
الفصل الأول من رواية سحر مندور الخامسة، «القطّ الأسود ذو العين الواحدة»، والذي ننشره بالتزامن مع صدور الرواية.
الجنّ مصدره الاجتنان، وهو التستُّر والتخفّي. كلُّ شيءٍ وَقَيْتَ به نفسك واستترتَ به هو جنّة. وسُمّي الجنين جنينًا لاستتاره في بطن أمه. وسمّيت الجنّة بذلك لكثرة شجرها، بحيث يستر بعضها بعضًا.
❂
الدخول
بعد تأكيد موعد اللقاء مع الخواجة جورج، أطفأ الرجل الأربعيني هاتفه، ترجّل من سيارته، ودخل إلى الموتيل الذي تمتلكه وتديره سيّدةٌ ثمانينية اسمها دوروتي.
دوروتي عبيّة الشعر، أبيض، ترفعه إلى أعلى، فيه استدارات، حيويّ وفوضويّ. طويلة القامة، محنيّة الظهر قليلًا كأنها ترخيه في ظِلّ غياب الأسباب الكافية لفرده. ترتدي ملابس النوم دائمًا، وفوقها روب. دوروتي تمتلك البيت المؤلَّف من طابقين، تستضيف فيه عابري السبيل مقابل بدلٍ متوسّط القيمة. مسّى الرجل عليها عند دخوله، فبادلته التحية من تحت أغطيتها فوق كنبتها الوثيرة، واستمرت في مداعبة قططها حديثة الولادة لأمٍّ قطّة تقيم معها منذ سنين على ما يبدو.
أخبرها باسمه وحجزه، فنظرت إليه وتمعّنت فيه، أخذت وقتها حتى إنها مشت بعينيها من أعلاه إلى أسفله: طويلٌ ولا يبدو عليه الطول لولا أن المنضدة تصل إلى خصره. ناعم الملامح لا تبدو عليه شراسة مع أن ذقنه لا تبدو حليقة، كأنها مُهمَلة منذ يومين، زنداه متكوران لكنهما ليسا بارزين، بطنه يتحرّك مع التنفس لكن لا ينتفخ، كأنه كان رياضيًّا ولكنه هدأ منذ مدة، كأنه مهذّب كأولاد العائلات المحافظة لكن شعره منتشرٌ حول رأسه بلا ترتيب، ملابسه تبدو لها عادية، بنطال كحلي وبلوزة رمادية، لكنَّ فيه شيئًا عصريًّا، حتى إن حذاءه المطاطي… تُقاطع تسلسل أفكارها وتعود إلى الواقع حولها، تعود بعينيها إلى وجهه، تراه يبتسم بارتباك، ينتظر منها إجابة، ينتظر منها أن تنهي فحصها لجسمه، ينتظر منها أيَّ مبادرة. تبتسم له بدورها لكن بلا ارتباك، وتشير إلى المنضدة حيث مفتاح الغرفة ورقمها: «تأخرتَ أيها الشاب. لا عليك. نوقّع الأوراق في الصباح. ليلة سعيدة ونوم هانئ!». أنهت معاملات الاستقبال في جملة، وأرسلته في حال سبيله.
يستدير الرجل نحو الدَّرج المقابل لباب غرفة الجلوس. يصعد الدرجات بسرعةٍ وحِرص. السلَّم الخشبيّ ضيّق، ومكسوّ بالسجاد. على جانبيه تنتصب أوعية نحاس متوسطة الحجم ومتنوعة الشكل، على ترابيزات خشب متوسطة الارتفاع بدورها. كلُّ شيء في الموتيل مليء بالتفاصيل. طاولات جانبية في كلّ ممر عليها تماثيل صغيرة، أدوات نحاسيّة وحديديّة وخشبيّة دقيقة، منها المبتكر ومنها العائد لزمنٍ آخر. والجدران يكسوها ورق الجدران من أعلاها إلى أسفلها بطبعةٍ كأنها مَلَكيّة، بُنيَّة يتخللها لونٌ زهريّ، تتكرر على امتداد الحيِّز العام في الموتيل. وعلى الجدران، علّاقات كثيرة، لاحظ الرجل بينها بورتريهين عتيقين لشابٍ وصبية تكرَّرا في أطرٍ مختلفة الحجم، هل هما ولداها؟ يطلّ إلى أسفل نحو غرفة الطعام، فيرى زينةً ملوَّنة دقيقة وتفصيلية فوق شراشف مطرَّزة بالورود والعصافير على الطاولات المربعة الضيقة، التي بالكاد تتسع لصحونٍ أصغر موضوعة في صحونٍ أكبر، وعلى جانبيها شوكٌ وملاعق وسكاكين بحجمين… دوامة أغراضٍ بالكاد كنسَ بعينيه بعضها قبل أن يستدير ويدخل غرفته ويقفل الباب خلفه بسرعة. يستند إلى الباب، يغمض عينيه، ويتنفّس الصعداء.
يضع كيس المشتريات أرضًا، يسحب منه زجاجة الرَم ويضعها على الطاولة المجاورة للسرير. لم يجد في دكّان القرية إلا رَم، وتيكيلا له معها ذكرى مؤلمة، ونبيذًا أحمر يتحسَّس جسمه منه. فاختار الرَم الذي لا يألفه. والماركة، لم يسمع بها من قبل: بغبغان القرصان. على الزجاجة، تحضر في ملصقٍ بيضاوي التصميم صورة بغبغان يطلُّ بوجهه من فوق كتف قرصان يبدو في خلفية الصورة، وتحته يَرِد شعار الماركة مكتوبًا بخطٍّ مائلٍ كأنه خطُّ يدٍ، يقول: «ستحكي عني.. سأحكي عنك!».
يخلع قِطَع ملابسه بسرعة، ويرميها تباعًا على الكنبة. يرتدي البيجاما، يقفل أزرار قميصها حتى آخر زرّ. يلفّ لنفسه سيجارة تبغٍ، يصبُّ كأسًا، يصنع لهما مكانًا على الطاولة المجاورة للسرير العارم، بين الضوء والمنفضة والتماثيل الصغيرة، ويقفز فوقه. يُبقي الزجاجة وكيس المشتريات الذي يحتوي على خبزٍ وجبنة مبسترة وبسكوت محلّي الصنع على مقربةٍ منه.
يلتقط نفسه فيشعر بالتوتر يقترب منه. يستقيم في جلسته، يسند ظهره إلى ظهر السرير المرتفع العريض، ويمدّ ساقيه. ينظر حوله ويتفرّج على تفاصيل الغرفة، يثبّت نفسه فيها. شهيق وزفير، يتنفَّس بعمق وبطء ثلاث مرات متتالية، يستكين، يبتلع نصف حبة من الدواء الذي يفرج له صدره، ويمدّ يده إلى زجاجة المياه القريبة. يشرب القليل، ويرتاح.
يسحب المغلّف الذي دسّه عند دخوله إلى الغرفة تحت المخدّة.
تلقَّى هذا المغلّف لمّا كان مراهقًا منذ ثلاثين عامًا ربما، وقيل له إنه يحوي مقالة فيها سيرة لم يرضَ أحدٌ نشرها لفضحها ما لا يريد أحدٌ كشفه. هذه السيرة تروي ما جرى هنا، في هذه القرية.
أهمَلَ الرسالة لسنين كثيرة، عن عمدٍ وعن غير عمد. لم يفتحها، لكنه احتفظ بها. أجَّل قراءتها.
الليلة، واستباقًا لموعده غدًا مع السيّد جورج، قرَّر قراءتها. قال له هذا الخواجة على الهاتف: «إذا كسبتَ ثقتي، ووجدتُ في الحديث فائدةً لك ولي، سأجالسك أيها شاب. تعالَ غدًا لنتعرَّف».
يمزّق طرف المغلّف ببطء، ويفكِّر. هذا النَّصّ.. فرضَته هي عليه. وكان مثقلًا بالقصص، لم يكن يقدر على حمل المزيد من دون أن ينكسر شيءٌ فيه. لا أراد الحِمل، ولا أراد رمي الحِمل. عالقٌ بين قلقَيْنِ، وعدّة أزمنة.
يسحب الرجلُ من المغلَّف أوراقًا متهالكة، يمسكها بعناية بين أنامله الهادئة، ويشرع بالقراءة بلا كثير اهتمام. افتعل اللا مبالاة ولا شيء في رحلته يبرِّر هذه اللا مبالاة.
«كلُّ شيء مراقب، كلُّ شيء. لا يمكنك يا قارئي الحبيب تخيُّل قطاع أو زاروب أو رمق بلا مراقبة. والمراقبة تتم أحيانًا عبر أدواتٍ معرّفة، وأحيانًا بالتخفّي. وما حدا فرقت معه. لم يكترث أحدٌ لها؛ لأن الجميع يعرفون أن خيار الحياة الوحيد هو العيش تحت المراقبة».
نفَسٌ عميق، جرعة رَم قاسية، يغصّ قليلًا ويغمض عينيه لسوء الطَّعم وحِدَّته، ثم يتناول هاتفه ويذهب في بحثٍ جانبي.
❂
اللقاء: دكّان الخواجة جورج
– جورج: قبل أن أحكي لك أيَّ شيء أيها الشاب، أريد أن أعرف ما رأيك بالرمّان.
– الرجل (بتأهب وتفكُّر): أحبّه. لا أُحب تقشيره. لونه يصبغ الأصابع أحيانًا. لكنه لونٌ حلو. أحبه حامض الطعم.. والحلو أيضًا. أحيانًا، كنت…
– (يقاطعه): ما هذا؟
– أخبرك عن علاقتي بالرمّان. فهي…
– مملّة.
– كيف أرضيك؟
ينهض الخواجة الثمانيني عن طرف الكرسي بتمهُّل، مستندًا إلى الطاولة الخشبية ذات الغطاء البلاستيكي الملوَّن برسوم الفاكهة. يستقيم نسبيًا، ثم يمشي ببطء. يغوص في الناحية المعتمة من الدكَّان الصغير الموضَّب بدقّة. يتحيّن الرجل الفرصة ليستكشف المساحة البادية حوله في خفوت الضوء بينما الشمس ساطعةٌ في الخارج تردُّها عن الداخل الستارة الملونة. تتسع عيناه كبومة. كم من أشياءٍ تُرى في هذا المكان. كم من أشياءٍ..
فجأة، تشتبك الأفكار قصيرةً في ذهنه. تصبح دائرية تستهلك رأسه. تتسلل غيمةٌ إلى عينيه. كميةٌ من المعطيات يجاهد ليرتّبها بين أحرفها المبعثرة المتداخلة. يضيق نفَسُه. يقحّ. تزغلل عيناه. يغمضهما ويفتحهما. يوسّع بيده ياقة بلوزته الزرقاء السماويّة. يقحّ. يشحب وجهه. يبلع ريقه. تبرد أطرافه. يشعر بالدوار.
تزدحم الدنيا حوله وتطبق على صدره، فيحاول أن يستعيد نفَسَه، فيتوتّر، فيبلع ريقه. يعلو صوت دقّات قلبه في أذنيه، يملأ نبض رقبته. يحاول أن يثبِّت عينيه على نقطةٍ غارقة في الظلام اختفى فيها الخواجة، يربط نفسه بها كي لا يتلاشى، ويصرّ على التنفّس الصحيح. يسحب شريط الدواء من جيبه ويبتلع نصفَ حبَّة بلا ماء، لا يقوى على النداء، لسانه ثقيل بين فكّين متشنجين قابضين على بعضهما، شفتاه جافّتان، سقف حلقه كذلك. عليه أن ينتظر عشر دقائق قبل أن يبدأ مفعول الدواء ويهدأ قلقه.
يتمنى ألا يظهر الخواجة.. يتكوّر على نفسه فوق الكرسي.
دقيقةٌ تقريبًا، ثم:
– هيَّا يا فتى، كُلْ هذه أمامي الآن.
يضع الخواجة على الطاولة أمامه صحنًا فيه سكينٌ وحبَّة رمّان، وبجانبه كوب ماء.
الرجل متّجهٌ بجسمه نحو الطاولة. يحلّ الصحن أمام أنفه تمامًا. يفرغ كوب الماء في جوفه وهو يحاول أن يظهر متماسكًا. يغمض عينيه، وقبل أن يقوى على رفع الرأس وإظهار الحال، ينقذه رنينُ الأجراس النحاسيَّة الصغيرة المعلَّقة عند أعلى باب الدكان، تكسر الصمت، وتسرق انتباه جورج.
تدخل سيدةٌ مسنّة.
– صباح الخير خواجة جورج. بدّي عذّبك بقرن جيلاتي إِلِي لو سمحت. نصّه لوز، نصّه حامض.
– أهلًا وسهلًا سيدة رملات. كِيف العيلة؟
– ماذا؟
– صحّتك.. كِيف صحّتك؟
– لا نسأل بعضنا عن الصحّة، جورج.
– صحيح، نسيت. ربما لأني استيقظت بألمٍ…
– جورج.
– أعتذر يا وداد. تفضلي القرن.
– شكرًا.. أوصِل سلامي لعصفورك الأحمر.
– سيسرّه ذلك كثيرًا، شكرًا..
– نهارك سعيد.
ترنّ الأجراس مجدَّدًا بينما السيدة رملات تخرج. تصرّفت وكأن لا وجود للرجل في المكان، لم تلحظه بنظرةٍ حتى. يتمتم جورج وهو يلاحقها بعينيه. الرجل، استعاد بعض رمقه لمّا سقط الانتباه عنه وتابع الأحداث.
يسمع الرجل كلمةً «التوأم» في التمتمة فيسارع ليجرّ الكلام نحوها، ويقول بقلة تفكير:
– أيّ توأم؟
حلّ السؤال كطرقعة أصابع أمام عينيّ جورج، باغته واخترق مساحته.
يلتفت بعينٍ حادّة إلى الرجل الأليف المتشنّج فوق مقعده، ويقول ببطءٍ وصرامة:
– كُلْ. حبّة. الرمّان.
يومئ الرجل بصعوبة وقد استعاد بعض هدوئه الفيسيولوجي. يرخي ظهره بتكسّرٍ إلى الكرسيّ، ويعود برأسه إلى الخلف. جسمه صغير نسبيًّا رغم طوله، يتسع في الكرسي، لكنه ينفرج قليلًا ويأخذ مساحة أكبر بعد انقضاء الحالة الضاغطة. تعلو زقزقة العصافير خارج الدكّان، أو يسمعها هو للتو. يعبر صوتها مع شعاع شمسٍ الباب الزجاجي ذي الإطار الخشبي والستارة القصيرة الشفافة واليد النحاسية. رأى الشعاع للتو أيضًا.
منذ عقودٍ قليلة، عادت الطيور مع عودة الأشجار إلى محيط البيوت في هذه القرية. والبيوت لا تعلو عن الطابقين، تغلّفها الطبيعة. ضوءُ السماء مبهرٌ هنا، يأتي بأشدّ الرماديّ حدَّة، قاطعٌ كالفضّة، ممتدٌّ شاسع، ثاقبٌ كالجليد، كالسكِّين. للنَفَس امتدادٌ فيها وعمق، ولو في آخره انقباض. أرضها ليست مستوية، فيها الطلوع والنزول. متاجرها قليلة ومنوّعة. منشآتها الصغيرة تنتهي قبل بلوغ المنحدر البحريّ الحادّ بأمتارٍ قليلة.
ينهي جورج ما بيده ويجلس قبالة ضيفه إلى الطاولة الخشبية. ينتبه إلى توتُّر الرجل، فيرأف به.
– ماذا تريد أن تعرف يا ابني؟
– قصة هذه القرية.
– لماذا؟
– أوصلتني إلى هنا أوراق سيدةٍ اسمها علياء، رسالة كانت قد أعدَّتها للنشر. قصدتُكَ لكي أدقق بالرسالة.
– علياء! إلى أيّ زمنٍ تعيدني؟ كنتُ.. كنتُ صديق علياء. ماذا كتبَت؟ انتظر، لا تبدأ. دعني أجهّز القهوة أولًا، وأنت التقط أنفاسك. لونك مخطوف.
غلاف الرواية لمايا الشامي
❂
الجلسة الأولى: قصة القرية
هذه القرية تأرجحت بين مراحل حملَتْ فيها اسمًا ومراحل مرَّت بها كأرضٍ غير معرّفة. عُرفت في تاريخها بثلاثة أسماء، ومرّت بمرحلتين بلا اسم. في البدء، كانت ناحيةً مهمَلة من الأرض، خطرة. ثم وجد أصحاب البلدة المجاورة طريقةً لاستثمارها، فأعلنوها قرية واختير لها اسم بقرارٍ حاكم. عاشت القرية وخدمت عمرًا باسمها الأول هذا، «القرية النموذجية»، حتى احترقت. بعد الحريق، يبست الحياة فيها وخلت تاليًا من اسم. تلك كانت مرحلتها الثانية بلا اسم، وقد استمرت لخمس وعشرين سنة تقريبًا، كادت خلالها القرية أن تُنسى حتى قصدَتْها امرأةٌ كانت أولى العائدات إليها والساكنات فيها فنُسبَت في المحيط إليها، وكان هذا النسب اسم القرية الثاني. اليوم، تُحضَّر لافتةٌ حديثةٌ نسبيًّا عند مدخل القرية، تخبر باسمها الثالث ويبدو حتى الساعة أنه الأخير الثابت لها. فقد تريّثوا قبل أن يثبّتوا اللافتة ويعلنوا عودة القرية إلى الحياة، والتريّث من صفات المسنّين.
المرأة التي عادت أولًا للإقامة فيها بعد الحريق، كان اسمها علياء. عفويًّا، صار يشار إلى القرية بصفتها «محطة عليا»، وكان هذا اسمها الثاني، إذ كانت علياء الإنسان الوحيد الذي يستقل الباص الأبيض والأخضر مِن وإلى محطّة القرية المهجورة. يقلّها الباص المنهَك البطيء كلَّ يومٍ في رحلته الأولى صباحًا، في تمام السادسة و22 دقيقة، ويتهادى بها بلا ثباتٍ جدّي على الأسفلت في رحلةٍ تستمر لساعة ونصف الساعة نحو محطة المدرسة البعيدة، أبعد محطاته. وفي المساء، عند السادسة و40 دقيقة، يعود الباص بعلياء في رحلته الأخيرة إلى قريتها. يتوقّف لها وحدَها لتترجَّل، ثم يكمل إلى مرآبه خارج القرية. لسنين، أقامت علياء بين أبعَد محطتين، بين رحلةٍ أولى ورحلةٍ أخيرة.
كان معروفًا منذ سحيق الزمان أنَّ هذه القرية تستقر على مقربةٍ نسبية من نهر نار. وكان معروفًا أنه يجب إلى أقصى حدّ الانتباه من نهر النار هذا؛ لأن أرض القرية مشبعةً طبيعيًّا بالمواد الخام، وهي مواد قيّمة لكن أيضًا سريعة الاحتراق. في البلدة المجاورة، دأبوا يتوارثون قولًا عن هذه القرية ينتهي بمناجاة: «سموم النار عم تغلي بعروقها.. تلاتين شمس بغروبها وشروقها». سموم النار هي قلب اللهب، ريحٌ متكوّنة حصرًا من النار، متخففة من دخّان الحريق الذي أنتج هذه النار. يقال إن سموم النار هي أصل الجان مثلما الطين هو أصل الإنسان. لونُها أزرق، وأحيانًا يقال إنه أحمر أو أخضر. بسبب تلك المواد وذاك النهر، مضت الحياة في هذه القرية تحت تهديد ضربة معولٍ جريء، يفتح قناةً للنهر باتجاه بطن القرية. ومضت الحياة لوقتٍ طويلٍ نسبيًّا بهدوء حذِر، إذ لم تكن هناك مصلحة لأحدٍ في ضرب تلك الأرض بذاك المعول.
لمّا أصابتها الضربة، نهشتها النيران نهشًا، أجهزت عليها في دقائق معدودة، والبعض يقول في ثوانٍ معدودة. راحت النيران ترقص فوقَ رمادها، حتى بلغت ألسنتها السماء. يُقال إنّ مارجًا من نارٍ علا عن سواه فيها حتى بدا وكأنه نبع لهبٍ ينبض حياةً. الذئاب كانت هناك، رأته. يقولون إن عواء الذئاب فوق التلال المحيطة كان الشاهد الوحيد على سطوة النار.
بالنتيجة، أتى الحريق على جميع سكّان القرية، إلا المصنّفين فيها أطفالًا. مات سُكَّانها بسرعة. وجدوهم موتى في بيوتهم، على كنباتهنّ. يبدو أنهم سمعوا صوت النار، وانتظروا الموت، عارفين أنه سيحلّ سريعًا، عارفات أن لا مهرب منه. فالأرض مشبَعة به. وثقلت رائحة النار، سلبَتْ الوعي، ولم تشتبك مع كائنٍ حيّ. سادت، فحسب. فرضت الاستسلام والخدر. و «للنار صفاتٌ تتميّز بها عن الطين».[1]عالم الجنّ في ضوء الكتاب والسنّة (كنوز إشبيليا – 2005) للدكتور عبد الكريم نوفان عبيدات.
أطفال هذه القرية بقوا على قيد الحياة، ومن ضمنهم علياء؛ لأنهم كانوا في رحلتهم نصف الشهرية إلى البلدة تريليا. إذ، قبل الحريق بأشهرٍ قليلة، وافق مجلس الأساتذة الذي يدير القرية على منح الأطفال رحلةً منظّمة مراقبة خارج القرية، إلى البلدة تريليا، مَرَّة كلَّ أسبوعين. ينطلقون صباح السبت، يرتادون المكتبة العامة والمنشآت المخصّصة للصغار، وينامون ليلة السبت/ الأحد في مَضافة الوفود المدرسية في ميتم البلدة. نهار الأحد بطيء، تتخلله ألعاب وساندويشات وعصير بالقرب من شاطئ البحر. وقبل غروب شمس الأحد، يعود بهم فريق المراقبة إلى القرية في الباص الذي يرافقهم طوال الرحلة.
كانوا جيل القرية الأول.. لكنهم لم يبلغوا الثامنة عشرة فيها.
الأطفال شكّوا بأن التوأم كانا سبب الحريق، ورووا قصّة. وبين أهل البلدة تريليا، شاعت قصّة أخرى، غريبة نوعًا ما، تفيد بأنّ بَني الشيصبان كانوا يسكنون هذه الناحية لمّا كانت مهجورة، وقد أحرقوا أهلها ليستعيدوها. بَني الشيصبان هم قبيلةٌ من الجنّ عُرف أنها الأكثر عددًا وقوّة. وحُكي أيضًا أنّ للأساتذة يدًا في الجريمة، إذ يعيشون في ناحيةٍ لا وقود تحتها، في بقعةٍ على مقربةٍ من المحميّة الطبيعية، فنجوا. كما حُكي عن عصابة، مجموعة ثورية، جماعةٍ انقلابية، شيء كهذا.
تفجّرت القصص يمينًا وشمالًا مع هدوء الحداد إثر فاجعة الحريق، حتى أتت الرواية الرسميّة بنتيحة التحقيق الرسميّ لتختم الكلام، جازمةً بأنّ الحريق هو حادثٌ أليمٌ، سببه ضربة معولٍ مؤسفة، لا مصلحة لأحدٍ بضربها. وبقي الهمس مستمرًا لأشهر حول حديث الأطفال، والتوأم.
إثر الحريق، بقيت القرية محروقةً مهجورةً لسنين طويلة. يوم عادت علياء إليها، صارت كابينة الخشب حيث أقامت رمق الحياة الوحيد فيها. وبقيت فيها وحدها، حتى توفيت. بعد وفاتها، بدأت الحياة بالتسرّب إليها. اليوم، صارت القرية أشبه بدارٍ واسعة لمسنّين كانوا أطفالها الوحيدين. كبرَ الناجون والناجيات، حتى صاروا يشتهون الهدوء. امتلكوا الحقَّ القانوني باستعادة مواقع بيوت الأهل في القرية، فتواصلوا عبر البلدات والمدن، اجتمعوا، واتفقوا على أسس العودة. أعادوا بناء بيوت الآباء والأمهات، وقرّروا أن تمضي الحياة بينهم بسلاسةٍ شرط ألا يتطرّق الحديث العام إلى عنوانين: الماضي السابق للحريق والصحّة.
وإذ بدا مقنعًا وساريًا الالتزام بتفادي الماضي البعيد، تراهم. فعلًا امتنعوا عن حديث الصحّة في الحيّز العام. التزامٌ تامّ به كبندٍ مؤسّس في العقد الجديد. وصفوه بأنه موضوعٌ يُناقش مع الأطباء، مع العائلة خلال الزيارات، وبين الأصدقاء المقرَّبين فقط. فكّروا بأنهم يغزلون حياةً جديدة، من الوظيفة إلى اليوغا والموسيقى والرحلات، ببطءٍ متفاوتٍ وتلذّذ. لو أتاحوا المجال لحديث الصحّة، ستنحسر أطر الحديث والنشاط الأخرى.
– ولكنك حدّثتني للتو عن القرية، وبإسهاب. ألا تلتزم بقوانين القرية يا خواجة؟
– (يضحك) لا، أحترم القوانين. أعترف بوجودها، لكني لا أحب الالتزام بها كثيرًا. ثم إنك قصدتني لتسمع هذه القصة بالذات، أجبرتني أن أحكي في الممنوعات.
– (يضحك) ما دام قبلت أن تحكي، قل لي، هل كنت تعرف جميع أطفال القرية؟
– معظمهم، نعم. إن من القرية أو من ميتم البلدة. ولم نكن كثرة. هل تريد أن تسأل عن شخص محدّد أيها الشاب؟
– نعم، رجل اسمه «المنسيّ». هل سمعت باسمه؟
– طبعًا.
– هذا كان اسمًا أم صفة؟
– المنسيّ كان اسمه في البطاقة الرسميّة وكان حاله في الدنيا.
روائية لبنانية-مصرية نشرت أربع روايات، «سأرسم نجمة على جبين فيينا» (2007)، «حب بيروتي» (2009)، «32» (2010)، «مينا» (2013). درست علم النفس في جامعة القديس يوسف في بيروت وحصلت على ماجستير في الدراسات الصحافية من جامعة لندن في المملكة المتحدة. عملت محررة في جريدة السفير بين 1998 و2017 وتعمل حالياً باحثة مختصة بالشأن اللبناني في منظمة العفو الدولية.
Footnotes:
| ↑1 | عالم الجنّ في ضوء الكتاب والسنّة (كنوز إشبيليا – 2005) للدكتور عبد الكريم نوفان عبيدات. |
|---|
