Skip to main content
search

Short Stories | قصص قصيرة

الورقُ المذهّب

CONTRIBUTOR
المساهم/ة
بلال حسني

TAGS
الوسوم
web-featured

PDF

SHARE POST
للمشاركة
CONTRIBUTOR المساهم/ة
بلال حسني

كاتب ومصور مصري. نُشرت له نصوص وفوتوغرافيا في مواقع مثل مدى مصر، رصيف22، ختم السلطان، ومجلة أمكنة وميريت. صدر له كتاب كعكة الحمار الوحشي (دار الكتب خان 2024).

WORKS BY THIS CONTRIBUTOR
أعمال للمساهم/ة
بلال حسني
Short Stories | قصص قصيرة

الورقُ المذهّب

By بلال حسنيApril 21, 2025April 23rd, 2025No Comments

لم يكن في ميدان المنشية سوى بلبل، إلا إذا احتسبنا العسكري الذي يحرس قبر الجندي المجهول، والذي لم يكن قوياً بما يكفي ليظلّ ثابتاً طوال الوقت، خصوصاً عندما تلعب عند قدميه جنيّات النصب التذكاري. وما لم يعبر العسكري مشدوهاً نحو البحر الممتد أمام ناظريه، ستظلّ شوارع المنشية نائمة حتى ساعة متأخرة من صباح الأحد، وتُغلَق أبواب سوق الورق ولعب الأطفال والمطابع، قبل أن تمتلئ بالحيوانات الصغيرة.

 

هكذا كانت روح الصباح بين الثامنة والحادية عشرة؛ الساعة التي قضاها الأسطى بلبل جالساً في مقهى بطاطا، في مقعده المفضّل المطلّ على الميدان والزقاق المؤدي إلى المحالّ المغلقة. لم يكن النهار ليبدأ إلا بأصوات المساجين في سيارات الترحيل أمام محكمة الحقانية، وهم يتوسلون المارة لإجراء مكالمة هاتفية لأقاربهم، بعد أن قُبض عليهم بتهمة التخريب في أثناء المظاهرة التي دعت إليها الدولة دعماً لغزة في أكتوبر الماضي.

 

كان بلبل أنيقاً كعادته: حذاء لامع، جوارب مشدودة بلون بنطاله السماوي، قميص ذابل من كثرة الكيّ بالبخار يبرز قصر قامته وبشرته الداكنة ويمنحه مظهراً أصغر بخمس سنواتٍ أو سبع من الستينات التي قاربها، دون أن يوحي ذلك بأي شعور بالشفقة على معاناته في الاعتناء بزوجته في أثناء مرضها.

 

أذابَ صمغ لسان الظرف ببخار إبريق شاي الزردة، ثم فتحه وأحصى المبلغ بداخله: 1200 جنيه. سحب زوجَيْ مئات ووضعهما في جيب بنطاله، ثم قرر سحب مائة أخرى، ولم يتردد. أخرج المبلغ مجدداً وأعاد فحصه، أزال ثنية إحدى الأوراق بعناية، ثم رتّب الأوراق الثلاث في الاتجاه نفسه. بلّل لسان الظرف بلسانه وأعاده إلى جيب قميصه بجوار علبة السجائر، مستوقفاً الاسم المطبوع عليه: «الطاووس»، بأناقته البسيطة. قرأه دون أن يعني له شيئاً، لكنه شعر برغبة في الاحتفاظ به كذكرى للست فايقة، زوجة صاحب المصنع، التي اختارته منذ صغره لتوصيل الشهريات وصناديق الطعام لمن تشملهم برعايتها. 

 

لحظات دنيئة، مثل المرات التي كان يسرق فيها قضمة من وجبة الغداء التي أعدتها لزوجها، متلذذاً بمذاق طبخها. يدسّ أنفه في الخضراوات المطبوخة، يقضم من صباع الكفتة، ثم يعيد ترتيب الطبق كما كان. ومثل الأقفال الصدئة التي كان يحضرها لها، لكنها لم تكن يومًا لحجرة مدفن أبيها.

 

ولكنها أيضاً لحظات عزيزة. أيام عيد الأضحى، حين يدخل حلبة الحملان قبيل ذبحها، يستعرض نفسه أمام الست فايقة، وأمام الأرامل المصطفات في انتظار الأضحية. كان يغرز قدمه بثبات في الكومة الترابية، ممسكاً بالحمل المختار، ويسحبه بهدوء، دون أن يسقط في قذارته.

 

ذكرى دنيئة أم عزيزة؟ لا يهم. المهم أن هناك ما يجمعهما.

 

كانت الشهور تمرّ على بلبل في السنوات الأخيرة بين فترات من العمل المرهق في المطابع الصغيرة، ليلاً ونهاراً، تعقبها شهور من الكسل والتسكّع بين المقاهي والشوارع. وحتى في تلك الأوقات، بدت العطلات قليلة جدّاً في حياته، إذ كان لديه دائماً عدد أقل من وسائل الترفيه. ثم تأتي أيام لامعة كهذه، عندما يلبّي طلب الحاجة فايقة، زوجة المعلم حسن، معلمه الأول ومورد الورق في المنشية، وصاحبة فندق هوليداي إنْ — الست التي أغرقت الفندق بأكمله بالحفر أسفله، لتجبر ملّاكه على إتمام البيع.

 

كان إلى جوار بلبل على الطاولة صندوقان متماثلان، معبّآن بالطعام المعلّب: الأرزّ الرديءِ ذي الحبوب الصغيرة، العدس، الفول، الزيت، التمر، والتوابل الأساسية. احتضنهما إلى صدره وتحرك نحو الزقاق، تاركاً مقعده دافئاً، كحرارة براز الطير — كما يصفها عامل الشيشة عندما يكتشف فجأة غياب بلبل.

 

عمِل بلبل حمّالاً للورق مذ كان صبيّاً. اعتاد تسديد حساب المقهى في مطلع كل شهر، وكان يجد في ذلك وجاهة خاصة. لكلٍّ منا طقوسه في مغازلة فنائه، وبلبل وجدها في تفاصيله الصغيرة الصارمة التي لا تتغير.

 

بالنسبة للأسطى بلبل، كانت هذه المسافة المعتادة منذ طفولته. عمل في ثلاث ورش أو أربعٍ في هذا الزقاق، حتى أتقن صنعة لصق الكرتون بالطريقة التي تجعله بلا تجاعيد، ليحقق مكانة فريدة في هذه الحرفة: القواعد اللامعة للورق المقوى التي تُستخدم في علب الجاتوه وتقويمات العام الجديد.

 

رفس بلطف ذراع صبيّ ينام ونصف جسده خارج فرش مستلزمات الخياطة، يرافقه سرب من الذباب. متجهاً إلى البيت الذي قضى فيه شبابه قبل سفره إلى ليبيا في التسعينيات. سمح لأخيه بالزواج فيه، وبعد وفاة الأخير، ترك البيت لأرملته ميرفت، وانتقل هو إلى مسكن قريب.

 

وقف الآن أمام مدخل البيت في الطابق الأرضي، حاملًا الظرف والصندوقين اللذين ترسلهما الست فايقة كإحسان لذكرى أخيه، الذي توفي خلالَ عمله في مصنع زوجها.

 

*

 

استخدمت ميرفت جميع تكتيكات المماطلة لإبقاء بلبل في البيت. في البداية، سألته لماذا سلّمها صندوقاً واحداً وترك الآخر خارج الشقة. فحص بلبل نبرتها محاولاً أن يستشفَّ إنْ كانت اتهامية، لكنه لم يتبيّن ذلك. رد بابتسامة صغيرة، وكان عليه أن يطمئن إلى نفسه أنها تنحدر من سلالة رعاة الحمير من جهة، وباعة من سوق الحرامية من جهة أخرى، وليست من نسل الأسطوات مثله وأخيه، أباً عن جدّ. اعتقد بلبل أن هذا سؤال غير ضروري. كان من الواضح تماماً أنه يتعمد بأصابع قدمه تهذيب الخيوط على طرف السجادة التي ورثوها عن أبيهم. لذا، وكبادرة منه، جاء رده مهيناً بعض الشيء: «مش إنتِ لوحدك اللي بيطلع لك صدقة، الست دي ربنا جاعلها فاتحة بيوت ناس كتير غيرك»، ثم سلّمها الظرف. كان مِنخراها يبدوان متّسعين، وكأنها تشتمّ رائحة جديدة في السجادة؛ أبعدت ترابيزة صغيرة فوق السجادة، لتفسح له تهذيبه للطرف الآخر منها، اصطدم جسدها به أكثر من مرة، ثم هدأت حركاتها تدريجياً.

 

عندها، سمح بلبل لنفسه أخيراً بالابتسام، وكان بإمكانه أو أي شخص آخر أن يستنتج ما قد تؤول إليه الأمور. شهر رمضان على الأبواب، وعلى الأقل، ستسعى لاستمالته كي يعطيها الصندوق الآخر.

 

عندما وقفت في المطبخ أمام إبريق الشاي بانتظار غليانه، رمقته بنظرة. كان هناك صمت آخر يجلس أمامه، متكئاً على حافة الأريكة، متلهفاً للتركيز على ملامحها وكلماتها، مترقباً تغيّر نبرتها الاتهامية والمتوسلة. ولكن كل ذلك كان يتلاشى أمام إدراكها أنها في حضوره تمتلك أفضل ساعة في الشهر. هذا هو الصبي الذي كان يزيّن دروعاً من الورق المقوى في مطبخها خلال الأعوام الأولى مع أخيه. بات الآن رجلاً يجلس قبالتها، لكنّ عينيه تحملان بقايا تلك اللعبة القديمة.

 

لا يزال بلبل، في كل مرة ينظر فيها إلى ميرفت، يجد أن الحَوَل في عينها اليسرى يعبث بإدراكه. يجعله يتخيّل أنه في موضع آخر، غير مكانه. وكأنّ عين حيوان متوحش تحدّق فيه بلطفٍ غريب. تلك الثواني المعدودة التي يحدّق خلالها في عينها اليسرى تجعله ينتقل، دون أن يدري، من جلوسه على الكنبة العربية، إلى التحليق في السقف، أو التعليق في جنزير النجفة، أو حتى الغوص إلى أعماق البيت. هناك، يستعيد مشاهد من طفولته حين كان يجلس فوق دولاب النيش، يتمرّن على لصق علب أحذية شركة باتا، وكأنه يريد السيطرة على عالمه الصغير.

 

رمقت ميرفت قوالب كعك العيد المنقوعة قرب الحوض في طشتٍ ممتلئ بالماء وبيكربونات الصوديوم، حيث كانت الأوساخ تتفتت عن قعر الصاج. تكسّرت قطعة بحجم سمكة بساريا وسبحت داخل الطشت.

 

 *

 

عادت إلى بلبل تحمل صينية الشاي. كان رداؤها المنزلي قابلاً للانعكاس، من الكتان الخشن بلون البسكويت. لم يكن ضيقاً، لكنه يبرز تناغم انحدارات جسدها الخمسيني. لفّت صدرها بشال مصنوع من القطيفة، مطرّز بعناية، ادخرته لتلك الساعة.

 

كانت غريزتها العميقة تخبرها أنه سيأنس بصحبتها خلال الساعة. «لو عندك هدمة عايز أغسلها لك، جيبها لي»، قالت دون أن تنظر إليه، ثم قامت من مقعدها بخفة رغم أردافها الممتلئة. أحضرت رولاً صغيراً وبعض الكراتين الدائرية وعلبة صمغ، وضعتها أمامه. سألته إنْ كان بإمكانه إيجاد زبون لها، وأشارت إلى غرفة نومها وأخبرته أنها تدّخر كراتين من الورق المقوى كانت قد احتفظت بها بعد وفاة زوجها.

 

لم يعجب بلبل شكل النوافذ الحديدية للمنزل، التي كانت تشبه الزنازين. لم يكن غافلاً عن موقع المنزل في الطابق الأرضي، وعن أنها اتخذت هذا الاحتراز ضد السرقات. إلا أنه لم يُعجبه تبذيرها. كانت التهوية سيئة أيضاً، معبوقةً برائحة صابون من النوع الرديء.

 

لكن لماذا يفكر في كل ذلك وهو لن يعود بأي حال للسكن في هذا المنزل؟

 

كان بلبل يحزن حين يعترف بهذه الحقيقة. لكنه وجد أن زياراته لها غير مفيدة، فقد تزعج الهدوء الذي شيّده بعناية حول حياته. كانت تلك الزيارات شيئاً يعكّر صفو ما كان يفكر فيه دائماً: أن مرض زوجته الطويل قد يجهّزه لتقبّل وفاتها، بحيث لا يتغير إيقاع حزنه حين يحدث ذلك أخيراً. ومع ذلك، قبل أن يتعمّق في هذه الأفكار، كان متلهفاً لفحص الورق المقوّى الذي أتت به، مستمتعاً بمهارته في لصق الورق الذهبي اللامع فوقه. كان هناك عمل يجب القيام به، لذا فقدت أفكاره المتتابعة وتيرتها الثابتة.

Medellin Mixup, Without Stories/Sin Historias, (2017)

اتكأت ميرفت على الكنبة المقابلة له. لم يكن بلبل يرى نفسه متديناً أو ملزماً بالحفاظ على عرف زيارته الشهرية لزوجة أخيه. بدا له أمراً تافهاً أن يضطر إلى إظهار بوصلته الأخلاقية أمام الجيران. حتى لو تركها، فهذه الشقة كانت بيته في الأساس، واتكاؤها هنا أو وقوفها في المطبخ لم يمنعه من التحرك في أرجائها دون أن يشعر بالغربة.

 

لم يكن يعني له شيئاً حين التصق جسداهما في أثناء إعداد السفرة في العزومات، حتى في حضور أخيه وبعض الأقارب، تماس كهربائي عابر، حتى لو طالت اللحظة بينهما. في حياة شقيقه، انخرطا مرّتين في جنس فموي في طرقة المطبخ، لكنه لم يحتسبهما، وبالطريقة ذاتها لم يرَ داعياً لاحتساب ثلاث مرات أخرى، أو أربعٍ، بعد وفاة شقيقه، حين ولج أحدهما الآخر. وجد طريقة لتجريد تلك اللحظات من معناها، لئلا تصبح انتهاكاً، فبالغ في تضخيم التفاصيل الدقيقة: رائحة جسديهما، الشعر الكثيف تحت إبطيه، ساعة الظلام في نهار المنزل، الوقت القصير المهول. راقها ذلك، لكنه ترك بينهما هواءً ثقيلاً لا يتجدّد، كأنهما تعاهدا على إنكار الذاكرة.

 

أما ميرفت، فكانت تستقبل الآن في مخيلتها الرجلين، الزوج الميت وأخاه، وإن كانا يتنكّران بشكل أقلّ وضوحاً. زوجها يحمل عيون بلبل القاسية، وبلبل يتقَصَّع مثل الفلاحات، مثل الحلو والحادق، مثل الذكر والأنثى.

 

يشبه التذكّر الطويل واصطياد ذكرى بعينها النسيان الهادئ. تنعم ميرفت الآن بتأمل بلبل وهو يكسو كل قطعة من الورق المقوى بالورق المذهّب، لوقت لا تدرك مداه.

 

نظّف بلبل الشوائب من الورق المقوى، ثم مشّط بيده حوافه، متفحصاً طبقاته الخمس الدقيقة. خفّف الرول بالماء قبل أن يغمره في علبة السِّليكَات اللاصقة المصنوعة من عظام الحيوانات، ثم دهن سطح الطبق. سحب ورقة مذهبة، وضع طرفها مطابقاً لحافة الطبق، ثم مرّر الرول عليها، مطارداً فجوات الهواء حتى خرجت. كرّر الأمر على الوجه الآخر، حتى ظلت انعكاسات أطباق الجاتوه الذهبية تتلألأ في صالة المنزل كلما مرت سيارة في الشارع.

 

كان والد بلبل قد هرب مع مساعده في الورشة على مركب إلى إيطاليا — (الصبيّ، كما يُقال في كار الصنايعية). هرب إلى الحياة غير المقيّدة، إلى البلدان البعيدة. تعرّض الطفلان لصدمة شديدة، وكان الجميع يعرف ذلك؛ تحدّثوا عنه وسخروا منهما. قضى بلبل طفولته هو وأخوه يدافعان عن الأب، ويطوّران حكايته، فأضافا إليها تفاصيل جديدة: هروب صنايعية آخرين معهم من مطبعة الفابريكة الأهلية، ليصبح الأمر هروباً جماعياً، لا مجرد نجاة فردية للأب.

 

كان الجيران يراقبونهما دائماً، حسناً، دعهم ينظرون. لذا، في روايتهما الجديدة، التي نُسجت على مهل، تحوّل الهروب إلى اليونان بدلاً من إيطاليا، فمُحيت من مخيلة الجيران صورة القارب الكبير الذي عبر بهما البحر، والمخاطر التي واجهاها خلال الرحلة، والليالي التي قضياها يتشاركان المجهول. كان ذلك أكثر أماناً لحكايتهما، وأقل إثارةً للشبهات، فلا أحد يهاجر إلى اليونان هروباً كما يُهاجر إلى إيطاليا.

 

تلاشت ميرفت من نشوتها، وسيطر عليها الخمول. غفلت، بينما كان بلبل وزوجها الميت يتجولان في أراضي مخيلتها، في مزرعة الحمير التي قضت شبابها فيها، كما لو أنه قد هدمها شخص غريب منذ زمن بعيد. زارا الحمير الصغيرة دون أن يرغبا في ركوبها، حتى أبصرا نوعاً نادراً من الأيائل. تظاهرت أن رأسها نائم، وذاكرتها كالصفيحة الصدئة، بينما سمحت لشالها أن ينزلق، كاشفا استدارة جسدها. كان الزمن يتسارع بينهما بشكل طبيعي.

 

كانت تستلقي على الكنبة، كما اعتادت في حضور الشقيقين، كان هناك صوتان يترددان في أرجاء الزقاق الهادئ يوم الأحد: أجراس كنيسة كاثرين القريبة، وصوت القطار الذي يقع على بعد نصف ساعة مشياً. كانت القطارات تدقّ بقوة غير معتادة، وفيما كان بلبل يشمّ بداخلها رائحة الخوخ، اقترب منها. واندفعا في دوامة من المشاعر المختلطة، حيث تلاشى الزمن وكأن الخط الفاصل بين الذنب والبراءة لم يعد موجودا. بدت لحظتهما كزيارة لقبر عزيز ووضع الزهور عليه: هدوء مخادع يتخلّله إحساس بالخلود والموت في آن واحد.

 

كان بلبل يزور قبر أخيه سنوياً، ويعود منهكاً بعد أن يأكل من قرص البسكويت والعجوة التي يتركها زوار المقابر. الآن، وهي معه، تطمئنه إلى أنه، أينما تكمن الحقيقة، فقد أحبّته دائماً، لن تنزع أظافرها من جانبي بطنه، حتى لو دخلت عليهما ابنتها التي تعيش مع زوجها في كرموز، مستخدمة مفتاح الطوارئ. وإن قام الآن من فوقها، فستلاحقه حتى لو دخل كنيسة القديسة كاترين أو ما يعادلها.

 

يتبيّن لها الآن أنهما موجودان في عالم جديد، مادي ومبهم يتكوّن ببطء. تطلب الأمر بعض المهارة، وهي المهارة التي يمتلكها الأسطى. حافظ بلبل على إبقائها متكئة، واقفاً أمامها كضيف دقيق لا يريد تحريك شيء من مكانه. تصورا نفسيهما يتحدّثان، لكن لم يكن هناك ما يُسمع سوى الهدير الخافت الصادر من تلامس جسديْهما، هدير بالكاد يتجاوز عتبة السمع.

 

حين تدفّقت عصائره داخلها، أحسّت كأنها تحمل في أحشائها مزيجاً غريباً من عناصر لم تختبرها من قبل، وأنها تسري بداخلها وتتغلغل في مناطق لم يصلها أحد من قبل. ولم ينضمّ زوجها الميت إليهما هذه المرة، لكنه ترك بصمته، كان الانحطاط حاضراً في صورته وهو غارق في شلال من الغلة في المصنع، حيث مات تحت ثقل الحبوب. هدأت تردداتها شيئا فشيئاً، وعادت حواسها إلى إيقاعها المعتاد. 

 

*

 

في رحلة خروجه من بيت أخيه، تحسن مزاج بلبل ببطء، إذ بدأ يفهم بشكل أكثر اكتمالاً سبب مجيئه. كواجب وامتثال، بالطبع؛ لقد كان آمناً لفترة أطول مما ينبغي، لكن مزاجه تحسّن حين بذل نفسه مع ميرفت، من جديد، بطريقة مربكة للغاية. حمل بلبل الصندوق الآخر على صدره، وكان ينتظره الملقب بـ«كربونة» على الجانب الآخر من الزقاق. تجاهله بلبل باحتقار، وعدل من وضع الصندوق وحمله مثل الدفتر، بين يده وجانبه. إلا أن كربونة، رغم ذلك، تبعه بخطوات حذرة، نعم هو ترك العمل كمساعد لبلبل منذ زمن بعيد، لكنْ، ورغم أنه يتعدى الآن الأربعين من عمره، فإنه لا يزال يهاب بلبل.

 

قال كربونة وهو يمشي خلفه: «الحاجة فايقة قالت لي أجيبك معايا… الأرامل اللي بتبعت لها الشهريات… قاعدين عندها وعاملين غاغة». كان بلبل يقود كربونة على طول جدار كنيسة كاترين، وكان قريباً جداً لدرجة أنه لامس أحد الحجارة الملونة باللون الأحمر على عكس باقي الحجارة. قال كربونة بتردد: «ده مش طريق الحاجة فايقة». لكن قبل أن ينهي كلامه، باغته بلبل بلكزة مفاجئة في صدره أطاحت به أرضاً. ثم أمسكه من رقبته وخنقه بيد واحدة، وضغط عليها بثبات لثوانٍ أطول من اللازم، حتى سمع زمجرة مكتومة من حنجرته. لم يتجرّأ كربونة على المقاومة، لأنه يعرف أن بلبل سيفلت قبضته في اللحظة المناسبة. فكل كسر في عظامه، وكل جرح استلزم خياطة على مرّ السنين، كان دائماً محسوباً ومدروساً بعناية من بلبل.

 

تابع بلبل سيره، وبعد نحو مائة متر، تبعه كربونة مرة أخرى، ملتصقاً بخطاه كظل ثقيل. وبينما كانا يعبران من زقاق إلى آخر، تباطأ بلبل قليلاً، فقد أحسّ بشيء غريب تحت قدميه. بدا وكأنّ الأرض مغطاة بطبقة لزجة، كالصمغ. ثم ازداد اندهاشه حين أدرك أن الزقاق ذاته بدأ ينجرف به، وكأنه يذوب أو يتحلّل ببطء.

 

واصل السير بحذر، لكنه لم يعد متأكداً إنْ كانت قدماه تلامسان الأرض حقاً. أحاط به صوت يشبه انحناء الحديد واصطكاكه المتشنّج. نظر حوله، فرأى سوق الورق وميدان الجندي المجهول ومحكمة الحقانية وهي تتكوّر وتتقلّص تدريجياً، كأنها تُطوى على نفسها. أفلت الصندوق من يده. شعر بأن العالم من حوله ينطفئ ويظهر على نحو متقطع، وكأن الوجود ذاته يختلّ.

 

عندما بدأ يطفو في الفراغ، حاول التشبث بعمود إنارة، لكنه فوجئ بأن العمود نفسه تحرّر من ثباته في الرصيف وتحطم. أفلت بلبل يده من العمود، لكنه لم يسقط هذه المرة، ولم يعد يطفو أيضاً.

 

عندها، تأكد أنه يسبح في العين اليسرى لميرفت. كان الهواء من حوله أشبه بسائل العين اللزج، وكان عالقاً في انعكاس غير مكتمل، يهتزّ وجوده مع حركة رموشها المتشابكة. تطلع إلى القزحية الساكنة التي ترصده وتبتلعه بهدوء غير مبالٍ، رأى صورته تتكرّر داخلها، بينما كانت السحب من حوله تتشكّل باستمرار برياح غريبة، شعر أنه منقوع في ميناء عكر. ومع ذلك، بقي وزنه كما هو، وجماله كما هو، في ذلك الفراغ الذي أخذ يتسع حوله.

 

وكان الجو لا يزال مشمساً.

Author

كاتب ومصور مصري. نُشرت له نصوص وفوتوغرافيا في مواقع مثل مدى مصر، رصيف22، ختم السلطان، ومجلة أمكنة وميريت. صدر له كتاب كعكة الحمار الوحشي (دار الكتب خان 2024).

كاتب ومصور مصري. نُشرت له نصوص وفوتوغرافيا في مواقع مثل مدى مصر، رصيف22، ختم السلطان، ومجلة أمكنة وميريت. صدر له كتاب كعكة الحمار الوحشي (دار الكتب خان 2024).

Close Menu