدماي. مشيتُ لما يقرب الساعة، فوجدتُ نفسي أعود إلى الرصيف المقابل لمدخل النادي. درتُ في حلقة مقفلة، وعدتُ إلى نقطة البداية من دون قصد، وبلا كثير تركيز.
كنتُ أهمُّ بتوليع سيجارة عندما رأيتهُ خارجًا من باب النادي. وقف مترنِّحًا يضع سيجارة في فمه، وبدا لي من مكاني أنَّه لن ينجح في إشعالها، ففكَّرت أن أقطع الطريق لأقدّم له قدَّاحتي، مدفوعًا بشعور الإثارة الذي لفَّني، لكنِّي ترددتُ. لم تمرَّ ثوانٍ قبل أن يرفع آزو نظره نحوي، ويبتسم ابتسامة غريبة، ويتَّجِه نحوي. عندما وصل، اكتفى بالسلام، وأخذ مني القدَّاحة بلا استئذان وأولع بها سيجارته، ثم أعادها إليَّ شاكرًا قبل أن يجلس على حافة درج قريب، ويدعوني بالإنكليزيَّة أن أنضمَّ إليه.
أعلمني باسمه، فرَدَدْتُ باسمي، وسلَّمنا على بعضنا من جديد. بقينا جالسيْن على الدرج، ندخِّن سيجارتيْنا بصمت، قبل أن يعلن آزو أنَّه لا يشعر أنه على ما يرام. لم يسعفني الوقت لأستفسر لأنه رمى السيجارة فجأة، وبدأ يتقيَّأ بين قدميه.
«يوسف؟»، يسألني آزو من السرير. يربَّت على الوسادة قربه ويضمُّ شفتَيْه. أنهض من مكاني محاولًا القفز فوقه إلى المساحة الفارغة. لكنَّه يقلبني ويستلقي فوقي، ويقول: «كنتَ تنظر إليَّ وأنا نائم».
أهزُّ رأسي بالنفي، فيرفع حاجبه، كعادته عندما يعلن عن عدم اقتناعه. أتراجع عن إجابتي الأولى وأشرحُ أنِّي أحبُّ التحديق فيه. يُقرِّب وجهه من وجهي، ويقول إنَّ باستطاعتي أن أكمل النظر، فأزيحه برفق وأعود لأجلس على طرف السرير.
«تذكَّرتُ كيف تقيَّأتَ في حضني عندما التقينا في المرَّة الأولى»، أقول له فجأة. يُصحِّح لي ويقول إنَّه تقيَّأ على الرصيف. «ما العلاقات إلا تقيؤات متبادلة»، يقول وهو يحيطني بذراعه. ثمَّ يعتذر مني قائلًا إنَّه يعرف كيف أشعر هذه الأيام. يقبِّلني على كتفي، ويعود ليستلقي من جديد.
هذه المرّة، أجدني أنسحب نحوه. أقبِّله مغمضَ العينيْن، فلا أعرف إن كان ينظر فيَّ أم لا.
-٣-
تأتيني المشاهد نتفًا كغمام أبيض في سماء زرقاء. أرى الأشياء التي لم تبقَ، والأشياء التي انتقلَت إلى غير أماكنها القديمة، والأشياء التي صمدَت حيث كانت. يخفت لون الأثاث ويتجمَّع الغبار حول حوافه وفي زوايا الغرف. تصفرُّ الجدران تدريجيًا، وتنتقل كنبات إلى غرَفٍ كانت مغلقة، وتتعرَّى كراسٍ لتصير قطعًا حديديَّة ملقاةٍ في الحديقة الخلفيَّة للبيت.
كأنَّ بطءَ التحوُّل يذكِّر بحياة ما ترسَّبت في هذا المكان.
لم يفتح «أبي» الباب لي يومًا. كنتُ عندما آتي، أكبس على الجرس، وأنتظر. ثمَّ أدقُّ على الباب، وتقوى طرقاتي مع مرور الدقائق، قبل أن أفقد الأمل وأدسَّ يدي في جيبي. لماذا كنتُ أتريَّث قبل استخدام المفتاح؟ هل كنتُ أنتظره ليفتح هو الباب؟ أم كنتُ أخاف أن أدخل عليه لأجده قد مات في غيابي؟ أم أنِّي كنتُ أُمهله بعض الوقت كي لا أراه عاريًا مع امرأة أخرى؟ ولِمَ أفعل ذلك؟ ولِمَ أتوتَّر من فكرة أن يكون مع إحداهنَّ؟ ليس أبي، ولم تكن زوجته حتَّى أمي، فلِمَ الانتظار؟
كلّما وقفتُ عند العتبة، تراءَت لي أبشع المشاهد. كلما انتظرتُ هناك، نتأ فيَّ الخوف، فأحاول طرد الشعور بالقول لنفسي: «من هنا خرجتُ، ومن هنا سأدخل، ومن هنا –حتمًا- سأعود لأخرج».
في هذه الشقَّة، تعاظمَت لديَّ موهبة رسم المشاهد في عقلي. كنتُ أخلق في عقلي سيناريو. أضيف إليه، وأُنقِص منه، وأهشِّم فيه. وكلَّما انتهيتُ من صناعة مشهد، أنتقل للتفكير بآخر، وتمييزه عن سابقه بتفاصيل جديدة، حتَّى أصلُ للاقتناع بأنِّي احترفتُ الأمر، وما عليَّ إلا الانتظار للحظات كي تخرج الأشياء منِّي وتتحقَّق أمام ناظري.
لكنَّ قدرتي على التخيُّل هذه خفتَت بعد أن تركتُ الشقَّة. صرتُ أنام أكثر، وقلَّت أحلام يقظتي ومنامي. وعندما أخبرتُ أدريان بالأمر، لم يبدُ عليه التفاجؤ، واكتفى بتدوين شيء ما في دفتره الصغير، وبدعوتي أن أكمل حديثي. ثرتُ آنذاك عليه، وقلتُ له إنَّه بات يذكِّرني بـ «أبي» كلَّما أومأ أو رسم تعبيرًا على وجهه وانتظرني أن أكمل بدل أن يجيب عن أسئلتي.
أنهيتُ الجلسة وخرجتُ. مشيتُ كثيرًا وأنا أفكِّر. لماذا لا يتكلَّم الأشخاص عندما ننتظرهم أن يقولوا لنا شيئًا؟ لماذا يتحدَّثون في لحظات ينتقونها هم؟ هل يتغيَّر الكلام عندما نمعن في تأجيله؟ وهل يكتسب معانٍ مغايرة عندما يُقال في اللحظات الخاطئة؟
قادتني قدماي من جديد إلى هنا. لكأنَّ هذه عودتي الوحيدة. لكأنِّي في عوداتي المتكرِّرة أفتِّش عن عودة أخرى أضعتُها. أدخل الشقَّة بخطى بطيئة، وأُبقي الباب مفتوحًا، كأنِّي أؤكِّد خروجي اللاحق. أسمع الصرير آتيًا من الحديقة فألحق الصوت، لأجدَه –كما كل مرَّة- جالسًا على الأرجوحة بفانيلته البيضاء وبنطال البيجاما الأزرق، منكبًّا فوق قطع حديدية متفاوتة الأحجام والأشكال، وقربه شرابه. يفسح لي مكانًا قربه، ويصبُّ لي كأسًا، ثمَّ يعود لانهماكه.
في المرَّة الأولى الذي أعطاني فيها قطعة من قطعه، لم أفهم طلبه. استعادها منِّي، وأمسك بإحدى الأدوات أمامه، وشرح لي كيف أفكُّها، وأعاد تمريرها لي. تحدَّث عن ضرورة تفكيك الأشياء، لأنها عندما تتفكَّك -حسب قوله- تتعرَّى من طبقاتها، وبعد أن كانت عنصرًا ضمن مجموعة عناصر، تعود وحيدة ويمكن إعادة بنائها على هيئات جديدة على غير حالاتها السابقة.
كلَّما استفاض في مثل تلك الأحاديث -وهو غالبًا ما كان يكرِّرها- كان يخطر لي أنَّه لا يقول هذه الأشياء لي على وجه الخصوص، وأنَّه كان ليقول الكلام نفسه لأي شخصٍ سيجلس في مكاني. لم أكن أجد نفسي حاضرًا في حديثه على أيِّ نحو، لكنِّي لم أكن أتوقَّف عن الاستماع إليه. على العكس، كنتُ أركِّز في ما يقول، وأواصل تفكيك قطعتي الحديديَّة، لينتهي الأمر بانجذابي إلى عالمه. لكنَّه يتوقَّف عن الكلام فجأة، ويرفع وجهه نحوي مبتسمًا، كأنَّه لاحظ وجودي الآن فقط، ويسألني عن أحوال آزو.
-٤-
ظلَّ آزو يتقيَّأ في حجري، أو بين قدميْه، أو على حذائي، لدقائق. وبعدما أفرغ كل ما في جوفه، استند بظهره إلى الدرج، وأطلق زفرة تشي براحته، ثمَّ ابتسم ابتسامته الغريبة، وأغمض عينيْه. ظننتُ وقتها أنَّ قواه خارت فحسب، وأنَّ ابتسامته الباهتة التي تأتي مع نهاية السُّكر وأوَّل النوم، أشبه التسليم الذي يسبق الانطفاء.
سأعرف لاحقًا أنَّه يبتسم هكذا فحسب.
في بدايات تعرُّفنا على الأشخاص يبدون لنا غرباء. هناك من نشعر بالراحة نحوه توًا، وهناك من نتوجَّس منه، وهناك من نشعر بالنفور الكامل ناحيته. أيًا كان الشعور، فإنَّ غرابة ما تحضر في المراقبات الأولى للوافدين الجدد إلى حياتنا. ومع تتابع اكتشافنا لهم، نحظى بتلك اللحظات التي تتباطأ فيها الأشياء. تلك اللحظات التي تنتبه فيها كيف يحرِّك الشخص يديه، وإلى أيِّ جهة ينظر، وكيف يبتسم، وكيف يضحك، وكيف يتغضَّن حاجباه في لحظات الجدِّ أو الغضب، وشكل التعابير التي تظهر تجاعيدًا في الوجه، وطريقة مشيه، وتفاعل جسده.
أنا لم أعرف مثل هذا الوضوح البطيء إلا مع آزو. وبينما يميل هو إلى وصف العلاقات بالتقيؤات، أجدها أقرب للاتِّضاحات البطيئة، أما التقيُّؤ فيرادف عندي الإفراغ المتسرِّع.
بقيتُ أنظر إليه، ولا أعرف ماذا أفعل. قررتُ الانتظار حتَّى يخرج أحد أصدقائه من النادي فأسلِّمه له، لكنَّ أحدًا من الخارجين لم يقترب منا. أخذتُ أتفحَّصه. وَجَدْتُه زائد الوزن، وذقنه كثَّة وغير مُعتنى بها. كان آزو يمتلك كل الأشياء التي اعتقدتُ أنِّي لا أحبُّها في الرجال. لم أكن أعرف سبب انجذابي له، ولكنِّي كنتُ أملك ذاك الشعور أنَّ بإمكاني الوثوق به، والتكلُّم معه لساعات.
حاولتُ أن أجد قواسم مشتركة بينه وبين الرجال الذين أقمتُ معهم علاقات سريعة. فكَّرتُ في كل الوجوه التي نمتُ معها ولم أعرف أسماءً لها. تذكَّرتُ الشاب الذي نِكتُه بصمت حتى لا يستيقظ شريكه في السكن، والآخر الذي نام معي ورفض تقبيلي، والثالث الذي كان يتصنَّع الأصوات فأفقدني متعتي منذ البداية، والرابع الذي أراد فقط أن يمصَّ أيري وأن لا يفعل أكثر من ذلك، والخامس الذي كان يكرِّر كل الوقت -وأنا نائم معه- أنه يرغب في نياكة عنيفة ويعيد القول: «أكثر.. أكثر..»، وعدتُ إلى الغرفة المملوءة بالمرايا التي نكتُ فيها رجلًا في الخمسين، كلَّما هربتُ من النظر في جسمه المتهدِّل وجدتُ نفسي متكرِّرًا لعشرات المرَّات في المرايا، فأعود لإغماض عينيَّ كي لا أراني فيها.
قبل آزو، كانت علاقاتي مع الشباب تقتصر على الجنس السريع السهل. نقرة واحدة على Grinder وHornet في هاتفي، تُفضي إلى عشرات من البروفايلات لمستخدمين يبحثون عن جنس بلا التزامات. قليل من التشات وبعض من تناقل الصوَر، وأصير في المترو متَّجهًا إلى العنوان المعطيِّ لي، لأجد نفسي بعد دقائق أنيك أشخاصًا لا أعرفهم.
كنتُ أتجنَّب استقبال أحد في الشقَّة. مرَّة واحدة فعلتُها، كان «أبي» حينها مسافرًا خارج المدينة، لكنِّي فشلتُ في المحافظة على انتصابي، ولم أنجح في القذف حتَّى. في لحظة واحدة، نظرتُ حولي، وتذكَّرتُ أنِّي ما زلتُ هنا، في هذا البيت، فمات عندي كل شيء. كان الوضع محرجًا لأنَّ الشخص الآخر تكبَّد عناء القدوم من الجهة الأخرى من المدينة، فوجدتُ نفسي ملزمًا أن أجاريه في بعض المتعة، وقررتُ أن أمصَّ أيره حتَّى يأتي، وهو شيء لا أستسيغ فعله على الإطلاق.
قبل آزو، لم يراكم الجنس أيَّ تفاصيل. كان محصورًا بلحظات حدوثه، ولم يكن يكتسب معاني أخرى. كنت طبعًا أشعر باللذَّة عندما أقذف، وأقوم بما يجب عليَّ فعله، وأغيِّر من الوضعيّات. لكن مع تتالي المرات ومضيِّ الوقت، فقد الشيء معناه. صار أيري ينتصب بصعوبة عند محاولتي النوم مع أشخاص لا يعجبونني، فصرتُ أدقِّق في خياراتي، ولا أقبل ممارسة الجنس مع أيٍّ كان.
قبل آزو، لم أدخل في علاقات «حقيقيَّة»، رغم توفُّر الفرص. لم أكن مهتمًا بفكرة العلاقة نفسها. فكَّرتُ في الموضوع أكثر من مرة، وشرحتُ لأدريان ظنوني. قلتُ له إنَّ الأمر قد يكون مرتبطًا بوضعي الخاص، وإنَّ عليَّ أن أشعر بالاستقرار النفسي قبل الدخول في علاقة طويلة الأمد. لم يكن المعالج يعقِّب، لكنَّ تعابير وجهه أبدَت عدم اقتناعه. ورغم معرفتي بأنه لن يجيبني، سألتُه: «هل عليَّ أن أستقر قبل الشروع في علاقة، أم أنَّ العلاقة هي التي ستساعد في الوصول إلى مثل تلك الحالة؟». كعادته، أوضح أدريان أنَّه لا يعطي رأيه، وأنَّ مهمَّته تنحصر بالاستماع والأسئلة. جادلتُه فقلتُ إنَّ أسئلته توجِّه الجلسات في مسارات ينتقيها هو، وهذا التوجيه أشبه برأي، فاكتفى بالابتسامة، وانتظرني لأكمل.
ما الذي تغيَّر بعد ظهور آزو؟ لماذا شعرتُ أنِّي أضعتُ فرصةً عندما اختفى؟ ولماذا وجدتُ نفسي عائدًا إلى المكان ذاته؟ ولماذا ظهر من جديد؟ ولماذا قطع الطريق باتِّجاهي، ولماذا جلستُ بقربه على درج الرصيف ولم أرحل؟
عبرت هذه الأسئلة رأسي عندما كنتُ أنظر إليه وهو نائم. مرَّت عشر دقائق، ثمَّ فتح عينيه، فنهضتُ. رفع وجهه ناحيتي، وسألني -كمن بدأ نهاره للتو- إلى أين أذهب. أجبتُه أني سأوصله إلى منزله، فضحك وقال أن لا منزل لديه، وأضاف أنَّ الليل قد بدأ للتو، عارضًا عليَّ قطعة حشيش قال إنَّه لم يدخِّن منها بعد.
«الليل بدأ الآن»، قال.
فجأة، اكتسى قول آزو غرابة الحقيقة المباشرة إذ تُقال للمرَّة الأولى: «الليل بدأ -فعلًا- الآن».
واليوم، بعد كل ما حدث بيننا، أعرف تمامًا ما الذي حدث بعد ذاك الليل. قبل آزو كنتُ أنا الذي أنام مع الرجال، وبظهوره جاء من ينام معي.
-٥-
خرجتُ من الميتم لأجد آزو ينتظرني عند الرصيف المقابل. قطعتُ الطريق باتِّجاهه، وسلَّمتُه الملف ومضيتُ في طريقي. لحق بي. مضيتُ مسرعًا باتِّجاه مقهانا المفضَّل. دفعتُ الباب فكدتُ أن أصدم أحد الخارجين. اعتذر آزو منه بينما أكملتُ مباشرةً إلى الزاوية التي اعتدنا الجلوس فيها، لكنَّها كانت مشغولة بآخرين. تمتمتُ ببضعة شتائم والتفتُّ عائدًا، فاصطدمتُ بآزو الذي عانقني طالبًا مني أن أهدأ، ثم همس في أذني بضعة كلمات كانت كافية لتمتصَّ غضبي.
انتقينا طاولة في الخارج قال آزو إنَّ ضوء الشمس سيغطيها بعد دقائق. جلستُ على الكرسي الأقرب للشارع، وجلس هو في الجهة المقابلة والملفُّ في يده.
لم أكن قد فتحتُه. كانت تجربة الانتظار لساعتين ونصف كي أعرف تاريخ نشأتي غاية في العبثيَّة، وبينما نجحَت دوامة البيروقراطية الألمانية بإفقادي صوابي، عاظم من سوء التجربة التعابير اللزجة لمجموعة من الموظفين الكسالى في الميتم بدوا معتادين على التحرُّشات اللفظيَّة بأمثالي.
أخرج آزو الأوراق من الملف ووضعها على الطاولة. نظرنا إليها، ثمَّ قرَّبها مني. دفعتُها تجاهه وطلبتُ منه أن يقرأ ما فيها. نهض من مكانه وقبَّلني، ثمَّ أخذ يفلفش في الأوراق. جاء النادل ليضع فنجانيْ قهوتنا، فأزاح آزو الملف جانبًا، وأكمل يقرأ بعينيه.
«غريب»، قال وهو يشرح أنَّ اسمي الأول هو نفسه، وتاريخ ميلادي هو نفسه، والاختلاف هو في اسم العائلة فقط: بدل فتَّال، زهرا.
«اسمُك يوسف زهرا. ولدتَ في ١ آذار من العام ١٩٨٦ في بشرِّي بجبل لبنان. اسم أمك زاهية بركات، وولدَت في العام ١٩٥٠ في البلدة ذاتها. أما أبوك، فاسمه..»
عندما عدتُ إلى البيت ذاك النهار، لم أنتظر«أبي» ليفتح لي. استخدمتُ المفتاح توًّا، واتّجهتُ إلى الحديقة الخلفيَّة. في طريقي، توقّفتُ أمام ملف أبيض اللون متروك على الطاولة. كان تواجده هناك غريبًا، إذْ كان «أبي» يحرص على إبقاء الطاولة فارغة إلا من المزهريَّة والغطاء المزركش. رفعتُ الملفَّ وأخرجتُ ما فيه لأفاجأ بالأوراق نفسها التي حصلتُ عليها من الميتم.
سمعتُ صرير الأرجوحة منبعثًا من الحديقة. حملتُ الملفيَّن وخرجتُ، فوجدتُه منهمكًا في شرب كأس من العرق وأمامه صحن من اللحم النيء. رفع نظره باتِّجاهي ودعاني بحركة من يده أن أنضمَّ إليه. شربتُ من الكأس الذي صبَّه لي، وأعلمتُه عن المعلومات التي حصلتُ عليها، فابتسم. ذكرتُ اسمي الحقيقي واسم عائلتي وطائفتي وسجلِّ القيد، واسمَ أمي وأبي الحقيقيَّين، فانقلبَت ابتسامته إلى ضحكة من ضحكاته التي لا تأتيه إلا عندما يَسكر. انسَقْتُ أشاركه الضحك، ولما طفرَت عينيْه بالدمع، سألته لِمَ ضحك، فعاد إلى الضحك حتى تمكَّن منه السعال وهرعتُ آتيه بكوب ماء.
ذكَّرني تصرُّفه بشعوري أنَّه دائمًا ما يتقدَّمني بخطوة، خطوة واحدة فقط، وأنَّه إذا نظر إليَّ، سيعرف ماذا سيجول في خاطري وسينفَّذه قبلي أو يقوم بما يبعده عنه مسافة خطوات قليلة كي لا ألحق به بغتةً. هذه المرَّة لم يكن الأمر مختلفًا. كان يعرف، وتركني أذهب لأضيع في دهاليز البيروقراطية و فوضى الأوراق ونظم المعلومات القديمة. كان يعرف، ويعرف أنِّي سأعرف أنَّه يعرف، ولم يوقفه ذلك عن ترك الملفِّ على الطاولة، بل وبدعوتي للجلوس معه.
أخبرتُ أدريان أكثر من مرّة أنَّ علاقتي بـ «أبي» أشبه بحلقات من الركض والهرولة لا تنتهي. يحدث كل ذلك دون أن يحدِّث أحدنا الآخر. متى بدأ ذلك ومتى اكتشفتُه؟ ومن القط ومن الفأر في هذه اللعبة؟
-٦-
درنا في شوارع برلين. رقصتُ معه في أندية لم أسمع بها. زرنا بارات كنتُ أمرُّ قربها ولا أدخلها. دخَّنا الحشيش سويًا. وجرَّبتُ كوكتيلات لم أسمع بأسمائها. وعندما تقيأتُ على الرصيف، ضحك آزو قائلًا إنَّنا تعادلنا.
كان ليلًا جامحًا لم أختبره قبله، ولمَّا خارت قواي تمامًا، كان آزو ما يزال واعيًا. كأنَّ تقيأه ونومه لدقائق قليلة خارج النادي جعلاه يبدأ نهارًا آخر بطاقة جديدة.
عرض عليَّ الذهاب إلى شقَّته، فلم أعترض. لكنِّي بعد علمي ببعد العنوان، قدَّرتُ أنِّي لن أستطيع قطع كل تلك المسافة. كنَّا صرنا على مقربة من شقَّة «أبي»، فطلبتُ منه أن يبقى معي حتى أصل، وأخذتُ أشرح له موقع الشقَّة، قبل أن تنتابني حالة من الخوف الغريب، كانت على الأرجح من تأثير الحشيش.
أمسك آزو بي كل الطريق، وهو يضحك على تعليقاتي. وبعد أن لاحظ ازدياد خوفي من أي عابر قربنا، صار يهدئني ويحثني على مواصلة المشي بالقول إنَّنا سنصل بعد دقائق. عندما وصلنا شكرتُه، والتفتُ محاولًا دخول المبنى فتعثرتُ عند حافة الرصيف ووقعتُ.
أصرَّ أن يوصلني إلى باب الشقَّة. على الدرج، انتابتني حالة من الضحك وتوقَّفتُ لأقول له إنِّي كنتُ أسترقُّ السمع لحديثه مع أصحابه رغم أنِّي لم أكن أفهم اللغة، وإنِّي بحثتُ عنه داخل النادي، وذهبتُ خائبًا وعدتُ انتظرتُ خروجه على الرصيف، وإنِّي فعلتُ ذلك من دون أعرف السبب فهو لا يشبه الرجال الذين يعجبونني.
فتح الباب بالمفتاح الذي أخرجته من جيبي. أخذتُ أضحك وأنا أقول له أن يخفض صوته، رغم أنَّه -حسب قوله- لم يكن يتكلَّم. وفي غرفتي قبَّلتُه. تفاعل معي، ثمَّ فككتُ أزرار قميصه، وتفحَّصتُ جسمه العلوي. وقبل أن أقوم بخطوة، قبَّلني من جديد قبلة سريعة وقال إنَّ علي النوم. أومأتُ له ولم أغضب. كنتُ مستعدًا لتنفيذ أي شيء يطلبه مني. وعندما همَّ بالرحيل، أمسكتُ بساعده، وطلبتُ منه أن يبقى معي. نظر إلي تلك النظرة الغريبة التي سأراها دائمًا في أحلامي، وسألني إن كنتُ على ما يرام. كذبتُ وقلتُ له إنِّي خائف وطلبت منه من جديد أن لا يتركني. هزّ رأسه، وجلس على الكنبة الصغيرة المحاذية لسريري، فبقيتُ ممسكًا بيده حتى نمت.
عندما استيقظتُ في اليوم التالي، لم يكن بجانبي. وجدتُني مرتديًا الملابس نفسها. حاولتُ تذكُّر ما حدث فلم أفلح. كان صداعي رهيبًا. خرجتُ من غرفتي إلى المطبخ، فسمعتُ أصواتًا آتية من جهة الحديقة. وقفتُ عند باب الحديقة أنظر إلى آخرها. على الأرجوحة، وجدتُ آزو جالسًا مع بابا يشربان القهوة، ويتضاحكان.
-٧-
هل تضايقتُ من تواصلهما؟ لا أعرف. عدتُ إلى الداخل فورًا قبل أن يلحظا وجودي. كنتُ أحتاج إلى لحظة أستجمع فيها شتات أفكاري، وأتذكَّر تفاصيل الليلة الماضية. ما الذي حدث بالفعل؟ وهل بقي آزو هنا؟ هل نمنا مع بعض، أم أنه خرج وعاد؟ ولماذا يعود؟ وعمَّ أو عمَّن يتحدَّث مع أبي؟ عني؟
دخلتُ الحمام وأغلقتُ بابه وجلستُ على الكرسي. استطعتُ أن أقدِّر من الطريقة التي تغوطتُ بها أنَّ آزو لم ينكني البارحة، إذ لا أثر للشعور المعتاد بالحريق من أثر المرطبات، أما خروج البراز فاعتيادي. هل حدث العكس إذاً؟ أنا الذي نمتُ معه؟ أم أنَّنا قمنا بما هو أقلُّ من النوم وأكثر من المجاورة؟
لدهشتي، انتصب أيري وأنا أتغوَّط. شعرتُ بالقرف وقررتُ أن أستحمَّ على الفور. دخلتُ البانيو، وتحت الدوش استمنيتُ. بقيتُ تحت المياه الدافئة لفترة حاولتُ فيها أن أصفِّيَ أفكاري. لكنَّ طرقًا خفيفًا على باب الحمام قطع تركيزي.
خرجتُ ملتفًّا بالمنشفة لأجده منتظرًا عند الباب. كانت ترتسم على وجهه ابتسامة من تلك التي يخلفها ضحك كثيف سابق، سرعان ما ذابت بعدما لاحظ انزعاجي. أخذ يعتذر ويقول إنه يودُّ دخول الحمام. «بإمكانك الدخول الآن»، قلتُ ومضيتُ من جديد نحو غرفتي.
غيرتُ ملابسي واستلقيتُ على السرير وانشغلتُ بتفحُّص هاتفي. بعد دقائق، دخل آزو من الباب المشقوق، وقال:«سأذهب».
أومأتُ له برأسي من دون أن أنهض. نظر إليَّ كأنَّه كان يتوقع ردًا آخر، ثمَّ مضى خارجًا من دون أن يضيف شيئًا.
بعد رحيله، قمتُ وأغلقتُ باب غرفتي، وعدتُ لأستلقي على السرير لما يقارب الساعتين، ثمَّ قررتُ الخروج، فمشيتُ في الشوارع لنصف ساعة، واستأجرتُ دراجة هوائية، وسقتها إلى أماكن في برلين لم أذهب إليها من قبل. مررتُ قرب النادي الذي التقينا عنده في الليلة السابقة، لكنِّي لم أتوقَّف. وبعد حوالي ساعة ونصف، ركنتُ الدراجة قرب النهر، واستلقيتُ على العشب. عندها فقط، أعدتُ النظر إلى هاتفي، لأجد منه رسالة:
«أتمنى أن تكون بخير. كنتَ البارحة خائفًا جدًا. بالمناسبة، أبوك رجل ممتع».
لم أردَّ. وبالرغم من أنِّي كنتُ أود معرفة المزيد عن الخوف الذي ذكره، لكنَّ إشارته لاستمتاعه مع «أبي» قبضتني، الأمر الذي دفعني لإخبار أدريان بما حدث في جلسة العلاج التالية. أخذتُ أشرح له قليل ما أتذكره عن الليلة الطويلة، والطريقة التي شعرتُ بها عندما رأيتُ آزو جالسًا مع «أبي». كنتُ كالعادة أشرح له لأشرح لنفسي، ووصلتُ إلى الخلاصة: «لقد أخذني «بابا» من والدين لا أعرفهما، والآن يحاول أن يأخذ مني أصدقائي».
كنتُ أعرف أنَّي أبالغ التحليل وأنَّ ذلك كلَّه لم يكن صائبًا، وأنَّ غضبي يجب أن يكون موجهًا تجاه والدين تخليا عني، لا تجاه من سحبني من عيشة الميتم. وتأكدتُ من ابتسامة أدريان وإعلانه لانتهاء الجلسة بالقول: «تعبيرك عن الغضب شيء جيد». غير أنَّني لم أترك الجلسة تنتهي على هذا النحو واندفعتُ في مونولوغ آخر جعل أدريان يعاود الجلوس على الكرسي، وأنهيتُه بفكرة لطالما تهربتُ منها: «أعتقد أنَّ عليَّ البحث عن والديَّ الحقيقيَّين وأن أزور مسقط رأسي».
تلك كانت اللحظة التي اتخذتُ فيها قراري ولو انشغلتُ عن تنفيذه شهورًا عدة بعدها. تلك كانت اللحظة، وذلك كان المشهد: عندما رأيتُ الذي سيصير «حبيبي» جالسًا يشرب القهوة ويضحك مع الذي صار قبله «أبي».
-٨-
بعد أسبوع، جاءني اتصال منه.
«أودُّ الحديث معك»، قال آزو فورًا.
«أنا مشغول الآن. مع رفاقي. ربَّما لاحقًا. اتَّصِل بي وسنرى»، رددتُ مستعدًا لإنهاء المكالمة.
«أستطيع أن أكون عندك بعد دقيقة. أراك من هنا»، قال مباغتًا.
رفعتُ نظري من حيث أجلس وحيدًا في مقهى الرصيف فوجدتُه واقفًا عند الرصيف المقابل. لم يكن هناك مجال للهرب. قطع الطريق باتجاهي فورًا، وانضمَّ إلى طاولتي. ثم أعلن مباشرةً بعد لحظات من جلوسه:
«اسمع. لا أريد التطفُّل عليك. أريدك فقط أن تساعدني. أحتاج للتحدُّث عن نفسي مع أحد».
كنتُ سأرفض بشكل لائق. ويبدو أنَّ ذلك بان على وجهي لأنَّ آزو أكمل مذكِّرًا: «لقد أمسكتُ يدك كل الليل في غرفتك، ونمتُ أسوأ نومة على الأرض منذ لا أذكر متى، وأعتقد بأنَّك تدين لي على الأقل بالاستماع».
سألته ماذا يشرب، لكنَّه قال إنَّه يفضِّل المشي ونحن نتحدث.
مشينا على ضفة النهر بينما يتحدَّث. كانت المرَّة الأولى التي أستمع فيها لأحد، فيما عدا نفسي قبالة أدريان. قال آزو إنَّه يشعر بالتوتُّر وأنَّه فقد سبعة كيلوغرامات في غضون شهر، وإنَّه لا يخرج ولا يكلِّم أحدًا. حدثني عن أخيه الذي مات قبل ثلاثة أعوام بمرض التهم دماغه. قال إنَّ أخاه صار ينسى على تقطع، حتى سأله في مرَّة عن هويته. بعد هذه الحادثة، انهمك آزو يكتب لأخيه عن أفراد عائلته على بطاقات صغيرة، فيلصق له الصورة ويدوِّن له الاسم، العمر، ماذا يفعل (يعمل أم يدرس)، علاقته العاطفية الحالية، وبضعة أمثلة عن تجارب عاشها الشخص في البطاقة مع أخيه. لكنَّ الوقت لم يسعف أخاه ليستخدم البطاقة.
بعد موت أخيه، دخل آزو في حالة اكتئاب لأشهر، خرج منها بتغيير شامل في حياته. تسجَّل في الجامعة من جديد، بعدما كان يضطلع بأعمال «تافهة» -على حد قوله- من نادل في حانة، لسائق دراجات الديليفيري، لعامل في مخبز يصنع الخبز العربي. قال «تافهة» وتوقَّف ليشرح أنَّها كلمة أخيه الميت الذي كان يعمل في مثل هذه الأعمال. كان أخوه مقتنعًا أنَّ قدرات آزو تفوق متطلبات هذه الأعمال التافهة بأشواط.
أخوه هو الوحيد الذي عرف بمثليَّته الجنسيَّة. آزو لم يخبره. أخرجه ذات مرَّة في نزهة وأعلمه أنَّه يعرف. قال له إنَّ عليه أن لا يخاف. ومنذ تلك اللحظة، شعر آزو أنَّ أخاه أخرجه من محبسه الاختياري. لكن بعد موته عاد له شعور انعدام الأمان ورجع إلى فقاعته. لا يود لأحد في عائلته أن يعرف به. ورغم أنَّ حالته النفسية تحسَّنت منذ حصل على المنحة الدراسية ليتابع دراسة الأدب، ثمَّ بعدما انتقل ليعيش وحيدًا في غرفته الصغيرة.
لكنَّ كل شيء يعود في لحظة. كل شيء ظنَّ أنه طمره في داخله، ينبعث فجأة.
«عندما تتذكَّر يا يوسف، تتذكَّر أيضًا أنَّك نسيت، وأنَّك تابعتَ حياتك كأن شيئًا لم يكن. لا شيء أقسى من ملاحظة النسيان. أن تعرف أنَّك نسيت يعني أن تعرف أنَّك مضيتَ قدمًا، وأنَّك قرَّرتَ في لحظة ما أنَّ شيئًا لم يعد صالحًا للبقاء في ذاكرتك. فلماذا وكيف عدتَ تتذكَّر؟ هل أرغمتَ نفسك على النسيان ولم تكن قد نسيت حقًا، أم ماذا؟ أيًا يكن السبب، أنا حظيتُ بتلك اللحظة التي لاحظتُ فيها أني نسيت. حدث ذلك بعد خروجي من منزلك. وقفتُ في مدخل البناية ووضعت يديَّ في جاكيتي، ثمَّ أخرجتُ يدي من جيبها ، لأجد كروت أخي التي أضعتها بعد وفاته. ثلاث سنوات مرَّت على فقداني لها، وكنتُ قد فتشتُ عنها في كل مكان ثمَّ فقدتُ الأمل. خروجي من بيتك لم يكن عن عبث. لم أكن لأخرج من هناك لو أنِّي لم أدخل».
ظلَّ آزو يتحدَّث بتقطُّع لساعتين. نمشي ونقعد ثم ينهض ويتقدَّم ناحية النهر وحيدًا ثم يرجع ويعاود الجلوس بقربي. اكتفيتُ بالاستماع إليه ولم أعقِّب. وددتُ أن أخبره أشياء عني، لكنِّي تراجعتُ لشعوري أن هذه النزهة مخصَّصة له. اجتاحتني رغبة مفاجئة بتقبيله لكنِّي وجدتُ الفرصة غير مناسبة، فاكتفيتُ بشبك يدي بيده، والشدِّ عليها والنظر إلى النهر الجاري، إلى حيث ينظر وهو يتكلَّم.
-٩-
كيف يرتبون الأحداث في القصص بشكل خطي؟ ذاكرتي لا تعمل على هذا النحو. كلما بدأتُ أروي في مسار، وأقطع فيه شوطًا، أنتبه أني نسيتُ ذكر بعض التفاصيل، فلا أجد خيارًا غير العودة للشرح والاستفاضة. وبدل أن أفهم، بدل أن أضع كل شيء في سياقه، تتشظى كل الحكاية، وأجدني من جديد محكومًا بفوضى الأفكار التي تسيطر علي. أجد نفسي قبالة حكايات كثيرة تتصل وتنفصل. حكايات كثيرة، هي في الأصل حكاية واحدة.
كنا قد بدأنا نخرج كل يوم معًا. صرتُ أذهب إلى بيته ويأتي إلى منزلنا. أحيانًا يأتي ولا أكون هناك. يدخل ويجلس ليتحدث مع «أبي». هل كان «أبي» يفتح له الباب، لا أعرف. وكيف كان يعرف أن هناك غيري على الباب، لا أعرف. ولماذا كان يفتح له هو، لا لي، أيضًا لا أعرف.
في شقته وغرفتي، لم يكن الكلام بيننا ينتهي. نبدأ حديثًا فيتفرَّع إلى أحاديث. نشاهد فيلمًا فننتهي إلى مشاهدة فيلمين في جلسة واحدة. يعرِّف كل منا الآخر على موسيقاه وأغنياته المفضَّلة. ومن دون أن نعرف كيف، خمد حزنه وزالت هواجسي. عمَّ بيننا شعور بالارتياح. كنَّا كأنَّنا نعرف بعضنا منذ زمن. كأنَّنا اعتدنا كيف نتصرف. ماذا نقول وماذا لا نقول. كيف نتعاطى مع مساحاتنا الشخصية فنصمت حين يجب، ونتكلم حين يجب.
وكنا ننظر إلى بعضنا كثيرًا. أكثر من مرة كمشته يحدِّق فيَّ وأنا منشغل بشيء ما أو بالتحدُّث مع آخرين. وحدث معي الأمر نفسه. أستغرق بالنظر إليه وأشعر أني أبتسم ثم يلاحظ تحديقي به، فيبتسم بدوره أو يزجرني بحاجب مرتفع فأضحك. في هذه المرحلة، لم نكن نلمس بعضنا في أماكن حميمة، بل نكتفي بملامسة غير مقصودة، يد أو ارتطام جسد. لكنَّنا رقصنا في غرفنا كثيرًا. كنا كأنّنا نعرض الكيفية التي يتحرَّك بها جسدانا لبعضنا.
أذكر كل ذلك ولا أذكر كيف بدأ الأمر تلك الليلة. على الأرجح كنّا عائديْن من مكان ما سهرنا فيه، اتَّجهنا إلى منزله وفعلناها للمرَّة الأولى. بقينا في السرير. هكذا فقط. ننظر إلى بعضنا من دون أن نفعل شيئًا، نبتسم، ثمَّ نستغرق في عراك ضاحك. نتعب فنهمد، لنعيد النظر إلى بعضنا أو للسقف، أونتحدث.
لا أدري لِمَ وقفتُ أمام مرآة الحمَّام ونظرتُ إلى جسمي. وجدتُ فوق صدري شامة سوداء لم أكن ألاحظ وجودها في السابق. صعقني فكرة أنِّي لم أتفحَّص جسمي بعناية من قبل. وقف آزو عند عتبة الباب ونظر إليَّ ثم اقترب. عانقني من الخلف، وقبَّلني أسفل عنقي. لاحظ آزو أنِّي كنتُ ألمس بيدي الشامة. ابتعد قليلًا ناظرًا إلى ظهري. قال:«Fuck!». وجد بين كتفيَّ من الوراء الشامة نفسها. صوّرها بهاتفه وأراني إياها. قال وهو يعانقني من جديد إنَّ شعاع نور اخترقني وأنا صغير وتركني فجوتان فيَّ: الفجوة التي دخل منها في ظهري والأخرى التي غادر منها في صدري.
أكمل يشرح. صار الهواء حولي صامتًا، وحركة فمه بطيئة. نظرتُ إلى المرآة من جديد، إلى جسمي وجسمه المختبئ ورائي. ورغم أنِّي لم أكن أسمع شيئًا مما كان يقوله، شعرتُ بالرغبة في النوم معه من جديد. انتصب أيري، ووجدتُني ألتفت وأسكته بقبَل كثيرة، حتى عدنا إلى السرير.
تركتُه بعد ساعة وعدتُ إلى المنزل، لأجد «أبي» في الحديقة يستمع إلى أغنية لبنانية غير آبهٍ بجارٍ يشتمه طالبًا منه إخفاض الصوت لأنَّه يود أن ينام. لوَّح لي «أبي» من موقعه ودعاني إلى الانضمام إليه، وصبَّ لي كأسًا من العرق الأبيض.
«الليل بدأ الآن. الليل جميل لدرجة لا يمكن تصورها. الليل جميل، وسيبقى على هذا النحو»، قالت أغنية آزو وأنا أتجه ناحية «أبي».
Hilal Chouman
ولد هلال شومان في بيروت عام 1982. إنه كاتب وروائي لبناني وقد أنتج أربع روايات حتى اليوم، هي: ما رواه النوم (2008)، نابوليتانا (2010)، ليمبو بيروت (2012، وقد ترجمت إلى اللغة الانكليزية)، وكان غدًا (2016). وهو يعمل على كتابة روايته الخامسة بعنوان حزن في قلبي. يمكن متابعة أعماله عبرالموقع الالكتروني: http://www.hilalchouman.com