Skip to main content

Essays | مقالات ذاتية

ابن باختياره، أب رغم أنفه، وشاب إلى الأبد

CONTRIBUTOR
المساهم/ة
نائل الطوخي

TAGS
الوسوم
posts-ziad, web-featured

PDF

SHARE POST
للمشاركة
CONTRIBUTOR المساهم/ة
نائل الطوخي

كاتب مصري يبلغ ستة وأربعين عاماً. في 1998 نشر قصّته الأولى، وفي 2024، صدرت روايته السادسة «ديوك وكتاكيت» عن دار المحروسة. يترجم عن العبرية ويولي اهتماماً خاصاً بالشأن الإسرائيلي.

نائل الطوخي
Essays | مقالات ذاتية

ابن باختياره، أب رغم أنفه، وشاب إلى الأبد

By نائل الطوخيSeptember 10, 2025November 4th, 2025No Comments

كانت أمي تحبّ فيروز أو بالأحرى تحبّ حبي لها. كأنها رأت فيه عنصراً مطمئناً، أو كأن ذوقي الفني لا يزال تحت السيطرة، ما شجّعني مرة على إهدائها شريط معرفتي فيك؛ أعرّفها بفيروز زياد التي لا تعرفها واكتشفتُها أنا لتوّي.

كنت أحاول وقتها أن أسحبها لذوقي، وكانت قد صارحتني أنها لا تحب هذا.

أدرت الشريط في المسجّل، لأرى مع كل مقطوعة علامات التبرم على وجه أمي، هذه ليست فيروز التي تعرفها، هذه امرأة عادية، عامية، تشكو «زعلها» مع حبيبها؟ كانت توبّخني أنا، جالب الشريط إليها، ولكن في الأثناء أيضاً تختلس نظرات للمسجّل، لفيروز التي فيه، نظرة استهجان لتركها ابنها يسحبها لذوقه، أو نظرة حيرة، كمن لا تفهم كيف حدث هذا.

بدأتُ قصّتي بالسياق العائلي، لأنّ قصّته هو لا تُحكى إلا في سياقها العائلي، وفي الأخص منه سياق الولد وأمّه.

«الواد دا ابن فيروز»، وُصف في مصر كثيرًا، هذا لأن الأم كانت مصدر شرعيته الأولى، كانت ملكة متوّجة، وإذ بها ترحّب به وهو يزحزحها من عرشها، زحزحة خطرة ولكن ستسفر عن رسوخ جديد على عرش جديد، فتزداد القصة بالتالي تعقيداً وتضاف لها شخصية جديدة بأثر رجعي. نلتفت لولد حمل شنطته وغادر بيته، رفض مجد آبائه، واختار أن يختار، يبني لنفسه ذوقًا جديدًا ثم يعود لأمه، وبعد سنين، ليسحبها إليه.

ستظلّ بنوّته أشهر شيء فيه، فقط بعد أن يعطيها معنى جديدًا، اختياريًا وليس قدريًا؛ كيف يكون المرء نفسَه رغم كونه ابنًا، كيف يكون نفسه جدًا رغم كونه ابنًا جدًا.

بفضل بنوّته هذه، فلن نتذكّره، وإن شاخ، إلا شابًا. سنسمّيه «زياد» أكثر من «زياد رحباني»، و«رحباني» أكثر من «الرحباني»، كمن نحميه من أي لقب قد يطوله، من أي أبوّة قد يستحقها ولكن لم يحبها له أحد، لا هو ولا نحن، كأننا جميعاً أردنا أن نغيّر اسمه الماضي ونكتفي له باسم «الرفيق».

شكّلت السنوات من 2000 إلى 2006 سنوات فطام لي. رحلت أمي وأنهيتُ دراستي وعملت وأنشأت مدونتي، وفيها أيضًا قرّرت السماع له وحده، بلا أمّه مثلما أني الآن بلا أمّي.      

كان أخي وقتها قد كلّمني مشدوهًا عن أغنية شاهدها، فرنسية ولكن يظلّ المغنون فيها يسألون بعضهم بعضاً بعصبية «شو؟»، وكنت قد شاهدت ولّعت كتير، ولم أفهم كلماتها وظللتُ أتقصّاها حتى تجلّت لي معجزة في كل كلمة، وكنت قد حصلت على اسطوانة لأعماله فبدأت بأوّل تراكاتها «العقل زينة»، ليأتيني صوته فجأة مكثّفاً، لذيذاً ومثقفاً، مرحاً ومسيّساً، مزيج عجيب من الثأثأة والثقة بالنفس.

«إنّو مِدري ليش»، يقولها، وأقولها، ثم نقول أيّ شيء بعدها.

صحيح سيرفض أن يكون أباً، ولكنّ بذوره، ستُغرَس في شباب بلا عدد. أقف في مخبز حكومي، البائع متباطئ والزبائن ثائرون وأنا شديد الهدوء، أنفث سيجارتي في لحظة صمت لأقول أنه معلش يا جماعة، أصله لو شاف شغله هيتعاقب، ويضحك الزبائن، رجال بشوارب، وأندهش أنا، الكئيب في عين نفسي، لنجاحي في إضحاكهم.

كنتُ مدركًا هنا، وبشكل غامض، أني أقلّده. كنت أدرك مدى تأثّري به ولم أخجل منه بل وسعيتُ إليه. بفضله تعلّمت التنكيت، أحببت التجريب، تشجّعت على الغناء. بأسلوبه، أو بما فهمتُ عن أسلوبه، كتبت تدويناتي الأولى، ومن ثيمات عالمه، أو ما اعتقدتُ أنه عالمه، استوحيتُ ثيمات في «الألفين وستة»، روايتي التي يعدُّها البعض لحظة وصولي إلى صوتي الخاص. يكفي أن عنوان الفصل الأول منها «اسمع يا رضا». يكفي أن تكون «اسمع يا رضا» كلمتي الأولى بـ«صوتي الخاص».

كتبت عنه وسطوت عليه بلا تمييز بينهما، ولم أمنحه في المقابل، ومجازًا، سوى لحظتَيْ سعادة؛ أراه في حلمين متعاقبين، في الأول أذكّره بنكات له فيضحك، وفي الثاني أريه فيديوهات له فيبتسم، وفي المرتين نركب الباص نفسه، كأن لا وعيي يصرّ على كونه رفيقاً لي، رفيق باص أو حياة كاملة.

أجّلت ذكر هذا في الأول لعدم الإرباك. صحيح أن شريط «معرفتي فيك» أحبط أمي، ولكن أغنيته الأخيرة، عودك رنان، صالحَتْها. ظهر بعض الارتياح على وجهها، وقالت ما معناه أن ها نحن أخيراً نعود للطرب الشرقي.

لست أنا المسؤول عن ارتباك قصتي، وإنما هو من كان شرقياً كما كان غربياً. يؤلّف بالفرنسية والعربية، يحبّ الجاز كما يحبّ الربع تون وزكريا أحمد. عابث وملتزم، ساعة يكون غير مهتمّ وساعة، بتعبيره، كتير حْشوري. يسمع القرآن ويلحّن للكنيسة وقد اجتمعت فيه كل الإشيا الكافرين.

على خلاف آبائه، كانت الحيوية ميزته الحاسمة، ألا يخضع لمثال من خارجه، أن يفعل ما يحبّه مهما بدا متناقضاً. 

لنصف قرن، ينتج فنًا يمحو الفرق بين البروفة والتنفيذ، فنًا عماده الارتجال، لا الجمال ربما ولا الكمال بالتأكيد، لنصف قرن لا تنطفئ نظرته الماكرة ولا يسمن وجهه شبيه الفأر، لنصف قرن، حتى عامه السبعين، يظل زياد أرعن كطفل، صريحاً وصفيقاً ومحرجاً، فيكون هذا سبباً ثانياً، وأدْعى، لبقائه في ذاكرتنا شاباً للأبد.

ولكن تظلّ الشيخوخة حقيقة لا تعطّلها المجازات. يظلّ هو نفسَه مع تقدّمه في العمر، فقط بصوت أوهن وسكتات أطول ومخارج ألفاظ أكثر تشوشاً. ينعس في البروفات، ينزوي في بيته، وينعدم إنتاجه وينحصر الكلام عنه في موقفه السياسي. أسمعه يشير لاحتياجه للمال فأُُحبَط له، أحسُّه محبَطًا لخفوت نجمه فأُُحبط منه.

يُنسى العجائز أحياناً أكثر مما يُنسى الموتى. يُنسى زياد، والأفدح أني أنا من أنساه، لا يعود يخطر لي إلا قليلاً، ثم إذ فجأة، ومنذ شهور، أقود الدراجة والسماعات في أذني، يختاره لي الساوند كلاود فأجد نفسي مفتوحاً لسماعه، لا كطرفٍ الآن ولكن كحَكَم موضوعي، وأجد نفسي أهتف أن أحّا الراجل دا جامد فعلاً، أقولها فخوراً بذوقي القديم: أنا كنتُ محقاً حين وقعت في غرامه.

نفسي أطبطب عليه، سأكرّرها كثيراً. نفسي أقول له ماتزعلش، أقولها لزينة وخالد ووائل وهاني، ليردّ هاني بإرسال مقطع لملحم بركات يُسأل فيه مَن المعلّم اليوم فيرد أنه زياد، يقولها بتسليم لأن «الحقيقة ما فيك تخبّيها»، فأزفر مرتاحاً كأن «الحقيقة» هي من منحته لقب «المعلّم»، كأن الله هو من طبطب عليه بدلًا مني، طبطبة سريعة سرعان ما ستليها، مع موته، طبطبة أكبر، تتجلّى، للمفارقة، في كآبة لم أحسها من قبل، تعكّر في المزاج وحشرجة في الصوت، ورفض طفولي، ومتشنّج، لسماع موسيقاه.

كان الحزن لموته شديد الغرابة والشخصية. كان أحزانًا مختلفة لأنّ لكل واحد منّا زياداً مختلفاً. آلاف الزيادات تظهر استجابةً لتنوّعه هو، إصراره ألا ينحبس في قالب، كأنها مكافأة من جنس العمل أو دليلٌ على تحقق العدل، أو حتى، والله أعلم، على وجود الله.

Author

كاتب مصري يبلغ ستة وأربعين عاماً. في 1998 نشر قصّته الأولى، وفي 2024، صدرت روايته السادسة «ديوك وكتاكيت» عن دار المحروسة. يترجم عن العبرية ويولي اهتماماً خاصاً بالشأن الإسرائيلي.

كاتب مصري يبلغ ستة وأربعين عاماً. في 1998 نشر قصّته الأولى، وفي 2024، صدرت روايته السادسة «ديوك وكتاكيت» عن دار المحروسة. يترجم عن العبرية ويولي اهتماماً خاصاً بالشأن الإسرائيلي.