ريما رنتيسي، ترجمها من الانجليزية خالد صاغية
هكذا تبدأ الأشياء. لا تتراءى لأحد. ككأسٍ مشعورٍ في النمليّة.
كما في يومٍ مُشمسٍ، حين على شرفةٍ قُلّمت أوراق جهنّميّتها، يلتقط جسدُك فيروساً خفيّاً.
كالزمن حين يتجوّف ويتلاشى بعد التعاطي، تعاطي موادّ مختلفة في سبيل النسيان.
كحِممٍ تستعرّ في نفْس صديقةٍ تغادر المدينة، وتعرفين أنّها لن تعود.
كرسالةٍ نصيّةٍ تُشعل ثورةً.
كشرارةٍ تتراقص باتّجاه عنبرٍ مليءٍ بالأمونيوم.
ثمّ تتراءى لك طبقاتٌ غليظةٌ تضبّ على بعضها بعضاً، عبرها تنتقل موجاتٌ زلزالية: مشافٍ مكتظّة فيها تسقط الرئات من الصدور، خزائنُ مصرفيّة فيها تتبخّر أوراق العملة، شبحٌ من دخان زهريّ تملأه أرواحٌ ستطفو فوق المرفأ إلى الأبد.
تراقبين، دونما قدرةٍ على إشاحة النظر، المدينةَ وهي ترتجف وتتفلّع، أحشاؤها تتبعثر في كلّ مكان، بألوان متشظّية، وسواد، وألف أحمر وأحمر.
تنفجر أشكالاً لم تتخيّليها من قبل، لكنّك كنتِ تعلمين بوجودها نوعاً ما.
في الشوارع التي أفرغتها الجائحة، تنحنين وتحدّقين في المجاري، في الريجارات التي سُرقت للتوّ، تاركةً فوهاتٍ في بهائها القبيح تغرق الحقيقةُ القذرة. في ذاك السكون، يتّسع العالم.
يصعب عليك ألا تنصتي لتمارين الأوبرا التي تواظب عليها جارتك في بناية يعقوبيان. يصعب أيضاً ألا ترَي المدينةَ وهي ترتعد بالمشرّدين الجدد.
في العزلة الكبرى، حين تلفظ الحياة كما تعرفينها أنفاسَها الأخيرة، تسلّمين لمَزق المدينة وهو يتّسع، وأنتِ تتغيّرين بلا رجعة، ولن تبدوَ لكِ الأشياءُ بعد الآن ما كانت عليه من قبل.
في تلك اللحظة، في عين الزلزال، حين كان العالم ساكناً وفظيعاً، تراءى لنا أكثر ما
نحبّ.