بيدرو مارتي مونيوز | ترجمتها من الاسبانية زينة الحلبي
لم يدَعْ باولوف الكلاب تنام. عذّبها طوالَ أسابيع، فلم يسمح لها إلا بقليل من النوم المتقطّع، بلا انتظام. اكتشف بعدها أنّها وصلت إلى حالةٍ قصوى من التعب، فباتت كائناتٍ يقظة ولكن على حافّة النوم. أصبحت تلك الحيوانات شديدة الهشاشة، فصار بإمكانه السيطرة حتّى على تصرّفاتها العفويّة. فبعد بقائها وقتًا طويلًا بلا نوم، فقدت أكثر كلابه ذكاءً عزيمتها وأصبحت خاضعةً طيّعةً. لا أعرف المزيد عن باولوف. لكنّي أعرف ما ذكرتُه لأنه يساعدني على شرح كيف تحوّلتُ إلى كيسٍ من الخراء.
أعاني من الأرق. لا أعرف النوم إلا قليلًا، نوم سيّئ، وفي وضعيّات مريعة عادةً. غالبًا ما أحلم بغطّةٍ مفاجئة أمام التلفزيون، أو في الباص، أو حتى في العمل، مما يسبّب لي المشاكل. محظوظ أنا لأني لم أخسر عملي بعد. قلّما أغفو في الفراش، ونادرًا ما أفعل في الليل.
أحيانًا، وبعد عدّة أسابيع من اليقظة، ينساني الأرق. أمضي عدة أيّام نائمًا، في الليل، وفي فراشي. وحين يحصل ذلك في نهاية الأسبوع، يمكنني أن أمضي نهارًا كاملًا وأنا نائم. في البداية، قدّرت هذه اللحظات المستقطعة من السكينة، عَدَدْتُها هدنةً كي أستعيد قوّتي وأقاوم من جديد. لكنّي صرت أرى مؤخّرًا تلك اللحظات كعنصر إضافي في كلّ هذا التعذيب. فعدوّي اللدود يدعني أرتاح فقط عندما أصل إلى قعر طاقتي، فقط لإبقائي حيًّا، كي يواصل اللعب. قد يبدو كلّ ذلك طبيعيًّا، فقطّتي تقوم أحيانًا بالمثل، فتتصيّد ذبابةً بين رجليها وتعذّبها حتى تصبح عاجزةً عن الطيران، ثمّ تعود وتطلق سراحها لتلعب بجسدها الحيّ، بحذرٍ شديد، كي تتفادى دهسها برجلها فتُنهي حفلة السمَر مبكرًا.
الثلاثاء ١٦ شباط/ فبراير. ٣٧ يومًا ولم أنم أكثر من ١٥ دقيقة متواصلة. أعرف ذلك لأنّ مَن هُم مثلي يعلّقون روزنامةً على حائط غرفة الجلوس، ويبرزونها جيّدًا: لكلِّ يومٍ بلا نوم، دائرة. ولكلّ يوم بلا أرق، إكس.
يبدأ الزمن والواقع بالذوبان، فيبدوان ناعمين ولزجين. الدقائق والثواني ثقيلة. يتساقط الزمن ويشتّتني، فأفقد إحساسي بالوقت. الآن، الثالثة فجرًا. أعرف ذلك لأني أرى الساعة، قرب الروزنامة، إلى يسار التلفزيون. في حالتي هذه، يجب ألا يأخذني أحد على محمل الجدّ. رغم ذلك، أعود إلى العمل في تمام الساعة السابعة. لديّ أربع ساعات فقط من محاولات النوم.
اليوم أخذتُ الدواء الذي وصفه لي الطبيب. "انتبه. إنّه فعّال جدًا"، قال لي. لم يؤثّر الدواء فيّ إطلاقًا، ولا حتّى بعد شرب زجاجتَيْن من البيرة. أدخّن صاروخًا وأبدأ بالارتخاء، لا أمانع عدم النوم الآن. أشعر بأنّ دماغي قد انكمش، وها هو يعوم الآن في سائل داخل جمجمتي. ربّما كان هذا ما يحدث بالفعل.
من داخل التلفزيون، يتحدّثون معي. شيف، ممتلئ، بشارب، وابتسامة، وبدلة ناصعة البياض يبدو فيها جرّاحًا أكثر مما هو طبّاخ. يكشف عن سرّ نجاحه: "لا تفوّت الفرصة. إن لم تشترِ هذه المقلاة، ستندم لبقيّة عمرك". يظهر أناسٌ عاديون، مثلي، مؤكّدين أنّها أفضل مقلاة استخدموها في حياتهم. يعود الشيف إلى الطبخ، لا شيء يلتصق. أكاد أُصدّق. فجأة يحاول الشيف خدش المقلاة مستخدماً شوكة. مستحيل، أنا متأكد أنه سيجرحها. لكن، لا. سليمة. لم يتوقّف هنا: سكين. يا إلهي. لن يجرؤ. بلى، ها هو يجرؤ على خدش المقلاة بالسكين، يمرّر طرفها الحادّ، بقوّة. لا أثر. لا تزال المقلاة جديدة.
روعة. كنت سأقف وأصفّق لو لم أكن متعبًا إلى هذا الحدّ. سوف أشتري السكين. سأسدّد ثمنها على دفعات، مثلما فعلت بسكين الأسبوع الماضي. كان الشيف نفسه يعرضها للبيع، "أصلب من الماس". قام بشطر قطعة من الطوب إلى نصفين. أقسم بالله. رأيت ذلك بعينيّ الاثنتين. تلك الليلة، لم أفكّر مليًّا بالموضوع. ثمانون يورو ثمن باهظ. ولكنّ سعر السكين لن يعني الكثير لمن يشتريها كي يقطع شرايينه. على هذا المشروع أن ينتظر، أقلّه، حتى أحصل على المقلاة غير القابلة للتلف. عليّ أن أعرف الآن إن كان يمكن لتلك السكين أن تخدشها.
—Translated by permission of the author.
زينة الحلبي
زينة الحلبي كاتبة وأكاديمية ومحررة مختصّة بالأدب والثقافة المعاصرة. صدر لها كتاب عن تمثيل المثقّف في الأدب والسينما منذ تسعينيات القرن الماضي، إضافةً إلى نصوص وملفات وترجمات عن الأدب والموسيقى والفنون البصرية. تعمل حالياً باحثة في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت ومحررة القسم العربي في «فَمْ: مجلة بيروت الأدبية والفنية». لا تهوى الترجمة، ولكن هناك نصوص تعترضها دون خجل أو سابق إنذار.