Skip to main content

Short Stories | قصص قصيرة

رسالتان إلى أبو كرم، قبل الأبد وبعده

CONTRIBUTOR
المساهم/ة
لمياء أبو خير

TAGS
الوسوم
web-featured

PDF

SHARE POST
للمشاركة
CONTRIBUTOR المساهم/ة
لمياء أبو خير

محامية متدربة سابقة في سوريا، تعيش حاليًا في مونتريال، حيث تدرس السينما. لديها عدة نصوص منها نص «باص رقم 121» في جريدة الجمهورية.

WORKS BY THIS CONTRIBUTOR
أعمال للمساهم/ة
لمياء أبو خير
Short Stories | قصص قصيرة

رسالتان إلى أبو كرم، قبل الأبد وبعده

By لمياء أبو خيرJuly 14, 2025July 18th, 2025No Comments

رسالة إلى أبو كرم



اليوم كان دوري بالتنظيف والإقفال. الأحد، الساعة التاسعة مساءً بتوقيت مونتريال، الرابعة فجرًا بتوقيت دمشق. انظر لكاميرا المراقبة في المقهى المقابلة لي بعيون متجهة للأعلى كما كنت انظر لعيون الله وأنا أفكر أن أسرق شوكولا ديمة «بليرة» من الرف بدكان عمي رشيد. أخاف، ارتجف، وانا انظر للأعلى ولكن عندما أعيد أنظاري للرف تستدعيني الشوكولا الصغيرة بطعم جوز الهند لأسرقها. لذة الشوكولا تُذهب الخوف من عيون الله التي تسلّطها أمي علي.

في المقهى على الأرض من زاوية معاكسة لكاميرا المراقبة تنظر لي يد مقطوعة ومرمية تحت الطاولة. ينقبض قلبي وتُشل حركتي عندما ألمحها. يد بأصابع منتفخة من رؤوسها بسبب مرض اسمه «أصابع أبقراط». هذا ما أخبرني به أبو كرم في العاشر من نيسان سنة 2013 في دوما عن أصابعه وهو يحمل كاميرتي التي تركتها معه ليوثق يومياته الثورية في دوما.

كنت أذهب هناك أياماً أعود بعدها لمشروع دمر. ولتخفيف الخوف، كنت أسمي هذا التنقل «سياحة ثورية». هل سأنتقل للعيش هنا في منطقة محررة من سلطة النظام أم أبقى في بيتي في المنطقة غير المحررة؟ سؤال اسأله لنفسي بعد كل ذهاب وعودة من دوما، لتجيب امي عنه باتصال على الهاتف الأرضي: «اهربي رح يفرموكي».

بعدها بأربع ساعات، كنت في بيروت.

أعرف بعقلي الواعي أن هذه اليد المرمية تحت الطاولة والتي تُحدق بي هي لعبة مصنوعة بمهارة. سقطت من زبون في طريقه لحفلة ما تتطلب التنكر بهذه اليد مع اكسسوارات أخرى. لكنني أعرفها وأكاد أقسم أنها يد أبو كرم صديقي. تعود اليد نفسها أمامي وهي تقلب بأزرار الكاميرا وأنا أحاول تبسيط الشرح: «حطّ كل شي اوتو وبعدين ثبته». لم أعرف ماذا صور أبو كرم لاحقاً، فلقد اختفى هو والكاميرا.

اختفى تعبير غير عادل. «قُتل تحت التعذيب على يد نظام الأسد» هو التعبير الأنسب، عرفت ذلك عندما رأيت صورته بين الصور المُسربة عن منشق عن النظام لُقب باسم قيصر. كان العنوان: «6860 من صور قيصر لشهداء قضوا تحت التعذيب».

بحماس شاب عشريني يرى الحياة بكل احتمالاتها بعد اندلاع الثورة، كان أبو كرم يرغب بأن يكون شاعراً وكاتباً وصحفياً، ونسيت الشيء الرابع. وأنا الأنضج بسنوات، كنت أدفعه للحدّ من الخيارات: «ركّز على وحدة منن»، ليكون جوابه: «مُخرج وثائقي». تركت له الكاميرا ليوثق فيلمه الأول، فوثق لقطات لحمام يطير في سماء دوما مع خلفية دخان متصاعد من انفجار في مكان قريب، مع لمسة أبو كرم المخرج الذي يشغّل أغنية لفيروز اثناء التصوير ومقابلاته المرتجلة مع أهل الحارة المرعوبين من كاميرته الموجهة نحوهم ببساطة، مع تأكيده لهم أن الفيلم سيتم إنجازه بعد سقوط النظام. لكن هذه المعلومة لا تخفف الخوف في قلوب الناس. بعد توثيقه للرفض المتتالي، يعود ليصور نفسه ويخبر الكاميرا عن عجزه، ومن بعدها يُلقي آخر قصيدة كتبها.

أرغب بتذكّر جملة واحدة مما كان يكتب ولكن دون جدوى. أتذكّر فقط ابتسامتي عندما اسمع قصائده، واعتراضه: «ما حبيتيها ما، يلعن يلي بعد رح يقرالك». كان كل شيء ممكنًا في تلك الفترة. كنا نظن أن سوريا عادت لنا، رغم كل العنف والموت والخذلان. كنا نظن أن التوثيق، الصور، الكلمات، الأصوات، كلها ستشكل موجة لا يمكن للطاغية أن يصمد أمامها.

مع تراكم السنين لم أعد أعرف ما علي فعله بالضبط مع كل ما حدث هناك. مُعلقة، عالقة أنا. الاستمرار بالصحو كل صباح والقدوم للعمل هنا في مقهى قريب من محطة غوتفيرتو ودفع أجرة بيتي المطل على ثلاث شجرات هو الهدف الذي استطعت تحقيقه. لم أبحث على جوجل لأعرف اسم هذه الشجرات الثلاث، ولكنها تشبه شجر الحور الذي كان يطل عليه بيت أهلي في بلدي، وهذا يكفي.

من بلكون بيتي في مشروع دمر كان يظهر القصر الجمهوري. كنت اثبّت الكاميرا أياماً متتالية على بلكونتي وأوجّهها نحو القصر لتصويره لساعات، علني التقط اللحظة التي ستقصف فيها أميركا القصر ويسقط النظام. مازال لدي تلك الوثائق عن ساعات الانتظار تلك: شروق الشمس، غيابها، في الصيف، في الشتاء والشتاء الذي يليه.

أضع الكاميرا على بلكون بيتي في مونتريال اليوم، أمامي الشجرات الثلاث لأصورها، لن يُقصف شيء هنا.

 فعلت الشيء نفسه في فرن الشباك في بيروت، إلا أنّ البلدية اقتلعت الشجرتين اللتين يُطل عليهما بيتي بحجة أن جذورهما بدأت تخترق الرصيف أمام المحلات. لدي توثيق لقلع شجرتين من جذورهما.

عدا تكرار التصوير، انتبهت أني أحيط نفسي بتكرار من نوع ثاني، وهو التوتر اليومي، الذي يُحرر التوتر العميق غير المفهوم من ثقله. مثلاً اتأخّر بإرسال ما علي من التزامات وأتوتر بعدها بسبب التأخر، وأدفع غرامة التأخير. أقطع إشارة حمراء لأني تأخرت بالوصول إلى مكان عملي، وأنا أنظر بالاتجاهين كي لا تهرسني السيارات، وأنا مرعوبة من وجود كاميرا مراقبة ستنشر فعلتي الشنيعة على وسائل التواصل الاجتماعي. أنسى حقيبة مليئة بمونة الأسبوع في الباص ولا أستطيع الوصول إليها فأعيش تقشفاً مشابهاً لما عرفت، لما يُعاش الآن بالجهة الأُخرى من الكرة الأرضية بفارق ثماني ساعات.

«فيكي تسبيلها لهي؟» صوت عمي رشيد يتسرّب لرأسي الآن: أنا في حضنه، عاجزة عن الحركة، وهو يطلب مني، أنا الطفلة ذات الأعوام الستة، ميادة الحناوي على القناة الأولى السورية تغني لحافظ الأسد « يا حافظ العهد… يا طلاع ألويه…»

– أيه فيني، بس ليش؟

– لأنها عم تغني لحافظ الأسد

أنهال بالمسبات التي أعرفها بكل حماس. أمي المرعوبة دوماً، تركض من المطبخ وتضربني. وترفع صوت التلفزيون، ترفع صوت ميادة.

تتردد الأغنية في رأسي الآن، أحاول إخراجها ولكني أعجز. فكلما حاولت أن أسكتها، صوتها يعلو أكثر. علي أن أترك الأغنية تمر، أن أسمعها، فأنا لا أستطيع إيقافها. أكاد أبكي من شعوري بالذل لعدم قدرتي على نزع هذا الصوت من رأسي، وكاميرا المراقبة المقابلة توثق ذُلي هذا. بل في الحقيقة، هناك أكثر من كاميرا. منذ أن وصلت إلى مونتريال، وأنا مذهولة بعدد كاميرات المراقبة المنتشرة في كل مكان — داخل المتاجر، أمام البيوت، في محطات المترو. ربما لهذا، عاد لي شعور أن عيون الله تراقبني.

لا أعرف، هل أحب رائحة القهوة كثيرا لذلك اخترت هذا العمل. وأن المشروب الذي أحب صنعه اسمه «فلات وايت»، اشرح لأمي بالتفصيل كيفية تحضيره: «بدك تعرفي كيف بعمل الفلات وايت؟ باخد كاسة للمشاريب السخنة وبعيّر المكنة لتطحن وتنزل ثلاث شوتّات قهوة قصيرة، بسخن الحليب وبنزلو على شوتّات القهوة، باخد الكاسة وبتأكد انو ما حركها كتير مشان حافظ ع سطح القهوة تبعها وبصب فوقها الحليب من على طرف الكاسة بشكل تضل القهوة ع الوش وهيك على مهلي لأوصل لربع الكاسة ببلش علّي الابريق وقربه للنص أكتر، وبس قرب لتم الكاسة بوَطّي الأبريق لتطلع دويرة رغوة بيضة بالنص وهاد كل سر الفلات وايت». وأمي تستمع ولا توقفني، باتصال الفيديو للوتساب، دائما تختار الجلوس وخلفها شهادتي من كلية الحقوق جامعة دمشق بمعدل جيد جداً. تستمع إلى وصفي لتحضير الفلات وايت، لا تقاطعني، بل تسمع بصمت مُريب. لا افهم مصدر هدوئها المُقلق هذا. أكاد لا أعرفها. أما أنا فمُتعبة، لم استطع تعديل شهادة الحقوق السورية، ولا رغبة أو طاقة لي للتعلم من جديد. جرّبت وفشلت. عند محاولة تعلم لغة جديدة تعود لاكتشاف علاقتك مع لغتك الأم، مع منزل اهلك الذي لا تستطيع مفارقته لذلك لا تستطيع الانتقال للغة الجديدة: تحتال، تهرب، تلتفّ لكيلا تتعلم، لتبقى هناك في البيت الذي انتزعت منه.

أتذكر نفسي فتاة في التاسعة من عمرها، تمشي في باحة مدرستها الابتدائية، بينما تتعالى الضحكات من حولها لأنها تحمل على ظهرها ورقة إملائها المليئة بالأخطاء. بعد هذه الجولة أمزّق ورقة الإملاء نصفين وأرميها في أعماق حقيبتي، في القاع، كي تختفي. لكن في اليوم التالي، أجد سندويشة الزعتر التي أرسلتها أمي ملفوفة في تلك الورقة ذاتها. هل كانت تلك رسالة منها بأنها رأت الإملاء وسامحتني؟ أم أن الأسوأ قد حدث، وأنها لم تنتبه أصلًا لكل هذه الأزمة التي كنت أغرق فيها، فلفّت السندويشة بأقرب ورقة وصلت إلى يدها؟ منذ ذلك اليوم، نشأ بداخلي ارتباك في قدرتي على الكتابة، ما زال يلازمني.

 في مدرسة السينما التي ادرس فيها هذه الأيام، يعرض لنا أستاذ السينما الكيبكواز فيلم تشيكوسلوفاكي، عنوانه بالفرنسية

ميلوش بطل الفيلم الهش الجميل الذي يحاول التغلب على مشاكله وخاصة المتعلقة بالحب والجنس، يُكلف في نهاية الفيلم بتفجير قطار للعدو محملاً بالذخيرة. أبكي ميلوش في زاوية بعيدة عن الآخرين المتجمعين مع بعض كأصدقاء دراسة عشرينيين. كلمة EXIT المضاءة بالأحمر الخافت تستدعي عيوني المغبشة بالدموع للخروج، قبل أن تضاء الصالة ويُنظر لي بشفقة.

أشعر أن اسمي بالصف الفتاة التي تبكي في جميع الأفلام، فأنا سريعة الانغماس الحسي والعاطفي ولدي تراكم حداد غير مكتمل. اتنقل بهذه المدينة بعيون جفونها منتفخة ومحمرة. سيمشي معي ميلوش الليلة في مخيم الوافدين، المسافة الفاصلة بين آخر حاجز للنظام وأول حاجز للجيش الحر، سيسألنا رجل أمن أو رجل لجان شعبية عما نفعله هنا، سنرتبك رغم تحضيرنا لإجابات مقنعة من قبل. سأهرب لأني سريعة بالركض، وسيلحق بي ميلوش بعد وقت ويخبرني انه رشى الرجل بخمسين دولار كندي. سأستغرب أن بإمكان ميلوش فعل ذلك. ومن بعدها سأصحو. ميلوش يشبه أولئك الشبّان الصغار الذين تعرفت إليهم في دوما. هو تكثيفهم النقيّ، المذهل.

في الميترو اليوم وانا متجهة للعمل اُقلب الفيسبوك فيخرج خبر وفاة أمي.

خرجتُ مني.

ترنحت وكدت أسقط ليسندني المراهق الواقف بجانبي بانزعاج. الصوت الآلي يقول إن المحطة القادمة غوتفيرتو وإن علي النزول. لم نكن قد تكلمنا منذ ثلاثة أسابيع. كان آخر حديث لنا حلم كرات الكريستال الزرقاء المعلقة بخيوط واهية غير مرئية، تحمل كل كرة جزء من جسد انسان مات أثناء الحرب، من بعيد تُرى كرات زرقاء كريستالية جميلة على المتجولين بالمعرض أن يقتربوا لمسافة معينة ليروا ما بداخل كل كرة. كانت يد أبو كرم بإحدى الكرات، والمعرض لي. تصمت أمي كالعادة وهي تسمع أحلامي ومن ثم ينقطع الاتصال. نزلت في المحطة، ولم أخبر أحداً أني أصبحت يتيمة. وها أنا الآن عاجزة عن اكمال يومي.

علي أن أتحرك أقول لنفسي، التقدم خطوتين نحو اليد، ومن بعدها اكتشف انها لعبة. اضعها بمكان ما وانهي يومي الطويل هذا. ولكن عبث وكأن هذا الجسد ينتمي لغيري ولا سلطة لي لتحريكه.

أعاود النظر للكاميرا جامدة عاجزة عن تحريك إصبع اتصبب عرقاً ولكن لا يظهر تصبب العرق في كاميرا المراقبة. يحتاج إلى كاميرا احترافية. أخاف أن أخسر عملي، لا استطيع الآن. إذاً علي الانزلاق وكسر شيء ما بجسدي، يد او ساق، وهكذا اخرج من مأزقي. عندما انكسرت يدي منذ شهور أخذت إجازة لم احصل عليها طوال حياتي، إجازة مدفوعة لترتيب رأسي وما يدور فيه. وساعدني المورفين على الرحلة، 160 حبة مورفين بعد العملية مُقسمة على دفعتين، حصلت عليهم كلهم بجدارة وبوصفة دكتور نادرة الحدوث هنا، ثروة حقيقية من الصيدلية المجاورة لبيتي. مع تخدير عام وقت العملية لأني احتجت إلى صفائح.

خارج غرفة العمليات الحرارة ناقص عشرين، ولكن أنا بالعملية اقطف الزيتون والشمس تضرب اكتافي ورأسي، أتسلق شجرة زيتون كبيرة جمعت جميع الأطفال الذين أحببت اللعب معهم وأنا طفلة، من أجمل ما حدث معي بالأرض الجديدة هذه العملية. صحيت بعد العملية سعيدة وممنونة لهذا التخدير. رحلة غير مُخطط لها للنصف الثاني من الكرة الأرضية.

إنا هنا باقون
فلتشربوا البحرا
نحرس ظل التين والزيتون
ونزرع الأفكار، كالخمير في العجين
ونأكل التراب إن جعنا.. ولا نرحل
وبالدم الزكي لا نبخل
هنا.. لنا ماض.. وحاضر.. ومستقبل
كأننا عشرون مستحيل
في اللد، والرملة، والجليل

أبوكرم يرددها أمامي ويمشي روحة ورجعة. المكان دوما، مركز الدفاع المدني، هذه خصلة من خصاله، ترديد أبيات الشعر بكل الأوقات، وأنا أحاول التركيز على ما أفعل، كنت باتصال عبر سكايب، اطلب منه ان يسكت للحظات. لا يستطيع، يقول لي. اطرده من المكان، ينصاع ويخرج، ليتني لم أفعل. يرددها الآن في رأسي، ويعيدها مرة بعد مرة وأنا أخيراً انهار بالبكاء.

Reem Aljeally, Questions to Siri (Acrylic on paper 14.85 x 21 cm 2022)

رسالة إلى أبو كرم بعد سقوط الأبد


اشخبط على ورقة كلمة «سقط» مرات، فأراها تتصل ببعضها فأكتبها من فوق إلى تحت ومن اليمين نحو اليسار وبالعكس فتملأ بياض اللوحة. سلمى تكمل اللوحة بتلوين كل أحرف الطاء، وبتحويل الخط القصير الواقف على حرف الطاء الى شخصية خيالية ذات عيون كثيرة وأنف غريب.

كيف تنتمي لسوريا في هذه الأيام وأنت في مكان آخر؟ نتساءل، نحن السوريين، الذين لدينا ماء وكهرباء وسشوار. منذ سقوط النظام، ونحن نسير في عالم غريب لا نعرفه. نتلعثم بلغة تعلّمناها حديثًا في بلدنا الجديد، نفقد وظائفنا، نرتدي ملابس لا تناسب برد العشرين تحت الصفر ثم نمرض بعدها. بعد كل الخذلان الذي تراكم لسنوات، سقط الطاغية في أيام. جاءت الصدمة الإيجابية، وبدأ احتمال العودة إلى سوريا يتحول من فكرة مستبعدة إلى حقيقة. من عاد في اليوم الأول؟ من انتظر حتى اليوم الثالث؟ ومن لم يتمكّن من العودة حتى الآن؟

سقط النظام يا أبو كرم، في الثامن من كانون الأول 2024. كنتُ أتمنى لو كنتُ أصغر سنًا وأكثر حماسًا، لكنتُ وشَمتُ التاريخ على معصمي. بشار الأسد هرب، دموع الفرح والخلاص بيكفوا يا صديقي؟ أشاهد الصور والفيديوهات على موبايلي، وقلبي سعيد. يتدفق الناس عبر بوابات القصر الجمهوري، يسجّلون تفاصيله بأعينهم وعدسات كاميراتهم. أضحك من أعماق قلبي على تهكماتهم على صور الديكتاتور بملابسه الداخليه وكأنه نوع من انتقام مشروع. وكأنني أعود لأنتمي إليهم، وكأنني لم أُنتزع من بينهم، أحاول أن أصنع خاتمة لكل ما ظلّ معلقًا.

ربما أتمّ حدادي على كل الذين ماتوا، وبالصدفة، لم أكن من بينهم. صار بإمكاني الآن أن أتكلم، لا خوف على من بقوا هناك. كأن لي شكلًا فردياً وحرّاً اليوم. سأخبرك عن ألم المنفى، عن اللغة الجديدة التي أدير كلماتها في فمي عشرات المرات قبل أن أنطق بها. يحقّ لي الآن الحديث عن ضحكات أو دمعات تفلت مني احيانا لسبب لا أعرف كيف اشرحه للمحيطين، لأن ذلك يعني أن علي أن أعيد شرح من أنا ومن أين أنا من جديد. أسمع صوتك بين أصوات المصوّرين. أتذكر قصصك التي كنت تخبرنا بها أثناء المظاهرات، كيف أقنعتَ الشاب الذي يرقص «الميلوية» أن يأتي إلى المظاهرة، لتكون أجمل. أحببت فيك رغبتك الدائمة في تجميل الأشياء، حتى جاء الأمن وأفسد كل شيء. لم تتمكنوا من إيقاف دوران راقص الميلوية في اللحظة المناسبة، هربتم، واعتقلوه.

أتنقّل في المترو تحت الأرض، وأنت بالتأكيد تراقب من السماء. نحن الاثنان لا يمكننا العودة لنعيش لحظات سقوط الطاغية مع الناس، فرحة كسر رموزه وتماثيله المزروعة بيننا والخوف. في بلادنا السياسة أمر شديد الخصوصية، لذلك لكل منا قصته عن نفس الحدث. أتمنى لو أُمزّق صورة واحدة في شارع من شوارع الشام أو بجانب كلية الحقوق القديمة انتقاما لزمن عبادة الصور والشعور بأننا غرباء في سورية الأسد، أشعر بالغيرة ممن استطاعوا. وأن أستمتع باحتفال لا نعرف إلى متى سيدوم. قال لي ابني إن هذه أسعد مرة يراني فيها في حياته وأنا أرقص البارحة وأعلن سقوط الطاغية من صالون بيتي. أما سلمى فعلّقت ضاحكة: «ماما، قلبك كبر ثلاث مرات، مثل غرينتش» في إشارة إلى فيلم الكرتون «The Grinch» ايه، قلبي كبر ثلاث مرات. 

اخرج من محطة الميترو، يغطي الثلج كل شيء، متلألئًا، ولم يتوقف عن التساقط منذ أيام. الجرافات تعمل بلا توقف، تنقل الثلج إلى أماكن أخرى حتى لا نغرق فيه. نحن الواقفين على إشارة المرور نشبه كائنات منقرضة. الرياح المحملة بالثلج تعمي العيون، نرتدي طبقات من الملابس، ووجوهنا مذعورة. ورغم الصقيع، تفوح منا رائحة العرق. لكن قلبي الذي تضخم حباً في كانون الأول ثلاث مرات دافئ وقدمي لا تلامسان الأرض. اتنقّل بخفة. سقط سقط سقط أرغب أن أصرخ في شوارع مونتريال.

بتعرفني يا صديقي، لم أتخيل يوماً أنني سأعيش خارج سوريا، ولم أتعلم أي لغة، لا في مراهقتي، ولا خلال دراستي في كلية الحقوق، ولا حتى بعد التخرج. في الصف الخامس، كان علينا سحب ورقة تحدد اللغة التي سندرسها، إما الإنجليزية أو الفرنسية. عندما عدت إلى البيت وأخبرت عائلتي أنني سأدرس الفرنسية، غضب جدي بشدة وقال إنها لغة الأعداء، لكن في النهاية، لم يجدوا معلمة للفرنسية في مدرستنا، فتم وضعنا جميعاً في صف اللغة الإنجليزية. لو يراني جدي اليوم أتحدث بالفرنسية، لغة الأعداء.

عندما انتُزِعتُ من دمشق، لم يكن هناك وقت للتفكير. أخبرتنا أمل أن جهاد اعتُقل، وكذلك أبو كرم، وكان واضحًا أنهم بدأوا بكشف أمر المجموعة. اعتقدت أنه لم يكن أمامنا خيار سوى الهرب. كانت هناك ثلاثة أشياء حرصتُ على أخذها معي من الشام: شرشف ابني الأبيض المزين بالدوائر الملونة، والذي لا يستطيع النوم من دونه؛ لعبته العوعو؛ وهارد ديسك يحتوي على مواد مصورة من دوما، مؤرشفة بتسلسل زمني: «دوما يوم 1 »، «دوما يوم 2»، وهكذا… إلى جانب ملفات أخرى: «المواد التي أنتظرها من أبو سلمة» (ملف فارغ)، «مواد أبو كرم»، و«آخر لقاء مع ياسين في دوما».

تنقل هذا الهارد ديسك معي كثيرا، من سوريا إلى لبنان ومن بعده كندا. تقول صديقتي كارين أن فيلمي عالق عند نقطة ما فوق المحيط الأطلسي. أما أنا فلا اعتقد أنه عالق، اعتقد أن صاحبته مجبولة بخوف محشور في داخلها وبجبن. ولكيلا أكون قاسية على نفسي، هي صفة تخص مجتمعاً كاملاً أنتمي إليه، رأى بعيونه ماذا يمكن أن يفعله النظام.

لا يفارق موبايلي يدي. أراقب من خلف الشاشة ملامح طفل صغير يقف بجانب باب زنزانة، طفل ولد هناك، في أقبية سجن صيدنايا. زنازين ضيقة ومظلمة. أكاد أسمع أصوات تعذيبكم، يرجف قلبي من جديد وكأني لم اكن اعرف وكأنه كان علي أن أذوق كل هذا الأسى، اعتذر يا صديقي.

تسألني ابنتي سلمى: «أنتِ منيحة؟» أجيبها: «إيه.» فترد: «بس وجهك بيقول كأنك malheureuse». لا أعرف تمامًا ما الكلمة المقابلة لها بالعربية. هل هي تعيسة؟ بائسة؟ ربما معناها الحرفي هو فاقدة السعادة. أجيبها بأنني فقط متعبة، وأعرف أنها تفهم ذلك بطريقتها الخاصة. فقد كنتُ أرى هذا الـ malheureuse على وجه أمي، وربما أمي كانت تراه على وجه جدتي.

منذ وصلنا إلى هنا، إلى بلدنا الجديد، تبادلتُ الأدوار مع أطفالي: تصحيح نطق الكلمات وتصحيح الجمل لكي يصبح لها معنى، فرز النفايات، والسعادة عندما تكون الثلوج كثيفة لا ترحل لأشهر متتالية لأن هذه الكثافة دليل على تراجع الاحتباس الحراري. هما (ولداي) يصرّان على كل هذا الالتزام وأنا انصاع. معهما، تعلّمت دقة تسمية الأشياء وحدودها.

في هذا الشهر الأول بعد الأبد، ملأت صفحات دفتري بجمل متفرّقة، شذرات لا تتبع منطقًا واضحًا. لن أرتّبها. سأتركها كما هي، وأقولها لك كما كُتبت.

رجل في السبعين، بكامل أناقته وهدوئه، يجلس بجانب نافذة تطل على أشجار كثيرة خضراء وشمس أفتقدها الآن. أسأله، وأنا ذاهبة إلى المطبخ، إن كان يريد أن أحضر له ماء. يجيب بالنفي، ثم يسألني بعد أن يصفن في وجهي عن اسمي. أجيبه لميا، فأرى طيف ابتسامة على وجهه ويقول لي إنه اسم جميل. وأن لدي ابتسامة جميلة.

هذا الرجل هو أبي. زارني في لبنان بعد أن اكتشفت أمي إصابته بسرطان من الدرجة الرابعة في مقدمة الرأس، في موضع الذاكرة، من دون سابق إنذار. فقدان الذاكرة التدريجي دفعهم لزيارة الطبيب واكتشاف السرطان بمرحلة متقدمة. أتى ليودّعني ويرى أخي الذي جاء من أمريكا لنفس السبب، لأننا لم نكن نستطيع الذهاب إلى سوريا. مات أبي بعد أسبوع من هذا الحديث، ولم أستطع الذهاب لجنازته.

يوم موت أبي، توالت علينا الأخبار كالآتي: «تواصل القصف الدامي على الغوطة الشرقية في ريف دمشق والتي تشهد محرقة جماعية للمدنيين خلفت خلال ثمان وأربعين ساعة مئات القتلى والجرحى، وذلك وسط عجز تام للمجتمع الدولي عن وقف المجازر بحق المدنيين». وجدت هذه الجمل على دفتري الأخضر وكأنني كتبتها خوفاً من أن تضيع. واستُشهد أبو سلمة بعد عدة أيام من وفاة أبي، وهو يحاول إنقاذ عائلة من تحت أنقاض بيتهم. لم أخبر أبي يوماً عن أبو سلمة أو عن أي نشاط مخفي او مشاركة، كان هتافي في المظاهرات ضده في البداية وليس ضد النظام. في دوما، وجدتُ انتماءً لم أعرف مثله من قبل. لم أملك خيارات كثيرة، لا في بلد مثل سوريا، ولا في عائلة منغلقة على نفسها، خائفة من الآخر، كعائلتي. بدأ ذلك عندما بدأت أوثّق أحاديث فريق الدفاع المدني في دوما. هم من فتحوا لي باب الفكرة، أنني أستطيع أن أوثّق ما يمرون به، أن أحفظها ذكرى لأطفالهم إن غابوا. كان الموت قريباً منهم، أقرب من أي أمل بانتصار الثورة. وكانوا يتحدثون عنه بواقعية قاسية لم أدركها وقتها.

بعد هروبي من سوريا، استمرّ تواصلي مع أبو سلمة عبر سكايب، أنا في لبنان وهو في دوما. في إحدى المرات، قال لي: «ناطرتينا كلنا لنموت لتعملي هالفيلم؟» صمت. لم يكن ينتظر الفيلم فأنا أعرفه، بل كانت تلك القسوة التي يتبادلها أفراد العائلة عندما تحلّ المصائب وعند الرغبة بإيلام الآخر. وباتصال آخر عندما سألته عن سميرة الخليل بعد اختطافها في دوما، اكتفى بالقول إنه لا يستطيع الحديث عنها، لأنه قد يُختطف إن فعل. ولم ننجح في التواصل بعدها.

أتذكر يد سميرة على بطني التي تحمل ابني. رأيتها مرتين فقط، في بيت سلمى وهاني. كنت أزورها مع عمر بعد عودتنا من دوما لنخبرها عن ياسين، الذي وصل إلى هناك منذ أسابيع قليلة. لم يكن بالإمكان تفويت الفرحة التي تلمع في عينيها عند الحديث عنه. نظرت إليّ وقالت: «أنتِ بطلة لأنكِ تذهبين وتعودين من دوما وأنتِ حامل.» كان ذلك اللقب الذي منحته لي كافياً ليجعلني سعيدة.

حين كنت في الصف الأول الابتدائي، اعتُقل عبد العزيز ابن جيراننا، طالب سنة أولى في الهندسة المدنية، شاب لطيف ينظر للأرض دوما. علمني مرة طريقة اصطياد الضفادع من دون أن تنزلق من أصابعي، لأضعها بعد ذلك في جاط الغسيل الممتلئ بالماء، من دون علم أمي طبعا، وأراقبها تسبح. حجة اعتقاله انتماؤه للإخوان المسلمين. لأيام متتالية، كنت أعود من المدرسة متحمسة لسماع خبر خروجه. لكن الخبر لم يأتِ أبداً. مرّت السنين ولم تعد أم عبد العزيز جارتنا، أبي منع أمي من الحديث معها، بجملة وحيدة حاسمة تلعب على شعور الذنب الأمومي «مش خايفة على ولادك؟». في الصور العائلية، تبدو الطفلة التي كنتها وكأنها شبح صغير، وجهها متلاشٍ بفعل الحركة، كأن الكاميرا لم تستطع الإمساك بها بالكامل. كأنها لم تكن هنا تماماً، أو أنها كانت هنا للحظة فقط، ثم غابت قبل أن تثبتها الصورة.

هذا التلاشي مألوف. أشعر به في وجودي، في محاولتي للإمساك بنفسي قبل أن تنزلق مني. كأنني صورة غير واضحة، وجه يتحرك بسرعة فلا يترك أثراً واضحاً، كأنه لا يريد الانتماء إلى صور هذه العائلة. لدي فقط صورة ثابتة مع جدتي، عينا جدتي هي الشيء الوحيد المرئي من وجهها. كانت تلف الطرحة التي تضعها على رأسها فوق وجهها لنرى فقط عينيها. كانت جدتي من أمهر الحكاءات، فقد كانت تتقن المبالغة في تفاصيل القصة إلى حد يجعل قلبي يرتجف خوفاً أو انبهاراً. كنتُ مكلفة بمراقبة قطع القريشة التي ستطفو على سطح الطنجرة الكبيرة التي تُسمى «الدَّست». كانت تحكي قصص الداعيات الدرزيات عبر العصور، وكن يشبهن بطلات الأفلام الإيرانية: سيدات قويات، مناضلات، يتخفين في ثياب الرجال ليتمكنَّ من العمل أو إنجاز مهمة ما. ثم تأتي تلك اللحظة الدرامية حين يتمزق قميص إحداهن أمام من تحب، فينكشف صدرها الكبير الذي كانت تلفه لتبدو كذكر. لا أذكر الوصف بدقة، لكنني أدرك تماماً أن ذلك كان أجمل وصف لجسد امرأة عارية سمعته في حياتي. كن نساء صبورات، مجتهدات، جميلات، وأهم من ذلك كله، كن يتقين الله البارئ الذي يخلق من العدم.

عندما وصلت إلى هنا، كنت أتوه، أحاول أن أتعرف على المكان الجديد بعيني، لا من خلال خرائط غوغل. كنت أترك قدميّ تقوداني، دون وجهة محددة، ودائماً ما كانتا تقوداني إلى مقابر هذه المدينة. أماكن هادئة، خضراء، واسعة، وتحمل لي سكينة لا أفهمها. كأنني أجد فيها صدى لتلك الهشاشة التي أشعر بها، لكائن لم يثبت تماماً في مكانه، لوجود متلاش مثل وجه الطفلة في الصور. اليوم، سأزور المقبرة القريبة من مكان دراستي. سأهمس لأمي: سقط النظام. لم نكن نتحدث كثيرًا عمّا كان يجري، وكأن بيننا اتفاقًا غير معلن، نوعًا من الإنكار أو التواطؤ الصامت، تمامًا كما كانت تتغاضى عن أشياء كثيرة في حياتي، تتظاهر بأنها لا تراها، لا تعرفها. لم تستطع أمي أن تمنحني الحرية التي كنت أبحث عنها والتي هي نفسها لم تذقها. لكنها، بطريقةٍ ما، كانت تفتح لي نافذة صغيرة لأتنفس، دون أن تعترف بذلك. كانت تعرف، دون أن تقول، أنني أنخرط في أشياء «خطرة»، لكنها كانت تتجاهل، أو تتصنّع الجهل.

كانت تكتفي بتمتمة الادعية، بإشعال الشموع، وبزيارة مقامات الأولياء الصالحين، تسألهم أن يحموا ابنتها. سأخبرها كيف أصبحت سلمى أطول مني، لقد ورثت هذا عنها، وأنها عسولة وشاطرة ف المدرسة دون جهد ليست كأمها، تسميها معلمتها قاموس الصف، تقرأ كثيرا وكل الأبواب التي كانت مسكرة بوجهينا مفتوحة أمامها الآن.

Author

محامية متدربة سابقة في سوريا، تعيش حاليًا في مونتريال، حيث تدرس السينما. لديها عدة نصوص منها نص «باص رقم 121» في جريدة الجمهورية.

محامية متدربة سابقة في سوريا، تعيش حاليًا في مونتريال، حيث تدرس السينما. لديها عدة نصوص منها نص «باص رقم 121» في جريدة الجمهورية.