
كلّما رأيتُ قطّةً حاملاً في الشارع تملّكتني رغبةٌ دفينة بركلها.
أن أركل القطّة الحامل تحديداً في بطنها الممتلئ. هكذا، ركلة واحدة. من دون سببٍ يُذكر. من دون تردّد.
لم أكن دوماً كذلك. أعني، أحبّ القطط. ما زلتُ أحبّها. لكن، لا أدري. هكذا. سَئِمتُ منظرَ القطط الحوامل. أسابيع مضت والقطط حوامل. انقضى شهر شباط، ولم تلد أية قطّة بعد. سألتُ صديقاً، وقال نعم إنّ في الأمرِ عجَباً. لم يجد جواباً هو الآخر.
بدوره، سئمَ منظر القطط الحوامل: «أسابيع مضت والقطط حوامل. انقضى شهر شباط، ولم تلد أية قطّة بعد. سألتُ صديقاً، وقال نعم إنّ في الأمرِ عجَباً. لا أجد جواباً. كان يُفترض أن تلد جميعها، أو معظمها، مطلَع الـ…»، وسكَت.
– الـ…؟ سألتُ.
– تعلَم، قال. أوّل الـ…
وسكَتَ من جديد.
– احكِ. أوّل الـ…؟
وبعد أسابيعٍ طويلة، 6 8 10… ملَلَنا العد. 12، ربّما، استيقظنا لنجد قططَ الحي جميعها وقد وضعت هُرَيراتها الصغيرة، ضربةً واحدة. كان صوت المواء عالياً. منذ أيامها الأولى كانت الهُريرات تُبصر، وكان لها وبرٌ. والأغرَب: أسنانها (والأدقّ: أنيابها) كانت بارزة. كانت تنهش لحماً منذ الولادة، حتّى إنّ بعضها قد تمكّن من فَتّ العظم.
ولسببٍ غير مُعلَن، كان العظم كثيراً في هذه البلاد.
❂
أحدثَت القطط جلبة. لا بسبب الولادات المؤَجَّلة فقط، بل أيضاً لكثرة ما تمَلمَل منها أهل الحَي. تململٌ استدعى اجتماعاً تشاركياً بينهم، وبين البلدية، بحثاً عن أرحم طريقة للتخلّص من القطط. كانوا يقولون «أرحم» وهم يتغامزون في ما بينهم. المهمّ كان التخلّص منها، والسبب؟ الوبر.
أعرض لكم السياق: آنذاك، كنّا نمضي أيّاماً كثيرة بملابس الصوف السميكة. أكثر من العادة. ربّما لبسنا الصوف لما يزيد على نصف السنة. وفي ما تلا ارتدينا الأكمام المحفورة فقط؛ لولا الحياء، لمشينا عُراةً في الشوارع. سادت على السنة قسمةٌ غريبة: إمّا بردٌ قارص وإمّا حرٌّ قائظ. إمّا ترتدي الصوف (فيعلق وبرُ القططِ عليه)، وإمّا تمشي شبهَ عارٍ (فيلتصق الوبرُ بالعرق المتصبّب من مسامّ الجلد).
من بين عجلات السيارات، كانت الهُرَيرات-التي-برزت-أنيابها تُراقب، كيف أنّ وبراً لا يُرى تحكّم بمصائر الناس وأمزجتهم. كانت تبتسم مزهوّة، من غير أن تعلم ما يُرسَم لها.
القسمة الغريبة انعكست على الأسواق: بعد أن خفّ الطلب على الملابس «المُعتدلة»، أقفلت بعض المحالّ، فيما استثمرت محالّ أخرى بالمعاطف السميكة والتنانير الرقيقة حصراً. وقد تكدّس كل ما بين هذا وذاك في المستودعات، بالأطنان، بلا شُراة، إلى أن تقرّر إتلافه تفادياً لانتشار العَتّ والبراغيث والطفح الجلديّ.
كان عادياً أن تمشي في القرى وترى أكوام الملابس تُحرَق. كانوا يرمونها على أعمدة اللهب المتصاعدة ويقولون ألّا أحد سوف يرتدي هذه الملابس بعد الآن، بعد أن انتهى الـ…
– الـ…؟ سألت.
وقالوا: تعلَم، الـ…
❂
كان عادياً أن تمشي في القرى، وترى العنبَ يُتلَف أيضاً. لم يكن عنباً في الحقيقة، بل ما يُشبهه. هذا العام، بقيَ الثمرُ حصرماً. في البداية ظنَّ والدي أنّ مرضاً أصاب عريشته. العريشة التي زرعها جدّي، وبنى خيمتها الحديدية بيدَيه (يبست لعامٍ واحدٍ فقط، عام رحيله، وظننتُ أنّها لن تحيا من بعده. لكنّها عادت كما كانت، تُطعم في موسمها العادي الضيعةَ كلّها).
هذا العام، بقيَ الثمرُ حصرماً. أقزَمَ الزرع. حصرم لأسبوع. حصرم لأسبوعَين. لأسابيع طويلة، 6 8 10… ملَلَنا العدّ. 12، ربّما، واستيقظنا ذات يومٍ لنجده مكتملاً. بل في آخر استوائه. كانت الدبابير تملأ العريشة، وتنهش، وتنهش، وتنهش، والماء يقطر، وتنهش، والماء يقطر حتّى طفحت الأرض بلزوجةٍ تجعل الحذاء يغرق فيها، وتجعلك تلاحظ وجودها بفعل الصوت الذي يصدره الحذاء.
الدبابير، كشّيناها بالمكانس. ثم أشعلَ أبي ناراً كي يطردها بالدخان. عقصني دبّورٌ. دبّوران. دبابير كثيرة، 6 8 10… ملَلَت العدّ. 12، ربّما، وتورَّمَت عيناي. حتّى صرتُ أرى كلَّ شيءٍ بالأحمر. ولشدّة ما توجّعت، أوشكتُ أن أفقأ عيني. قلتُ أُثبّت حبّةَ عنبٍ مكانها. أوشكتُ، لكنّ صراخ أبي قاطعني: دبّورٌ آخر نتَش رقبته. مرّات متتالية. مرّات سريعة. ولولا رأفة الباري، لبلغَ الدبورُ الوريد.
علمنا لاحقاً أنّ المشهد نفسه قد تكرّر في باقي المنازل. بقي هذا اليوم محفوراً في ذاكرة القُرى. جَنوباً، وإلى البقاع. وقد صحَّ لأهالي الضيَع يومٌ يتيمٌ لحواش العنب، وانقسموا بين:
1. مَن سارع إلى البسطات لبيعه،
2. مَن حجز دوراً في المعصرة لصناعة الدبس،
3. مَن وفّر عناء المزاحمة، وسَطح عنبَه تحت الشمس ليجعل منه زبيباً.
* يُحكى أنّ قلّةً قليلة استمتعت، ولأيّام، بعنبٍ طازجٍ يؤكَل، ولمّا سُئلوا عن ذلك، أقرّوا بأنّهم فاوضوا الدبابير: رموا عظماً للهُرَيرات-التي-برزت-أنيابها، ولمّا جاءت، علقت بالقطر اللزج.
وافقت الدبابير أن تصرف أنظارها عن العنب، مقابل أن يصرف أصحاب المُلك أنظارهم عنها وهي تنقضّ على الهُرَيرات-التي-برزت-أنيابها العالِقة مكانها بلا حيلة.
ما يعنينا هنا هو أنّ غالبية الضيعة لم تأكل عنباً طازجاً إلّا يوماً واحداً. سمّوه في المجالس «يوم الـ بعد الحصرم وقبل الدبس». تقريباً قبل الدبس. ثمّ صار عادياً أن تمشي في القرى وترى العنبَ يُتلَف، فوق الملابس. وقد لفتني رجلٌ، يتّجه برفقة ابنه صوب جُموعِ إحراق العنب: سحب الهاتف من جيبه ورفع عنقوداً أمامه، وصَوَّر.
صورة. صورتان. صور عديدة. 6 8 10… مللتُ العدّ. 12، ربّما، ثم صوّر ابنه بجانب العنقود، ورماه على النار.
❂
الأولاد. تذكرون لينا؟ هذا الطفل ووالده ذكّراني بلينا، ووالدها. كتبتُ قصّتها لمّا رأيتها قبل عامَين في الحَي: هي تبكي، والوالد يحاول مواساتها. صاحب محل الحلويات قال: «عفواً أستاذ. ما عنّا اليوم. انضربت القشطة من ورا الكهربا». الوالد قال: «ما في يا لينا، خدي شي تاني». ولينا أخذت تبكي وتكرّر «لأ بابا بدي عثملية». تُكرّر، والسوائل تسيل من أنفها: «بدي عثملية».
في العام التالي عُولِجَت مشكلة الكهربا (تقريباً). عادت حلويات القشطة إلى السوق بالتدرّج، واصطحب الوالد ابنته لتتناول الحلوى التي تريد كما رأتها بالصورة: قرصٌ ذهبي/ طبقة قشطة/ قرصٌ آخر يسيل القطر عنه/ ثم الزينة الحمراء. لكن مَن كان ليتوقّع أنّ لينا سوف تنبعص من جديد؟
زهر الليمون انقطع، والحلو العربي بيعَ جميعه بلا زينةٍ تُذكر، والمنظر الشهي في الصورة بقيَ بعيد المنال: قرصٌ ذهبي مملّ، وملعقة قشطة فوقه. ذاك الأحمر القرمزيّ الجميل، اختفى، إذ لم تُزهر ولو ليمونةٌ واحدة في هذا العام.
جنوباً، بدت طريق أبو الأسوَد مَقيتة؛ البستان الذي كان يلازم جانبَي الطريق، صار كالحائط المسدود. كنتُ أتعمّد عبوره طمعاً برائحة الليمون، والآن، ليس في الطريق سوى رائحة العفن والرطوبة. أخذتُ أتمتم: من أين لنا كلّ هذا العفن؟ ثم استدركت: كان يُفتَرَض أن يُزهر البستان في الـ…
وسكتُّ.
– في الـ…؟ سألتُ نفسي.
هذه الكلمة اللعينة التي ما عدتُ أجدها: كان يُفترض أن يُزهر الليمون في الـ…
لكنّ بستان أبو الأسوَد بدا مقيتاً. لا رائحة، لا طعم، لا لون. خشَبٌ ويَباس، ومواءٌ عالٍ يصدر من هناك، وأنيابٌ يُسمَع صريرها، وورقٌ أصفَر. والغضبُ أبيَض. وأحلامي زرقاء. ومزاجي رمادي. وأرى بالأحمر؛ وكان بإمكاني تعداد كلّ الألوان من حولي، إلّا لوناً واحداً.
اختفى.
❂
وتذكّرت.
صديقتي التي تُحبّ الأخضر، لم أرَها منذ أسابيع. 6 8 10… لم أملّ العدّ. 12؟ أعني… هي اختَفَت، وأنا انتظرْت. مرَّ الخريف. وانقضى الشتاء، حتّى إنّ الـ… انقضى.
صديقتي التي تُحبّ الأخضر، لم أرَها منذ أسابيع.
«أمسكتُها مرّة وهي تأكل نحلةً. وعندما أدرَكَت أنني أراقبها، بصَقَتها وقالت إنها هي التي دخلت فمَها. لكنّني كنت أعرف أنها كانت تأكل النحل، وأنّها لطالما اختارت منه الذي امتصَّ أكبر قدر من رحيق الحنبلاس. كانت تُبقي النحل حيّاً في فمها للحظة، وتتركه يلعب قليلاً هناك، قبل أن تبتلعه»[1] موت في الـ… ، ميرثي رودوريدا (رواية، ترجمة هلال شومان)..
وشعرتُ للحظة أنّني نحلة. متناهية الصغر والهشاشة. وشعرتُ أنّني أغرق في زلعومها وأذوب. وحاولت مع ذلك أن أبقي إبرَتي في داخلي، قدر الإمكان، رغم غريزة الموت التي كانت تأمرني عكس ذلك لو وددتُ أن أنقذ نفسي، لو وددتُ أن أُبصق من جديد، لو وددتُ أن أحيا. كنتُ أهذي. كنتُ نحلةً متناهية الصغر والهشاشة تغرق في أمعاءٍ غليظة بلا نهاية.
وتذكّرت.
لا الشتلُ أزهر هذا العام، ولا الزهر أنتجَ رحيقاً. بدأ النحل ينحف. كاد يتضوّر من الجوع. أو بالفعل تضوَّر. وزارة الصحّة قالت إنّ الجوعَ التهمَ 36 نحلةً.
ورأيت.
ملكة النحل، وقد أنهكها الوهنُ والتلاشي، تجمع رعيّتها وتشاورها. كان الطنينُ عالياً — زننننن.
هكذا رنّة واحدة متواصلة لا تنقطع — زننننن،
احتدم الجدال — زننننن،
وبعد حين هزّ القفير رأسَه مطأطئاً — زننننن،
بما معناه أنّه وافق على القرار الصادر للتو — زننننن،
ولو على مضض — زن.
وأنا الذي لا يفقه لغة النحل، لم أفهم الخلاصة. لكن ما يعنينا هنا، بعد هذه المفاوضات، هو أنّ النحل بدأ يتكوّم على التبن والزبل ومؤخّرات البقر. في البداية، مات نحلٌ كثيرٌ بذيول المواشي. وكانت الهُريرات-التي-برزت-أنيابها تتدافع في ما بينها لتلعق النحل المتساقط أرضاً. تتدافع، وتموء إذ يدوس بعضُها بعضا، وتختلط أصواتها لتصدر رنيناً واحداً متواصلاً وكأنها سوف تنفجر جميعها في لحظةٍ واحدة.
ثم تعلّم النحل استباق اللسعة، كما تفعل البعوضة. وهكذا استطاع أن يعيش وأن يعتاش على المواشي. ثم على علف المواشي. وها نحنُ الآن: وجدَ النحلُ غذاءً جديداً، ولكن فسَد العسل. عاث فيه ما يشبه الدود. قالوا إنّ هذه هي البويضات الجديدة. شرانق بيضاء. شرانق بيضاء. شرانق بيضاء. شرانق بيضاء. شرانق بيضاء. شرانق بيضاء… شرانق بيضاء. وانقلبَ النحلُ دوداً.
بيني وبين نفسي كنتُ أُتَمتم: «إلَهي: لينبتَ دودٌ مكان العسَل. انقضى فصلُ الشتاء، ولم يفهم أحدٌ ما حصل».
❂
كانت رائحة النحل الجديد كريهة. رائحة الشوارع… أحاول وصفها، لكن أن تشمَّ تلك الرائحة، شيءٌ آخر. نأى الناس بأنفسهم، واختبؤوا في مضاجعهم. ابتعَدوا عن الشبابيك، حتّى إنّهم امتنعوا عن استراق النظر. مشاهد حسّاسة، قيلَ لهم.
لم نفهم حقّاً ما كان يحدث في الخارج. كانت الشوارع تضيق أكثر ممّا كانت عليه. بقيَ ما بقيَ منها. نُسيَ ما اختفى. وفي كلّ يوم، كان يختفي الكثير. وحدها الهُريرات-التي-برزت-أنيابها كانت تتكاثر (الآن فقط أنتبه: كان يجب أن أركلها في مطلع النَص). الأمكنة أُحادية اللون. الوقتُ معلَّق. والـ…؟ لا أعلم. الدبابيرُ توَحشَّت. والعنبُ يُتلَف لا يزال. وأنا هاهنا، في مخبئي المستحدث. 60 كيلوغراماً من المشاهد الحسّاسة. أَهذي. أهذي وأتماسَك وينتابني شعورٌ من «الشُئِسمو». وتراودني أسئلة كثيرة. 6 8 10… مللتُ العدّ. 12، ربّما. ثم يوقظني صوتٌ أليف. صوتٌ لا أعلم كيف رصدته من بين المواء العالي. صوتُ خطىً أعرفها. خطى خفيفة. وكانت تبتعد، تتّجه إلى الجوار المُخيف. وخرجتُ خلفها. خرجتُ أبحث عن أجوبتي. ورأيت: كان العظم كثيراً في هذه البلاد. وكانت الدبابير لا تزال تُلاحقني. وكان ظلٌّ أمامي. ورأيتُه يختفي. كان يسبقني دوماً بخطوة واحدة على الأقل. ومع ذلك طاردته. وفقط لمّا دنوت منه، انتبهت لِما كان يفعل طوال هذا الوقت. انتبهتُ لركام المدينة، لِما بقيَ من جدرانها، للأنقاض، وقد خطَّ الظلُّ عليها العبارةَ نفسها: «استطاعوا قطع كلّ الورود. لا تدعوهم يمنعون الـ… أن يأتي».
سمير سكيني، كاتب وصحفي في بيروت، له يد في الفنون ويد في السياسة. تنقّل بين اختصاصَي الهندسة المعمارية والفلسفة في الجامعة اللبنانية، قبل أن يرسوَ في عالم الصحافة. نشر عدّة مقالات ومساهمات حول مواضيع اجتماعية- نفس اجتماعية- سياسية- ومتابعات للنشاط الطلّابي في لبنان، وذلك في عدّة مجلّات ومواقع. صدر له كتاب «الأقحوان ينبت في الشيّاح» (2018) وكتاب «نهار أحد» (2020)، عن دار الفارابي.
Footnotes:
| ↑1 | موت في الـ… ، ميرثي رودوريدا (رواية، ترجمة هلال شومان). |
|---|

